هويدي 4-9-2001
خلاصة الرسالة التي بعثت بها إسرائيل إلي الكافة, بقتلها لزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, أبوعلي مصطفي, أن كل من يخاصم إسرائيل ـ وليس من يقاتلها فقط ـ مرشح للموت في أي لحظة, مهما علا مقامه, ومنطق من هذا القبيل ماكان له أن يبسط هكذا في العلن, ويمارس في الحقيقة. إلا إذا كان هناك ضوء أخضر من واشنطن, الأمر الذي يستغرب المرء معه ألا يسلط الضوء علي الدور الأمريكي في المسألة, وألا يحظي ذلك الدور بما يستحقه من غضب.. هذه قراءة في الصحف الإسرائيلية تتحري المسألة.
(1)
كتابات الصحف الإسرائيلية في التعقيب علي قتل أبوعلي مصطفي تراوحت بين الحفاوة والتشجيع, وبين التحذير من عواقب استمرار التصعيد, فكما هو في مقاليد عصابات المافيا, نشرت صحيفة معاريف صور سبعة أشخاص مرشحين للقتل علي غلاف عددها الصادر في اليوم التالي للقتل في8/28 وكان يتوسط هؤلاء السبعة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, أما الستة الآخرون فهم: نائبه محمود عباس أبومازن, وعبدالله الشامي مسئول حركة الجهاد الإسلامي في الضفة وغزة, ووزير الإعلام في السلطة ياسر عبدربه, والشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس, وأبوعلي مصطفي زعيم الجبهة الشعبية, وأحمد قريع رئيس المجلس التشريعي في غزة.. وقد شطب علي وجه أبوعلي مصطفي, الأمر الذي يوحي للقارئ بالسؤال التالي: علي من سيكون الدور في المرة القادمة؟
في الداخل نشرت الصحيفة مقالة أحد كتابها ـ جدعون عزرا ـ قال فيها إنه بقتل زعيم الجبهة الشعبية في8/27 فإن كل فلسطيني يعتقد أنه يتمتع بالحصانة, يجب أن يدرك أن تلك الحصانة قد رفعت ابتداء من أمس.
عدد معاريف الذي صدر في اليوم التالي8/29 حمل مقالة أخري, قال كاتبها ـ مائير ليغشيتش ـ إن عرفات أصبح هو المشكلة ليس الاحتلال بطبيعة الحال! ـ لذلك فإن اختفاءه أصبح مطلبا ملحا, ولكن كيف؟.. هل نبعده إلي تونس أم نخرجه من الدنيا؟.. وبعد التخلص من علي مصطفي, فإن إسرائيل يجب أن تصوب نحو الهدف الآخر: عرفات..
يديعوت أحرونوت حملت نفس التحذير في عددها الصادر في8/28, إذ كتب إليكسي فيشمان قائلا إن أبوعلي مصطفي لم يكن خبيرا في الإرهاب, وان كل العمليات التي حاولت عناصر الجبهة الشعبية القيام بها أثناء الانتفاضة منيت بالفشل, وتمثلت آخرها في وضع سيارة مفخخة بأحد شوارع القدس, ولكن توصيل رسالة الجميع في خطر, ولا توجد حصانة لأي أحد, اقتضي اختيار شخص معروف ليس فقط في المجتمع الفلسطيني, إنما أيضا في العالم العربي لتعميم الرسالة, وأريد له أن يكون رمزا, ينتمي إلي جيل مؤسسي منظمة تحرير فلسطين, وله مكانته السياسية والجماهيرية المحترمة, وكانت تلك المواصفات تنطبق علي أبوعلي مصطفي, فانطلقت طائرتا الأباتشي الأمريكية لقتله.
دافع الكاتب عن العملية, لكنه قال إنها من العمليات التي تنطبق عليها مقولة: لا تكن صادقا, وكن حكيما, إذ اعتبر أنها تفتح الباب لكسر الأواني وإعلان الحرب علي السلطة الفلسطينية, وتقريب الانفجار الكبير كأن الانفجار لم يحدث؟.
التحذير كرره وزير الأمن الإسرائيلي عوزي لانداو, الذي قال في حديث له نشرته الشرق الأوسط( في8/31) ان اغتيال أبوعلي مصطفي ليس سوي البداية, الأمر الذي يعني مباشرة أن ثمة قائمة للقيادات السياسية المرشحة للتصفية, وهي بطبيعة الحال مختلفة عن قائمة المطلوبين الذين تحملهم إسرائيل مسئولية العمليات الفدائية علي أراضيها.
(2)
تتواتر الإشارات في الكتابات المختلفة إلي أن شخص الرئيس عرفات يمثل خطا أحمر, وأن واشنطن تعتبره كذلك, كما أنها تضع خطا أحمر آخر إزاء إعادة احتلال أراضي السلطة الفلسطينية, وهذا الكلام ـ إذا صح ـ فإنه يعني أن كل ما عدا ذلك مباح, بما في ذلك إبادة الشعب الفلسطيني وهدم البيوت وتبوير الأرض.
وحين تم اغتيال أبوعلي مصطفي, في مكتبه الذي يبعد300 متر عن مقر الرئيس عرفات, فكأن رسالة التحذير وضعت علي بعد300 متر من مقر الرئيس الفلسطيني, أو أن قرار التصفية أصبح واقفا ببابه, ولم يعد في الأمر سر يمكن إخفاؤه.. أما إعادة احتلال مناطق السلطة فإن الحكومة الإسرائيلية نفسها قد لا تكون متحمسة له, لأنه يكلفها بما لا تطيق, وهي تستغني عن ذلك بالقيام بعمليات اقتحام لتلك المناطق تضرب أثناءها ما تريده من أهداف ثم تخرج, الأمر الذي يحقق لها مرادها, دون أن يحسب عليها تجاوز الخط الأحمر وهو ما حدث بالفعل في جنين ورفح ودير البلح وخان يونس وبيت ساحور والخليل وبيت جالا.
نحن بإزاء طور آخر من أطوار التصعيد الشاروني, إذ بعد حملة الاغتيالات وقصف المناطق السكنية بطائرات إف16 و15, وإلقاء قذائف بوزن طن علي الأهداف الفلسطينية التي يمكن إصابتها بقذائف دون تلك بكثير, وبعد اقتحام مناطق السلطة, تظهر في الأفق عمليات قتل السياسيين, وكان جمال منصور مسئول حركة حماس في القطاع وغزة الذي قتل أيضا في مكتبه خلال يوليو الماضي, أول أولئك السياسيين, ثم جاءت عملية أبوعلي مصطفي لكي تؤكد أن القتل متجه إلي الرتب الأعلي.
ناحوم برنياع كتب في هاآرتس( عدد8/28) زاعما أن العالم يحمي عرفات, وأن إيران تحمي الشيخ أحمد ياسين, ولكن أبوعلي مصطفي كانت الحماية مرفوعة عنه, واذا تمني أن تتم عملية قتل الرجل بصورة سرية وقابلة للنفي, لكن يبدو أن ذلك كان متعذرا.
ذهب الكاتب إلي أن إسرائيل بما فعلت انتقلت من العمليات الوقائية والاحباطية علي حد تعبير شيمون بيريز في محاولته تبريرها إلي العمليات الانتقامية, وهو ما تجلي أيضا في تصريحات نائب وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا, التي دعا فيها إلي القضاء علي أقارب الفدائيين وضرب جيرانهم لم يذكر الكاتب عمليات حصار الفلسطينيين وتجويعهم ومنع العلاج والدواء عن مرضاهم. واعتبر أن العمليات الانتقامية التي قامت بها الحكومة, بعدما يئست من إيجاد حل للانتفاضة, كانت بداية تحول الجهاز السياسي في الدولة إلي جهاز بهيمي وحيواني.
يوسي ساريد نشر مقالة في صحيفة معاريف(8/28) قال فيها: إن تصفية إنسان بمستوي سياسي رفيع ـ مثل أبوعلي مصطفي ـ يعد تصعيدا حادا في مستوي العنف, الذي هو خطير ويتصاعد بطبيعته. فتحديد مكان الرجل لم يكن بحاجة إلي عمل استخباري من نوع خاص, فقد كان جالسا في مكتبه كعادته, الذي له عنوان يعرفه الجميع, شأنه في ذلك شأن غيره من السياسيين الفلسطينيين, وفي المقدمة منهم ياسر عرفات, الذي ظهر يوم قتل أبوعلي مصطفي حاملا مدفعا من طراز كلاشنكوف.
اعتبر ساريد أن شارون بما يفعل يتبع سياسته التقليدية, التي بمقتضاها يطبخ حروبه علي نيران هادئة حتي لا يحرقها, ولكي تنبعث رائحة الاحتراق وتصل إلي كل أنف في العالم, قبل فوات الأوان, وأضاف متسائلا: من قال إنه لا توجد لشارون خطة؟.. ذلك أنه بعد أسابيع أو أشهر سيري الجميع في إسرائيل خطة شارون تتبلور, سيرون, وسوف تقشعر أبدانهم.
(3)
لم يعد أمام عرفات سوي الموت أو الاستسلام, هكذا كتب عكيفا ادار في صحيفة هاآرتس( في8/30) إذ قال إن المسئولين في قيادة جيش الدفاع استوعبوا جيدا رسالة رئيس الحكومة, ذلك أن الافتراض الذي يتصرف بناء عليه وزير الدفاع شاؤول موفاز يقضي بضرورة البرهنة للفلسطينيين علي أن العنف ليس مجديا, وانه ينبغي ألا نترك لعرفات أي فرصة, أو أي فتحة صغيرة تمكنه من الخروج من الانتفاضة بكرامة وشرف.. ينبغي أن يعرف عرفات أنه لم يتبق أمامه خيار, فإما أن يموت وإما أن يستسلم دون قيد أو شرط.. والإمكانية الثالثة ـ الاستسلام المشروط ـ ليست واردة أو قائمة في أوامر هيئة أركان شاؤول موفاز.
أضاف أن الجيش الإسرائيلي يتوقع الأسوأ, إزاء التصعيد المستمر الذي يتعرض له الفلسطينيون بما في ذلك الإلغاء الرسمي للاتفاقات, وانضمام أجهزة الأمن الفلسطينية إلي رجال المقاومة والانقضاض علي المستوطنات, ومن السيناريوهات التي وصفها الكاتب بأنها مرعبة انضمام عرب إسرائيل إلي اخوانهم في الضفة, وتحريك الجيوش العربية علي حدود إسرائيل.
الكتابات الإسرائيلية تتحدث عن أن الانتفاضة يمكن أن تستمر مدة سنتين أخريين, لكن لفت انتباهي في مقالة نشرتها هاآرتس لكاتب اسمه ميرون بنفنستي في عدد8/30 قال فيها إن خطط العمل في الجيش الإسرائيلي تقوم علي أساس أن المواجهة المسلحة مع الفلسطينيين سوف تستمر حتي العام2006, الأمر الذي دفعه إلي التساؤل: هل سنضطر للعيش في جهنم خمس سنوات أخري؟!
انطلق الكاتب من أن النصر مكتوب في النهاية للإسرائيليين, وأن الفشل الاستراتيجي سيكون من نصيب الفلسطينيين, لكنه اعتبر الانتصار خطيرا, لأنه سيخلف أمة مهزومة ومهانة, تلعق جراحها وتكون خاضعة لفظاظة إسرائيل, التي ستري في إنجازها انتصارا للصهيونية الوحشية. وتطلق العنان أكثر فأكثر لسياسة الاستيطان والسلب, الأمر الذي يعني في حقيقة الأمر أن بذور الانتفاضة الثالثة كامنة في الثانية, ولعنة المصير الكردي ستطارد المنتصر والمهزوم علي حد سواء: فالإسرائيليون منتصرون دائما في الحرب, ولكن المهزومين لن يدعوهم يتمتعون بثمار انتصارهم.
(4)
واشنطن راضية عن شارون, ذلك ما تبرزه الكتابات الإسرائيلية وتهتم به, إذ طالما أن المباركة الأمريكية مستمرة, فلا شيء يهم, فقد كتب الوف بن في هاآرتس(8/30) يقول: إن الأصوات التي حذرت في إسرائيل من التصعيد في المواجهة مع الفلسطينيين, لم تغير من تقديرات الادارة الأمريكية في أنه ليس ثمة فائدة من تعميق التدخل بين الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط( لاحظ الإشارة إلي أنه نزاع, وليس احتلالا).. ولذلك فإن وزير الخارجية الأمريكية كولين باول يقلل من اتصالاته مع شارون وعرفات, مفضلا ترك الأمر للسفير الأمريكي في تل أبيب وقنصل الولايات المتحدة في القدس, حيث يتولي الاثنان إجراء الاتصالات والوساطات بين الرجلين.
أضاف الكاتب أن واشنطن راضية علي الجملة عن شارون, وإن كانت بعض تصرفاته لا تحظي بتأييدها.. ووزير الخارجية الأمريكية لن يأتي إلي المنطقة, ولن يستجيب للاستغاثات الصادرة من بعض العواصم العربية, إلا إذا اطمأن إلي أن هناك فرصة حقيقية لإنجاز شيء علي الأرض, وما لم يحدث ذلك, فإنه يفضل أن يحافظ علي وقته وكرامته.
لخص الوف بن الركائز التي تقوم عليها سياسة بوش إزاء المنطقة في ثلاث نقاط هي:
* أن المسار الوحيد المتفق عليه لحل المواجهة وإحياء المفاوضات هو تقرير ميتشيل وخطة تينيت مدير المخابرات المركزية, اللذين يحددان خطوات متبادلة للسلطة الفلسطينية وإسرائيل.
* كخطوة أولي علي الفلسطينيين أن يوقفوا العنف ومن زاوية أمريكية علي عرفات أن يعمل أولا ويليه شارون.
* الولايات المتحدة لا توافق علي الكثير من الردود الإسرائيلية علي العنف الفلسطيني مثل الاغتيالات ودخول الجيش إلي مناطق أ والضغط الاقتصادي علي السكان الفلسطينيين, مع ذلك فهم يفهمون في واشنطن أن شارون يحافط علي ضبط النفس!! حيث إن إسرائيل لم تستخدم كامل قوتها العسكرية ضد الفلسطينيين.
لقد اعتبر أوري دان في معاريف(8/30) أن نجاح حكومة شارون في تعبئة الحكومة الأمريكية وتجييشها ضد السلطة الفلسطينية, هو انجاز تاريخي يحسب لها, واعتبر أن تصريحات الرئيس بوش وجهت ضربة إلي عرفات حين طالبته بوقف العنف, وقال إن إسرائيل لن تجري معه مفاوضات إلا إذا بادر إلي اتخاذ تلك الخطوة. بل وقال إن واشنطن تنظر بالسلب إلي محاولات شيمون بيريز الالتقاء مع عرفات, من خلال الوسطاء الأوروبيين, وهي التي تبنت موقف شارون القائل بأن الضغط علي عرفات وعزله هو الذي يحمله علي إصدار أمر بوقف العنف.
مقالة عكيفا الدار في هاآرتس تحدثت عن التعاطف الخاص الذي يبديه وزير الخارجية الأمريكي كولين باول إزاء إسرائيل, وأشارت في هذا الصدد إلي معلومتين تلفتان النظر, أولاهما أن تصريح الرئيس بوش بأن كولين باول لن يشارك في مؤتمر ديربان المناهض للتفرقة العنصرية المنعقد في جنوب إفريقيا فاجأ حتي المختصين بالأمر في البيت الأبيض, أما المعلومة الثانية فهي أن باول أمضي عدة أيام أخيرا في بيت رونالد لاودر, الذي كان حتي عهد قريب رئيس مجلس رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية.
(5)
شيء مهين حقا أن نقرأ تلك الكتابات التي تتردد في الصحف العربية داعية إلي استبعاد اتخاذ أي موقف من الولايات المتحدة, التي يعتمد عليها العرب كمصدر للغذاء والمعونات وكراع للسلام.. كأنما كتب علي العرب بكل ما يملكون أن يتعاملوا مع الولايات المتحدة لا كدولة كبري, ولكن كدولة مقدسة, لا يداس لها علي طرف, ولا تمس لها مصلحة, وهو منطق يشجع واشنطن علي الاستعلاء والاستكبار, بل وعلي الازدراء بأولئك العرب الذين أصبحوا عاجزين حتي عن إعلان الغضب!.
سمعت الفيلسوف الفرنسي جارودي يقول ذات مرة: إن العرب لو قاطعوا الكوكاكولا وحدها لاهتز البيت الأبيض ولقامت الدنيا في الولايات المتحدة ولم تقعد.. ولأعاد المخططون السياسيون هناك حساباتهم إزاء المنطقة.
إن أنبياء العجز ودعاة الانبطاح في زماننا يروجون لإفلاس الأمة في كل حين.. ولا يملون من محاولة إقناعنا بأن الركوع هو خيارنا الوحيد, ولا أعرف لماذا نفرط في سلاح المقاطعة ونلقي به جانبا, بينما هو ورقة مهمة تملكها الجماهير, حتي إذا كانت للحكومات حسابات أخري. ولعلماء المسلمين أكثر من فتوي تحرم شراء البضائع الأمريكية, وأشهرها ما صدر عن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في العام الماضي.. رغم أن الأمر لا يحتاج إلي فتوي, ذلك أنه حين يكون المعروض علي الفلسطيني هو الاستسلام أو الموت, فإن أي عقل رشيد يتمتع صاحبه بحد أدني من الشرف والكرامة لا يحتاج إلي فتوي تدله علي ما ينبغي أن يفعله, وما يجري علي الفلسطينيين ينسحب علي العرب أجمعين, باعتبار أن الجميع في سفينة واحدة.. وإن فات ذلك علي بعض الغافلين أو المستغفلين..
خلاصة الرسالة التي بعثت بها إسرائيل إلي الكافة, بقتلها لزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين, أبوعلي مصطفي, أن كل من يخاصم إسرائيل ـ وليس من يقاتلها فقط ـ مرشح للموت في أي لحظة, مهما علا مقامه, ومنطق من هذا القبيل ماكان له أن يبسط هكذا في العلن, ويمارس في الحقيقة. إلا إذا كان هناك ضوء أخضر من واشنطن, الأمر الذي يستغرب المرء معه ألا يسلط الضوء علي الدور الأمريكي في المسألة, وألا يحظي ذلك الدور بما يستحقه من غضب.. هذه قراءة في الصحف الإسرائيلية تتحري المسألة.
(1)
كتابات الصحف الإسرائيلية في التعقيب علي قتل أبوعلي مصطفي تراوحت بين الحفاوة والتشجيع, وبين التحذير من عواقب استمرار التصعيد, فكما هو في مقاليد عصابات المافيا, نشرت صحيفة معاريف صور سبعة أشخاص مرشحين للقتل علي غلاف عددها الصادر في اليوم التالي للقتل في8/28 وكان يتوسط هؤلاء السبعة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, أما الستة الآخرون فهم: نائبه محمود عباس أبومازن, وعبدالله الشامي مسئول حركة الجهاد الإسلامي في الضفة وغزة, ووزير الإعلام في السلطة ياسر عبدربه, والشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس, وأبوعلي مصطفي زعيم الجبهة الشعبية, وأحمد قريع رئيس المجلس التشريعي في غزة.. وقد شطب علي وجه أبوعلي مصطفي, الأمر الذي يوحي للقارئ بالسؤال التالي: علي من سيكون الدور في المرة القادمة؟
في الداخل نشرت الصحيفة مقالة أحد كتابها ـ جدعون عزرا ـ قال فيها إنه بقتل زعيم الجبهة الشعبية في8/27 فإن كل فلسطيني يعتقد أنه يتمتع بالحصانة, يجب أن يدرك أن تلك الحصانة قد رفعت ابتداء من أمس.
عدد معاريف الذي صدر في اليوم التالي8/29 حمل مقالة أخري, قال كاتبها ـ مائير ليغشيتش ـ إن عرفات أصبح هو المشكلة ليس الاحتلال بطبيعة الحال! ـ لذلك فإن اختفاءه أصبح مطلبا ملحا, ولكن كيف؟.. هل نبعده إلي تونس أم نخرجه من الدنيا؟.. وبعد التخلص من علي مصطفي, فإن إسرائيل يجب أن تصوب نحو الهدف الآخر: عرفات..
يديعوت أحرونوت حملت نفس التحذير في عددها الصادر في8/28, إذ كتب إليكسي فيشمان قائلا إن أبوعلي مصطفي لم يكن خبيرا في الإرهاب, وان كل العمليات التي حاولت عناصر الجبهة الشعبية القيام بها أثناء الانتفاضة منيت بالفشل, وتمثلت آخرها في وضع سيارة مفخخة بأحد شوارع القدس, ولكن توصيل رسالة الجميع في خطر, ولا توجد حصانة لأي أحد, اقتضي اختيار شخص معروف ليس فقط في المجتمع الفلسطيني, إنما أيضا في العالم العربي لتعميم الرسالة, وأريد له أن يكون رمزا, ينتمي إلي جيل مؤسسي منظمة تحرير فلسطين, وله مكانته السياسية والجماهيرية المحترمة, وكانت تلك المواصفات تنطبق علي أبوعلي مصطفي, فانطلقت طائرتا الأباتشي الأمريكية لقتله.
دافع الكاتب عن العملية, لكنه قال إنها من العمليات التي تنطبق عليها مقولة: لا تكن صادقا, وكن حكيما, إذ اعتبر أنها تفتح الباب لكسر الأواني وإعلان الحرب علي السلطة الفلسطينية, وتقريب الانفجار الكبير كأن الانفجار لم يحدث؟.
التحذير كرره وزير الأمن الإسرائيلي عوزي لانداو, الذي قال في حديث له نشرته الشرق الأوسط( في8/31) ان اغتيال أبوعلي مصطفي ليس سوي البداية, الأمر الذي يعني مباشرة أن ثمة قائمة للقيادات السياسية المرشحة للتصفية, وهي بطبيعة الحال مختلفة عن قائمة المطلوبين الذين تحملهم إسرائيل مسئولية العمليات الفدائية علي أراضيها.
(2)
تتواتر الإشارات في الكتابات المختلفة إلي أن شخص الرئيس عرفات يمثل خطا أحمر, وأن واشنطن تعتبره كذلك, كما أنها تضع خطا أحمر آخر إزاء إعادة احتلال أراضي السلطة الفلسطينية, وهذا الكلام ـ إذا صح ـ فإنه يعني أن كل ما عدا ذلك مباح, بما في ذلك إبادة الشعب الفلسطيني وهدم البيوت وتبوير الأرض.
وحين تم اغتيال أبوعلي مصطفي, في مكتبه الذي يبعد300 متر عن مقر الرئيس عرفات, فكأن رسالة التحذير وضعت علي بعد300 متر من مقر الرئيس الفلسطيني, أو أن قرار التصفية أصبح واقفا ببابه, ولم يعد في الأمر سر يمكن إخفاؤه.. أما إعادة احتلال مناطق السلطة فإن الحكومة الإسرائيلية نفسها قد لا تكون متحمسة له, لأنه يكلفها بما لا تطيق, وهي تستغني عن ذلك بالقيام بعمليات اقتحام لتلك المناطق تضرب أثناءها ما تريده من أهداف ثم تخرج, الأمر الذي يحقق لها مرادها, دون أن يحسب عليها تجاوز الخط الأحمر وهو ما حدث بالفعل في جنين ورفح ودير البلح وخان يونس وبيت ساحور والخليل وبيت جالا.
نحن بإزاء طور آخر من أطوار التصعيد الشاروني, إذ بعد حملة الاغتيالات وقصف المناطق السكنية بطائرات إف16 و15, وإلقاء قذائف بوزن طن علي الأهداف الفلسطينية التي يمكن إصابتها بقذائف دون تلك بكثير, وبعد اقتحام مناطق السلطة, تظهر في الأفق عمليات قتل السياسيين, وكان جمال منصور مسئول حركة حماس في القطاع وغزة الذي قتل أيضا في مكتبه خلال يوليو الماضي, أول أولئك السياسيين, ثم جاءت عملية أبوعلي مصطفي لكي تؤكد أن القتل متجه إلي الرتب الأعلي.
ناحوم برنياع كتب في هاآرتس( عدد8/28) زاعما أن العالم يحمي عرفات, وأن إيران تحمي الشيخ أحمد ياسين, ولكن أبوعلي مصطفي كانت الحماية مرفوعة عنه, واذا تمني أن تتم عملية قتل الرجل بصورة سرية وقابلة للنفي, لكن يبدو أن ذلك كان متعذرا.
ذهب الكاتب إلي أن إسرائيل بما فعلت انتقلت من العمليات الوقائية والاحباطية علي حد تعبير شيمون بيريز في محاولته تبريرها إلي العمليات الانتقامية, وهو ما تجلي أيضا في تصريحات نائب وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا, التي دعا فيها إلي القضاء علي أقارب الفدائيين وضرب جيرانهم لم يذكر الكاتب عمليات حصار الفلسطينيين وتجويعهم ومنع العلاج والدواء عن مرضاهم. واعتبر أن العمليات الانتقامية التي قامت بها الحكومة, بعدما يئست من إيجاد حل للانتفاضة, كانت بداية تحول الجهاز السياسي في الدولة إلي جهاز بهيمي وحيواني.
يوسي ساريد نشر مقالة في صحيفة معاريف(8/28) قال فيها: إن تصفية إنسان بمستوي سياسي رفيع ـ مثل أبوعلي مصطفي ـ يعد تصعيدا حادا في مستوي العنف, الذي هو خطير ويتصاعد بطبيعته. فتحديد مكان الرجل لم يكن بحاجة إلي عمل استخباري من نوع خاص, فقد كان جالسا في مكتبه كعادته, الذي له عنوان يعرفه الجميع, شأنه في ذلك شأن غيره من السياسيين الفلسطينيين, وفي المقدمة منهم ياسر عرفات, الذي ظهر يوم قتل أبوعلي مصطفي حاملا مدفعا من طراز كلاشنكوف.
اعتبر ساريد أن شارون بما يفعل يتبع سياسته التقليدية, التي بمقتضاها يطبخ حروبه علي نيران هادئة حتي لا يحرقها, ولكي تنبعث رائحة الاحتراق وتصل إلي كل أنف في العالم, قبل فوات الأوان, وأضاف متسائلا: من قال إنه لا توجد لشارون خطة؟.. ذلك أنه بعد أسابيع أو أشهر سيري الجميع في إسرائيل خطة شارون تتبلور, سيرون, وسوف تقشعر أبدانهم.
(3)
لم يعد أمام عرفات سوي الموت أو الاستسلام, هكذا كتب عكيفا ادار في صحيفة هاآرتس( في8/30) إذ قال إن المسئولين في قيادة جيش الدفاع استوعبوا جيدا رسالة رئيس الحكومة, ذلك أن الافتراض الذي يتصرف بناء عليه وزير الدفاع شاؤول موفاز يقضي بضرورة البرهنة للفلسطينيين علي أن العنف ليس مجديا, وانه ينبغي ألا نترك لعرفات أي فرصة, أو أي فتحة صغيرة تمكنه من الخروج من الانتفاضة بكرامة وشرف.. ينبغي أن يعرف عرفات أنه لم يتبق أمامه خيار, فإما أن يموت وإما أن يستسلم دون قيد أو شرط.. والإمكانية الثالثة ـ الاستسلام المشروط ـ ليست واردة أو قائمة في أوامر هيئة أركان شاؤول موفاز.
أضاف أن الجيش الإسرائيلي يتوقع الأسوأ, إزاء التصعيد المستمر الذي يتعرض له الفلسطينيون بما في ذلك الإلغاء الرسمي للاتفاقات, وانضمام أجهزة الأمن الفلسطينية إلي رجال المقاومة والانقضاض علي المستوطنات, ومن السيناريوهات التي وصفها الكاتب بأنها مرعبة انضمام عرب إسرائيل إلي اخوانهم في الضفة, وتحريك الجيوش العربية علي حدود إسرائيل.
الكتابات الإسرائيلية تتحدث عن أن الانتفاضة يمكن أن تستمر مدة سنتين أخريين, لكن لفت انتباهي في مقالة نشرتها هاآرتس لكاتب اسمه ميرون بنفنستي في عدد8/30 قال فيها إن خطط العمل في الجيش الإسرائيلي تقوم علي أساس أن المواجهة المسلحة مع الفلسطينيين سوف تستمر حتي العام2006, الأمر الذي دفعه إلي التساؤل: هل سنضطر للعيش في جهنم خمس سنوات أخري؟!
انطلق الكاتب من أن النصر مكتوب في النهاية للإسرائيليين, وأن الفشل الاستراتيجي سيكون من نصيب الفلسطينيين, لكنه اعتبر الانتصار خطيرا, لأنه سيخلف أمة مهزومة ومهانة, تلعق جراحها وتكون خاضعة لفظاظة إسرائيل, التي ستري في إنجازها انتصارا للصهيونية الوحشية. وتطلق العنان أكثر فأكثر لسياسة الاستيطان والسلب, الأمر الذي يعني في حقيقة الأمر أن بذور الانتفاضة الثالثة كامنة في الثانية, ولعنة المصير الكردي ستطارد المنتصر والمهزوم علي حد سواء: فالإسرائيليون منتصرون دائما في الحرب, ولكن المهزومين لن يدعوهم يتمتعون بثمار انتصارهم.
(4)
واشنطن راضية عن شارون, ذلك ما تبرزه الكتابات الإسرائيلية وتهتم به, إذ طالما أن المباركة الأمريكية مستمرة, فلا شيء يهم, فقد كتب الوف بن في هاآرتس(8/30) يقول: إن الأصوات التي حذرت في إسرائيل من التصعيد في المواجهة مع الفلسطينيين, لم تغير من تقديرات الادارة الأمريكية في أنه ليس ثمة فائدة من تعميق التدخل بين الأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط( لاحظ الإشارة إلي أنه نزاع, وليس احتلالا).. ولذلك فإن وزير الخارجية الأمريكية كولين باول يقلل من اتصالاته مع شارون وعرفات, مفضلا ترك الأمر للسفير الأمريكي في تل أبيب وقنصل الولايات المتحدة في القدس, حيث يتولي الاثنان إجراء الاتصالات والوساطات بين الرجلين.
أضاف الكاتب أن واشنطن راضية علي الجملة عن شارون, وإن كانت بعض تصرفاته لا تحظي بتأييدها.. ووزير الخارجية الأمريكية لن يأتي إلي المنطقة, ولن يستجيب للاستغاثات الصادرة من بعض العواصم العربية, إلا إذا اطمأن إلي أن هناك فرصة حقيقية لإنجاز شيء علي الأرض, وما لم يحدث ذلك, فإنه يفضل أن يحافظ علي وقته وكرامته.
لخص الوف بن الركائز التي تقوم عليها سياسة بوش إزاء المنطقة في ثلاث نقاط هي:
* أن المسار الوحيد المتفق عليه لحل المواجهة وإحياء المفاوضات هو تقرير ميتشيل وخطة تينيت مدير المخابرات المركزية, اللذين يحددان خطوات متبادلة للسلطة الفلسطينية وإسرائيل.
* كخطوة أولي علي الفلسطينيين أن يوقفوا العنف ومن زاوية أمريكية علي عرفات أن يعمل أولا ويليه شارون.
* الولايات المتحدة لا توافق علي الكثير من الردود الإسرائيلية علي العنف الفلسطيني مثل الاغتيالات ودخول الجيش إلي مناطق أ والضغط الاقتصادي علي السكان الفلسطينيين, مع ذلك فهم يفهمون في واشنطن أن شارون يحافط علي ضبط النفس!! حيث إن إسرائيل لم تستخدم كامل قوتها العسكرية ضد الفلسطينيين.
لقد اعتبر أوري دان في معاريف(8/30) أن نجاح حكومة شارون في تعبئة الحكومة الأمريكية وتجييشها ضد السلطة الفلسطينية, هو انجاز تاريخي يحسب لها, واعتبر أن تصريحات الرئيس بوش وجهت ضربة إلي عرفات حين طالبته بوقف العنف, وقال إن إسرائيل لن تجري معه مفاوضات إلا إذا بادر إلي اتخاذ تلك الخطوة. بل وقال إن واشنطن تنظر بالسلب إلي محاولات شيمون بيريز الالتقاء مع عرفات, من خلال الوسطاء الأوروبيين, وهي التي تبنت موقف شارون القائل بأن الضغط علي عرفات وعزله هو الذي يحمله علي إصدار أمر بوقف العنف.
مقالة عكيفا الدار في هاآرتس تحدثت عن التعاطف الخاص الذي يبديه وزير الخارجية الأمريكي كولين باول إزاء إسرائيل, وأشارت في هذا الصدد إلي معلومتين تلفتان النظر, أولاهما أن تصريح الرئيس بوش بأن كولين باول لن يشارك في مؤتمر ديربان المناهض للتفرقة العنصرية المنعقد في جنوب إفريقيا فاجأ حتي المختصين بالأمر في البيت الأبيض, أما المعلومة الثانية فهي أن باول أمضي عدة أيام أخيرا في بيت رونالد لاودر, الذي كان حتي عهد قريب رئيس مجلس رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية.
(5)
شيء مهين حقا أن نقرأ تلك الكتابات التي تتردد في الصحف العربية داعية إلي استبعاد اتخاذ أي موقف من الولايات المتحدة, التي يعتمد عليها العرب كمصدر للغذاء والمعونات وكراع للسلام.. كأنما كتب علي العرب بكل ما يملكون أن يتعاملوا مع الولايات المتحدة لا كدولة كبري, ولكن كدولة مقدسة, لا يداس لها علي طرف, ولا تمس لها مصلحة, وهو منطق يشجع واشنطن علي الاستعلاء والاستكبار, بل وعلي الازدراء بأولئك العرب الذين أصبحوا عاجزين حتي عن إعلان الغضب!.
سمعت الفيلسوف الفرنسي جارودي يقول ذات مرة: إن العرب لو قاطعوا الكوكاكولا وحدها لاهتز البيت الأبيض ولقامت الدنيا في الولايات المتحدة ولم تقعد.. ولأعاد المخططون السياسيون هناك حساباتهم إزاء المنطقة.
إن أنبياء العجز ودعاة الانبطاح في زماننا يروجون لإفلاس الأمة في كل حين.. ولا يملون من محاولة إقناعنا بأن الركوع هو خيارنا الوحيد, ولا أعرف لماذا نفرط في سلاح المقاطعة ونلقي به جانبا, بينما هو ورقة مهمة تملكها الجماهير, حتي إذا كانت للحكومات حسابات أخري. ولعلماء المسلمين أكثر من فتوي تحرم شراء البضائع الأمريكية, وأشهرها ما صدر عن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في العام الماضي.. رغم أن الأمر لا يحتاج إلي فتوي, ذلك أنه حين يكون المعروض علي الفلسطيني هو الاستسلام أو الموت, فإن أي عقل رشيد يتمتع صاحبه بحد أدني من الشرف والكرامة لا يحتاج إلي فتوي تدله علي ما ينبغي أن يفعله, وما يجري علي الفلسطينيين ينسحب علي العرب أجمعين, باعتبار أن الجميع في سفينة واحدة.. وإن فات ذلك علي بعض الغافلين أو المستغفلين..