هويدي 12-8-2001
نخدع أنفسنا إذا قلنا إن الفلسطينيين كسبوا جولتهم ضد شارون وحكومته, لكننا نبخس أنفسنا حقها, إذا لم نسجل للمقاومة أنها نجحت حتي الآن في هزيمة وعد شارون بالقضاء علي الانتفاضة خلال مائة يوم من تسلمه السلطة, فها قد مرت مائة وخمسون يوما, ومازالت جذوة النضال الفلسطينية علي وهجها. ومازالت عبقرية وبسالة الشعب الفلسطيني قادرة علي تحدي الاستكبار الإسرائيلي, وتوجيه الضربات الموجعة له. ليس هذا فحسب, وإنما بدا في استطلاعات الرأي العام الأخيرة ان الدائرة بدأت تدور علي شارون نفسه, وأن رصيد الثقة به في سبيله الي التآكل, وهي نتيجة يتعين علينا أن نرصدها باهتمام وحذر, لأن شارون ـ مجرم الحرب العتيد ـ اذا استشعر ان الخناق قد ضاق حول رقبته فإنه لن يتردد في تبني شعار علي وعلي أعدائي.
ـ 1 ـ
يوم الجمعة الماضي(8/17) تناقلت وكالات الأنباء نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد جالوب ونشرتها صحيفة معاريف. وتبين منها ان70% من الذين شملهم الاستطلاع لم يعودوا يثقون بقدرة شارون علي وضع حد للانتفاضة. في حين لم يعبر أكثر من21% فقط عن ظنهم أنه مازال بإمكانه وقف العمليات الفدائية ضد الإسرائيليين.
من ناحية أخري, منح الاستطلاع رئيس الوزراء الإسرائيلي درجات منخفضة علي أدائه السياسي بشكل عام, منذ توليه السلطة في أوائل شهر مارس الماضي. فقد أبدي49% فقط رضاهم عن ذلك الأداء, بينما وصل ذلك الرضا إلي59% في استطلاع سابق أجري الشهر الماضي. أما الذين عبروا عن عدم رضاهم فقد وصلت نسبتهم الي42%, بزيادة11 نقطة عن ذي قبل.
في الوقت نفسه كشف الاستطلاع عن استياء نسبة غير قليلة من الاسرائيليين إزاء معالجة شارون للموقف الأمني, فقد عبر53% من الإسرائيليين عن عدم رضائهم عن جهود شارون للوفاء بوعده وقف الانتفاضة واستعادة الأمن للإسرائيليين, وكانت هذه النسبة41% في الاستطلاع السابق.
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية ان تراجع شعبية شارون حدث بسرعة لافتة, تعكس امتعاضا من جانب الاسرائيليين, وهو الذي كان يحظي بتأييد تجاوز60% من الأصوات عند صعوده علي السلطة, بعد انتخابات شهر فبراير الماضي.
وإلي جانب فقدان الثقة بشارون ـ الذي قدم نفسه في البداية باعتبار, رجل الأمن الذي سيعيد الهدوء والاستقرار إلي إسرائيل, فإن الاستطلاع أظهر مدي الاضطراب في الرأي العام الإسرائيلي, الذي بات يؤمن بالشيء ونقيضه, فقد أيد60% منهم قرار شارون السماح لوزير خارجيته شمعون بيريز بالتفاوض مع القيادات الفلسطينية حول وقف إطلاق النار مع الاعتقاد في الوقت نفسه بأن تلك المفاوضات لن تؤدي الي نتيجة, وهو ما اعتبرته معاريف تعبيرا عن انفصام الشخصية الاسرائيلية, اما تعليق يوسي بيلين وزير العدل في حكومة حزب العمل السابقة علي الاستطلاع ونتائجه, فقد تلخص في قوله إن الرأي العام بات يدرك أن شارون باعهم أمنا لا وجود له.
ـ 2 ـ
نتائج الاستطلاع شهادة إدانة لسياسة شارون وأدائه, وهي في الوقت نفسه شهادة نجاح للمقاومة الفلسطينية التي استطاعت هز اليقين الاسرائيلي, ولم يكن الاستطلاع هو الشهادة الوحيدة, لأن اصواتا تعالت في الصحف الاسرائيلية معبرة عن الموقف نفسه فقد نشرت هاآرتس في8/14, مقاله لأحد كتابها الدائمين يونيل ماركوس, قال فيها ان شارون لم يجلب الأمن والسلام اللذين وعد بهما في حملته الانتخابية فقد أصبح السلام ابعد مما كان في أي وقت مضي, فيما اوقع الوضع الأمني المتدهور أضرارا كبيرة بالاقتصاد, وغير أنماط سلوك الإسرائيليين, وفاقم أجواء اليأس التي تملكتني, والويل لنا اذا كنا قد وصلنا الي درجة من الحيرة تضطر الحاخام الرئيس في إسرائيل الي التوجه الي الرب في احدي جنازات الضحايا متسائلا بانفعال: إلي متي؟.. فعرفات نقل الحرب الي قلب البلاد.. ومشكلتنا ان سيد الأمن جنرال التكتيكات العسكرية عندنا( يقصد شارون) لا توجد لديه إجابة عسكرية علي الوضع. فسياسة الصبر والجلد استنفدت ذاتها. وسياسة التصفيات تلقي النقد الشديد في العالم. وخيار احتلال الضفة وغزة من جديد جنون
اما خيار ادخال الجيش الي المناطق لتدمير البني التحتية ونزع سلاح الفلسطينيين فسيؤدي الي ارسال قوة دولية لحماية الفلسطينيين
وفي كل الأحوال فإن الذي يدخل عنزة الي اقاليم الارهاب ينبغي له ألا يفاجأ اذا ما خرجت من هناك أفعي!.
زئيف شيف الخبير الاستراتيجي كتب في هاآرتس(8/15) مقالة علق فيها علي عملية الاقتحام التي قامت بها القوات الاسرائيلية لبلدة جنين يوم الثلاثاء8/14, فأشار الي ان الجيش الاسرائيلي قام بمهمة مماثلة في المدينة نفسها في صيف عام65, ردا علي احدي العمليات التي قامت بها منظمة فتح, حيث دخل اليها المظليون وقتذاك وفجروا بعض المواقع, الأمر الذي يعني ان التاريخ يكرر نفسه وان معظم الزعماء والجنرالات الاسرائيليين لم يتعلموا منه شيئا, ذلك ان القادة بعودتهم الي اسلوب الرد الذي ساد في الستينيات والخمسينيات فإنهم يسيرون في طريق يؤدي الي مزيد من التدهور, وينتهي بالحرب كما حدث في عام56 و67. إذ عندما تتعاظم الخسائر عندنا, ففي نهاية المطاف يتعاظم التدهور, ونهايته حرب شاملة
في رأي زئيف شيف ان حكومة شارون لا تريد حربا شاملة, وغير معنية بانزلاق النزاع الي حدود اخري, ولكن النهج الذي تتبعه سيؤدي الي المزيد من الاجتياحات للمناطق( أ) الخاضعة للسلطة الفلسطينية, الأمر الذي يؤدي الي تصعيد تدريجي, يضع الجميع أمام وضع اللامفر( الحرب), غير أن النصر هذه المرة لن نجده في انتصارات الماضي.
ـ 3 ـ
إنه صيف بائس, فقد أصبح الجميع يتجنبون اسرائيل من السياح الي فرق الرياضة, والفرق الفنية, وحين اعرب الطيارون الاوروبيون عن خوفهم من النوم في اسرائيل وقرروا ابتداء من هذا الشهر المبيت في عواصم أخري, فقد كان ذلك المسمار الأخير في نعش السياحة. هكذا كتب عامي اتينغر وآخرون في تقرير نشرته معاريف في8/15, يرصد جانبا من الأزمة التي اصبحت تواجهها اسرائيل مع استمرار الانتفاضة.
ذكر التقرير ان حركة الزوار الي اسرائيل هذا الصيف انخفضت بنسبة60% وان شركات الطيران اصبحت تكسب رزقها اليوم تقريبا, فقط من الاسرائيليين المغادرين الي خارج البلاد. الذين ارتفع عددهم بنسبة10% عما كانت عليه في العام الماضي, وبعد الصور التي خرجت من الأراضي المحتلة, وفي اسرائيل نفسها, شطبت اسرائيل من نشرات المواقع السياحية الكبري في العالم والنية متجهة الي اغلاق مكتب شركة العال في كوبنهاجن الشهر القادم, برغم ان الرحلات القادمة من الدول الاسكندنافية كانت طليعة اوروبا في الرحلات السياحية. الأمر الذي يعني ان وضع السياحة في اسرائيل يبدو سوداويا علي نحو خاص.
اضاف التقرير ان شركات الطيران الإسرائيلية التي كانت تحقق معظم ارباحها في موسم الصيف اصبح مدراؤها ينظرون برعب الي النتائج المتوقعة للوضع الراهن. فشركة اركيع تنوي تسريح15 طيارا, في شهر اكتوبر القادم, وستعيد شركة يسرائيل طائرة بوينج800 ـ737 التي تستخدمها في الصيف لأصحابها, اما شركة العال فتدرس الآن خياراتها للتغلب علي الأزمة.
علي صعيد آخر قال التقرير انه لوحظ انخفاض كبير في اعداد الطلاب الذين اعتادوا المجيء الي اسرائيل من خارج البلاد في فترة الصيف, والانخفاض الكبير سجل في الجامعة العبرية اذ وصل الي57%, فقد سجل140 طالبا انفسهم للعام القادم مقابل325 في السنة الماضية كما ان بعض الجامعات الغت برامجها مع الجامعة العبرية, فقد نقلت جامعة كاليفورنيا برامجها من الجامعة العبرية الي جامعة حيفا بمظنة انها اكثر امنا. وفي جامعة تل ابيب سجل انخفاض بحوالي40% مقابل العام السابق. وفي جامعة بن جوريون سجل انخفاض بنسبة35% في عدد الطلاب الأجانب خاصة وسط الأمريكيين.
كذلك انعكس الوضع الأمني علي الرياضة, ففريق كرة السلة الفرنسي لومان الذي كان مقررا ان يلعب في23 سبتمبر الماضي لن يصل الي اسرائيل بعدما طلب اجراء المباراة علي ارض محايدة, كما ألغت فرقة الروكـ رد هوت تشيلي بابرس ـ عرضها الذي كان مزمعا اقامته في اسرائيل. بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد.
ـ 4 ـ
بعد عمليات القصف والخطف والاغتيال التي طالت حتي الآن60 من قادة حركة المقاومة الميدانية فإن إسرائيل لجأت الي التصعيد العسكري يوم8/14 من خلال اقتحام بلدة جنين الخاضعة للسلطة الفلسطينية, مستخدمة في ذلك70 دبابة, ظللتها الطائرات المروحية الأمريكية أباتشي, وشقت طريقها قبل الفجر, بعدما أحالت عشرات القنابل الضوئية الليل الي النهار.
كانت تلك هي المرة الأولي التي تعرضت فيها مدينة فلسطينية( في شمال الضفة) للاقتحام منذ الانتفاضة, ولكن ما الذي حدث؟.
حسب رواية فخري التركمان عضو المجلس التشريعي عن جنين, فحين شعر سكان المدينة والمخيم بالحشود العسكرية الزاحفة, اعلنت حالة الطواريء القصوي في جنين, واستخدم ناشطو الانتفاضة مكبرات الصوت لاستنفار المقاومة وحشد عناصرها للتصدي للقوات المهاجمة. وفي مخيم جنين بشكل خاص, الذي يتمركز فيه عدد كبير من الناشطين الذين تطلبهم اسرائيل, استعد الجميع ووقف عند مدخل المخيم عشرون شابا يرتدون الأحزمة الناسفة وجاهزون لتفجير أنفسهم في أية دبابة تحاول دخول المكان. وحول هؤلاء ووراءهم كان هناك آخرون يحملون اسطوانات الغاز ويعدون براميل المحروقات ويقيمون الحواجز بهياكل السيارات المستعملة بينما حمل بعضهم البنادق والآلات الحادة والسكاكين والعصي.
في تلك اللحظات بدا واضحا للجميع ان محاولة دخول المخيم ستكون مكلفة للغاية, وانها لن تتم الا بعد وقوع مجزرة سيكون الاسرائيليون في مقدمة ضحاياها. واذ ادركوا ذلك فإنهم لم يحاولوا اقتحامه, واكتفوا باحتلال مقر المحافظة لعدة ساعات, وبتدمير موقع للشرطة الفلسطينية, التي اشتبكت مع الاسرائيليين في مركز المدينة.
حين انسحب الغزاة,بعد خمس ساعات خرج الآلاف من سكان المدينة في مظاهرات عبرت عن احتفالهم بالنجاح في رد القوات الاسرائيلية, ومنعها من دخول المخيم.
تجربة اقتحام جنين جاءت دالة علي ان الأمر ليس بالسهولة التي يتوهمها العسكريون الاسرائيليون, اذ بعد ان زال حاجز الخوف وتعززت ثقة الفلسطينيين في أنفسهم, فقد ثبت ان اية محاولة للعودة الي احتلال المدن والقري الفلسطينية ستعرض الاسرائيليين الي مذبحة لن تستطيع اي حكومة ان تحتمل عواقبها, اذ لم يعد الأمر مقصورا علي ناشطي المقاومة الجاهزين للموت, وهؤلاء يسببون الآن رعبا حقيقيا لإسرائيل, وإنما هناك أيضا حوالي40 ألف جندي فلسطيني مسلح, لن يستطيعوا ان يسكتوا ازاء اقتحام من هذا القبيل, ولا يمكن ان يتحولوا الي محايدين اذا ما حدث ذلك الاقتحام.
ـ 5 ـ
في8/10 نشرت صحيفة يديعوت احرونوت تحليلا كتبه يونيل ماركوس ذكر فيه ان شعار كل البلاد جبهة وكل الشعب جيش الذي رفع في اثناء حرب48, اصبح شعارا راهنا بتعديل طفيف, حيث ظلت كل البلاد جبهة, بينما اصبح كل الشعب هدفا( بعدما صدرت المقاومة الخوف الي اسرائيل) وقال ان شارون امامه الآن خيارات ثلاثة: إما عملية كبري ضد بؤر الارهاب وقادته, ترضي الرأي العام وتلون العناوين الرئيسية بالأحمر, او عملية واسعة النطاق في اعماق المنطقة( أ) لإقامة نظام فلسطيني جديد, وابعاد مدي منفذي العمليات40 كيلو مترا الي الوراء بالمعني الرمزي للمفهوم المأخوذ من حرب لبنان او استمرار التوسع في سياسة التصفيات.
الملاحظة الأساسية علي الذين كتبوا عن خيارات شارون انهم لا يتحدثون الا عن نوع واحد من الخيارات التي تدور في فلك التصعيد العسكري, حيث لا هم له الا وقف الانتفاضة, وما قيل عن حوار سمح به في الاسبوع الماضي لوزير خارجيته شمعون بيريز, فإنه حصر هدفه في وقف الانتفاضة, ثم انه تزامن مع عملية اقتحام جنين, علي نحو اريد به امتصاص ردود الأفعال الدولية المترتبة علي تلك الخطوة.
هناك رأي تبناه الكاتب الأردني طارق مصاروة( القدس العربي في8/14) اعتبر ان هذه الخطوة الأخيرة تعبير عن إشهار إفلاس سياسة القمع العسكري, وحيله من الائتلاف الوزاري لاستخدام العقلاء من امثال بيريز( ؟!) بعدما استنفد الجنرالات وسائلهم, وذهب في التعليق علي مشهد ايفاد بيريز للتفاوض الي انه اذعان للارادة الفلسطينية وتسليم للنضال الفلسطيني بكسب الجولة الدموية.
في رأيه أيضا ان السيناريو الأسوأ اصبح وراء الظهر الفلسطيني, لأن كل التصعيد الاسرائيلي لم يقتل القوي الفلسطينية الحية وسياسة الاغتيالات لم تطفيء جذوة الانتفاضة, وحتي لو انهم قتلوا عرفات فإن ذلك سيشعل النار ولن يطفئها والكلام عن اعادة احتلال مدن فلسطين وقراها يعد تهديدا سخيفا, لأن اسرائيل لم تخرج من غزة ونابلس وأريحا وجنين وطولكرم لأنها تحب السلام, فذلك نمط من الاحتلال المكلف والمستحيل. ثم إسرائيل لن تستفيد شيئا اذا ما تم شطب السلطة الوطنية وقواها الأمنية, والعودة الي ما قبل أوسلو, اذ ستظل المشكلة قائمة دون حل, فضلا عن ان حلها سيغدو أكثر تعقيدا.
عن احتمالات السيناريو الأسوأ سألت في غزة عضو المجلس التشريعي الفلسطيني وعضو قيادة المقاومة الدكتور زياد ابو عمرو, فقال إن الشعب الفلسطيني نجح حتي الآن في امتصاص أو إحباط جهود التصعيد التي لجأ إليها شارون, وفي رأيه أن احتمالات التصعيد ستظل واردة, خصوصا ان الدائرة تضيق حوله حينا بعد حين, وإزاء اقتراب مؤتمر حزب الليكود في شهر نوفمبر المقبل, فإنه سيحرص علي ان يحقق اي إنجاز يثبت به جدارته بزعامة الليكود ورئاسة الحكومة, في مواجهة منافسة نيتانياهو والاحتمال الأرجح اذا فشلت كل محاولات وقف الانتفاضة ان يعمل علي تدمير بنية السلطة الفلسطينية كلها, واذا فشل في ذلك وكان لابد ان يذهب, فإنه لن يذهب وحده, لكنه سيحرص علي ان يذهب معه الرئيس عرفات, حتي ينسب اليه انه خلق واقعا جديدا في الساحة الفلسطينية, بصرف النظر عن نتائجه وهو في سنه المتقدمة تلك لن يهمه كثيرا ما سيحدث له, ولكنه سيهتم بأن يفعل شيئا له آثاره الاستراتيجية في المنطقة, مثلما فعل في ثغرة الدفرسوار وفي اجتياح بيروت.
ما هي الآثار الإقليمية التي يمكن أن تترتب علي ذلك؟ لا أحد يعرف بالضبط, لأنك في الحرب قد تتحكم في الطلقة الأولي, لكن لم يحدث ان احدا استطاع ان يتحكم مسبقا في الطلقة الأخيرة.
نخدع أنفسنا إذا قلنا إن الفلسطينيين كسبوا جولتهم ضد شارون وحكومته, لكننا نبخس أنفسنا حقها, إذا لم نسجل للمقاومة أنها نجحت حتي الآن في هزيمة وعد شارون بالقضاء علي الانتفاضة خلال مائة يوم من تسلمه السلطة, فها قد مرت مائة وخمسون يوما, ومازالت جذوة النضال الفلسطينية علي وهجها. ومازالت عبقرية وبسالة الشعب الفلسطيني قادرة علي تحدي الاستكبار الإسرائيلي, وتوجيه الضربات الموجعة له. ليس هذا فحسب, وإنما بدا في استطلاعات الرأي العام الأخيرة ان الدائرة بدأت تدور علي شارون نفسه, وأن رصيد الثقة به في سبيله الي التآكل, وهي نتيجة يتعين علينا أن نرصدها باهتمام وحذر, لأن شارون ـ مجرم الحرب العتيد ـ اذا استشعر ان الخناق قد ضاق حول رقبته فإنه لن يتردد في تبني شعار علي وعلي أعدائي.
ـ 1 ـ
يوم الجمعة الماضي(8/17) تناقلت وكالات الأنباء نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد جالوب ونشرتها صحيفة معاريف. وتبين منها ان70% من الذين شملهم الاستطلاع لم يعودوا يثقون بقدرة شارون علي وضع حد للانتفاضة. في حين لم يعبر أكثر من21% فقط عن ظنهم أنه مازال بإمكانه وقف العمليات الفدائية ضد الإسرائيليين.
من ناحية أخري, منح الاستطلاع رئيس الوزراء الإسرائيلي درجات منخفضة علي أدائه السياسي بشكل عام, منذ توليه السلطة في أوائل شهر مارس الماضي. فقد أبدي49% فقط رضاهم عن ذلك الأداء, بينما وصل ذلك الرضا إلي59% في استطلاع سابق أجري الشهر الماضي. أما الذين عبروا عن عدم رضاهم فقد وصلت نسبتهم الي42%, بزيادة11 نقطة عن ذي قبل.
في الوقت نفسه كشف الاستطلاع عن استياء نسبة غير قليلة من الاسرائيليين إزاء معالجة شارون للموقف الأمني, فقد عبر53% من الإسرائيليين عن عدم رضائهم عن جهود شارون للوفاء بوعده وقف الانتفاضة واستعادة الأمن للإسرائيليين, وكانت هذه النسبة41% في الاستطلاع السابق.
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية ان تراجع شعبية شارون حدث بسرعة لافتة, تعكس امتعاضا من جانب الاسرائيليين, وهو الذي كان يحظي بتأييد تجاوز60% من الأصوات عند صعوده علي السلطة, بعد انتخابات شهر فبراير الماضي.
وإلي جانب فقدان الثقة بشارون ـ الذي قدم نفسه في البداية باعتبار, رجل الأمن الذي سيعيد الهدوء والاستقرار إلي إسرائيل, فإن الاستطلاع أظهر مدي الاضطراب في الرأي العام الإسرائيلي, الذي بات يؤمن بالشيء ونقيضه, فقد أيد60% منهم قرار شارون السماح لوزير خارجيته شمعون بيريز بالتفاوض مع القيادات الفلسطينية حول وقف إطلاق النار مع الاعتقاد في الوقت نفسه بأن تلك المفاوضات لن تؤدي الي نتيجة, وهو ما اعتبرته معاريف تعبيرا عن انفصام الشخصية الاسرائيلية, اما تعليق يوسي بيلين وزير العدل في حكومة حزب العمل السابقة علي الاستطلاع ونتائجه, فقد تلخص في قوله إن الرأي العام بات يدرك أن شارون باعهم أمنا لا وجود له.
ـ 2 ـ
نتائج الاستطلاع شهادة إدانة لسياسة شارون وأدائه, وهي في الوقت نفسه شهادة نجاح للمقاومة الفلسطينية التي استطاعت هز اليقين الاسرائيلي, ولم يكن الاستطلاع هو الشهادة الوحيدة, لأن اصواتا تعالت في الصحف الاسرائيلية معبرة عن الموقف نفسه فقد نشرت هاآرتس في8/14, مقاله لأحد كتابها الدائمين يونيل ماركوس, قال فيها ان شارون لم يجلب الأمن والسلام اللذين وعد بهما في حملته الانتخابية فقد أصبح السلام ابعد مما كان في أي وقت مضي, فيما اوقع الوضع الأمني المتدهور أضرارا كبيرة بالاقتصاد, وغير أنماط سلوك الإسرائيليين, وفاقم أجواء اليأس التي تملكتني, والويل لنا اذا كنا قد وصلنا الي درجة من الحيرة تضطر الحاخام الرئيس في إسرائيل الي التوجه الي الرب في احدي جنازات الضحايا متسائلا بانفعال: إلي متي؟.. فعرفات نقل الحرب الي قلب البلاد.. ومشكلتنا ان سيد الأمن جنرال التكتيكات العسكرية عندنا( يقصد شارون) لا توجد لديه إجابة عسكرية علي الوضع. فسياسة الصبر والجلد استنفدت ذاتها. وسياسة التصفيات تلقي النقد الشديد في العالم. وخيار احتلال الضفة وغزة من جديد جنون
اما خيار ادخال الجيش الي المناطق لتدمير البني التحتية ونزع سلاح الفلسطينيين فسيؤدي الي ارسال قوة دولية لحماية الفلسطينيين
وفي كل الأحوال فإن الذي يدخل عنزة الي اقاليم الارهاب ينبغي له ألا يفاجأ اذا ما خرجت من هناك أفعي!.
زئيف شيف الخبير الاستراتيجي كتب في هاآرتس(8/15) مقالة علق فيها علي عملية الاقتحام التي قامت بها القوات الاسرائيلية لبلدة جنين يوم الثلاثاء8/14, فأشار الي ان الجيش الاسرائيلي قام بمهمة مماثلة في المدينة نفسها في صيف عام65, ردا علي احدي العمليات التي قامت بها منظمة فتح, حيث دخل اليها المظليون وقتذاك وفجروا بعض المواقع, الأمر الذي يعني ان التاريخ يكرر نفسه وان معظم الزعماء والجنرالات الاسرائيليين لم يتعلموا منه شيئا, ذلك ان القادة بعودتهم الي اسلوب الرد الذي ساد في الستينيات والخمسينيات فإنهم يسيرون في طريق يؤدي الي مزيد من التدهور, وينتهي بالحرب كما حدث في عام56 و67. إذ عندما تتعاظم الخسائر عندنا, ففي نهاية المطاف يتعاظم التدهور, ونهايته حرب شاملة
في رأي زئيف شيف ان حكومة شارون لا تريد حربا شاملة, وغير معنية بانزلاق النزاع الي حدود اخري, ولكن النهج الذي تتبعه سيؤدي الي المزيد من الاجتياحات للمناطق( أ) الخاضعة للسلطة الفلسطينية, الأمر الذي يؤدي الي تصعيد تدريجي, يضع الجميع أمام وضع اللامفر( الحرب), غير أن النصر هذه المرة لن نجده في انتصارات الماضي.
ـ 3 ـ
إنه صيف بائس, فقد أصبح الجميع يتجنبون اسرائيل من السياح الي فرق الرياضة, والفرق الفنية, وحين اعرب الطيارون الاوروبيون عن خوفهم من النوم في اسرائيل وقرروا ابتداء من هذا الشهر المبيت في عواصم أخري, فقد كان ذلك المسمار الأخير في نعش السياحة. هكذا كتب عامي اتينغر وآخرون في تقرير نشرته معاريف في8/15, يرصد جانبا من الأزمة التي اصبحت تواجهها اسرائيل مع استمرار الانتفاضة.
ذكر التقرير ان حركة الزوار الي اسرائيل هذا الصيف انخفضت بنسبة60% وان شركات الطيران اصبحت تكسب رزقها اليوم تقريبا, فقط من الاسرائيليين المغادرين الي خارج البلاد. الذين ارتفع عددهم بنسبة10% عما كانت عليه في العام الماضي, وبعد الصور التي خرجت من الأراضي المحتلة, وفي اسرائيل نفسها, شطبت اسرائيل من نشرات المواقع السياحية الكبري في العالم والنية متجهة الي اغلاق مكتب شركة العال في كوبنهاجن الشهر القادم, برغم ان الرحلات القادمة من الدول الاسكندنافية كانت طليعة اوروبا في الرحلات السياحية. الأمر الذي يعني ان وضع السياحة في اسرائيل يبدو سوداويا علي نحو خاص.
اضاف التقرير ان شركات الطيران الإسرائيلية التي كانت تحقق معظم ارباحها في موسم الصيف اصبح مدراؤها ينظرون برعب الي النتائج المتوقعة للوضع الراهن. فشركة اركيع تنوي تسريح15 طيارا, في شهر اكتوبر القادم, وستعيد شركة يسرائيل طائرة بوينج800 ـ737 التي تستخدمها في الصيف لأصحابها, اما شركة العال فتدرس الآن خياراتها للتغلب علي الأزمة.
علي صعيد آخر قال التقرير انه لوحظ انخفاض كبير في اعداد الطلاب الذين اعتادوا المجيء الي اسرائيل من خارج البلاد في فترة الصيف, والانخفاض الكبير سجل في الجامعة العبرية اذ وصل الي57%, فقد سجل140 طالبا انفسهم للعام القادم مقابل325 في السنة الماضية كما ان بعض الجامعات الغت برامجها مع الجامعة العبرية, فقد نقلت جامعة كاليفورنيا برامجها من الجامعة العبرية الي جامعة حيفا بمظنة انها اكثر امنا. وفي جامعة تل ابيب سجل انخفاض بحوالي40% مقابل العام السابق. وفي جامعة بن جوريون سجل انخفاض بنسبة35% في عدد الطلاب الأجانب خاصة وسط الأمريكيين.
كذلك انعكس الوضع الأمني علي الرياضة, ففريق كرة السلة الفرنسي لومان الذي كان مقررا ان يلعب في23 سبتمبر الماضي لن يصل الي اسرائيل بعدما طلب اجراء المباراة علي ارض محايدة, كما ألغت فرقة الروكـ رد هوت تشيلي بابرس ـ عرضها الذي كان مزمعا اقامته في اسرائيل. بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد.
ـ 4 ـ
بعد عمليات القصف والخطف والاغتيال التي طالت حتي الآن60 من قادة حركة المقاومة الميدانية فإن إسرائيل لجأت الي التصعيد العسكري يوم8/14 من خلال اقتحام بلدة جنين الخاضعة للسلطة الفلسطينية, مستخدمة في ذلك70 دبابة, ظللتها الطائرات المروحية الأمريكية أباتشي, وشقت طريقها قبل الفجر, بعدما أحالت عشرات القنابل الضوئية الليل الي النهار.
كانت تلك هي المرة الأولي التي تعرضت فيها مدينة فلسطينية( في شمال الضفة) للاقتحام منذ الانتفاضة, ولكن ما الذي حدث؟.
حسب رواية فخري التركمان عضو المجلس التشريعي عن جنين, فحين شعر سكان المدينة والمخيم بالحشود العسكرية الزاحفة, اعلنت حالة الطواريء القصوي في جنين, واستخدم ناشطو الانتفاضة مكبرات الصوت لاستنفار المقاومة وحشد عناصرها للتصدي للقوات المهاجمة. وفي مخيم جنين بشكل خاص, الذي يتمركز فيه عدد كبير من الناشطين الذين تطلبهم اسرائيل, استعد الجميع ووقف عند مدخل المخيم عشرون شابا يرتدون الأحزمة الناسفة وجاهزون لتفجير أنفسهم في أية دبابة تحاول دخول المكان. وحول هؤلاء ووراءهم كان هناك آخرون يحملون اسطوانات الغاز ويعدون براميل المحروقات ويقيمون الحواجز بهياكل السيارات المستعملة بينما حمل بعضهم البنادق والآلات الحادة والسكاكين والعصي.
في تلك اللحظات بدا واضحا للجميع ان محاولة دخول المخيم ستكون مكلفة للغاية, وانها لن تتم الا بعد وقوع مجزرة سيكون الاسرائيليون في مقدمة ضحاياها. واذ ادركوا ذلك فإنهم لم يحاولوا اقتحامه, واكتفوا باحتلال مقر المحافظة لعدة ساعات, وبتدمير موقع للشرطة الفلسطينية, التي اشتبكت مع الاسرائيليين في مركز المدينة.
حين انسحب الغزاة,بعد خمس ساعات خرج الآلاف من سكان المدينة في مظاهرات عبرت عن احتفالهم بالنجاح في رد القوات الاسرائيلية, ومنعها من دخول المخيم.
تجربة اقتحام جنين جاءت دالة علي ان الأمر ليس بالسهولة التي يتوهمها العسكريون الاسرائيليون, اذ بعد ان زال حاجز الخوف وتعززت ثقة الفلسطينيين في أنفسهم, فقد ثبت ان اية محاولة للعودة الي احتلال المدن والقري الفلسطينية ستعرض الاسرائيليين الي مذبحة لن تستطيع اي حكومة ان تحتمل عواقبها, اذ لم يعد الأمر مقصورا علي ناشطي المقاومة الجاهزين للموت, وهؤلاء يسببون الآن رعبا حقيقيا لإسرائيل, وإنما هناك أيضا حوالي40 ألف جندي فلسطيني مسلح, لن يستطيعوا ان يسكتوا ازاء اقتحام من هذا القبيل, ولا يمكن ان يتحولوا الي محايدين اذا ما حدث ذلك الاقتحام.
ـ 5 ـ
في8/10 نشرت صحيفة يديعوت احرونوت تحليلا كتبه يونيل ماركوس ذكر فيه ان شعار كل البلاد جبهة وكل الشعب جيش الذي رفع في اثناء حرب48, اصبح شعارا راهنا بتعديل طفيف, حيث ظلت كل البلاد جبهة, بينما اصبح كل الشعب هدفا( بعدما صدرت المقاومة الخوف الي اسرائيل) وقال ان شارون امامه الآن خيارات ثلاثة: إما عملية كبري ضد بؤر الارهاب وقادته, ترضي الرأي العام وتلون العناوين الرئيسية بالأحمر, او عملية واسعة النطاق في اعماق المنطقة( أ) لإقامة نظام فلسطيني جديد, وابعاد مدي منفذي العمليات40 كيلو مترا الي الوراء بالمعني الرمزي للمفهوم المأخوذ من حرب لبنان او استمرار التوسع في سياسة التصفيات.
الملاحظة الأساسية علي الذين كتبوا عن خيارات شارون انهم لا يتحدثون الا عن نوع واحد من الخيارات التي تدور في فلك التصعيد العسكري, حيث لا هم له الا وقف الانتفاضة, وما قيل عن حوار سمح به في الاسبوع الماضي لوزير خارجيته شمعون بيريز, فإنه حصر هدفه في وقف الانتفاضة, ثم انه تزامن مع عملية اقتحام جنين, علي نحو اريد به امتصاص ردود الأفعال الدولية المترتبة علي تلك الخطوة.
هناك رأي تبناه الكاتب الأردني طارق مصاروة( القدس العربي في8/14) اعتبر ان هذه الخطوة الأخيرة تعبير عن إشهار إفلاس سياسة القمع العسكري, وحيله من الائتلاف الوزاري لاستخدام العقلاء من امثال بيريز( ؟!) بعدما استنفد الجنرالات وسائلهم, وذهب في التعليق علي مشهد ايفاد بيريز للتفاوض الي انه اذعان للارادة الفلسطينية وتسليم للنضال الفلسطيني بكسب الجولة الدموية.
في رأيه أيضا ان السيناريو الأسوأ اصبح وراء الظهر الفلسطيني, لأن كل التصعيد الاسرائيلي لم يقتل القوي الفلسطينية الحية وسياسة الاغتيالات لم تطفيء جذوة الانتفاضة, وحتي لو انهم قتلوا عرفات فإن ذلك سيشعل النار ولن يطفئها والكلام عن اعادة احتلال مدن فلسطين وقراها يعد تهديدا سخيفا, لأن اسرائيل لم تخرج من غزة ونابلس وأريحا وجنين وطولكرم لأنها تحب السلام, فذلك نمط من الاحتلال المكلف والمستحيل. ثم إسرائيل لن تستفيد شيئا اذا ما تم شطب السلطة الوطنية وقواها الأمنية, والعودة الي ما قبل أوسلو, اذ ستظل المشكلة قائمة دون حل, فضلا عن ان حلها سيغدو أكثر تعقيدا.
عن احتمالات السيناريو الأسوأ سألت في غزة عضو المجلس التشريعي الفلسطيني وعضو قيادة المقاومة الدكتور زياد ابو عمرو, فقال إن الشعب الفلسطيني نجح حتي الآن في امتصاص أو إحباط جهود التصعيد التي لجأ إليها شارون, وفي رأيه أن احتمالات التصعيد ستظل واردة, خصوصا ان الدائرة تضيق حوله حينا بعد حين, وإزاء اقتراب مؤتمر حزب الليكود في شهر نوفمبر المقبل, فإنه سيحرص علي ان يحقق اي إنجاز يثبت به جدارته بزعامة الليكود ورئاسة الحكومة, في مواجهة منافسة نيتانياهو والاحتمال الأرجح اذا فشلت كل محاولات وقف الانتفاضة ان يعمل علي تدمير بنية السلطة الفلسطينية كلها, واذا فشل في ذلك وكان لابد ان يذهب, فإنه لن يذهب وحده, لكنه سيحرص علي ان يذهب معه الرئيس عرفات, حتي ينسب اليه انه خلق واقعا جديدا في الساحة الفلسطينية, بصرف النظر عن نتائجه وهو في سنه المتقدمة تلك لن يهمه كثيرا ما سيحدث له, ولكنه سيهتم بأن يفعل شيئا له آثاره الاستراتيجية في المنطقة, مثلما فعل في ثغرة الدفرسوار وفي اجتياح بيروت.
ما هي الآثار الإقليمية التي يمكن أن تترتب علي ذلك؟ لا أحد يعرف بالضبط, لأنك في الحرب قد تتحكم في الطلقة الأولي, لكن لم يحدث ان احدا استطاع ان يتحكم مسبقا في الطلقة الأخيرة.