هويدي 7-8-2001
يخجل المرء من أن يقارن بين الاهتمام الإعلامي بوفاة الفنانة سعاد حسني, والانتفاضة الفلسطينية, لكن واحدا مثلي ما كان ليجرؤ علي ذلك إلا بعد أن تملكه الغيظ واستبد به الحزن, حين وجد أن صحفنا التي أسرفت في متابعة قضية سعاد حسني, تراجع اهتمامها بالانتفاضة, وأصبحت تكتفي بالمتابعة الإخبارية لها, وهي التي صارت تمثل أنصع صفحات البطولة والفداء في التاريخ العربي المعاصر.
لا تقف المفارقة عند ذلك الحد, وإنما تتجسد في مشاهد أخري عديدة في حياتنا, كان من بينها ما حدث صبيحة اليوم الذي أعقب اقتحام الإسرائيليين لحرم المسجد الأقصي, إذ نشر الخبر علي الصفحات الأولي من صحفنا, وإلي جواره فتوي لشيخ الأزهر اعتبرت أن ربطة العنق حلال وليست من الحرام في شيء, وهو ما ضاعف من شعوري بالأسي, حتي قلت إنه لو كان بيدي من الأمر شيء لرددت السؤال إلي صاحبه ولأعلمته بأن عين الحرام هو إشغال الناس بمثل هذه التوافه وقلب الأولويات في زماننا.
(1)
الملاحظات عديدة علي المشهد العربي الراهن الذي أكرر القول بأن صدي الانتفاضة فيه دون ما هو متوقع أو مرجو, حيث يخيم علي الشارع فيه ـ مثلا ـ سكون مدهش, وهو الذي كانت تخرج إليه الجماهير في مناسبات وأحداث أقل من ذلك بكثير, رافعة صوتها ومعبرة عن الاحتجاج والغضب, ومعلنة للعالم أن للرأي العام في بلادنا موقفا جديرا بالاعتبار.
لا أعرف إن كان لنا أن نعلن موت الشارع العربي أم لا, إذ الشاهد أنه غائب أو مغيب, وقد اعتصرني الألم حين سمعت من أحد الباحثين الأمريكيين المخضرمين المتعاطفين مع الموقف العربي قوله ذات مرة: إن الدول الكبري في الغرب أصبحت تتعامل مع العالم العربي باعتباره عالما تسكنه حكومات وأنظمة وليس فيه شعوب, وقبل أن أعقب علي كلامه أسكتني بقوله: لا تقل لي إن الشعوب موجودة, لأنني سأسألك مباشرة أين هي؟
استشعرت غصة حين قال صاحبنا: إن الشعوب العربية جزء من الجغرافيا وليست من التاريخ, بمعني أنها أصبحت كتلة من البشر الصامت ـ أو المصمت ـ موجودة علي الخريطة, شأنها في ذلك شأن الجبال والغابات والأنهار, إلا أنها ليست فاعلة, هي كتلة تتكاثر مثل الأشجار والكائنات البحرية, فترفع من معدلات الاحجام, لكنها لا تؤثر في مسار الأحداث.
إن المظاهرات التي خرجت ضد العولمة أخيرا في جنوه, ومن قبل في سياتل, نقلت رسالة مهمة إلي صناع القرار في الدول الصناعية الكبري, تسلمها الجميع ولم يستطيعوا إغفالها, وبرغم أن ما يجري في فلسطين ليس أقل أهمية ولا خطورة علي مستقبل المنطقة بأسرها, فإن شعوبنا العربية لم يسمع لها صوت, كأنما منحت الحكومات والأنظمة توكيلا علي بياض, لكي تفعل ما بدا لها, وأخطر ما في هذا الموقف أنه أعطي انطباعا للدول الكبري مفاده أن الشارع العربي لا وجود له, وأن أي أحداث تقع في المنطقة, مهما تبلغ جسامتها, وفظاعتها, يمكن أن تمر وتبتلع, بحيث يعود الشارع بعدها إلي سابق عهده بالسكون أو الموات.
لو أن تلك الدول أدركت أن هناك شعوبا حية في بلادنا, تنفعل وتغضب وتحتج, لاقتنعت بأن استمرار الحرب التي أعلنتها إسرائيل في فلسطين, من شأنها أن تهدد الاستقرار في المنطقة, بل من شأنها أن تهدد المصالح الغربية نفسها في العالم العربي. وهو اقتناع لا يمكن أن يتأتي إلا من خلال رسالة مباشرة بالصوت والصورة توجهها الشعوب العربية إلي المعنيين بالقرار الدولي, لو أن شيئا من ذلك حدث لتغيرت حسابات كثيرة, ولما أطلقت واشنطن يد إسرائيل في المنطقة, ولما برر لها نائب الرئيس الأمريكي جرائمها ضد الإنسانية في فلسطين.
من أمثال البدو أن الخيل المخصية لا تصهل, إذ تنحبس أصواتها فلا يسمع منها إلا حفيف حركتها, فهل يفسر ذلك غياب صوت الجماهير في الشارع المصري؟!
(2)
لا مفر أيضا من الاعتراف بأن هناك نموا ضارا لفكرة القطرية في العالم العربي, الأمر الذي أشاع بين بعض الفئات مقولة أنا أولا, وأن ما يجري في الأرض المحتلة هو شأن فلسطيني لن نستطيع أن نحمله فوق رءوسنا دائما, ثم فأولي بنا وأحري لمصالح مجتمعاتنا وأجيالنا أن ننأي بأنفسنا عما يجري هناك, إلي غير ذلك من الأفكار التي سمعتها بأذني في أحد اللقاءات.
وأحسب أنها مسئولية الإعلام بالدرجة الأولي, الذي لم يقم بواجبه في تصحيح وعي تلك الشرائح, ولفت انتباه الجميع إلي أن فلسطين هي خط الدفاع الأول في العالم العربي ضد الغزوة الصهيونية الجامحة, وسقوط ذلك الخط يعني تهديد مختلف دفاعات العالم العربي الأخري, من ثم فالعرب في الموضوع الفلسطيني يدافعون عن أنفسهم وأمنهم القومي بالدرجة الأولي, ويهمهم ويجب عليهم لاريب أن يعززوا قوة ذلك الصف الأول حتي لا تدور الدائرة عليهم بعد ذلك.
ثم إن المسألة لا تكمن في الغزوة العسكرية والجموح التوسعي وطموحات الهيمنة فحسب, وإنما الخطر يتجاوز ذلك إلي دور إسرائيل المرجو في مسعي كسر الإرادة العربية وبسط الهيمنة الحضارية الغربية التي مازالت تعتبر إسرائيل رأس حربة لها في المنطقة.
إن العالم العربي مازال بيده العديد من الأوراق إذا ما توافرت له إرادة التصدي للعجرفة الإسرائيلية, ولا تزال ورقة المقاطعة السياسية والاقتصادية لها قوتها التي لم تستنفد بعد, ولا أعرف لماذا نتجاهل دور النفط الذي لو أشهرت ورقته لأعاد كل طرف النظر في موقفه بالكامل, إذ بوسع الدول العربية ـ أكرر لو توافرت لها الإرادة ـ أن تبلغ الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية أن من شأن استمرار الحرب الإسرائيلية المعلنة ضد الفلسطينيين تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة, الأمر الذي لا تستطيع معه الحكومات العربية أن تضمن استمرار تدفق النفط إلي العالم الخارجي, وهو كلام ليس فيه ادعاء أو مبالغة, وإنما هو تصوير واقعي لما يمكن أن يحدث في العالم العربي, إذا أفلت زمام الأمور, ونفد صبر الجميع.
قرأت ذات مرة ما كتبه أحد كبار الصحفيين الإسرائيليين عن السيناريو المتصور في العالم العربي إذا ما تم هدم المسجد الأقصي لبناء الهيكل المزعوم مكانه, فقد ذكر أن السيناريو يمكن أن يتضمن ردود الأفعال التالية: الإلغاء الفوري لمعاهدة الصلح مع مصر, تظاهرات عفوية في كل الدول العربية, تقارير إخبارية علي الشبكات الأمريكية تتحدث عن إعلان الحرب من قبل العالم العربي كله, تعبئة الاحتياط في إسرائيل وتقارير عن تصاعد التوتر علي الجبهات الأربع, تدفق القوات المصرية إلي سيناء, إطلاق نار في الجولان ووادي الأردن, معارك جوية مع طائرات سعودية وإيرانية وليبية وعراقية وسورية, شائعات عن تذبيح اليهود في سوريا, حرب عصابات في الأراضي المحتلة بين العرب والمستعمرين, تدخل القوي العظمي لمحاولة إيقاف الحرب المرشحة للاستمرار أشهرا أو سنوات.
الشيء الذي لم يخطر علي بال الكاتب ولم يتخيله أن يقع الهدم, ولا يكون للحدث صداه في العالم العربي!
(3)
لنا كلام عن الجانب الفلسطيني, الذي نفرق فيه مؤقتا بين الشعب والسلطة, برغم أن الطرفين في خندق واحد الآن, عن الشعب لنا كلمتان, الأولي قلتها من قبل ولا أتردد في تكرارها في كل مناسبة, وهي أننا في التاريخ العربي لم نعرف شعبا جسد بكامله فكرة الفداء والتضحية, بمثل ما فعل الشعب الفلسطيني, الذي بلغ فيما أعطاه ذروة العطاء, بالدم والروح والمال, إذ طيلة أكثر من نصف قرن علي الأقل, فإن الشعب الفلسطيني ما برح يقدم كل ما عنده علي مذبح قضيته, وبينما يئس كثيرون وتعبوا, فإن ذلك الشعب بعزيمته الجبارة وإرادته الحديدية, لايزال يعطي مقدما دمه كل يوم ثمنا لحلمه الذي لم يتخل عنه.
الكلمة الثانية: إنني برغم قتامة الصورة وجهامة المنظر, فإن الشعب الفلسطيني بقوة إرادته وعبقرية أدائه, نجح في إنجاز أمرين كل منهما أهم من الآخر هما:
* إنه رد الاعتبار للمقاومة, وفرض علي الجميع إدراجها كخيار لا غني عنه, برغم ما أعلنه الرئيس ياسر عرفات في جنيف عام88 من نبذ لذلك الخيار, الذي وصف آنذاك بالإرهاب. وقد أعلنت منظمة فتح والمنظمات الأخري التي تدور في فلكها نبذها للمقاومة وقتذاك, لكنها أصبحت الآن طرفا فاعلا في المقاومة, في عودة مشهودة للخيار الذي كان قد تم استبعاده فضلا عن إدانته, ورأينا في الأيام الأخيرة كيف أن القوات الإسرائيلية قتلت ـ جنبا إلي جنب مع عناصر حماس الجهاد الإسلامي ـ ستة من أعضاء فتح, وحاولت قتل مروان البرغوثي أمين سر الحركة في الضفة, وذلك ضمن مخططها لاغتيال القادة الميدانيين والسياسيين للمقاومة الفلسطينية.
* إن الشعب الفلسطيني نجح في تصدير الخوف إلي إسرائيل نفسها, بعدما ظن قادتها أنهم أقاموا بها قلعة تحمي الإسرائيليين من الخوف, فلم يعد لإسرائيل خط دفاع أول في خارجها, وعمق آمن في داخلها, وإنما أصبح العمق الإسرائيلي هو خط الدفاع الأول, كما قال بحق أحد الكتاب الإسرائيليين. وأذكر بما سبق أن قلته في هذه النقطة أن نقل الخوف إلي داخل إسرائيل يقوض إحدي ركائز المشروع الصهيوني, إذ من حق الإسرائيليين الذين سمعناهم علي موجات الأثير يقولون إنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان والاستقرار إلا حين يكونون من خارج إسرائيل, هؤلاء لابد لهم أن يتساءلوا: ما جدوي قيام دولة إسرائيل إذن إذا كان ساستها قد استقدموا الخوف إلي شوارع ومجمعات تل أبيب؟
(4)
ثمة كلام آخر ينبغي أن يقال للسلطة الفلسطينية وعنها, ذلك أن التضحيات اليومية الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني كان يمكن أن يكون مردودها أفضل بكثير لو أنها اقترنت بوضوح الرؤية الاستراتيجية لدي قيادة السلطة الوطنية, إذ ليس من شك في أن الذين يبذلون أرواحهم ويقتلون كل يوم لم يبتغوا من وراء ذلك مجرد العودة إلي ما يسمي المسيرة السلمية, ولم يخطر علي بالهم أن يكون مقابل الدم المسفوح هو فتح الممر الآمن أو المطار أو تحديد شحنات الأغذية والدواء أو غير ذلك من المطالب التي لا نقلل من أهميتها, لكن تحقيقها يمكن أن يتم دون دفع ذلك الثمن اليومي الباهظ.
إن الذين خرجوا إلي الشوارع وفتحوا صدورهم للرشاشات والدبابات, يحلمون بتحرير أرضهم وزوال الاحتلال, بينما بعض المتحدثين باسم السلطة يهونون من شأن التضحيات ومازالوا يتحدثون عن العملية السلمية وطاولة المفاوضات, في عودة منكورة إلي مجرد التحريك لا تطرح فكرة أو منهج التحرير, وذلك خلل فادح في الرؤية الاستراتيجية, حيث لم يعد هناك معني للحديث عن العملية السلمية في أجواء وظروف تغيرت فيها كل العناصر والمعادلات, ناهيك عن أن التمسك بشعار إنهاء الاحتلال يضفي شرعية علي موقف المقاومة لا يمكن الطعن فيها, بينما يضعف من ذلك الموقف تبني فكرة العودة إلي العملية السلمية, لأن من حق أي أحد أن يحتج بأن العنف الذي يمارسه الفلسطينيون يعطل تحقيق ذلك الهدف السلمي المنشود, بينما لا يستطيع أي أحد أن يقول كلاما من ذلك القبيل إذا تمسك خطاب السلطة الفسطينية بمطلب إنهاء الاحتلال.
إن التحول الذي طرأ علي الشارع الفلسطيني لم يتحرج لا في خطاب السلطة الوطنية ولا في ممارساتها, ولا في تركيب الطبقة القيادية. فالساحة الفلسطينية أحوج ما تكون الآن مثلا إلي حكومة وحدة وطنية وطوارئ, وإذا كانت كل القوي والفصائل قد التحمت في ساحة المقاومة, فإن ذلك الالتحام ينبغي أن ينعكس علي تشكيلة السلطة وحكومتها, لكن ذلك لم يحدث للأسف.
إن كل قارئ لخبرات الشعوب وتجاربها يدرك أن الحروب تستصحب تغييرات لابد منها. فالمقاتلون الذين يبذلون أرواحهم عادة ما تكون لهم رؤي مغايرة, أحيانا تكون مثالية, لمجتمعاتهم التي خرجوا للدفاع عنها, وفي المشهد الذي نحن بصدده لا يمكن أن يخوض الشعب الفلسطيني معركته الراهنة, وينجح في تغيير شروط اللعب بحيث تسترد المقاومة اعتبارها, ثم لا يلمس الفلسطينيون أي تغيير علي الوضع الداخلي.
مثل هذا التغيير المنشود, إما أن تبادر إليه قيادة السلطة ملبية بذلك شوق الجماهير وتطلعاتها, وإما أن يفرض ذلك التغيير علي القيادة, من خلال آلية لن تخلو من مغامرة, حيث يظل انفلات الأمور واردا في ظل ذلك الاحتمال.
(5)
إن كثيرين يسلطون الضوء علي الوضع العربي وأزمته الراهنة, لكنهم لا يلقون بالا لأزمة الوضع الفلسطيني التي لا تقل أهمية وخطورة, ولا نريد أن نخوض في الجدل حول أيهما ينبغي البدء به, حتي لا يستدرجنا ذلك إلي حوار البيضة والدجاجة وأيهما كان السبب للآخر, لكن الذي نعرفه أن كل طرف يجب أن ينهض بما عليه, وألا يعلق عثراته علي مشجب الآخر, وأن الوقت لن يكون في مصلحتنا إذا لم نبادر إلي التحرك في الاتجاه الصحيح عربيا وفلسطينيا. ببساطة لأن العدو الإسرائيلي يصعد حربه يوما بعد يوم, وفي ظل سكون الشارع العربي والتفكك الحاصل في الوضع الفلسطيني الداخلي, فإنه لن يتردد في توجيه ضربته التي يريد بها تقويض كل الكيان الفلسطيني, بأمل إعادة رسم خريطة المنطقة واستئصال المشكلة من جذورها, حسب تصورهم, وذلك طور في الصراع له ما بعده, بقدر ما أن له ثمنه.
يخجل المرء من أن يقارن بين الاهتمام الإعلامي بوفاة الفنانة سعاد حسني, والانتفاضة الفلسطينية, لكن واحدا مثلي ما كان ليجرؤ علي ذلك إلا بعد أن تملكه الغيظ واستبد به الحزن, حين وجد أن صحفنا التي أسرفت في متابعة قضية سعاد حسني, تراجع اهتمامها بالانتفاضة, وأصبحت تكتفي بالمتابعة الإخبارية لها, وهي التي صارت تمثل أنصع صفحات البطولة والفداء في التاريخ العربي المعاصر.
لا تقف المفارقة عند ذلك الحد, وإنما تتجسد في مشاهد أخري عديدة في حياتنا, كان من بينها ما حدث صبيحة اليوم الذي أعقب اقتحام الإسرائيليين لحرم المسجد الأقصي, إذ نشر الخبر علي الصفحات الأولي من صحفنا, وإلي جواره فتوي لشيخ الأزهر اعتبرت أن ربطة العنق حلال وليست من الحرام في شيء, وهو ما ضاعف من شعوري بالأسي, حتي قلت إنه لو كان بيدي من الأمر شيء لرددت السؤال إلي صاحبه ولأعلمته بأن عين الحرام هو إشغال الناس بمثل هذه التوافه وقلب الأولويات في زماننا.
(1)
الملاحظات عديدة علي المشهد العربي الراهن الذي أكرر القول بأن صدي الانتفاضة فيه دون ما هو متوقع أو مرجو, حيث يخيم علي الشارع فيه ـ مثلا ـ سكون مدهش, وهو الذي كانت تخرج إليه الجماهير في مناسبات وأحداث أقل من ذلك بكثير, رافعة صوتها ومعبرة عن الاحتجاج والغضب, ومعلنة للعالم أن للرأي العام في بلادنا موقفا جديرا بالاعتبار.
لا أعرف إن كان لنا أن نعلن موت الشارع العربي أم لا, إذ الشاهد أنه غائب أو مغيب, وقد اعتصرني الألم حين سمعت من أحد الباحثين الأمريكيين المخضرمين المتعاطفين مع الموقف العربي قوله ذات مرة: إن الدول الكبري في الغرب أصبحت تتعامل مع العالم العربي باعتباره عالما تسكنه حكومات وأنظمة وليس فيه شعوب, وقبل أن أعقب علي كلامه أسكتني بقوله: لا تقل لي إن الشعوب موجودة, لأنني سأسألك مباشرة أين هي؟
استشعرت غصة حين قال صاحبنا: إن الشعوب العربية جزء من الجغرافيا وليست من التاريخ, بمعني أنها أصبحت كتلة من البشر الصامت ـ أو المصمت ـ موجودة علي الخريطة, شأنها في ذلك شأن الجبال والغابات والأنهار, إلا أنها ليست فاعلة, هي كتلة تتكاثر مثل الأشجار والكائنات البحرية, فترفع من معدلات الاحجام, لكنها لا تؤثر في مسار الأحداث.
إن المظاهرات التي خرجت ضد العولمة أخيرا في جنوه, ومن قبل في سياتل, نقلت رسالة مهمة إلي صناع القرار في الدول الصناعية الكبري, تسلمها الجميع ولم يستطيعوا إغفالها, وبرغم أن ما يجري في فلسطين ليس أقل أهمية ولا خطورة علي مستقبل المنطقة بأسرها, فإن شعوبنا العربية لم يسمع لها صوت, كأنما منحت الحكومات والأنظمة توكيلا علي بياض, لكي تفعل ما بدا لها, وأخطر ما في هذا الموقف أنه أعطي انطباعا للدول الكبري مفاده أن الشارع العربي لا وجود له, وأن أي أحداث تقع في المنطقة, مهما تبلغ جسامتها, وفظاعتها, يمكن أن تمر وتبتلع, بحيث يعود الشارع بعدها إلي سابق عهده بالسكون أو الموات.
لو أن تلك الدول أدركت أن هناك شعوبا حية في بلادنا, تنفعل وتغضب وتحتج, لاقتنعت بأن استمرار الحرب التي أعلنتها إسرائيل في فلسطين, من شأنها أن تهدد الاستقرار في المنطقة, بل من شأنها أن تهدد المصالح الغربية نفسها في العالم العربي. وهو اقتناع لا يمكن أن يتأتي إلا من خلال رسالة مباشرة بالصوت والصورة توجهها الشعوب العربية إلي المعنيين بالقرار الدولي, لو أن شيئا من ذلك حدث لتغيرت حسابات كثيرة, ولما أطلقت واشنطن يد إسرائيل في المنطقة, ولما برر لها نائب الرئيس الأمريكي جرائمها ضد الإنسانية في فلسطين.
من أمثال البدو أن الخيل المخصية لا تصهل, إذ تنحبس أصواتها فلا يسمع منها إلا حفيف حركتها, فهل يفسر ذلك غياب صوت الجماهير في الشارع المصري؟!
(2)
لا مفر أيضا من الاعتراف بأن هناك نموا ضارا لفكرة القطرية في العالم العربي, الأمر الذي أشاع بين بعض الفئات مقولة أنا أولا, وأن ما يجري في الأرض المحتلة هو شأن فلسطيني لن نستطيع أن نحمله فوق رءوسنا دائما, ثم فأولي بنا وأحري لمصالح مجتمعاتنا وأجيالنا أن ننأي بأنفسنا عما يجري هناك, إلي غير ذلك من الأفكار التي سمعتها بأذني في أحد اللقاءات.
وأحسب أنها مسئولية الإعلام بالدرجة الأولي, الذي لم يقم بواجبه في تصحيح وعي تلك الشرائح, ولفت انتباه الجميع إلي أن فلسطين هي خط الدفاع الأول في العالم العربي ضد الغزوة الصهيونية الجامحة, وسقوط ذلك الخط يعني تهديد مختلف دفاعات العالم العربي الأخري, من ثم فالعرب في الموضوع الفلسطيني يدافعون عن أنفسهم وأمنهم القومي بالدرجة الأولي, ويهمهم ويجب عليهم لاريب أن يعززوا قوة ذلك الصف الأول حتي لا تدور الدائرة عليهم بعد ذلك.
ثم إن المسألة لا تكمن في الغزوة العسكرية والجموح التوسعي وطموحات الهيمنة فحسب, وإنما الخطر يتجاوز ذلك إلي دور إسرائيل المرجو في مسعي كسر الإرادة العربية وبسط الهيمنة الحضارية الغربية التي مازالت تعتبر إسرائيل رأس حربة لها في المنطقة.
إن العالم العربي مازال بيده العديد من الأوراق إذا ما توافرت له إرادة التصدي للعجرفة الإسرائيلية, ولا تزال ورقة المقاطعة السياسية والاقتصادية لها قوتها التي لم تستنفد بعد, ولا أعرف لماذا نتجاهل دور النفط الذي لو أشهرت ورقته لأعاد كل طرف النظر في موقفه بالكامل, إذ بوسع الدول العربية ـ أكرر لو توافرت لها الإرادة ـ أن تبلغ الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية أن من شأن استمرار الحرب الإسرائيلية المعلنة ضد الفلسطينيين تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة, الأمر الذي لا تستطيع معه الحكومات العربية أن تضمن استمرار تدفق النفط إلي العالم الخارجي, وهو كلام ليس فيه ادعاء أو مبالغة, وإنما هو تصوير واقعي لما يمكن أن يحدث في العالم العربي, إذا أفلت زمام الأمور, ونفد صبر الجميع.
قرأت ذات مرة ما كتبه أحد كبار الصحفيين الإسرائيليين عن السيناريو المتصور في العالم العربي إذا ما تم هدم المسجد الأقصي لبناء الهيكل المزعوم مكانه, فقد ذكر أن السيناريو يمكن أن يتضمن ردود الأفعال التالية: الإلغاء الفوري لمعاهدة الصلح مع مصر, تظاهرات عفوية في كل الدول العربية, تقارير إخبارية علي الشبكات الأمريكية تتحدث عن إعلان الحرب من قبل العالم العربي كله, تعبئة الاحتياط في إسرائيل وتقارير عن تصاعد التوتر علي الجبهات الأربع, تدفق القوات المصرية إلي سيناء, إطلاق نار في الجولان ووادي الأردن, معارك جوية مع طائرات سعودية وإيرانية وليبية وعراقية وسورية, شائعات عن تذبيح اليهود في سوريا, حرب عصابات في الأراضي المحتلة بين العرب والمستعمرين, تدخل القوي العظمي لمحاولة إيقاف الحرب المرشحة للاستمرار أشهرا أو سنوات.
الشيء الذي لم يخطر علي بال الكاتب ولم يتخيله أن يقع الهدم, ولا يكون للحدث صداه في العالم العربي!
(3)
لنا كلام عن الجانب الفلسطيني, الذي نفرق فيه مؤقتا بين الشعب والسلطة, برغم أن الطرفين في خندق واحد الآن, عن الشعب لنا كلمتان, الأولي قلتها من قبل ولا أتردد في تكرارها في كل مناسبة, وهي أننا في التاريخ العربي لم نعرف شعبا جسد بكامله فكرة الفداء والتضحية, بمثل ما فعل الشعب الفلسطيني, الذي بلغ فيما أعطاه ذروة العطاء, بالدم والروح والمال, إذ طيلة أكثر من نصف قرن علي الأقل, فإن الشعب الفلسطيني ما برح يقدم كل ما عنده علي مذبح قضيته, وبينما يئس كثيرون وتعبوا, فإن ذلك الشعب بعزيمته الجبارة وإرادته الحديدية, لايزال يعطي مقدما دمه كل يوم ثمنا لحلمه الذي لم يتخل عنه.
الكلمة الثانية: إنني برغم قتامة الصورة وجهامة المنظر, فإن الشعب الفلسطيني بقوة إرادته وعبقرية أدائه, نجح في إنجاز أمرين كل منهما أهم من الآخر هما:
* إنه رد الاعتبار للمقاومة, وفرض علي الجميع إدراجها كخيار لا غني عنه, برغم ما أعلنه الرئيس ياسر عرفات في جنيف عام88 من نبذ لذلك الخيار, الذي وصف آنذاك بالإرهاب. وقد أعلنت منظمة فتح والمنظمات الأخري التي تدور في فلكها نبذها للمقاومة وقتذاك, لكنها أصبحت الآن طرفا فاعلا في المقاومة, في عودة مشهودة للخيار الذي كان قد تم استبعاده فضلا عن إدانته, ورأينا في الأيام الأخيرة كيف أن القوات الإسرائيلية قتلت ـ جنبا إلي جنب مع عناصر حماس الجهاد الإسلامي ـ ستة من أعضاء فتح, وحاولت قتل مروان البرغوثي أمين سر الحركة في الضفة, وذلك ضمن مخططها لاغتيال القادة الميدانيين والسياسيين للمقاومة الفلسطينية.
* إن الشعب الفلسطيني نجح في تصدير الخوف إلي إسرائيل نفسها, بعدما ظن قادتها أنهم أقاموا بها قلعة تحمي الإسرائيليين من الخوف, فلم يعد لإسرائيل خط دفاع أول في خارجها, وعمق آمن في داخلها, وإنما أصبح العمق الإسرائيلي هو خط الدفاع الأول, كما قال بحق أحد الكتاب الإسرائيليين. وأذكر بما سبق أن قلته في هذه النقطة أن نقل الخوف إلي داخل إسرائيل يقوض إحدي ركائز المشروع الصهيوني, إذ من حق الإسرائيليين الذين سمعناهم علي موجات الأثير يقولون إنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان والاستقرار إلا حين يكونون من خارج إسرائيل, هؤلاء لابد لهم أن يتساءلوا: ما جدوي قيام دولة إسرائيل إذن إذا كان ساستها قد استقدموا الخوف إلي شوارع ومجمعات تل أبيب؟
(4)
ثمة كلام آخر ينبغي أن يقال للسلطة الفلسطينية وعنها, ذلك أن التضحيات اليومية الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني كان يمكن أن يكون مردودها أفضل بكثير لو أنها اقترنت بوضوح الرؤية الاستراتيجية لدي قيادة السلطة الوطنية, إذ ليس من شك في أن الذين يبذلون أرواحهم ويقتلون كل يوم لم يبتغوا من وراء ذلك مجرد العودة إلي ما يسمي المسيرة السلمية, ولم يخطر علي بالهم أن يكون مقابل الدم المسفوح هو فتح الممر الآمن أو المطار أو تحديد شحنات الأغذية والدواء أو غير ذلك من المطالب التي لا نقلل من أهميتها, لكن تحقيقها يمكن أن يتم دون دفع ذلك الثمن اليومي الباهظ.
إن الذين خرجوا إلي الشوارع وفتحوا صدورهم للرشاشات والدبابات, يحلمون بتحرير أرضهم وزوال الاحتلال, بينما بعض المتحدثين باسم السلطة يهونون من شأن التضحيات ومازالوا يتحدثون عن العملية السلمية وطاولة المفاوضات, في عودة منكورة إلي مجرد التحريك لا تطرح فكرة أو منهج التحرير, وذلك خلل فادح في الرؤية الاستراتيجية, حيث لم يعد هناك معني للحديث عن العملية السلمية في أجواء وظروف تغيرت فيها كل العناصر والمعادلات, ناهيك عن أن التمسك بشعار إنهاء الاحتلال يضفي شرعية علي موقف المقاومة لا يمكن الطعن فيها, بينما يضعف من ذلك الموقف تبني فكرة العودة إلي العملية السلمية, لأن من حق أي أحد أن يحتج بأن العنف الذي يمارسه الفلسطينيون يعطل تحقيق ذلك الهدف السلمي المنشود, بينما لا يستطيع أي أحد أن يقول كلاما من ذلك القبيل إذا تمسك خطاب السلطة الفسطينية بمطلب إنهاء الاحتلال.
إن التحول الذي طرأ علي الشارع الفلسطيني لم يتحرج لا في خطاب السلطة الوطنية ولا في ممارساتها, ولا في تركيب الطبقة القيادية. فالساحة الفلسطينية أحوج ما تكون الآن مثلا إلي حكومة وحدة وطنية وطوارئ, وإذا كانت كل القوي والفصائل قد التحمت في ساحة المقاومة, فإن ذلك الالتحام ينبغي أن ينعكس علي تشكيلة السلطة وحكومتها, لكن ذلك لم يحدث للأسف.
إن كل قارئ لخبرات الشعوب وتجاربها يدرك أن الحروب تستصحب تغييرات لابد منها. فالمقاتلون الذين يبذلون أرواحهم عادة ما تكون لهم رؤي مغايرة, أحيانا تكون مثالية, لمجتمعاتهم التي خرجوا للدفاع عنها, وفي المشهد الذي نحن بصدده لا يمكن أن يخوض الشعب الفلسطيني معركته الراهنة, وينجح في تغيير شروط اللعب بحيث تسترد المقاومة اعتبارها, ثم لا يلمس الفلسطينيون أي تغيير علي الوضع الداخلي.
مثل هذا التغيير المنشود, إما أن تبادر إليه قيادة السلطة ملبية بذلك شوق الجماهير وتطلعاتها, وإما أن يفرض ذلك التغيير علي القيادة, من خلال آلية لن تخلو من مغامرة, حيث يظل انفلات الأمور واردا في ظل ذلك الاحتمال.
(5)
إن كثيرين يسلطون الضوء علي الوضع العربي وأزمته الراهنة, لكنهم لا يلقون بالا لأزمة الوضع الفلسطيني التي لا تقل أهمية وخطورة, ولا نريد أن نخوض في الجدل حول أيهما ينبغي البدء به, حتي لا يستدرجنا ذلك إلي حوار البيضة والدجاجة وأيهما كان السبب للآخر, لكن الذي نعرفه أن كل طرف يجب أن ينهض بما عليه, وألا يعلق عثراته علي مشجب الآخر, وأن الوقت لن يكون في مصلحتنا إذا لم نبادر إلي التحرك في الاتجاه الصحيح عربيا وفلسطينيا. ببساطة لأن العدو الإسرائيلي يصعد حربه يوما بعد يوم, وفي ظل سكون الشارع العربي والتفكك الحاصل في الوضع الفلسطيني الداخلي, فإنه لن يتردد في توجيه ضربته التي يريد بها تقويض كل الكيان الفلسطيني, بأمل إعادة رسم خريطة المنطقة واستئصال المشكلة من جذورها, حسب تصورهم, وذلك طور في الصراع له ما بعده, بقدر ما أن له ثمنه.