هويدي 3-7-2001
قضية الأمازيغ في الجزائر نموذج للفتنة جدير بالمتابعة والدراسة, ليس فقط لأن شأن الجزائر يهمنا باعتبارها تعد ركنا عزيزا في البيت العربي, ولكن أيضا لأن رياح الفتنة تهب بدرجات متفاوتة علي أكثر من ركن في بيتنا الكبير. وذلك يجعل من دراسة النموذج الجزائري أمرا يتجاوز إشباع الفضول أو مجرد التعاطف والتعبير عن التضامن, ليصبح نوعا من التحسب لتحري مظان الحصانة والدفاع عن الذات, من خلال استيعاب الدرس واكتساب الخبرة.
(1)
لقد انضاف يوم الخميس6/14 إلي صفحة الأيام السوداء في سجل الأحزان العربية, إذ وصفته بعض الأقلام الجزائرية بانه خميس أسود, بينما آثر آخرون ان يصفوه بأنه خميس العار والخراب( أسود ايضا) ـ وقد اكتسب ذلك الوصف بعدما شهدت مدينة الجزائر العاصمة مظاهرة ضخمة للامازيغ( الكلمة معناها الأحرار في اللغة البربرية), عبرت عن الاحتجاج والغضب, الأمر الذي تطور إلي اشتباكات مع الشرطة, وتخريب الممتلكات العامة ونهب محتوياتها. هذه المسيرة كانت حلقة في سلسلة المظاهرات الغاضبة التي شهدتها منطقة القبائل في وقت سابق, استصحبت تخريبا مماثلا, لكن الاخطر في ذلك أن بعضها هاجم مراكز الشرطة والثكنات العسكرية وذهب الغاضبون في ذلك إلي المطالبة بإجلاء هذه القوات عن اراضي القبائل, ومنهم من دعا إلي حكم ذاتي, ومنهم من تحدي فحمل علما مغايرا وهتف مناديا بالانفصال عن الجزائر.
وبرغم أن الحريق بدأ بحادث قتل أحد الشبان البربر علي أيدي رجال الشرطة, وهو حادث مألوف في دول العالم الثالث, فإنه تطور إلي حريق كبير, جاء دالا علي أن التربة كانت مهيأة للانفجار, وكان حادث مقتل الشاب بمثابة عود الثقاب الذي ألقي علي الساحة الجاهزة للاشتعال.
هكذا فإنه في اعقاب سنوات الترويع الذي مارسته الجماعات المسلحة, دخلت الجزائر في طور التمزيق والتفتيت كأنما كتب علي ذلك البلد المبتلي ألا يهدأ له بال أو تستقر له حال, وأن يضم رغما عنه إلي قائمة دول الزلازل والبراكين السياسية.
في هذا الطور الأخير, انفجر لغم الأمازيغ, ومازالت توابع البركان وهزاته مستمرة حتي الآن وليس هذا هو التفجير الأول من نوعه, فاللعب بورقة الامازيغ مستمر منذ عشرينيات القرن الماضي, وكان للاحتلال الفرنسي اليد الطولي في تلغيم المسألة من البداية, ولم تتخل فرنسا عن ذلك الدور حتي هذه اللحظة.
فمنذ برزت الحركات الجزائرية المطالبة بطرد الاستعمار الفرنسي, وتشكلت في العشرينيات حركة نجم شمال إفريقيا. حاول الفرنسيون تفتيت الحركة الوطنية من خلال وسائل عدة. بينها إبراز فكرة الخصوصية الإمازيغية. وفي سعيهم ذاك, فإنهم ركزها علي منطقة القبائل من ناحيتين, الأولي تمثلت في تكثيف فتح المدارس الفرنسية ومحاربة التعليم العربي ومنع تحفيظ القرآن للتلاميذ. والثانية تجلت في تنشيط عملية التبشير بين القبائلين من خلال ما عرف لاحقا باسم الآباء البيض. وبالفرنسية والتبشير حاولت السلطة الاستعمارية إحداث الفجوة والتباين بين البربر والعرب في الجزائر, وفي الوقت نفسه ربط البربر بفرنسا من خلال الإيحاء بأنهم أقرب إلي الآريين الأوروبين منهم إلي العرب( الساميين).
كلما اشتد ساعد الحركة الوطنية الجزائرية, كانت الاصابع الفرنسية الخفية تتحرك إذكاء النزعة البربرية وشق الصف الوطني. وكان بعض شباب منطق القبائل الذين يستقدمون للدراسة في فرنسا هم الأداة التي استخدمت للترويج لتلك النزعة.
غير ان المقاومة الوطنية حين إنتقلت من العمل السياسي إلي الكفاح المسلح فيما عرف بثورة نوفمبر54 تراجع الاهتمام بالمسألة الأمازيغية من قبيل التيارات التي تبنتها, وأصبحت الأولوية لتحقيق الاستقلال الذي اعلن في عام63 م.
(2)
بعد الاستقلال تضاعف اهتمام فرنسا بالمسألة الأمازيغية, باعتبار انها إذا كانت فشلت في ضم الجزائر كلها, فقد وجدت فرصتها أكبر في إلحاق البربر بها, وفيما كتب الباحثان الجزائريان الدكتور عثمان سعدي والدكتور ابن نعمان اشارات إلي وثائق وتقارير فرنسية عديدة راهنت علي البربر, بحسبانهم الأمل الذي تبقي لفرنسا في الجزائر.
في هذا الصدد رعت المخابرات الفرنسية خطوتين مهمتين, الأولي إنشاء الأكاديمية البربرية في باريس عام67( والعرب مشغولون بهزيمة يونيو) التي قامت بكتابة اللهجمة البربرية القبائلية بالحرف اللاتيني, ولإكمال القطيعة مع العربية فإنها قامت بعملية تطهير لها من الكلمات العربية, التي استبدلتها بكلمات مصنوعة. والمعروف أن الأمازيغية لهجة منطوقة وليست مكتوبة, وأن في الجزائر عشر فئات بربرية, تمثل القبائل واحدة منها, والفئات التسع الأخري لها لهجات مختلفة, وجل التركيز الفرنسي في منطقة القبائل( عاصمتها تيزي ووزو), التي كانت تاريخيا الوعاء الذي صبت فيه سلطة الاحتلال الفرنسي جهودها. وهي تسعي الآن لجني ثمار ما زرعته هناك في النصف الأول من القرن الماضي.
الخطوة الثانية تمثلت في الرعاية الفرنسية لمنظمة عالمية جري إنشاؤها في عام98, لتمثيل البربر في العالم, الذين يتركزون أساسا في المغرب العربي وغرب افريقيا, وهو ما حول فرنسا عمليا إلي دولة حاضنة للبربر, ومتبنية لمطلبهم في أن تصبح لغتهم التي اصبحت تكتب بالحرف اللاتيني, لغة رسمية ثانية إلي جانب العربية في الجزائر.
وهو أمر لا يخلو من مفارقة, لأن فرنسا وهي تؤيد وتشجع ذلك المطلب للأمازيغ, فإنها ترفض الاعتراف بأي لغة محلية داخل حدودها. وآخر رفض في هذا القبيل تم في عام99. حين أرسل رئيس الحكومة جوسيان رسالة إلي الرئيس شيراك طلب فيها تعديل الدستور الفرنسي والاعتراف باللغات المحلية في الجمهورية الفرنسية. وقد رفض شيراك الاقتراح. الذي تكرر رفضه بالاجماع في اجتماع لمجلس الوزراء, وعقب الاجتماع صرح وزير الداخلية الفرنسي قائلا: إن الاعتراف باللغات المحلية يعني بلقنة فرنسا. وهذا أمر لا يمكن قبوله. وهو ما يعني أن فرنسا تعتبر وحدة اللغة الوطنية حلالا لها وحدها, ولكنها حرام علي الجزائر والجزائريين.
وبعد كتابة الامازيغية بالحروف اللاتينية, فإذا ما تحقق مطلب تحويلها إلي لغة رسمية للبلاد, فإن أجيال البربر اللاحقة لن يكون بمقدورها أن تتخاطب مع بقية السكان العرب, إلا من خلال اللغة الفرنسية.
(3)
للدكتور عثمان سعدي كتاب مهم في الموضوع صدر في عام1996 بعنوان: الامازيغ ـ البربر عرب عاربة. ذكر فيه ما خلاصته أن البربر عرب عاربة جاءوا من جنوب الجزيرة العربية, في هجرات سابقة علي الفتح الإسلامي, وسابقا أيضا علي الفتح الفينيقي. والبربرية لهجات شفوية,80% من كلماتها من العربية المستعربة التي جاء بها القرآن الكريم وطورها الاسلام, و20% من كلماتها من العربية العاربة التي بطل استعمالها. وحين جاء الفينيقيون إلي المغرب اختلطوا بالبربر وكونوا معهم حضارة قرطاج الراقية, وظلت حضارتهم مهيمنة إلي أن جاء الاسلام, فاندمج فيه البربر وتعربوا. وتحولوا بمضي الوقت إلي حماة له ودعاة. بل وصارت منطقة القبائل معقلا للحركة الوطنية والمقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. وكانت جبال الأوراس رمزا لتلك المقاومة الباسلة.
يمثل البربر في الجزائر, بمن فيهم القبائل, نسبة15% من الشعب الجزائري, كما ذكر الدكتور السعدي, أما العرب أو الناطقون باللغة العربية فيمثلون85% من الشعب, ولا غرابة في ذلك, لأنه منذ انفصل المغرب العربي عن الخلافة الأموية في عهد عمر بن عبدالعزيز, تعاقبت علي حكم الغرب دول اسستها13 أسرة من اصول بربرية, وهؤلاء جميعا كانوا ابناء أوفياء للثقافة الاسلامية التي عرفت العربي بانه كل من نطق العربية, ولم تتعامل مع العروبة باعتبارها عرقا, وتبنت علي الدوام معيار عروبة اللسان.
ورغم الجهود التي بذلتها فرنسا لاذكاء النزعة البربرية, ورغم الضغوط اللحوحة التي مارسها رموز تلك النزعة من أبناء منطقة القبائل, فإن الأغلبية الصامتة من البربر, التي لم يسمع صوتها بعد, مازالت عند تمسكها باسلامها وعروبتها, آية ذلك انه المحافظة السامية للامازيغية التابعة لرئاسة الجمهورية بالجزائر, وكان انشاؤها من مظاهر تراجع السلطة أمام الضغوط التي مورست عليها في هذا الصدد, حين دعت تلك المحافظة في عام96 إلي اقامة مؤتمر للبربرية بمدينة باتنة عاصمة الأوراس, وكان معروفا أن ابناء القبائل المتعصبين هم وراء تلك الدعوة بحكم سيطرتهم علي أمر المحافظة, آنذاك تصدي الشاوية ـ وهم بربر أيضا ـ للمؤتمر, ومنعوا عقده في بلادهم.
من دلائل رفض اغلبية البربر تلك النزعة العنصرية أيضا ان زعيمها سعيد سعدي, الذي اسس حزبا باسم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية, ترشح للرئاسة في عام95 ضمن أربعة آخرين. وشن انصاره ومعهم كل اللوبي الفرانكوفوني حملة واسعة لتأييده, لكنه جاء في ذيل القائمة, ولم يحصل علي عشرة في المائة من الأصوات.
(4)
هذه الخلفية تسلط الضوء علي جانب من الصورة فقط, لأن الأمر في الجزائر اعمق وابعد من كونه مجرد ازمة افتعلها الفرنسيون واستثمرها المتعصبون واستجاب لهم نفر من الشباب المتشنج والمنفعل. ذلك أن المجتمع أيضا له ازمته التي يتجاهلها بعض الذين يكتفون بالنظر إلي السطح, كسلا أو عمدا.
فلا يمكن مثلا تجاهل الدور الذي لعبته العلمنة ومعها التغريب في تشكيل المشهد. ذلك أن تعايش البربر مع العرب كان اقوي ما يكون في ظل رابطة الاسلام, التي شكلت القاسم المشترك الأعظم بين الطرفين. إذ بالعقيدة المشتركة قبل كل منها الآخر, واستعلي الجميع فوق كل ما هو عنصري وعرقي. وفي ظلها تعلق البربر باللغة العربية ليس لأنها لغة العرب, ولكن لأنها لغة القرآن, كتاب المسلمين المقدس.
العلمانية التي تبنتها عناصر النخبة الحاكمة منذ الاستقلال اضعفت من تلك الوشيجة التي حافظت قرونا علي وحدة النسيج ومتانته. ومنذ وقع الصدام بين النخبة العسكرية الحاكمة وبين جبهة الانقاذ في عام90, عقب فوز الجبهة في الانتخابات النيابية, اشتدت الحملة علي مجمل التوجه الإسلامي, وشوهت العمليات الارهابية صورة الاسلام ولطخت صفحته بالاوحال فضلا عن الدماء. وكانت النتيجة مزيدا من التراجع لدور الاسلام في المجتمع, الأمر الذي ادي إلي خلخلة ذلك الوتد الثابت منذ أكثر من13 قرنا. وحين ضعفت الرابطة الإسلامية وانحلت, فقد انكسر ما بين البربر والعرب, وظهر في الأفق من يقول ما معناه: إذا كان عقد الزواج لم يعد قائما ولا ساريا, فلماذا لا يكون الطلاق اذن؟!
التيار الفرانكوفوني قوي من هذه الحجة وثبتها. فهو بطبيعته له مشروعه الذي يتأبي علي العروبة والاسلام, ويتمثل النموذج الغربي, ويري أن الالتحاق به نهاية المطاف وغاية المراد.
وهؤلاء كانت حساسيتهم ضد العروبة اقوي من حساسيتهم ازاء الإسلام. فرفض العروبة كان مطلقا, ورفضهم للاسلام كان نسبيا. بمعني الاكتفاء منه بالعبادات والطقوس علي أحسن القروض.
ولأن هؤلاء هم القابضون علي السلطة, والمهيمنون علي المساحة الأكبر من الخطاب الإعلامي, فإن دورهم في تفكيك تماسك المجتمع الجزائري وهز ثوابته لم يكن هينا, الأمر الذي اثار في الساحة من جديد تساؤلات قوية حول مسألة الهوية. وحين حدث ذلك فإن حالة الانفراط في المجتمع تضاعفت, الأمر الذي كان عنصرا مساعدا علي اذكاء النزعة الامازيغية ومشجعا علي مزيد من في التعلق بفرنسا. وفك الارتباط مع الدولة الجزائرية.
(5)
في محاولة رصد ما تحت السطح من اسباب للأنفراط والغضب, لا يمكن اغفال دور الأزمة السياسية والأزمة الاقتصادية, لأولي تمثلت في أن الثورة الجزائرية قادها المدنيون ورووا شجرتها بدمائهم, ولكن الجنرالات ورثوها, وحولوها إلي وقف عليهم منذ الاستقلال. وهو ما أدي إلي تهميش مختلف فئات الشعب الجزائري, سواء من خلال تغييب المشاركة الديمقراطية تماما في مرحلة, او تحويلها إلي هياكل واشكال خالية في أي وظيفة حقيقية في مرحلة ثانية. وفي الحالتين فإن المجتمع صار في جانب والسلطة في جانب آخر, وحين غابت المشاركة حدث امران, فقد انقطع الحوار وغابت السياسة. و اصبحت الحلول الأمنية سيدة الموقف. ثم أن كل فئة انكفأت علي ذاتها, وحاولت ان تتحرك في اطار مشروعها الخاص, وهي ما وفر تربة مواتية تماما لدعاة النزعة البربرية, فاستثمروها إلي ابعد مدي.
فيما يخص الأزمة الاقتصادية, فينبغي الا ننسي أن الجزائر بلد غني وليس فقيرا, وموارده من النفط والغاز تكفل للمجتمع حياة طيبة ومستقرة. غير أن سنوات الصراع ـ التي يسميها البعض بالعشرية السوداء التي امتدت من سنة90 إلي عام2000 ـ دمرت الكثير من المرافق واقترنت بما يشبه الشلل بعجلة الانتاج. وإذا أضيفت إلي ذلك سوء الادارة الاقتصادية, فليس غريبا ان ينتهي الأمر بارتفاع فاحش في الأسعار, وبمعدل عال للبطالة يقدره البعض بـ15 مليون عاطل.
لابد أن نضيف هنا ان الذين احتكروا السلطة لم يترددوا في احتكار الثروة, الأمر الذي استصحب درجة عالية من الفساد, الأمر الذي جعل المتظاهرين يهتفون في ذلك الخميس الأسود قائلين: الدولة قاع التشيبه( المقصود دولة الرشوة) والجنرالات سفاحة. وحين كنت هناك في العام الماضي وجدت كثيرين يتندرون علي الجنرالات الذين احتكروا السوق, واصبح الواحد منهم يعرف بالسلعة التي يهيمن عليها, فهذا جنرال الزيت وذاك جنرال الدقيق أو جنرال الموز, والثالث جنرال الاطارات وقطع الغيار والرابع جنرال الخردة والمسامير والخامس جنرال القهوة والسكر.. وهكذا.
ازاء ذلك فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا غضبة الامازيغ ليست سوي الجزء الذي ظهر من جبل الثلج, وأن المشكلة في عمقها تكمن في ازمة المجتمع, وهو الشق المسكوت عنه في مناقشة الموضوع.. والمطلوب اعلانه علي الملأ وابلاغه إلي كل من يهمه الأمر في العالم العربي, حيث لكل بلد امازيغه!
قضية الأمازيغ في الجزائر نموذج للفتنة جدير بالمتابعة والدراسة, ليس فقط لأن شأن الجزائر يهمنا باعتبارها تعد ركنا عزيزا في البيت العربي, ولكن أيضا لأن رياح الفتنة تهب بدرجات متفاوتة علي أكثر من ركن في بيتنا الكبير. وذلك يجعل من دراسة النموذج الجزائري أمرا يتجاوز إشباع الفضول أو مجرد التعاطف والتعبير عن التضامن, ليصبح نوعا من التحسب لتحري مظان الحصانة والدفاع عن الذات, من خلال استيعاب الدرس واكتساب الخبرة.
(1)
لقد انضاف يوم الخميس6/14 إلي صفحة الأيام السوداء في سجل الأحزان العربية, إذ وصفته بعض الأقلام الجزائرية بانه خميس أسود, بينما آثر آخرون ان يصفوه بأنه خميس العار والخراب( أسود ايضا) ـ وقد اكتسب ذلك الوصف بعدما شهدت مدينة الجزائر العاصمة مظاهرة ضخمة للامازيغ( الكلمة معناها الأحرار في اللغة البربرية), عبرت عن الاحتجاج والغضب, الأمر الذي تطور إلي اشتباكات مع الشرطة, وتخريب الممتلكات العامة ونهب محتوياتها. هذه المسيرة كانت حلقة في سلسلة المظاهرات الغاضبة التي شهدتها منطقة القبائل في وقت سابق, استصحبت تخريبا مماثلا, لكن الاخطر في ذلك أن بعضها هاجم مراكز الشرطة والثكنات العسكرية وذهب الغاضبون في ذلك إلي المطالبة بإجلاء هذه القوات عن اراضي القبائل, ومنهم من دعا إلي حكم ذاتي, ومنهم من تحدي فحمل علما مغايرا وهتف مناديا بالانفصال عن الجزائر.
وبرغم أن الحريق بدأ بحادث قتل أحد الشبان البربر علي أيدي رجال الشرطة, وهو حادث مألوف في دول العالم الثالث, فإنه تطور إلي حريق كبير, جاء دالا علي أن التربة كانت مهيأة للانفجار, وكان حادث مقتل الشاب بمثابة عود الثقاب الذي ألقي علي الساحة الجاهزة للاشتعال.
هكذا فإنه في اعقاب سنوات الترويع الذي مارسته الجماعات المسلحة, دخلت الجزائر في طور التمزيق والتفتيت كأنما كتب علي ذلك البلد المبتلي ألا يهدأ له بال أو تستقر له حال, وأن يضم رغما عنه إلي قائمة دول الزلازل والبراكين السياسية.
في هذا الطور الأخير, انفجر لغم الأمازيغ, ومازالت توابع البركان وهزاته مستمرة حتي الآن وليس هذا هو التفجير الأول من نوعه, فاللعب بورقة الامازيغ مستمر منذ عشرينيات القرن الماضي, وكان للاحتلال الفرنسي اليد الطولي في تلغيم المسألة من البداية, ولم تتخل فرنسا عن ذلك الدور حتي هذه اللحظة.
فمنذ برزت الحركات الجزائرية المطالبة بطرد الاستعمار الفرنسي, وتشكلت في العشرينيات حركة نجم شمال إفريقيا. حاول الفرنسيون تفتيت الحركة الوطنية من خلال وسائل عدة. بينها إبراز فكرة الخصوصية الإمازيغية. وفي سعيهم ذاك, فإنهم ركزها علي منطقة القبائل من ناحيتين, الأولي تمثلت في تكثيف فتح المدارس الفرنسية ومحاربة التعليم العربي ومنع تحفيظ القرآن للتلاميذ. والثانية تجلت في تنشيط عملية التبشير بين القبائلين من خلال ما عرف لاحقا باسم الآباء البيض. وبالفرنسية والتبشير حاولت السلطة الاستعمارية إحداث الفجوة والتباين بين البربر والعرب في الجزائر, وفي الوقت نفسه ربط البربر بفرنسا من خلال الإيحاء بأنهم أقرب إلي الآريين الأوروبين منهم إلي العرب( الساميين).
كلما اشتد ساعد الحركة الوطنية الجزائرية, كانت الاصابع الفرنسية الخفية تتحرك إذكاء النزعة البربرية وشق الصف الوطني. وكان بعض شباب منطق القبائل الذين يستقدمون للدراسة في فرنسا هم الأداة التي استخدمت للترويج لتلك النزعة.
غير ان المقاومة الوطنية حين إنتقلت من العمل السياسي إلي الكفاح المسلح فيما عرف بثورة نوفمبر54 تراجع الاهتمام بالمسألة الأمازيغية من قبيل التيارات التي تبنتها, وأصبحت الأولوية لتحقيق الاستقلال الذي اعلن في عام63 م.
(2)
بعد الاستقلال تضاعف اهتمام فرنسا بالمسألة الأمازيغية, باعتبار انها إذا كانت فشلت في ضم الجزائر كلها, فقد وجدت فرصتها أكبر في إلحاق البربر بها, وفيما كتب الباحثان الجزائريان الدكتور عثمان سعدي والدكتور ابن نعمان اشارات إلي وثائق وتقارير فرنسية عديدة راهنت علي البربر, بحسبانهم الأمل الذي تبقي لفرنسا في الجزائر.
في هذا الصدد رعت المخابرات الفرنسية خطوتين مهمتين, الأولي إنشاء الأكاديمية البربرية في باريس عام67( والعرب مشغولون بهزيمة يونيو) التي قامت بكتابة اللهجمة البربرية القبائلية بالحرف اللاتيني, ولإكمال القطيعة مع العربية فإنها قامت بعملية تطهير لها من الكلمات العربية, التي استبدلتها بكلمات مصنوعة. والمعروف أن الأمازيغية لهجة منطوقة وليست مكتوبة, وأن في الجزائر عشر فئات بربرية, تمثل القبائل واحدة منها, والفئات التسع الأخري لها لهجات مختلفة, وجل التركيز الفرنسي في منطقة القبائل( عاصمتها تيزي ووزو), التي كانت تاريخيا الوعاء الذي صبت فيه سلطة الاحتلال الفرنسي جهودها. وهي تسعي الآن لجني ثمار ما زرعته هناك في النصف الأول من القرن الماضي.
الخطوة الثانية تمثلت في الرعاية الفرنسية لمنظمة عالمية جري إنشاؤها في عام98, لتمثيل البربر في العالم, الذين يتركزون أساسا في المغرب العربي وغرب افريقيا, وهو ما حول فرنسا عمليا إلي دولة حاضنة للبربر, ومتبنية لمطلبهم في أن تصبح لغتهم التي اصبحت تكتب بالحرف اللاتيني, لغة رسمية ثانية إلي جانب العربية في الجزائر.
وهو أمر لا يخلو من مفارقة, لأن فرنسا وهي تؤيد وتشجع ذلك المطلب للأمازيغ, فإنها ترفض الاعتراف بأي لغة محلية داخل حدودها. وآخر رفض في هذا القبيل تم في عام99. حين أرسل رئيس الحكومة جوسيان رسالة إلي الرئيس شيراك طلب فيها تعديل الدستور الفرنسي والاعتراف باللغات المحلية في الجمهورية الفرنسية. وقد رفض شيراك الاقتراح. الذي تكرر رفضه بالاجماع في اجتماع لمجلس الوزراء, وعقب الاجتماع صرح وزير الداخلية الفرنسي قائلا: إن الاعتراف باللغات المحلية يعني بلقنة فرنسا. وهذا أمر لا يمكن قبوله. وهو ما يعني أن فرنسا تعتبر وحدة اللغة الوطنية حلالا لها وحدها, ولكنها حرام علي الجزائر والجزائريين.
وبعد كتابة الامازيغية بالحروف اللاتينية, فإذا ما تحقق مطلب تحويلها إلي لغة رسمية للبلاد, فإن أجيال البربر اللاحقة لن يكون بمقدورها أن تتخاطب مع بقية السكان العرب, إلا من خلال اللغة الفرنسية.
(3)
للدكتور عثمان سعدي كتاب مهم في الموضوع صدر في عام1996 بعنوان: الامازيغ ـ البربر عرب عاربة. ذكر فيه ما خلاصته أن البربر عرب عاربة جاءوا من جنوب الجزيرة العربية, في هجرات سابقة علي الفتح الإسلامي, وسابقا أيضا علي الفتح الفينيقي. والبربرية لهجات شفوية,80% من كلماتها من العربية المستعربة التي جاء بها القرآن الكريم وطورها الاسلام, و20% من كلماتها من العربية العاربة التي بطل استعمالها. وحين جاء الفينيقيون إلي المغرب اختلطوا بالبربر وكونوا معهم حضارة قرطاج الراقية, وظلت حضارتهم مهيمنة إلي أن جاء الاسلام, فاندمج فيه البربر وتعربوا. وتحولوا بمضي الوقت إلي حماة له ودعاة. بل وصارت منطقة القبائل معقلا للحركة الوطنية والمقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. وكانت جبال الأوراس رمزا لتلك المقاومة الباسلة.
يمثل البربر في الجزائر, بمن فيهم القبائل, نسبة15% من الشعب الجزائري, كما ذكر الدكتور السعدي, أما العرب أو الناطقون باللغة العربية فيمثلون85% من الشعب, ولا غرابة في ذلك, لأنه منذ انفصل المغرب العربي عن الخلافة الأموية في عهد عمر بن عبدالعزيز, تعاقبت علي حكم الغرب دول اسستها13 أسرة من اصول بربرية, وهؤلاء جميعا كانوا ابناء أوفياء للثقافة الاسلامية التي عرفت العربي بانه كل من نطق العربية, ولم تتعامل مع العروبة باعتبارها عرقا, وتبنت علي الدوام معيار عروبة اللسان.
ورغم الجهود التي بذلتها فرنسا لاذكاء النزعة البربرية, ورغم الضغوط اللحوحة التي مارسها رموز تلك النزعة من أبناء منطقة القبائل, فإن الأغلبية الصامتة من البربر, التي لم يسمع صوتها بعد, مازالت عند تمسكها باسلامها وعروبتها, آية ذلك انه المحافظة السامية للامازيغية التابعة لرئاسة الجمهورية بالجزائر, وكان انشاؤها من مظاهر تراجع السلطة أمام الضغوط التي مورست عليها في هذا الصدد, حين دعت تلك المحافظة في عام96 إلي اقامة مؤتمر للبربرية بمدينة باتنة عاصمة الأوراس, وكان معروفا أن ابناء القبائل المتعصبين هم وراء تلك الدعوة بحكم سيطرتهم علي أمر المحافظة, آنذاك تصدي الشاوية ـ وهم بربر أيضا ـ للمؤتمر, ومنعوا عقده في بلادهم.
من دلائل رفض اغلبية البربر تلك النزعة العنصرية أيضا ان زعيمها سعيد سعدي, الذي اسس حزبا باسم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية, ترشح للرئاسة في عام95 ضمن أربعة آخرين. وشن انصاره ومعهم كل اللوبي الفرانكوفوني حملة واسعة لتأييده, لكنه جاء في ذيل القائمة, ولم يحصل علي عشرة في المائة من الأصوات.
(4)
هذه الخلفية تسلط الضوء علي جانب من الصورة فقط, لأن الأمر في الجزائر اعمق وابعد من كونه مجرد ازمة افتعلها الفرنسيون واستثمرها المتعصبون واستجاب لهم نفر من الشباب المتشنج والمنفعل. ذلك أن المجتمع أيضا له ازمته التي يتجاهلها بعض الذين يكتفون بالنظر إلي السطح, كسلا أو عمدا.
فلا يمكن مثلا تجاهل الدور الذي لعبته العلمنة ومعها التغريب في تشكيل المشهد. ذلك أن تعايش البربر مع العرب كان اقوي ما يكون في ظل رابطة الاسلام, التي شكلت القاسم المشترك الأعظم بين الطرفين. إذ بالعقيدة المشتركة قبل كل منها الآخر, واستعلي الجميع فوق كل ما هو عنصري وعرقي. وفي ظلها تعلق البربر باللغة العربية ليس لأنها لغة العرب, ولكن لأنها لغة القرآن, كتاب المسلمين المقدس.
العلمانية التي تبنتها عناصر النخبة الحاكمة منذ الاستقلال اضعفت من تلك الوشيجة التي حافظت قرونا علي وحدة النسيج ومتانته. ومنذ وقع الصدام بين النخبة العسكرية الحاكمة وبين جبهة الانقاذ في عام90, عقب فوز الجبهة في الانتخابات النيابية, اشتدت الحملة علي مجمل التوجه الإسلامي, وشوهت العمليات الارهابية صورة الاسلام ولطخت صفحته بالاوحال فضلا عن الدماء. وكانت النتيجة مزيدا من التراجع لدور الاسلام في المجتمع, الأمر الذي ادي إلي خلخلة ذلك الوتد الثابت منذ أكثر من13 قرنا. وحين ضعفت الرابطة الإسلامية وانحلت, فقد انكسر ما بين البربر والعرب, وظهر في الأفق من يقول ما معناه: إذا كان عقد الزواج لم يعد قائما ولا ساريا, فلماذا لا يكون الطلاق اذن؟!
التيار الفرانكوفوني قوي من هذه الحجة وثبتها. فهو بطبيعته له مشروعه الذي يتأبي علي العروبة والاسلام, ويتمثل النموذج الغربي, ويري أن الالتحاق به نهاية المطاف وغاية المراد.
وهؤلاء كانت حساسيتهم ضد العروبة اقوي من حساسيتهم ازاء الإسلام. فرفض العروبة كان مطلقا, ورفضهم للاسلام كان نسبيا. بمعني الاكتفاء منه بالعبادات والطقوس علي أحسن القروض.
ولأن هؤلاء هم القابضون علي السلطة, والمهيمنون علي المساحة الأكبر من الخطاب الإعلامي, فإن دورهم في تفكيك تماسك المجتمع الجزائري وهز ثوابته لم يكن هينا, الأمر الذي اثار في الساحة من جديد تساؤلات قوية حول مسألة الهوية. وحين حدث ذلك فإن حالة الانفراط في المجتمع تضاعفت, الأمر الذي كان عنصرا مساعدا علي اذكاء النزعة الامازيغية ومشجعا علي مزيد من في التعلق بفرنسا. وفك الارتباط مع الدولة الجزائرية.
(5)
في محاولة رصد ما تحت السطح من اسباب للأنفراط والغضب, لا يمكن اغفال دور الأزمة السياسية والأزمة الاقتصادية, لأولي تمثلت في أن الثورة الجزائرية قادها المدنيون ورووا شجرتها بدمائهم, ولكن الجنرالات ورثوها, وحولوها إلي وقف عليهم منذ الاستقلال. وهو ما أدي إلي تهميش مختلف فئات الشعب الجزائري, سواء من خلال تغييب المشاركة الديمقراطية تماما في مرحلة, او تحويلها إلي هياكل واشكال خالية في أي وظيفة حقيقية في مرحلة ثانية. وفي الحالتين فإن المجتمع صار في جانب والسلطة في جانب آخر, وحين غابت المشاركة حدث امران, فقد انقطع الحوار وغابت السياسة. و اصبحت الحلول الأمنية سيدة الموقف. ثم أن كل فئة انكفأت علي ذاتها, وحاولت ان تتحرك في اطار مشروعها الخاص, وهي ما وفر تربة مواتية تماما لدعاة النزعة البربرية, فاستثمروها إلي ابعد مدي.
فيما يخص الأزمة الاقتصادية, فينبغي الا ننسي أن الجزائر بلد غني وليس فقيرا, وموارده من النفط والغاز تكفل للمجتمع حياة طيبة ومستقرة. غير أن سنوات الصراع ـ التي يسميها البعض بالعشرية السوداء التي امتدت من سنة90 إلي عام2000 ـ دمرت الكثير من المرافق واقترنت بما يشبه الشلل بعجلة الانتاج. وإذا أضيفت إلي ذلك سوء الادارة الاقتصادية, فليس غريبا ان ينتهي الأمر بارتفاع فاحش في الأسعار, وبمعدل عال للبطالة يقدره البعض بـ15 مليون عاطل.
لابد أن نضيف هنا ان الذين احتكروا السلطة لم يترددوا في احتكار الثروة, الأمر الذي استصحب درجة عالية من الفساد, الأمر الذي جعل المتظاهرين يهتفون في ذلك الخميس الأسود قائلين: الدولة قاع التشيبه( المقصود دولة الرشوة) والجنرالات سفاحة. وحين كنت هناك في العام الماضي وجدت كثيرين يتندرون علي الجنرالات الذين احتكروا السوق, واصبح الواحد منهم يعرف بالسلعة التي يهيمن عليها, فهذا جنرال الزيت وذاك جنرال الدقيق أو جنرال الموز, والثالث جنرال الاطارات وقطع الغيار والرابع جنرال الخردة والمسامير والخامس جنرال القهوة والسكر.. وهكذا.
ازاء ذلك فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا غضبة الامازيغ ليست سوي الجزء الذي ظهر من جبل الثلج, وأن المشكلة في عمقها تكمن في ازمة المجتمع, وهو الشق المسكوت عنه في مناقشة الموضوع.. والمطلوب اعلانه علي الملأ وابلاغه إلي كل من يهمه الأمر في العالم العربي, حيث لكل بلد امازيغه!