مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإضاءة الوحيدة في سماء الأمة
هويدي 14-8-2001

لا أستطيع أن أخفي فرحا بالعملية الاستشهادية التي تمت في القدس يوم الخميس الماضي‏,‏ ولا أنكر أنها انتشلتني من شعور بالكآبة والحزن تلبسني طيلة الأسبوعين الأخيرين‏,‏ حين خيم السكون والفتور علي العالم العربي‏,‏ بينما إسرائيل تعربد في الأرض المحتلة‏,‏ وتمثل بشعبها ليل نهار‏,‏ وحين كانت مواكب الجنازات في مدن الضفة هي الحضور الوحيد للجماهير في الشارع العربي‏.‏ في هذه الأجواء البائسة وقعت عملية القدس‏.‏ فكانت بالنسبة لي بارقة أمل وطوق نجاة‏.‏

‏(1)‏
ظننت في البداية أن ذلك شعور خاص بي لكني اكتشفت بعد لحظات قليلة من إذاعة النبأ أن كثيرين يشاركونني فيه‏.‏ فرنين الهاتف لم يتوقف في بيتي إلي ما بعد منتصف الليل‏,‏ وأغلب الذين تلقيت مكالماتهم كانوا يريدون أن يتأكدوا من أن البشري وصلتني‏,‏ وأنني أحطت علما بما جري‏,‏ وعلمت في اليوم الثاني ان الجماهير في لبنان والأردن وغزة‏,‏ خرجت الي الشوارع مهللة ومعبرة عن فرحتها بالهتافات تارة وبإطلاق الرصاص في الهواء تارة أخري‏,‏ ومنهم من خرج لكي يوزع الحلوي علي المارين في الشوارع‏,‏ وقد اقترنت عملية التوزيع بزغاريد النساء التي ظلت أصداؤها تتردد في السماء طوال الليل‏.‏
أعرف أن هناك من سيلوي شفتيه متأففا ومستنكرا‏,‏ وقائلا إن الفرحة انفعال غوغائي‏,‏ وشعور غير صحي أو غير متحضر‏,‏ فالعملية أسفرت عن ضحايا من المدنيين الأبرياء‏,‏ وهو ما يستوجب التعبير عن الأسف وليس البهجة‏,‏ وقرأت قول أحد الذين أرادوا أن يسحبوا الفرحة من عيوننا‏,‏ وادعاءه أن عملية القدس أسعدت الحكومة الإسرائيلية‏.‏ وانها الأكثر سعادة وفرحا بما حدث‏,‏ لأنها اهتبلت الفرصة لكسب تأييد حكومات الغرب وواشنطن بوجه أخص‏.‏ لمخطط القمع الذي يمارسه شارون ضد الفلسطينيين‏.‏

ولا أعرف ما إذا كانت مثل هذه الأصداء تستحق التفاتا او ردا ام لا‏.‏ لكني اعرف جيدا ان ثمة حربا معلنة علي الفلسطينيين‏.‏ وموجهة ضد الشعب بأسره‏,‏ وان تلك الحرب بدأتها اسرائيل مستخدمة في ذلك كل الوسائل‏,‏ من تكريس الاحتلال والاستيطان الي القصف بطائرات إف‏16,‏ وتدمير البيوت والزراعات‏,‏ وقتل البشر بالصواريخ‏.‏ ولأن لكل حرب ثمنها‏,‏ فليس مفهوما أن يدفع الفلسطينيون وحدهم الثمن بالكامل‏,‏ بينما يخوضها الاسرائيليون بالمجان‏.‏
الذي أعرفه أيضا أن إسرائيل لم ترحم احدا من الفلسطينيين ولم تميز بين فدائي ومقاتل وبين امرأة أو شيخ أو طفل‏.‏ ولم يعرف عن الطفل محمد الدرة انه كان منتميا الي الجهاد الإسلامي أو كتائب القسام‏,‏ وانما قتل لأنه فلسطيني فحسب‏.‏ ولماذا الأمر كذلك‏,‏ فلماذا لا نأسي علي الدم الفلسطيني‏,‏ بينما نتكلم عن التحضر ويفزعنا الدم حين يكون اسرائيليا‏,‏ ونذرف الدمع علي الضحايا الأبرياء الذين كانوا جالسين في مطعم البيتزا يوم الخميس‏,‏ علما بأن هؤلاء المدنيين ـ شأنهم في ذلك شأن كل إسرائيلي أو إسرائيليية هم شركاء في جريمة اغتصاب فلسطيني‏(‏ هل نسينا‏),‏ ناهيك عن أنهم جميعا جنود في الاحتياط‏,‏ يتحولون الي محاربين وقتلة عند اللزوم‏.‏

أما الزعم بأن حكومة شارون كانت الأكثر سعادة بما حدث‏,‏ فهو هزل في موضع الجد‏,‏ حيث انه يفترض ان الاسرائيليين كانوا بحاجة الي عملية من هذا القبيل لكسب تأييد الأوروبيين والأمريكيين‏,‏ كأنما هم كانوا في موقف المعارضة‏.‏ ثم انه يتجاهل تصريح نائب الرئيس الأمريكي ـ السابق للعملية ـ الذي أيد فيه سياسة القمع الإسرائيلي‏,‏ واعتبرها دفاعا عن النفس‏.‏

‏(2)‏
للفرحة عندي أسباب عدة‏,‏ أولها ان عملية القدس بمثابة ضربة موجعة للعدو الإسرائيلي‏,‏ وذلك وحده سبب كاف لشعور واحد مثلي بالسعادة‏,‏ ذلك ان اي وجيعة لإسرائيل‏,‏ تأتيها من أي باب‏,‏ تشبع عندي ـ وعند كل مواطن عربي لم يفقد ذاكرته أو وعيه أو ضميره ـ رغبة في الثأر وتصفية الحساب المتراكم منذ لحظة الاغتصاب التي وقعت قبل نصف قرن‏,‏ اذ حين اري علي شاشة التليفزيون الفزع والأشلاء الإسرائيلية لا يهيمن علي ادراكي سوي شيء واحد‏,‏ هو شريط المذابح الإسرائيلية من دير ياسين وكفر قاسم وقبيه الي مسلسل صور مقتل محمد الدرة في حضن أبيه‏.‏
السبب الثاني ان توقيت العملية كان مهما للغاية‏,‏ حيث وقعت في وقت يمثل واحدة من لحظات الشعور بالذل والخزي في العالم العربي‏,‏ الأمر الذي دفع بكثيرين الي مشارف اليأس والإحباط‏,‏ ذلك ان الجبروت الإسرائيلي وصل الي مداه‏,‏ حيث استباحت إسرائيل كل شيء في فلسطين‏.‏ ولم تكتف بالقصف والتدمير وإطلاق المستعمرين لافتراس الفلسطينيين‏,‏ وإنما أعلنت أنها ستواصل الخطف والقتل لكل الناشطين في مقاومة الاحتلال‏,‏ وبينما كان ذلك يحدث بصفة يومية في فلسطين‏,‏ فإن شيئا لم يتحرك في العالم العربي‏.‏ والذين رفعوا أصواتهم وتكلموا‏,‏ إما استغاثوا بالأمريكان واما أنهم لم يطالبوا بأكثر من العودة الي طاولة المفاوضات‏,‏ في مناخ تلك المهانة المركبة‏,‏ تمت العملية‏,‏ وانتبه الجميع الي ان هناك ردا آخر لايزال ممكنا‏,‏ يخاطب الاسرائيليين باللغة التي يفهمونها‏.‏

السبب الثالث ان الضربات التي وجهتها حكومة شارون الي المقاومة رفعت من رصيده لدي الرأي العام الإسرائيلي‏,‏ حتي وصلت نسبة المؤيدين لسياسة اغتيال الناشطين الفلسطينيين الي‏70%,‏ حسب آخر استطلاع للرأي العام‏,‏ وأفاضت الصحف في الحديث بزهو شديد عن الانتصار الإسرائيلي من نماذج ذلك ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في‏8/8‏ تحت عنوان‏:‏ إسرائيل انتصرت علي الانتفاضة وحولت مناطق السلطة الي أراض مدمرة‏.‏
وفيه تباهي الكاتب بأنه بعد‏300‏ يوم من الانتفاضة انتصرت إسرائيل‏,‏ وأصبح كل فلسطيني يتوقع ضربه اليوم أو غدا‏,‏ كما أن مناطق السلطة الفلسطينية أصبحت أرضا مدمرة تتدهور نحو الجوع والفقر‏,‏ تنخرها النزاعات الداخلية ويستشري فيها اليأس‏.‏

في هذه الأجواء وقعت عملية القدس‏,‏ محملة برسالة قوية تقول للذين استبد بهم الغرور ان الانتصار الإسرائيلي ليس مطلقا‏,‏ وان جولات الصراع مازالت مفتوحة ومستمرة‏,‏ وأن اليأس الفلسطيني ليس سوي شائعة يروج لها الإسرائيليون‏.‏

‏(3)‏
لست أبالغ إذا قلت إن أولئك الفدائيين الأبطال هم الإضاءة الوحيدة في سمائنا المعتمة‏,‏ وهم الدليل الوحيد الذي يثبت أن الأمة العربية فيها بقية من حياة‏,‏ وانها لم تمت بعد‏,‏ واذا كان لنا ان نرفع رءوسنا ونستشعر بعضا من الكبرياء فلأنه لايزال بيننا أمثال أولئك الشبان الذين اختاروا أن يموتوا من أجل ان يكون في حياتنا أمل‏,‏ ولحياتنا معني‏,‏ ولليلنا الطويل فجر تطل منه البشارة‏.‏
بسبب من ذلك فلعلي أذهب الي ان عملية القدس لم تكن موجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي فحسب‏,‏ وإنما هي أيضا موجهة ضد العجز العربي‏,‏ ذلك ان عجزا بهذا الشكل الذي نراه من حولنا‏,‏ لا يهزه ولا يوازنه سوي عملية استشهادية من ذلك النوع الذي وقع‏.‏

يحضرني في هذه اللحظة ذلك الجدل السخيف الذي أثاره البعض قبل حين حول تكييف أمثال تلك العمليات الفدائية‏,‏ وهل تعد استشهادا أم انتحارا‏,‏ وأتمني لو أنني رأيت حمرة الخجل في اللحظة الراهنة‏,‏ في وجوه أولئك الذين شككوا في كونها استشهادا له مقامه المقبول والرفيع عند الله سبحانه وتعالي‏,‏ اما الذين أبدوا اشمئزازهم وتأففهم من تلك العمليات‏,‏ وأقرانهم الذين ضاقت صدورهم وتعكرت أمزجتهم من جراء جنازات الشهداء التي نشاهدها كل يوم علي شاشات التليفزيون‏,‏ وقال قائلهم في احدي المجلات الاسبوعية المصرية ـ القومية للأسف ان القضية الفلسطينية قد انتهت وان العرب يلعبون الآن في الوقت الضائع أمثال هؤلاء لا هم منا ولا نحن منهم‏.‏ وأشك كثيرا في أنهم يقفون في المربع الآخر‏,‏ وليس في مربعنا‏.‏

‏(4)‏
الآن انكشف الغطاء تماما عن لعبة السلام‏,‏ وأصبح خيار الفلسطينيين واضحا‏,‏ فإما الاحتلال وإما الموت‏,‏ من قبل غلف الزعماء الإسرائيليون الصفقة بأغلفة شتي‏,‏ وجاء شارون لكي يهتك اللفافات ويرفع الغطاء‏,‏ ويقولها صراحة للفلسطينيين‏.‏
وحتي لا يدعي احد ان اتفاق أوسلو كان الحل الممكن‏,‏ فإنني أرد عليه بأن أوسلو كانت بداية الفصل الراهن من المأساة‏,‏ لأنها أوجدت وضعا مستحيلا‏,‏ كان لابد ان ينتهي بانفجار من ذلك القبيل الذي نشهده‏.‏

تفيدنا في هذا الصدد شهادة رصينة قرأتها أخيرا لكاتب فلسطيني لم أقرأ له من قبل للأسف‏,‏ هو الأستاذ رائف زريق‏,‏ قال فيها‏:‏ أنشأت أوسلو حالا من الثنائيات المستحيلة‏,‏ التي لا يمكن أن تستمر في التعايش مع بعضها‏.‏ الثنائية الأولي بين الأرض ومن عليها فقد استمرت اسرائيل في التصرف بأراضي الضفة وغزة وكأنها صاحبة السيادة‏,‏ تشق الطرق وتبني المستعمرات‏,‏ وتستعمل المياه الجوفية‏,‏ إلا أنها أعفت نفسها من المسئولية عن حاجات الفلسطينيين هناك‏.‏ في المقابل طلب من السلطة الفلسطينية التي لم تمنح الصلاحيات علي الأرض ان تتصرف‏,‏ وأن تضبط شغب مواطنيها الذين يحتجون علي عمليات الاستعمار والتوسع‏.‏ أي أن أوسلو أوجدت واقعا تغيب فيه صلاحيات الدولة‏.‏ لكن تحضر فيه التزاماتها‏,‏ فكان علي السلطة بالتالي ان تكون وألا تكون في الوقت نفسه‏.‏ ان تحضر عنه المسئوليات وتغيب عنه الصلاحيات‏.‏ ان تحضر السيادة علي المواطنين وتغيب عن الأرض‏.‏
وبموجب منطق أوسلو علي السلطة الفلسطينية ان تحمي امن المستعمرات‏,‏ وهذا ما ينص عليه الاتفاق‏,‏ الا ان الشعب الفلسطيني الذي ينظر الي السلطة بصفتها ممثلا له ينتظر منها ان تزيل المستعمرات وان تحارب وجودها لا ان تحميها‏.‏ وفي حين كانت اسرائيل تتوقع بموجب اوسلو ان تقوم السلطة بـ الحفاظ علي النظام والهدوء فإن الشعب الفلسطيني كان ينظر اليها ويتوقع منها تغيير الوضع الراهن وليس الحفاظ عليه‏.‏ هكذا تراوحت السلطة بين مهمات الثورة ومسئوليات الدولة‏.‏ بين كونها عاملا مسكنا وعاملا باعثا علي التغيير بين التزامها امام شعبها والتزاماتها الكاذبة في أوسلو‏.‏

هذه التناقضات المتفجرة جري اخفاؤها من خلال محاولات التجميل التي تمت‏(‏ اعتبار عرفات رئيسا‏,‏ ومعاونيه وزراء‏,‏ اصدار طوابع بريد وهيئة اذاعة وشركة طيران ومطار‏...‏ إلخ‏)..‏ اضافة الي ذلك أوجدت اوسلو عالما مشوها من المفاهيم السياسية‏,‏ التي اعمت البصيرة السياسية كانت مسيرة السلام من أهمها‏.‏
في هذا الصدد قال الكاتب‏:‏ وصف المسيرة بأنها سلمية يوحي بأن القطار سيوصلنا في محطته الأخيرة الي السلام‏.‏ إلا ان تعريف المحطة الأخيرة مستقبلا بأنها محطة السلام يصور الواقع الراهن بمسمياته حربا الا ان الفلسطينيين لم يكونوا في حالة حرب مع اسرائيل‏.‏ اذ هم شعب يقع تحت الاحتلال الاسرائيلي وللحرب قوانين ومرجعيات تختلف عن حال الاحتلال‏.‏ في حال الاحتلال هناك وضوح في الميزان الأخلاقي ووضوح في المرجعيات الدولية‏,‏ أما حال الحرب فشيء آخر‏,‏ حيث توحي بمسئوليات مشتركة او نزاع مصالح‏...‏ الخ‏.‏

إن الفلسطينيين يريدون إنهاء الاحتلال والاستقلال والحرية والسيادة‏,‏ والسلام‏..‏ والسلام باعتباره غياب العنف هو نتيجة لتحقيق ذلك‏,‏ ولا يمكن ان يكون شرطا للتفاوض‏,‏ كما تريده إسرائيل‏.‏
‏(‏الحياة اللندنية‏8/4)‏

‏(5)‏
لقد أثبتت خبرة السنوات التي ضيعناها في الثرثرة حول السلام‏,‏ التي استثمرتها اسرائيل في تكريس الاحتلال وتوسيع المستوطنات ونزع المزيد من الأراضي الفلسطينية‏,‏ ان المقاومة هي الخيار الوحيد الباقي‏,‏ وهي خط الدفاع الفلسطيني الأخير‏.‏
لا أمل من تكرار الاشارة الي ان الشعب الفلسطيني ادي واجبه بالكامل‏,‏ ولا يستطيع احد ان يطالبه بأكثر مما يفعل‏,‏ في حين ان السلطة الفلسطينية لم تحسم خيارها بعد‏,‏ ومازالت تتحدث عن أوسلو والعودة الي المفاوضات حتي ازعم ان هذه المراوحة تمثل نقطة الضعف الوحيدة في الموقف الفلسطيني‏.‏

هذا الضعف ذاته ينسحب علي الموقف العربي‏,‏ الذي يحتاج الي مراجعة وحسم تخرج الأمة من حالة السكون والإحباط التي تتقلب فيها والحد الأدني لتلك المراجعة يتمثل في قطع كل صور العلاقات والعودة الي سلاح المقاطعة‏,‏ وتوجيه رسالة واضحة الي واشنطن تعكس حقيقة مشاعر الشارع العربي‏,‏ الذي يختزن غضبا أغلب الظن ان الأمريكيين لا يعرفون مداه‏,‏ ولا يتصورون عواقبه‏.‏
إننا لا نستطيع ان نطالب الشعب الفلسطيني بان يدفع وحده ضريبة الدم مرتين‏,‏ مرة للدفاع عن حلمه‏,‏ ومرة للدفاع عن كرامة الأمة العربية‏.‏
أضافة تعليق