مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إنهم يلعبون علي المكشوف‏!‏
هويدي 24-7-2001

أهم ما يميز الصراع العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ في طوره الأخير‏,‏ أن الأقنعة فيه سقطت‏,‏ واللعب صار علي المكشوف‏,‏ وأن حقائقه المريبة التي خضعت طويلا للطمس والتزييف أسفرت عن وجهها‏,‏ حتي أزعم أن أساليب الصراع ومقاصده لم تبلغ من قبل ذلك القدر من الوضوح واليقين‏,‏ الذي بلغته الآن‏,‏ شكرا لمن فعلها‏,‏ حتي وإن لم يقصد ذلك‏.‏

‏(1)‏
يوم الثلاثاء الماضي‏7/17,‏ كان أربعون شخصا من عائلة سعادة وأصدقاؤهم في بيت لحم قد اجتمعوا في منزل الأسرة‏,‏ للاحتفاء بقريب لهم اسمه خالد سعادة‏,‏ أفرجت عنه السلطات الإسرائيلية من سجن مجدو‏,‏ كان خالد في الطريق إلي البيت‏,‏ وبينما الأهل والأصدقاء يحتسون الشاي والمرطبات في الحديقة‏,‏ ظهرت في الأفق طائرتان مروحيتان إسرائيليتان‏,‏ لم تلبثا أن أمطرتا الجمع المنتظر بالصواريخ‏,‏ فقتلت أربعة منهم وأصابت‏14‏ بجروح مختلفة‏,‏ ودمرت البيت تماما‏,‏ فيما وصف بأنه صبرا وشاتيلا جديدة‏,‏ في الضفة الغربية‏,‏ وكان بين القتلي عمر سعادة‏,‏ وهو مسئول محلي في حركة حماس‏,‏ وطه العروج‏,‏ أحد أعضاء الحركة‏.‏
لم تكن هذه هي المرة الأولي‏,‏ التي تقصف الطائرات الإسرائيلية بيوتا بذاتها‏,‏ أو شققا في عمارات سكنية‏,‏ لكي تقتل أشخاصا معينين‏,‏ فمثل ذلك القتل له سوابق كثيرة‏,‏ وأخطر ما فيه أنه يتم بقرار معلن من الحكومة الإسرائيلية‏,‏ صحيح أن استهداف عناصر المقاومة وقتلهم ليس جديدا علي السلوك الإسرائيلي‏,‏ حيث دأبت حكومة تل أبيب علي ذلك ـ وبشكل منتظم ـ منذ قيام دولة إسرائيل في عام‏48,‏ لكن ذلك كله كان يتم بهدوء ودون إعلان‏,‏ وفي أسوأ أحواله فإن الدور الإسرائيلي في القتل كان يعلن عنه بطريقة غير مباشرة‏,‏ غير أن إسرائيل ذهبت إلي أبعد في الآونة الأخيرة‏,‏ حين أعلنت عن قرار للحكومة بقتل رموز وعناصر المقاومة الفلسطينية‏,‏ حيثما وجدوا في داخل فلسطين‏,‏ وهي المرة الأولي ـ فيما نعلم ـ التي تقرر فيها حكومة تدعي أنها ديمقراطية ـ وتتباهي بذلك ويصدقها الآخرون‏!..‏ قتل مواطنين خاضعين للاحتلال‏,‏ وتعلن عن ذلك رسميا‏,‏ ويستقبل هذا الإجراء بحسبانه أمرا عاديا‏.‏

إن القانون الدولي يقر بشرعية مقاومة الاحتلال‏,‏ لكن الصورة انعكست علي نحو مذهل في الحالة الفلسطينية‏,‏ فالمقاومون أصبحوا إرهابيين‏,‏ والمحتلون أعطوا لأنفسهم حق قتلهم‏,‏ وقبل المجتمع الدولي بذلك‏,‏ آية ذلك أن السفير الأمريكي لدي إسرائيل مارتن إنديك‏(‏ أول يهودي يعين في ذلك المنصب‏),‏ سألته صحيفة يديعوت أحرونوت قبل أن يعود إلي واشنطن منهيا مهمته في إسرائيل‏,‏ عما إذا كانت سياسة الاغتيالات تعد في نظر الولايات المتحدة جريمة حرب؟ فكان رد السفير المحترم كما يلي‏:‏ نحن لا نري في ذلك جريمة حرب‏,‏ وإنما نعتبرها سياسة سيئة‏(‏ يديعوت ـ‏2001/7/13).‏
لم تعد إسرائيل تخفي أمر القتل‏,‏ أوتتستر عليه‏,‏ ولكنه أصبح سياسة معلنة للحكومة‏(‏ ما الفرق بينها وبين العصابة؟‏)‏ تطبق بمنتهي الصلافة والبجاحة‏,‏ وتعتبرها الولايات المتحدة مجرد سياسة سيئة‏!‏

‏(2)‏
ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما تصبح مسألة التخلص من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات‏,‏ موضوعا للمناقشة العلنية‏,‏ ويختلف الأطراف حول ما إذا كان التخلص منه مفيدا أو ضارا‏,‏ وإذا كان مفيدا‏,‏ فهل يتم ذلك بقتله أو طرده أو منعه من العودة بعد أي سفرة له إلي الخارج‏.‏
تجري هذه المناقشة في العلن‏,‏ بغير دهشة أو استنكار‏,‏ وتؤخذ علي محمل الجد‏,‏ ولا يلاحظ أحد أن مجرد طرح المسألة هو جريمة بحد ذاته‏,‏ تماما كما أن فريقا من الباحثين وكبار الأكاديميين الإسرائيليين يعقدون مؤتمرا لمناقشة احتمالات الخطر السكاني العربي علي مستقبل إسرائيل‏,‏ ويبحثون بشكل جاد في كيفية التخلص من مليون فلسطيني بطريقة ديمقراطية‏,‏ عن طريق طردهم خارج إسرائيل باستخدام وسائل وحيل شتي‏.‏

لو أن مثل هذه المناقشات جرت في أي مكان آخر في الدنيا‏,‏ لانتفض الرأي العام العالمي‏,‏ ولتحركت حكومات ومنظمات بغير حصر لإحباط تلك المخططات‏,‏ التي لايمكن وصفها بأقل من كونها جرائم ضد الإنسانية‏,‏ لكن الأمر يختلف مع إسرائيل الديمقراطية فالخطأ مبلوع‏,‏ والذنب مغفور‏,‏ مادام بحق العرب والفلسطينيين المستباحة أرضهم ودماؤهم وأعراضهم‏.‏
لقد قرأنا خلاصة التقرير‏,‏ الذي أعده جهاز الأمن الداخلي الشين بيت‏,‏ وذهب فيه إلي أن التخلص من عرفات أفضل لإسرائيل من الإبقاء عليه‏,‏ وكأن تحديد مصير الرئيس الفلسطيني أصبح قرارا إسرائيليا‏,‏ لها مطلق الحرية في حسمه علي الوجه الذي يحقق لإسرائيل مصالحها‏,‏ بل وذهبت مناقشات الصحافة الإسرائيلية إلي حد تحديد الشخصية التي يمكن أن تخلف عرفات من رجال الصف أو الجيل الثاني‏,‏ علي نحو يوحي بأن صلاحيات إسرائيل تتجاوز تحديد مصير عرفات لتصل إلي تحديد الشخص الذي يمكن أن يخلفه‏.‏
إنهم يتحدثون عن خطة أورانيم الجديدة‏,‏ مستخدمين ذات الاسم الذي أطلق علي خطة اجتياح لبنان في عام‏1982,‏ التي أسفرت عن طرد ياسر عرفات ومنظمة التحرير من لبنان‏,‏ وارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا‏,‏ وفي تقدير واضعي تلك الخطة أن اجتياح منطقة السلطة الفلسطينية يمكن أن يسفر عن مقتل ألف فلسطيني ومائة إسرائيلي‏,‏ وقد نشرت صحيفة هاآرتس في‏(7/11)‏ نقلا عن مجلة فورين ريبورت أن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا‏,‏ أخطرت بتفصيلات الخطة‏,‏ وأعطت الضوء الأخضر لشارون لكي ينفذها‏..‏ هكذا عيني عينك‏!‏

‏(3)‏
تعذيب العرب في إسرائيل يتم بحكم القانون‏,‏ واعتقال الأطفال للضغط علي أهاليهم يتم بأمر المحكمة‏,‏ ومن ثم فقد اكتسبت تلك السياسات شرعية‏,‏ وأصبحت محمية بالقانون والقضاء‏,‏ علي نحو لا يكاد يصدق أو يقبل في العالم المعاصر‏.‏
في الأسبوع الماضي‏(7/19)‏ نشرت صحيفة الحياة اللندنية‏,‏ خلاصة تقرير أعدته المحامية السويدية بيرجيتا الفستروم عن حجم الإرهاب الفظيع الذي تمارسه المحاكم الإسرائيلية بحق الأطفال الفلسطينيين‏,‏ وكانت السيدة بيرجيتا قد أوفدت من قبل الحكومة السويدية إلي إسرائيل لمتابعة أعمال الجهاز القضائي هناك‏,‏ وظهرت المحامية السويدية‏,‏ بعد عودتها إلي ستكهولم علي شاشة القناة الرابعة‏,‏ أكبر محطة تليفزيون هناك‏,‏ حيث أبرزت صورا ووثائق جمعتها من السجون والمحاكم في الدولة العبرية‏,‏ لتثبت تورط الجهاز القضائي في عمليات التعذيب التي تمارسها أجهزة الأمن بحق الأطفال الفلسطينيين‏,‏ وقالت إنها لم تصدق ما رأت وما سمعت‏,‏ حتي أنها لم تتمالك أعصابها بسبب قسوة التعذيب الذي يطال أولئك الأطفال‏.‏

انتقدت المحامية السويدية المحاكم الإسرائيلية‏,‏ لسماحها باعتقال فتيات صغيرات لابتزاز أقاربهن وأهلهن‏,‏ وإجبارهن بطرق وحشية تتنافي مع المباديء الإنسانية‏,‏ علي الاعتراف بأمور لا دخل لهن بها‏,‏ وساقت مثلا فتاة في الرابعة عشرة من عمرها‏,‏ تم احتجازها لمدة ستة أشهر دون محاكمة‏,‏ ومنع أهلها من زيارتها طيلة مدة الاعتقال التعسفي‏,‏ وكانت التهمة الوحيدة التي وجهت إليها أنها لم تعترف‏,‏ بحسب إرادة المحكمة‏,‏ أن أختها تمارس نشاطات معادية لإسرائيل‏,‏ وزادت أن الفتاة تعرضت لأبشع أنواع التحقير والتعذيب‏,‏ التي تتنافي وحقوق الطفل والإنسان والسجين‏,‏ إذ جلدها المحققون وعرضوها لصعقات الكهرباء والماء البارد‏,‏ وعروها وقيدوها إلي سرير داخل زنزانة يومين من دون حراك‏,‏ ثم أبقيت في السجن الانفرادي‏12‏ يوما‏,‏ تعرضت خلالها لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي‏,‏ إذ كان الجنود الإسرائيليون يقفون خارج باب الزنزانة ويطلقون تهديدات مستمرة بأنهم سيغتصبونها جماعيا‏.‏ روت الفستروم التي التقت أطفالا فلسطينيين كثيرين بعد إطلاقهم إن ابنة الرابعة عشرة ليست وحيدة‏,‏ وجميع الأطفال الذين تعتقلهم قوات الأمن الإسرائيلي يتعرضون للتعذيب ذاته‏,‏ ولا تتاح لهم أي حقوق تنص عليها الشرائع الدولية‏.‏

وتمكنت المحامية السويدية‏,‏ من خلال مراقبتها عمل المحاكم الإسرائيلية‏,‏ والمقابلات الكثيرة التي أجرتها مع سجناء فلسطينيين ومطلعين علي الجسم القضائي الإسرائيلي‏,‏ من اكتشاف تفاصيل عن وسائل تعذيب الأطفال السجناء‏,‏ إذ يعتقلون ذكورا وإناثا في وقت متقدم ليلا‏,‏ خصوصا بين الأولي والثانية فجرا‏,‏ وبعد عصب عيونهم وتكبيل أيديهم بسلاسل محكمة‏,‏ ينهال الجنود بالضرب علي كل جزء من أجسادهم‏,‏ وأشارت إلي أن الاعتقال والتعذيب يشملان حتي الأطفال المتهمين برمي الحجارة‏,‏ وتحدثت عن تفاصيل بشعة فيما يتبعه المحققون مع الأطفال الموقوفين مثل وضع رءوسهم في كرسي المرحاض وفتح مياه خزانه عليهم‏.‏
ختمت الفستروم بأن جميع الأطفال يعانون أمراضا نفسية وجسدية‏,‏ بعد خروجهم من المعتقلات الإسرائيلية‏,‏ وقالت‏:‏ ما شاهدته وسمعته عن درجة بشاعة أنواع التعذيب والارهاب اللذين تمارسهما إسرائيل في حق أطفال أبرياء‏,‏ تعجز الكلمات عن وصفه‏.‏

ما يهمنا في هذه الشواهد‏,‏ أن إسرائيل تتصرف كعصابة لا كدولة‏,‏ وإذا كنا نعرف ذلك منذ زمن‏,‏ إلا أن الجديد في الأمر‏,‏ أنها لم تعد حريصة علي الحذر أو المواراة‏,‏ كما كانت تفعل في السابق‏,‏ وإنما أصبحت تعلن عن مختلف ممارساتها الشريرة بغير حياء‏,‏ وتمارس تلك البلطجة بغير تردد‏,‏ مطمئنة إلي أنها مطلقة اليد‏,‏ وأنها تتعامل مع عالم عربي قليل الحيلة‏,‏ وفاتر الهمة ومنزوع الفاعلية‏.‏

‏(4)‏
في حديثه إلي رئيس وكالة الأنباء الصينية في الأسبوع الماضي‏,‏ قال الرئيس حسني مبارك‏:‏ إن شارون لا يعرف سوي القتل والحرب‏,‏ ولا حل في وجوده‏(7/19),‏ وهذه خلاصة مهمة يفترض أن تطوي صفحة التعامل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وفريقه الحاكم‏,‏ الذي يشاركه في القرار والمسئولية‏,‏ وشمعون بيريز من أبرز شخصيات ذلك الفريق‏,‏ ولا ينسي أحد أنه هو الذي يتولي تسويق سياسة شارون لدي العالم الخارجي‏,‏ برغم أنه يستخدم لغة أكثر توازنا ونعومة‏,‏ ويزعم أنه ببقائه في الحكومة يقوم بالواجب المقدس بمنع نشوب حرب بين شارون وعرفات‏...‏ وأنه إذا ما خرج من الوزارة‏,‏ فإن شارون سيدخل إلي منطقة السلطة الفلسطينية‏(‏ أ‏)‏ خلال أشهر قليلة أو أيام ـ‏(‏ هاآرتس‏7/11)‏
إدراك حقيقة شارون وما يمثله‏,‏ لا ينبغي أن ينسينا أنه يحظي بتأييد واسع من جانب الإسرائيليين‏,‏ وأنه تولي الوزارة بعدما حصل علي أكثر من‏62%‏ من أصوات الناخبين‏,‏ وهذه النسبة تزايدت في الأسابيع الأخيرة‏,‏ الأمر الذي ينبهنا إلي أن شارون يمثل تيارا له ثقله واعتباره في إسرائيل‏,‏ ويدعونا إلي القول بأن اليأس من شارون يعني في الوقت ذاته افتقاد الثقة في صدق توجه أغلبية الشعب الإسرائيلي نحو السلام‏,‏ بمعني أن أغلبية المجتمع هناك غير مؤهل بعد للقبول بسلام حقيقي‏,‏ وأنها مازالت أسيرة وهم الاستعلاء والقوة‏,‏ الذي لا يعرف غير سلام المنتصر‏,‏ والسلام الروماني‏.‏

وليس من شك‏,‏ أن الذين وقعوا اتفاقية أوسلو في عام‏93,‏ لم يخطر ببالهم هذا المأزق الذي يواجهونه اليوم‏,‏ ولعلهم الآن أكثر من غيرهم اقتناعا بخطأ اغفال الاتفاق لمسألتي السيادة الفلسطينية والمستعمرات اليهودية في الضفة والقطاع‏,‏ وافتراضهم حل مسألتي القدس واللاجئين يمكن أن يتحقق في المستقبل‏,‏ لعلهم أدركوا الآن أن اتفاق أوسلو كان يعطي الفلسطينيين سلطة منقوصة‏,‏ محملة بالألغام‏,‏ وأسيرة للقرار الإسرائيلي عسكريا واستراتيجيا‏,‏ ومن الثابت الآن أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات حين التقي والرئيس الأمريكي السابق في كامب ديفيد‏,‏ بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك‏,‏ وجد نفسه وجها لوجه‏,‏ ربما للمرة الأولي أمام حقيقة الموقف الإسرائيلي من السلام النهائي بين الشعبين‏,‏ الأمر الذي تعذر عليه قبوله‏,‏ وكان قراره برفض العروض الإسرائيلية والأمريكية هو القرار الصائب والصحيح‏,‏ وبغير ذلك فإنه كان سيقف علي مشارف خيانة قضية شعبه‏,‏ وهو الموقف الذي كان من الطبيعي أن يربأ بنفسه عنه‏.‏
لقد ثبت للجميع الآن‏,‏ أن اتفاقية أوسلو أوصلت الجميع إلي طريق مسدود‏,‏ وأن اعتبارها خطوة مؤدية إلي السلام كان من باب التمني‏,‏ الذي لم يقم علي قراءة منصفة للاتفاقية‏,‏ أو لواقع النخبة الإسرائيلية‏,‏ بل ثبت أن التفاوض مع الإسرائيليين‏,‏ في ظل توازن القوة الراهن بات مستحيلا‏,‏ لايمكن أن يحقق السلام المنشود‏,‏ لذلك بدت الانتفاضة استجابة طبيعية للظرف التاريخي الفلسطيني‏,‏ إذ بغيرها لم يكن أمام الفلسطينيين سوي الاستسلام والانبطاح‏,‏ وهما خياران ليسا مطروحين في الساحة الفلسطينية‏,‏ أما بها وفي أجوائها وتحت ظلالها‏,‏ فإن إعادة ترتيب جدول عملية السلام أصبح أمرا حتميا‏,‏ واستمرارها للشهر العاشر‏,‏ الذي فاجأ الجميع‏,‏ جاء دالا علي أن عزيمة الشعب الفلسطيني عصية علي الانكسار‏,‏ وإصراره علي الدفاع عن أرضه وحقه لا نهاية له‏,‏ الأمر الذي يلقي بكرة التنازل في المرمي الإسرائيلي‏,‏ بحيث لا يكون هناك من أمل في إقامة سلام حقيقي‏,‏ إلا إذا قبل الإسرائيليون بتنازلات جوهرية في مسألتي الأرض والمستعمرات من ناحية‏,‏ والسيادة الفلسطينية علي الأرض التي تقوم عليها السلطة الوطنية من ناحية أخري‏,‏ وذلك ما لا يستطيعه شارون أو غيره من الزعماء الإسرائيليين الآن‏,‏ الأمر الذي يرشح الانتفاضة للاستمرار الي ما شاء الله‏.‏

‏(5)‏
بالتوازي مع تلك المؤشرات والخلاصات المهمة‏,‏ التي يرصدها المرء في أفق معادلة الصراع والتسوية‏,‏ فإن ما يلفت النظر أيضا‏,‏ أن المجتمع الفلسطيني المهدد يوميا بالموت‏,‏ والذي يريدون أن يحيلوا حياته جحيما‏,‏ قد تعايش مع الموت‏,‏ والجحيم علي نحو مذهل‏,‏ حتي أصبحت لغة الاثنين ومفردات خطابهما جزءا من الحياة اليومية‏,‏ وظننت أن صديقي الفلسطيني يمزح حين سمعته ذات مرة يتحدث عن أسرة أنجبت ولدا فسمته شهيدا أو صاروخا‏,‏ وأخري أنجبت بنتا لوحظ وزنها الزائد فسموها دبابة‏,‏ لكني قرأت تعبيرا لوكالة رويتر في ذات الاتجاه‏,‏ ذكر أن التجار في غزة أصبحوا يروجون لبضاعتهم في موسم التنزيلات لصيف هذا العام‏,‏ وسط جمهور يعاني نقصا شديدا في السيولة النقدية‏,‏ بعبارات من وحي الانتفاضة‏,‏ مثال ذلك أن التاجر رامي أبو كويك وضع علي متجره لافتة تقول قصف من التخفيضات لجذب انتباه الزبائن في القطاع‏,‏ حيث تضرر الاقتصاد بشدة بسبب أعمال العنف المستمرة منذ عشرة أشهر‏.‏
صورت اللافتة صاروخا يخترق حائطا كتب عليه كلمة الأسعار‏,‏ وقد تبنت أكثر من عشرة متاجر في غزة أساليب مشابهة في الاعلان‏,‏ حيث وضع أحدها لافتة تقول خبر عاجل عن تخفيضات الأسعار والعروض الخاصة‏,‏ وأعلن آخر عن غارة غير مسبوقة علي الأسعار‏,‏ وقد علقت زبونة علي تلك اللافتة قائلة‏:‏ ليت كل الغارات والقصف بهذه الطريقة‏,‏ وليتها تفاجئنا كل يوم‏.‏

قال تقرير وكالة رويتر أيضا إن الأصدقاء الفلسطينيين حين يتشاجرون ويسعون لتحسين العلاقات فيما بينهم‏,‏ فإن الوسطاء يدعون الي وقف اطلاق النار أو الفصل بين القوات‏,‏ واذا سئل شاب عن صحته فإنه يجيب علي الفور قائلا‏:‏ بومب بمعني ممتازة‏,‏ وإذا كان شعره شعثا فإن أصدقاءه يمازحونه قائلين إن رأسه طالع مظاهرة‏,‏ وإذا قرر الاقبال علي الزواج‏,‏ فإنهم يعتبرونه مقبلا علي عملية استشهادية‏,‏ وإذا أثار ضجيجا في المكان شبهوه بالآباتشي‏,‏ وهي طائرة الهيلكوبتر الأمريكية الهجومية الضخمة‏..‏ وهكذا‏.‏
لقد أراد الإسرائيليون أن يسربوا الرعب إلي قلوبهم‏,‏ لكنهم نجحوا في تحويل مشهد الرعب إلي نكتة‏,‏ بعدما صدروا الخوف إلي إسرائيل ذاتها‏,‏ من خلال قنابلهم البشرية الضخمة‏.‏
أضافة تعليق