هويدي 14-8-2001
لا أستطيع أن أخفي فرحا بالعملية الاستشهادية التي تمت في القدس يوم الخميس الماضي, ولا أنكر أنها انتشلتني من شعور بالكآبة والحزن تلبسني طيلة الأسبوعين الأخيرين, حين خيم السكون والفتور علي العالم العربي, بينما إسرائيل تعربد في الأرض المحتلة, وتمثل بشعبها ليل نهار, وحين كانت مواكب الجنازات في مدن الضفة هي الحضور الوحيد للجماهير في الشارع العربي. في هذه الأجواء البائسة وقعت عملية القدس. فكانت بالنسبة لي بارقة أمل وطوق نجاة.
(1)
ظننت في البداية أن ذلك شعور خاص بي لكني اكتشفت بعد لحظات قليلة من إذاعة النبأ أن كثيرين يشاركونني فيه. فرنين الهاتف لم يتوقف في بيتي إلي ما بعد منتصف الليل, وأغلب الذين تلقيت مكالماتهم كانوا يريدون أن يتأكدوا من أن البشري وصلتني, وأنني أحطت علما بما جري, وعلمت في اليوم الثاني ان الجماهير في لبنان والأردن وغزة, خرجت الي الشوارع مهللة ومعبرة عن فرحتها بالهتافات تارة وبإطلاق الرصاص في الهواء تارة أخري, ومنهم من خرج لكي يوزع الحلوي علي المارين في الشوارع, وقد اقترنت عملية التوزيع بزغاريد النساء التي ظلت أصداؤها تتردد في السماء طوال الليل.
أعرف أن هناك من سيلوي شفتيه متأففا ومستنكرا, وقائلا إن الفرحة انفعال غوغائي, وشعور غير صحي أو غير متحضر, فالعملية أسفرت عن ضحايا من المدنيين الأبرياء, وهو ما يستوجب التعبير عن الأسف وليس البهجة, وقرأت قول أحد الذين أرادوا أن يسحبوا الفرحة من عيوننا, وادعاءه أن عملية القدس أسعدت الحكومة الإسرائيلية. وانها الأكثر سعادة وفرحا بما حدث, لأنها اهتبلت الفرصة لكسب تأييد حكومات الغرب وواشنطن بوجه أخص. لمخطط القمع الذي يمارسه شارون ضد الفلسطينيين.
ولا أعرف ما إذا كانت مثل هذه الأصداء تستحق التفاتا او ردا ام لا. لكني اعرف جيدا ان ثمة حربا معلنة علي الفلسطينيين. وموجهة ضد الشعب بأسره, وان تلك الحرب بدأتها اسرائيل مستخدمة في ذلك كل الوسائل, من تكريس الاحتلال والاستيطان الي القصف بطائرات إف16, وتدمير البيوت والزراعات, وقتل البشر بالصواريخ. ولأن لكل حرب ثمنها, فليس مفهوما أن يدفع الفلسطينيون وحدهم الثمن بالكامل, بينما يخوضها الاسرائيليون بالمجان.
الذي أعرفه أيضا أن إسرائيل لم ترحم احدا من الفلسطينيين ولم تميز بين فدائي ومقاتل وبين امرأة أو شيخ أو طفل. ولم يعرف عن الطفل محمد الدرة انه كان منتميا الي الجهاد الإسلامي أو كتائب القسام, وانما قتل لأنه فلسطيني فحسب. ولماذا الأمر كذلك, فلماذا لا نأسي علي الدم الفلسطيني, بينما نتكلم عن التحضر ويفزعنا الدم حين يكون اسرائيليا, ونذرف الدمع علي الضحايا الأبرياء الذين كانوا جالسين في مطعم البيتزا يوم الخميس, علما بأن هؤلاء المدنيين ـ شأنهم في ذلك شأن كل إسرائيلي أو إسرائيليية هم شركاء في جريمة اغتصاب فلسطيني( هل نسينا), ناهيك عن أنهم جميعا جنود في الاحتياط, يتحولون الي محاربين وقتلة عند اللزوم.
أما الزعم بأن حكومة شارون كانت الأكثر سعادة بما حدث, فهو هزل في موضع الجد, حيث انه يفترض ان الاسرائيليين كانوا بحاجة الي عملية من هذا القبيل لكسب تأييد الأوروبيين والأمريكيين, كأنما هم كانوا في موقف المعارضة. ثم انه يتجاهل تصريح نائب الرئيس الأمريكي ـ السابق للعملية ـ الذي أيد فيه سياسة القمع الإسرائيلي, واعتبرها دفاعا عن النفس.
(2)
للفرحة عندي أسباب عدة, أولها ان عملية القدس بمثابة ضربة موجعة للعدو الإسرائيلي, وذلك وحده سبب كاف لشعور واحد مثلي بالسعادة, ذلك ان اي وجيعة لإسرائيل, تأتيها من أي باب, تشبع عندي ـ وعند كل مواطن عربي لم يفقد ذاكرته أو وعيه أو ضميره ـ رغبة في الثأر وتصفية الحساب المتراكم منذ لحظة الاغتصاب التي وقعت قبل نصف قرن, اذ حين اري علي شاشة التليفزيون الفزع والأشلاء الإسرائيلية لا يهيمن علي ادراكي سوي شيء واحد, هو شريط المذابح الإسرائيلية من دير ياسين وكفر قاسم وقبيه الي مسلسل صور مقتل محمد الدرة في حضن أبيه.
السبب الثاني ان توقيت العملية كان مهما للغاية, حيث وقعت في وقت يمثل واحدة من لحظات الشعور بالذل والخزي في العالم العربي, الأمر الذي دفع بكثيرين الي مشارف اليأس والإحباط, ذلك ان الجبروت الإسرائيلي وصل الي مداه, حيث استباحت إسرائيل كل شيء في فلسطين. ولم تكتف بالقصف والتدمير وإطلاق المستعمرين لافتراس الفلسطينيين, وإنما أعلنت أنها ستواصل الخطف والقتل لكل الناشطين في مقاومة الاحتلال, وبينما كان ذلك يحدث بصفة يومية في فلسطين, فإن شيئا لم يتحرك في العالم العربي. والذين رفعوا أصواتهم وتكلموا, إما استغاثوا بالأمريكان واما أنهم لم يطالبوا بأكثر من العودة الي طاولة المفاوضات, في مناخ تلك المهانة المركبة, تمت العملية, وانتبه الجميع الي ان هناك ردا آخر لايزال ممكنا, يخاطب الاسرائيليين باللغة التي يفهمونها.
السبب الثالث ان الضربات التي وجهتها حكومة شارون الي المقاومة رفعت من رصيده لدي الرأي العام الإسرائيلي, حتي وصلت نسبة المؤيدين لسياسة اغتيال الناشطين الفلسطينيين الي70%, حسب آخر استطلاع للرأي العام, وأفاضت الصحف في الحديث بزهو شديد عن الانتصار الإسرائيلي من نماذج ذلك ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في8/8 تحت عنوان: إسرائيل انتصرت علي الانتفاضة وحولت مناطق السلطة الي أراض مدمرة.
وفيه تباهي الكاتب بأنه بعد300 يوم من الانتفاضة انتصرت إسرائيل, وأصبح كل فلسطيني يتوقع ضربه اليوم أو غدا, كما أن مناطق السلطة الفلسطينية أصبحت أرضا مدمرة تتدهور نحو الجوع والفقر, تنخرها النزاعات الداخلية ويستشري فيها اليأس.
في هذه الأجواء وقعت عملية القدس, محملة برسالة قوية تقول للذين استبد بهم الغرور ان الانتصار الإسرائيلي ليس مطلقا, وان جولات الصراع مازالت مفتوحة ومستمرة, وأن اليأس الفلسطيني ليس سوي شائعة يروج لها الإسرائيليون.
(3)
لست أبالغ إذا قلت إن أولئك الفدائيين الأبطال هم الإضاءة الوحيدة في سمائنا المعتمة, وهم الدليل الوحيد الذي يثبت أن الأمة العربية فيها بقية من حياة, وانها لم تمت بعد, واذا كان لنا ان نرفع رءوسنا ونستشعر بعضا من الكبرياء فلأنه لايزال بيننا أمثال أولئك الشبان الذين اختاروا أن يموتوا من أجل ان يكون في حياتنا أمل, ولحياتنا معني, ولليلنا الطويل فجر تطل منه البشارة.
بسبب من ذلك فلعلي أذهب الي ان عملية القدس لم تكن موجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي فحسب, وإنما هي أيضا موجهة ضد العجز العربي, ذلك ان عجزا بهذا الشكل الذي نراه من حولنا, لا يهزه ولا يوازنه سوي عملية استشهادية من ذلك النوع الذي وقع.
يحضرني في هذه اللحظة ذلك الجدل السخيف الذي أثاره البعض قبل حين حول تكييف أمثال تلك العمليات الفدائية, وهل تعد استشهادا أم انتحارا, وأتمني لو أنني رأيت حمرة الخجل في اللحظة الراهنة, في وجوه أولئك الذين شككوا في كونها استشهادا له مقامه المقبول والرفيع عند الله سبحانه وتعالي, اما الذين أبدوا اشمئزازهم وتأففهم من تلك العمليات, وأقرانهم الذين ضاقت صدورهم وتعكرت أمزجتهم من جراء جنازات الشهداء التي نشاهدها كل يوم علي شاشات التليفزيون, وقال قائلهم في احدي المجلات الاسبوعية المصرية ـ القومية للأسف ان القضية الفلسطينية قد انتهت وان العرب يلعبون الآن في الوقت الضائع أمثال هؤلاء لا هم منا ولا نحن منهم. وأشك كثيرا في أنهم يقفون في المربع الآخر, وليس في مربعنا.
(4)
الآن انكشف الغطاء تماما عن لعبة السلام, وأصبح خيار الفلسطينيين واضحا, فإما الاحتلال وإما الموت, من قبل غلف الزعماء الإسرائيليون الصفقة بأغلفة شتي, وجاء شارون لكي يهتك اللفافات ويرفع الغطاء, ويقولها صراحة للفلسطينيين.
وحتي لا يدعي احد ان اتفاق أوسلو كان الحل الممكن, فإنني أرد عليه بأن أوسلو كانت بداية الفصل الراهن من المأساة, لأنها أوجدت وضعا مستحيلا, كان لابد ان ينتهي بانفجار من ذلك القبيل الذي نشهده.
تفيدنا في هذا الصدد شهادة رصينة قرأتها أخيرا لكاتب فلسطيني لم أقرأ له من قبل للأسف, هو الأستاذ رائف زريق, قال فيها: أنشأت أوسلو حالا من الثنائيات المستحيلة, التي لا يمكن أن تستمر في التعايش مع بعضها. الثنائية الأولي بين الأرض ومن عليها فقد استمرت اسرائيل في التصرف بأراضي الضفة وغزة وكأنها صاحبة السيادة, تشق الطرق وتبني المستعمرات, وتستعمل المياه الجوفية, إلا أنها أعفت نفسها من المسئولية عن حاجات الفلسطينيين هناك. في المقابل طلب من السلطة الفلسطينية التي لم تمنح الصلاحيات علي الأرض ان تتصرف, وأن تضبط شغب مواطنيها الذين يحتجون علي عمليات الاستعمار والتوسع. أي أن أوسلو أوجدت واقعا تغيب فيه صلاحيات الدولة. لكن تحضر فيه التزاماتها, فكان علي السلطة بالتالي ان تكون وألا تكون في الوقت نفسه. ان تحضر عنه المسئوليات وتغيب عنه الصلاحيات. ان تحضر السيادة علي المواطنين وتغيب عن الأرض.
وبموجب منطق أوسلو علي السلطة الفلسطينية ان تحمي امن المستعمرات, وهذا ما ينص عليه الاتفاق, الا ان الشعب الفلسطيني الذي ينظر الي السلطة بصفتها ممثلا له ينتظر منها ان تزيل المستعمرات وان تحارب وجودها لا ان تحميها. وفي حين كانت اسرائيل تتوقع بموجب اوسلو ان تقوم السلطة بـ الحفاظ علي النظام والهدوء فإن الشعب الفلسطيني كان ينظر اليها ويتوقع منها تغيير الوضع الراهن وليس الحفاظ عليه. هكذا تراوحت السلطة بين مهمات الثورة ومسئوليات الدولة. بين كونها عاملا مسكنا وعاملا باعثا علي التغيير بين التزامها امام شعبها والتزاماتها الكاذبة في أوسلو.
هذه التناقضات المتفجرة جري اخفاؤها من خلال محاولات التجميل التي تمت( اعتبار عرفات رئيسا, ومعاونيه وزراء, اصدار طوابع بريد وهيئة اذاعة وشركة طيران ومطار... إلخ).. اضافة الي ذلك أوجدت اوسلو عالما مشوها من المفاهيم السياسية, التي اعمت البصيرة السياسية كانت مسيرة السلام من أهمها.
في هذا الصدد قال الكاتب: وصف المسيرة بأنها سلمية يوحي بأن القطار سيوصلنا في محطته الأخيرة الي السلام. إلا ان تعريف المحطة الأخيرة مستقبلا بأنها محطة السلام يصور الواقع الراهن بمسمياته حربا الا ان الفلسطينيين لم يكونوا في حالة حرب مع اسرائيل. اذ هم شعب يقع تحت الاحتلال الاسرائيلي وللحرب قوانين ومرجعيات تختلف عن حال الاحتلال. في حال الاحتلال هناك وضوح في الميزان الأخلاقي ووضوح في المرجعيات الدولية, أما حال الحرب فشيء آخر, حيث توحي بمسئوليات مشتركة او نزاع مصالح... الخ.
إن الفلسطينيين يريدون إنهاء الاحتلال والاستقلال والحرية والسيادة, والسلام.. والسلام باعتباره غياب العنف هو نتيجة لتحقيق ذلك, ولا يمكن ان يكون شرطا للتفاوض, كما تريده إسرائيل.
(الحياة اللندنية8/4)
(5)
لقد أثبتت خبرة السنوات التي ضيعناها في الثرثرة حول السلام, التي استثمرتها اسرائيل في تكريس الاحتلال وتوسيع المستوطنات ونزع المزيد من الأراضي الفلسطينية, ان المقاومة هي الخيار الوحيد الباقي, وهي خط الدفاع الفلسطيني الأخير.
لا أمل من تكرار الاشارة الي ان الشعب الفلسطيني ادي واجبه بالكامل, ولا يستطيع احد ان يطالبه بأكثر مما يفعل, في حين ان السلطة الفلسطينية لم تحسم خيارها بعد, ومازالت تتحدث عن أوسلو والعودة الي المفاوضات حتي ازعم ان هذه المراوحة تمثل نقطة الضعف الوحيدة في الموقف الفلسطيني.
هذا الضعف ذاته ينسحب علي الموقف العربي, الذي يحتاج الي مراجعة وحسم تخرج الأمة من حالة السكون والإحباط التي تتقلب فيها والحد الأدني لتلك المراجعة يتمثل في قطع كل صور العلاقات والعودة الي سلاح المقاطعة, وتوجيه رسالة واضحة الي واشنطن تعكس حقيقة مشاعر الشارع العربي, الذي يختزن غضبا أغلب الظن ان الأمريكيين لا يعرفون مداه, ولا يتصورون عواقبه.
إننا لا نستطيع ان نطالب الشعب الفلسطيني بان يدفع وحده ضريبة الدم مرتين, مرة للدفاع عن حلمه, ومرة للدفاع عن كرامة الأمة العربية.
لا أستطيع أن أخفي فرحا بالعملية الاستشهادية التي تمت في القدس يوم الخميس الماضي, ولا أنكر أنها انتشلتني من شعور بالكآبة والحزن تلبسني طيلة الأسبوعين الأخيرين, حين خيم السكون والفتور علي العالم العربي, بينما إسرائيل تعربد في الأرض المحتلة, وتمثل بشعبها ليل نهار, وحين كانت مواكب الجنازات في مدن الضفة هي الحضور الوحيد للجماهير في الشارع العربي. في هذه الأجواء البائسة وقعت عملية القدس. فكانت بالنسبة لي بارقة أمل وطوق نجاة.
(1)
ظننت في البداية أن ذلك شعور خاص بي لكني اكتشفت بعد لحظات قليلة من إذاعة النبأ أن كثيرين يشاركونني فيه. فرنين الهاتف لم يتوقف في بيتي إلي ما بعد منتصف الليل, وأغلب الذين تلقيت مكالماتهم كانوا يريدون أن يتأكدوا من أن البشري وصلتني, وأنني أحطت علما بما جري, وعلمت في اليوم الثاني ان الجماهير في لبنان والأردن وغزة, خرجت الي الشوارع مهللة ومعبرة عن فرحتها بالهتافات تارة وبإطلاق الرصاص في الهواء تارة أخري, ومنهم من خرج لكي يوزع الحلوي علي المارين في الشوارع, وقد اقترنت عملية التوزيع بزغاريد النساء التي ظلت أصداؤها تتردد في السماء طوال الليل.
أعرف أن هناك من سيلوي شفتيه متأففا ومستنكرا, وقائلا إن الفرحة انفعال غوغائي, وشعور غير صحي أو غير متحضر, فالعملية أسفرت عن ضحايا من المدنيين الأبرياء, وهو ما يستوجب التعبير عن الأسف وليس البهجة, وقرأت قول أحد الذين أرادوا أن يسحبوا الفرحة من عيوننا, وادعاءه أن عملية القدس أسعدت الحكومة الإسرائيلية. وانها الأكثر سعادة وفرحا بما حدث, لأنها اهتبلت الفرصة لكسب تأييد حكومات الغرب وواشنطن بوجه أخص. لمخطط القمع الذي يمارسه شارون ضد الفلسطينيين.
ولا أعرف ما إذا كانت مثل هذه الأصداء تستحق التفاتا او ردا ام لا. لكني اعرف جيدا ان ثمة حربا معلنة علي الفلسطينيين. وموجهة ضد الشعب بأسره, وان تلك الحرب بدأتها اسرائيل مستخدمة في ذلك كل الوسائل, من تكريس الاحتلال والاستيطان الي القصف بطائرات إف16, وتدمير البيوت والزراعات, وقتل البشر بالصواريخ. ولأن لكل حرب ثمنها, فليس مفهوما أن يدفع الفلسطينيون وحدهم الثمن بالكامل, بينما يخوضها الاسرائيليون بالمجان.
الذي أعرفه أيضا أن إسرائيل لم ترحم احدا من الفلسطينيين ولم تميز بين فدائي ومقاتل وبين امرأة أو شيخ أو طفل. ولم يعرف عن الطفل محمد الدرة انه كان منتميا الي الجهاد الإسلامي أو كتائب القسام, وانما قتل لأنه فلسطيني فحسب. ولماذا الأمر كذلك, فلماذا لا نأسي علي الدم الفلسطيني, بينما نتكلم عن التحضر ويفزعنا الدم حين يكون اسرائيليا, ونذرف الدمع علي الضحايا الأبرياء الذين كانوا جالسين في مطعم البيتزا يوم الخميس, علما بأن هؤلاء المدنيين ـ شأنهم في ذلك شأن كل إسرائيلي أو إسرائيليية هم شركاء في جريمة اغتصاب فلسطيني( هل نسينا), ناهيك عن أنهم جميعا جنود في الاحتياط, يتحولون الي محاربين وقتلة عند اللزوم.
أما الزعم بأن حكومة شارون كانت الأكثر سعادة بما حدث, فهو هزل في موضع الجد, حيث انه يفترض ان الاسرائيليين كانوا بحاجة الي عملية من هذا القبيل لكسب تأييد الأوروبيين والأمريكيين, كأنما هم كانوا في موقف المعارضة. ثم انه يتجاهل تصريح نائب الرئيس الأمريكي ـ السابق للعملية ـ الذي أيد فيه سياسة القمع الإسرائيلي, واعتبرها دفاعا عن النفس.
(2)
للفرحة عندي أسباب عدة, أولها ان عملية القدس بمثابة ضربة موجعة للعدو الإسرائيلي, وذلك وحده سبب كاف لشعور واحد مثلي بالسعادة, ذلك ان اي وجيعة لإسرائيل, تأتيها من أي باب, تشبع عندي ـ وعند كل مواطن عربي لم يفقد ذاكرته أو وعيه أو ضميره ـ رغبة في الثأر وتصفية الحساب المتراكم منذ لحظة الاغتصاب التي وقعت قبل نصف قرن, اذ حين اري علي شاشة التليفزيون الفزع والأشلاء الإسرائيلية لا يهيمن علي ادراكي سوي شيء واحد, هو شريط المذابح الإسرائيلية من دير ياسين وكفر قاسم وقبيه الي مسلسل صور مقتل محمد الدرة في حضن أبيه.
السبب الثاني ان توقيت العملية كان مهما للغاية, حيث وقعت في وقت يمثل واحدة من لحظات الشعور بالذل والخزي في العالم العربي, الأمر الذي دفع بكثيرين الي مشارف اليأس والإحباط, ذلك ان الجبروت الإسرائيلي وصل الي مداه, حيث استباحت إسرائيل كل شيء في فلسطين. ولم تكتف بالقصف والتدمير وإطلاق المستعمرين لافتراس الفلسطينيين, وإنما أعلنت أنها ستواصل الخطف والقتل لكل الناشطين في مقاومة الاحتلال, وبينما كان ذلك يحدث بصفة يومية في فلسطين, فإن شيئا لم يتحرك في العالم العربي. والذين رفعوا أصواتهم وتكلموا, إما استغاثوا بالأمريكان واما أنهم لم يطالبوا بأكثر من العودة الي طاولة المفاوضات, في مناخ تلك المهانة المركبة, تمت العملية, وانتبه الجميع الي ان هناك ردا آخر لايزال ممكنا, يخاطب الاسرائيليين باللغة التي يفهمونها.
السبب الثالث ان الضربات التي وجهتها حكومة شارون الي المقاومة رفعت من رصيده لدي الرأي العام الإسرائيلي, حتي وصلت نسبة المؤيدين لسياسة اغتيال الناشطين الفلسطينيين الي70%, حسب آخر استطلاع للرأي العام, وأفاضت الصحف في الحديث بزهو شديد عن الانتصار الإسرائيلي من نماذج ذلك ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في8/8 تحت عنوان: إسرائيل انتصرت علي الانتفاضة وحولت مناطق السلطة الي أراض مدمرة.
وفيه تباهي الكاتب بأنه بعد300 يوم من الانتفاضة انتصرت إسرائيل, وأصبح كل فلسطيني يتوقع ضربه اليوم أو غدا, كما أن مناطق السلطة الفلسطينية أصبحت أرضا مدمرة تتدهور نحو الجوع والفقر, تنخرها النزاعات الداخلية ويستشري فيها اليأس.
في هذه الأجواء وقعت عملية القدس, محملة برسالة قوية تقول للذين استبد بهم الغرور ان الانتصار الإسرائيلي ليس مطلقا, وان جولات الصراع مازالت مفتوحة ومستمرة, وأن اليأس الفلسطيني ليس سوي شائعة يروج لها الإسرائيليون.
(3)
لست أبالغ إذا قلت إن أولئك الفدائيين الأبطال هم الإضاءة الوحيدة في سمائنا المعتمة, وهم الدليل الوحيد الذي يثبت أن الأمة العربية فيها بقية من حياة, وانها لم تمت بعد, واذا كان لنا ان نرفع رءوسنا ونستشعر بعضا من الكبرياء فلأنه لايزال بيننا أمثال أولئك الشبان الذين اختاروا أن يموتوا من أجل ان يكون في حياتنا أمل, ولحياتنا معني, ولليلنا الطويل فجر تطل منه البشارة.
بسبب من ذلك فلعلي أذهب الي ان عملية القدس لم تكن موجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي فحسب, وإنما هي أيضا موجهة ضد العجز العربي, ذلك ان عجزا بهذا الشكل الذي نراه من حولنا, لا يهزه ولا يوازنه سوي عملية استشهادية من ذلك النوع الذي وقع.
يحضرني في هذه اللحظة ذلك الجدل السخيف الذي أثاره البعض قبل حين حول تكييف أمثال تلك العمليات الفدائية, وهل تعد استشهادا أم انتحارا, وأتمني لو أنني رأيت حمرة الخجل في اللحظة الراهنة, في وجوه أولئك الذين شككوا في كونها استشهادا له مقامه المقبول والرفيع عند الله سبحانه وتعالي, اما الذين أبدوا اشمئزازهم وتأففهم من تلك العمليات, وأقرانهم الذين ضاقت صدورهم وتعكرت أمزجتهم من جراء جنازات الشهداء التي نشاهدها كل يوم علي شاشات التليفزيون, وقال قائلهم في احدي المجلات الاسبوعية المصرية ـ القومية للأسف ان القضية الفلسطينية قد انتهت وان العرب يلعبون الآن في الوقت الضائع أمثال هؤلاء لا هم منا ولا نحن منهم. وأشك كثيرا في أنهم يقفون في المربع الآخر, وليس في مربعنا.
(4)
الآن انكشف الغطاء تماما عن لعبة السلام, وأصبح خيار الفلسطينيين واضحا, فإما الاحتلال وإما الموت, من قبل غلف الزعماء الإسرائيليون الصفقة بأغلفة شتي, وجاء شارون لكي يهتك اللفافات ويرفع الغطاء, ويقولها صراحة للفلسطينيين.
وحتي لا يدعي احد ان اتفاق أوسلو كان الحل الممكن, فإنني أرد عليه بأن أوسلو كانت بداية الفصل الراهن من المأساة, لأنها أوجدت وضعا مستحيلا, كان لابد ان ينتهي بانفجار من ذلك القبيل الذي نشهده.
تفيدنا في هذا الصدد شهادة رصينة قرأتها أخيرا لكاتب فلسطيني لم أقرأ له من قبل للأسف, هو الأستاذ رائف زريق, قال فيها: أنشأت أوسلو حالا من الثنائيات المستحيلة, التي لا يمكن أن تستمر في التعايش مع بعضها. الثنائية الأولي بين الأرض ومن عليها فقد استمرت اسرائيل في التصرف بأراضي الضفة وغزة وكأنها صاحبة السيادة, تشق الطرق وتبني المستعمرات, وتستعمل المياه الجوفية, إلا أنها أعفت نفسها من المسئولية عن حاجات الفلسطينيين هناك. في المقابل طلب من السلطة الفلسطينية التي لم تمنح الصلاحيات علي الأرض ان تتصرف, وأن تضبط شغب مواطنيها الذين يحتجون علي عمليات الاستعمار والتوسع. أي أن أوسلو أوجدت واقعا تغيب فيه صلاحيات الدولة. لكن تحضر فيه التزاماتها, فكان علي السلطة بالتالي ان تكون وألا تكون في الوقت نفسه. ان تحضر عنه المسئوليات وتغيب عنه الصلاحيات. ان تحضر السيادة علي المواطنين وتغيب عن الأرض.
وبموجب منطق أوسلو علي السلطة الفلسطينية ان تحمي امن المستعمرات, وهذا ما ينص عليه الاتفاق, الا ان الشعب الفلسطيني الذي ينظر الي السلطة بصفتها ممثلا له ينتظر منها ان تزيل المستعمرات وان تحارب وجودها لا ان تحميها. وفي حين كانت اسرائيل تتوقع بموجب اوسلو ان تقوم السلطة بـ الحفاظ علي النظام والهدوء فإن الشعب الفلسطيني كان ينظر اليها ويتوقع منها تغيير الوضع الراهن وليس الحفاظ عليه. هكذا تراوحت السلطة بين مهمات الثورة ومسئوليات الدولة. بين كونها عاملا مسكنا وعاملا باعثا علي التغيير بين التزامها امام شعبها والتزاماتها الكاذبة في أوسلو.
هذه التناقضات المتفجرة جري اخفاؤها من خلال محاولات التجميل التي تمت( اعتبار عرفات رئيسا, ومعاونيه وزراء, اصدار طوابع بريد وهيئة اذاعة وشركة طيران ومطار... إلخ).. اضافة الي ذلك أوجدت اوسلو عالما مشوها من المفاهيم السياسية, التي اعمت البصيرة السياسية كانت مسيرة السلام من أهمها.
في هذا الصدد قال الكاتب: وصف المسيرة بأنها سلمية يوحي بأن القطار سيوصلنا في محطته الأخيرة الي السلام. إلا ان تعريف المحطة الأخيرة مستقبلا بأنها محطة السلام يصور الواقع الراهن بمسمياته حربا الا ان الفلسطينيين لم يكونوا في حالة حرب مع اسرائيل. اذ هم شعب يقع تحت الاحتلال الاسرائيلي وللحرب قوانين ومرجعيات تختلف عن حال الاحتلال. في حال الاحتلال هناك وضوح في الميزان الأخلاقي ووضوح في المرجعيات الدولية, أما حال الحرب فشيء آخر, حيث توحي بمسئوليات مشتركة او نزاع مصالح... الخ.
إن الفلسطينيين يريدون إنهاء الاحتلال والاستقلال والحرية والسيادة, والسلام.. والسلام باعتباره غياب العنف هو نتيجة لتحقيق ذلك, ولا يمكن ان يكون شرطا للتفاوض, كما تريده إسرائيل.
(الحياة اللندنية8/4)
(5)
لقد أثبتت خبرة السنوات التي ضيعناها في الثرثرة حول السلام, التي استثمرتها اسرائيل في تكريس الاحتلال وتوسيع المستوطنات ونزع المزيد من الأراضي الفلسطينية, ان المقاومة هي الخيار الوحيد الباقي, وهي خط الدفاع الفلسطيني الأخير.
لا أمل من تكرار الاشارة الي ان الشعب الفلسطيني ادي واجبه بالكامل, ولا يستطيع احد ان يطالبه بأكثر مما يفعل, في حين ان السلطة الفلسطينية لم تحسم خيارها بعد, ومازالت تتحدث عن أوسلو والعودة الي المفاوضات حتي ازعم ان هذه المراوحة تمثل نقطة الضعف الوحيدة في الموقف الفلسطيني.
هذا الضعف ذاته ينسحب علي الموقف العربي, الذي يحتاج الي مراجعة وحسم تخرج الأمة من حالة السكون والإحباط التي تتقلب فيها والحد الأدني لتلك المراجعة يتمثل في قطع كل صور العلاقات والعودة الي سلاح المقاطعة, وتوجيه رسالة واضحة الي واشنطن تعكس حقيقة مشاعر الشارع العربي, الذي يختزن غضبا أغلب الظن ان الأمريكيين لا يعرفون مداه, ولا يتصورون عواقبه.
إننا لا نستطيع ان نطالب الشعب الفلسطيني بان يدفع وحده ضريبة الدم مرتين, مرة للدفاع عن حلمه, ومرة للدفاع عن كرامة الأمة العربية.