هويدي 31-3-2003
يبذل الأميركيون جهوداً حثيثة لعولمة كراهية الناس لحكومتهم وسياستهم، التي يبدو أنها صارت تفتقد إلى الذكاء (تماماً مثل الصواريخ التي استهدفت المدنيين والأسواق في بغداد). وهو أمر يبعث على الدهشة، لأنني لا أتصور أن ذلك هدف مقصود، وانما أرجعه إلى الخطأ في الحساب حيناً، وإلى الاستسلام لغرور القوة الذي يدفع الطرف المعني إلى الزهو بعضلاته إلى القدر الذي يعميه عن رؤية ما حوله أو ادراك حقائق الواقع.
لست هنا أتحدث عن حملة غزو العراق، وما استصحبها من حماقات وبشاعات وجرائم أنست كثيرين بشاعات وجرائم الرئيس صدام حسين، وجعلتهم يقفون مع العراق بما فيه صدام حسين للأسف، ضد الغزو الأميركي وضد الحكومة الأميركية بطبيعة الحال.
ورغم أن ذلك يجسد المعنى الذي أريد التعبير عنه، إلا أن ما في ذهني هذه المرة شيء آخر متصل بالسياسات والسلوكيات الأميركية المنفرة والمستفزة في العواصم العربية، التي أصبح الدبلوماسيون الأميركيون يمارسونها بجلافة مستغربة.
في الأسبوع الماضي انتقد وزير الاعلام اللبناني غازي العريضي السياسة الأميركية في العراق، فتصدى له السفير الأميركي في العاصمة اللبنانية فنسنت باتل، وطلب معاقبته، هكذا مرة واحدة، فلم يسكن الوزير اللبناني ونقلت عنه الصحف تصريحاً قوياً قال فيه «ان العالم كله يطلب اليوم معاقبة أميركا وادارتها المعزولة»، مضيفاً أنه ليس في موقع الدخول في سجال مع موظف يمثل ادارة لا تمارس الا الارهاب والاجرام اليومي على ساحة العراق وتمارس الارهاب ضد العالم بطلب اغلاق السفارات وتجميد الأرصدة وتدعم الارهاب الاسرائيلي ضد الفلسطينيين وتشارك فيه». واستطرد العريضي قائلا: «ليعاقبوا المواطنين الأميركيين الذين قالوا في شوارع الولايات المتحدة ان (الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير مجرمان(...) ويشرفني أن أكون واحداً من الأصوات التي ترتفع في العالم ضد سياسة الولايات المتحدة التي فيها كل الاستباحة لكل القيم والقوانين والشرائع والأعراف والمعاهدات والاتفاقات الدولية».
كنت أحد الذين استفزهم موقف السفير الأميركي حين وقعت عليه، الأمر الذي دفعني إلى الترحيب برد الوزير العريضي، الذي وجدت فيه بعضاً من «أنفاس» زمن الكبرياء قبل أن يدخل العرب في طور ادارة الخد الأيمن بعد الأيسر كلما تلقوا صفعات عواصم الاستكبار والاستعلاء العالميين.
تصرف السفير الأميركي في بيروت ذكرني بممارسات قرينه في القاهرة ديفيد وولش، الذي أزعم أنه تفوق عليه في الخروج على قواعد اللياقة وعلى الأعراف الدبلوماسية المتبعة، ومن ثم في «كفاءة» استفزا الآخرين وتعميم نفورهم من السياسة الأميركية. اذ بينما حدث بيروت يتفاعل، كانت محكمة النقض المصرية قد أصدرت حكمها ببراءة الدكتور سعد الدين ابراهيم من التهم التي نسبت إليه وأدانته فيها مرتين محاكم جنايات أمن الدولة. وأسدلت بذلك الستار على قضية شغلت الرأي العام زمنا، وأدت الى اشتباك طفيف مع الولايات المتحدة أسفر عن صدور قرار من البيت الأبيض بحجب المساعدات المالية الاضافية عن مصر، بحجة انتهاكها لحقوق الانسان وادانتها للدكتور سعد، الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب جنسيته المصرية.
واذ لا يختلف أحد على أن تبرئة انسان من أي تهمة، ومن ثم رفع الظلم عنه، هو أمر جدير بالحفاوة والترحيب، وحالة الدكتور سعد كانت أشد لأن التهم التي نسبت اليه اقتربت من خيانة الوطن، غير أن ما أثار الانتباه في الموضوع أنه بعد ثلاثين ثانية من نطق قاضي محكمة النقض بالبراءة، حتى وزع المسؤول الاعلامي بالسفارة الأميركية بالقاهرة، الذي كان حاضراً الجلسة، بياناً مطبوعاً باسم السفير الأميركي رحب فيه بالحكم، واستخدم في وصف المحاكمة مصطلح «أورديل» (Ordeal) الذي أطلق على محاكماته العصور الوسطى التي كانت تصدر فيها الأحكام المنسوبة إلى الارادة الالهية، وبعد هذا الفخر امتدح السفير المحكمة قائلاً أن تبرئتها للدكتور سعد يفسر القدر من الاحترام الذي تحظى به.
مبدأ اصدار البيان، فضلا عن لغته وتوقيت توزيعه، كان سلوكاً فجاً يتعارض مع التقاليد القضائية والأعراف السياسية، ذلك أن القاعدة المستقرة في الثقافة القانونية تقضي بعدم جواز التعليق على أحكام القضاء، لأن الذي يمتدح بوسعه أن ينتقد، ومشهورة في مصر قصة القاضي الذي تلقى خطاب ثناء من وزير العدل ذات مرة، فرده إليه مشفوعاً برسالة قال فيها ما معناه أنه كما لا يقبل من أحد الاعتراض على عمله، لا يستطيع أن يقبل من وزير العدل نفسه ثناء عليه.
في الوقت نفسه فإن الغمز في المحاكمة وتشبيهها بمحاكمات القرون الوسطى، كان تصرفاً غير لائق بأي معيار، يضاعف من الفجاجة فيه صدوره عن سفير دولة أجنبية، ثم ان توزيع بيان معد سلفاً ومطبوع بعد ثلاثين ثانية من اعلان الحكم، فيه ايحاء خبيث بأن السفير كان يعلم بالحكم قبل صدوره، وقد وضح ذلك على الملأ عبر البيان الذي وزع على الصحفيين وذلك بدوره تصرف غير لائق، فضلاً عن أنه خطير الدلالة، اذا صح التفسير الذي ذهبنا إليه.
سجل السفير الأميركي بالقاهرة متعدد فيه أمثال تلك التصرفات للأسف، حيث يذكر له مثلاً أنه في العشرين من شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي كتب مقالة بجريدة «الأهرام» أثارت عاصفة من الاحتجاج والغضب في المحيط الاعلامي والثقافي بعامة، فقد انتقد الكتابات التي شككت في مسؤولية تنظيم «القاعدة» عن تفجير مركز التجارة العالمي، ودعا رؤساء تحرير الصحف إلى حجب أمثال تلك المقالات، بدعوى أن الاعلام المسؤول يجب أن يكرس لنشر الحقيقة وليس الأكاذيب، معتبراً أن كل مايخالف الرواية الأميركية لما جرى في الحادي عشر من سبتمبر، هو من الأكاذيب.
شيء من هذا القبيل حدث في روسيا، حين أدانت احدى المحاكم الروسية رجل أعمال أميركياً في قضية تزوير وتزييف، الأمر الذي أثار غضب السفير الأميركي في موسكو، فأصدر بياناً اتهم فيه القضاء الروسي بسوء التقدير، كما اتهم الحكومة الروسية بالفساد، الأمر الذي أثار الجميع ضده، لأنه أهان بطريقة خالية من أي لياقة نظام ومؤسسات البلد الذي يمثل حكومته لديه.
لا يتسع المجال للتفصيل في سرد الممارسات المشابهة لكثرتها، لكن ذلك التعدد يثير تساؤلاً عما اذا كانت تلك التصرفات تعبر عن سلوك أفراد أم عن سياسة الدولة.
أرجح أنها سياسة بأكثر منها ممارسات أو تجاوزات شخصية، وأذهب الى أنها من تجليات سياسة الاستقواء واظهار «العين الحمراء» التي طرأت على الأداء السياسي الأميركي، خصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر. وليس خافياً أن «قبضايات» الادارة الأميركية من دعاة التوسع والهيمنة واشهار العصا الغليظة، اهتبلوا الفرصة وقرروا ان يستعرضوا مواهبهم في هذا الصدد.
لقد دعا تقرير «مجلس الشؤون الخارجية» في واشنطن، الذي أعد في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر إلى تبني ما أسماه بـ«الدبلوماسية الشعبية»، التي هي نقيض الدبلوماسية التقليدية التي كانت ترسم باباً واحداً للعمل الدبلوماسي يتمثل في طرق الأبواب الرسمية دون غيرها، كما أنها كانت تستخدم لغة بذاتها تتسم بالدقة والتهذيب والالتفاف حول المعاني دون الاصطدام بالأفكار أو التقاطع معها. وأريد بالدبلوماسية الشعبية إقدام الدبلوماسي الأميركي على طرق كل الأبواب المتاحة أمامه، وإلى التعامل مع الآخرين في الدول التي يعمل فيها بصورة مباشرة وبالشكل الذي تقتضيه كل حالة.
لقد وجدنا الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر وقد انتهجت سياسة جديدة، تمثل في حقيقة الأمر تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من المطالبة بتغيير مناهج التعليم الى مراقبة المقالات التي تنشر والمسلسلات التليفزيونية التي تبث. وباسم «مقاومة الارهاب» خولت الولايات المتحدة لنفسها حق ممارسة ذلك التدخل، بل ذهبت إلى حد اقرار مبدأ الاقدام على التدخل العسكري تحسباً لاحتمالات الخطر، وهو ما سمي باستراتيجية الضربات الاستباقية، حتى خاضت واشنطن حربها ضد العراق دون أن يكون هناك عدوان من جانب العراق عليها، وهو ما يحدث لأول مرة في التاريخ الأميركيي. ومن الوقائع المدهشة في هذا السياق ما قرأناه ذات مرة علي لسان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، الذي قال في خطاب معلن ان اليمن كان معرضاً للقصف الجوي الذي تعرضت له أفغانستان، اذا لم تقرر صنعاء ضم المعاهد الدينية واخضاعها لسيطرة الحكومة. إن من المدهش أيضاً أن الخارجية الأميركية أزعجها صدور بيان عن مجمع البحوث الاسلامية في القاهرة دعا المسلمين الى الجهاد في مواجهة ما أسماه بالحملة «الصليبية» الجديدة، وللرد على ذلك فان الخارجية أعدت تقريراً بعثت به الى البيت الأبيض طالب بمخاطبة الحكومة المصرية للحد من الصلاحيات الممنوحة للأزهر، ومنع علمائه من التعرض للقضايا السياسية، كما طلب من الأزهر الاعتذار عن تلك «الفتوى»، وإلا وضعته الحكومة الأميركية على قائمة المنظمات الارهابية.
اذا كان ذلك هو موقف السياسة الأميركية، فان سلوك السفراء الذي نستهجنه لن يكون إلا انعكاساً وتطبيقاً لها. وسيبدو سخيفاً وبلا معنى استمرار طرح السؤال: لماذا يكرهوننا.
السؤال الآخر المهم هو هل هذا هو موقف السياسة الأميركية تجاه كل الدول، أم أن سلوك واشنطن يختلف من دولة إلى أخرى؟ ردي على السؤال أن ذلك الاستئساد أو الاجتراء لا يحدث إلا مع الدول مكسورة الجناح والمستضعفة، أما اذا وجد الدبلوماسيون الأميركيون من يوقفهم عند حدهم ويرد عليهم اهاناتهم، فانهم سيغيرون من لغتهم وسيلزمون حدود اللياقة وأصول الأعراف الدبلوماسية. وذلك يسري على الادارة الأميركية ذاتها، وما نموذج كوريا الشمالية منا ببعيد.
يبذل الأميركيون جهوداً حثيثة لعولمة كراهية الناس لحكومتهم وسياستهم، التي يبدو أنها صارت تفتقد إلى الذكاء (تماماً مثل الصواريخ التي استهدفت المدنيين والأسواق في بغداد). وهو أمر يبعث على الدهشة، لأنني لا أتصور أن ذلك هدف مقصود، وانما أرجعه إلى الخطأ في الحساب حيناً، وإلى الاستسلام لغرور القوة الذي يدفع الطرف المعني إلى الزهو بعضلاته إلى القدر الذي يعميه عن رؤية ما حوله أو ادراك حقائق الواقع.
لست هنا أتحدث عن حملة غزو العراق، وما استصحبها من حماقات وبشاعات وجرائم أنست كثيرين بشاعات وجرائم الرئيس صدام حسين، وجعلتهم يقفون مع العراق بما فيه صدام حسين للأسف، ضد الغزو الأميركي وضد الحكومة الأميركية بطبيعة الحال.
ورغم أن ذلك يجسد المعنى الذي أريد التعبير عنه، إلا أن ما في ذهني هذه المرة شيء آخر متصل بالسياسات والسلوكيات الأميركية المنفرة والمستفزة في العواصم العربية، التي أصبح الدبلوماسيون الأميركيون يمارسونها بجلافة مستغربة.
في الأسبوع الماضي انتقد وزير الاعلام اللبناني غازي العريضي السياسة الأميركية في العراق، فتصدى له السفير الأميركي في العاصمة اللبنانية فنسنت باتل، وطلب معاقبته، هكذا مرة واحدة، فلم يسكن الوزير اللبناني ونقلت عنه الصحف تصريحاً قوياً قال فيه «ان العالم كله يطلب اليوم معاقبة أميركا وادارتها المعزولة»، مضيفاً أنه ليس في موقع الدخول في سجال مع موظف يمثل ادارة لا تمارس الا الارهاب والاجرام اليومي على ساحة العراق وتمارس الارهاب ضد العالم بطلب اغلاق السفارات وتجميد الأرصدة وتدعم الارهاب الاسرائيلي ضد الفلسطينيين وتشارك فيه». واستطرد العريضي قائلا: «ليعاقبوا المواطنين الأميركيين الذين قالوا في شوارع الولايات المتحدة ان (الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير مجرمان(...) ويشرفني أن أكون واحداً من الأصوات التي ترتفع في العالم ضد سياسة الولايات المتحدة التي فيها كل الاستباحة لكل القيم والقوانين والشرائع والأعراف والمعاهدات والاتفاقات الدولية».
كنت أحد الذين استفزهم موقف السفير الأميركي حين وقعت عليه، الأمر الذي دفعني إلى الترحيب برد الوزير العريضي، الذي وجدت فيه بعضاً من «أنفاس» زمن الكبرياء قبل أن يدخل العرب في طور ادارة الخد الأيمن بعد الأيسر كلما تلقوا صفعات عواصم الاستكبار والاستعلاء العالميين.
تصرف السفير الأميركي في بيروت ذكرني بممارسات قرينه في القاهرة ديفيد وولش، الذي أزعم أنه تفوق عليه في الخروج على قواعد اللياقة وعلى الأعراف الدبلوماسية المتبعة، ومن ثم في «كفاءة» استفزا الآخرين وتعميم نفورهم من السياسة الأميركية. اذ بينما حدث بيروت يتفاعل، كانت محكمة النقض المصرية قد أصدرت حكمها ببراءة الدكتور سعد الدين ابراهيم من التهم التي نسبت إليه وأدانته فيها مرتين محاكم جنايات أمن الدولة. وأسدلت بذلك الستار على قضية شغلت الرأي العام زمنا، وأدت الى اشتباك طفيف مع الولايات المتحدة أسفر عن صدور قرار من البيت الأبيض بحجب المساعدات المالية الاضافية عن مصر، بحجة انتهاكها لحقوق الانسان وادانتها للدكتور سعد، الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب جنسيته المصرية.
واذ لا يختلف أحد على أن تبرئة انسان من أي تهمة، ومن ثم رفع الظلم عنه، هو أمر جدير بالحفاوة والترحيب، وحالة الدكتور سعد كانت أشد لأن التهم التي نسبت اليه اقتربت من خيانة الوطن، غير أن ما أثار الانتباه في الموضوع أنه بعد ثلاثين ثانية من نطق قاضي محكمة النقض بالبراءة، حتى وزع المسؤول الاعلامي بالسفارة الأميركية بالقاهرة، الذي كان حاضراً الجلسة، بياناً مطبوعاً باسم السفير الأميركي رحب فيه بالحكم، واستخدم في وصف المحاكمة مصطلح «أورديل» (Ordeal) الذي أطلق على محاكماته العصور الوسطى التي كانت تصدر فيها الأحكام المنسوبة إلى الارادة الالهية، وبعد هذا الفخر امتدح السفير المحكمة قائلاً أن تبرئتها للدكتور سعد يفسر القدر من الاحترام الذي تحظى به.
مبدأ اصدار البيان، فضلا عن لغته وتوقيت توزيعه، كان سلوكاً فجاً يتعارض مع التقاليد القضائية والأعراف السياسية، ذلك أن القاعدة المستقرة في الثقافة القانونية تقضي بعدم جواز التعليق على أحكام القضاء، لأن الذي يمتدح بوسعه أن ينتقد، ومشهورة في مصر قصة القاضي الذي تلقى خطاب ثناء من وزير العدل ذات مرة، فرده إليه مشفوعاً برسالة قال فيها ما معناه أنه كما لا يقبل من أحد الاعتراض على عمله، لا يستطيع أن يقبل من وزير العدل نفسه ثناء عليه.
في الوقت نفسه فإن الغمز في المحاكمة وتشبيهها بمحاكمات القرون الوسطى، كان تصرفاً غير لائق بأي معيار، يضاعف من الفجاجة فيه صدوره عن سفير دولة أجنبية، ثم ان توزيع بيان معد سلفاً ومطبوع بعد ثلاثين ثانية من اعلان الحكم، فيه ايحاء خبيث بأن السفير كان يعلم بالحكم قبل صدوره، وقد وضح ذلك على الملأ عبر البيان الذي وزع على الصحفيين وذلك بدوره تصرف غير لائق، فضلاً عن أنه خطير الدلالة، اذا صح التفسير الذي ذهبنا إليه.
سجل السفير الأميركي بالقاهرة متعدد فيه أمثال تلك التصرفات للأسف، حيث يذكر له مثلاً أنه في العشرين من شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي كتب مقالة بجريدة «الأهرام» أثارت عاصفة من الاحتجاج والغضب في المحيط الاعلامي والثقافي بعامة، فقد انتقد الكتابات التي شككت في مسؤولية تنظيم «القاعدة» عن تفجير مركز التجارة العالمي، ودعا رؤساء تحرير الصحف إلى حجب أمثال تلك المقالات، بدعوى أن الاعلام المسؤول يجب أن يكرس لنشر الحقيقة وليس الأكاذيب، معتبراً أن كل مايخالف الرواية الأميركية لما جرى في الحادي عشر من سبتمبر، هو من الأكاذيب.
شيء من هذا القبيل حدث في روسيا، حين أدانت احدى المحاكم الروسية رجل أعمال أميركياً في قضية تزوير وتزييف، الأمر الذي أثار غضب السفير الأميركي في موسكو، فأصدر بياناً اتهم فيه القضاء الروسي بسوء التقدير، كما اتهم الحكومة الروسية بالفساد، الأمر الذي أثار الجميع ضده، لأنه أهان بطريقة خالية من أي لياقة نظام ومؤسسات البلد الذي يمثل حكومته لديه.
لا يتسع المجال للتفصيل في سرد الممارسات المشابهة لكثرتها، لكن ذلك التعدد يثير تساؤلاً عما اذا كانت تلك التصرفات تعبر عن سلوك أفراد أم عن سياسة الدولة.
أرجح أنها سياسة بأكثر منها ممارسات أو تجاوزات شخصية، وأذهب الى أنها من تجليات سياسة الاستقواء واظهار «العين الحمراء» التي طرأت على الأداء السياسي الأميركي، خصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر. وليس خافياً أن «قبضايات» الادارة الأميركية من دعاة التوسع والهيمنة واشهار العصا الغليظة، اهتبلوا الفرصة وقرروا ان يستعرضوا مواهبهم في هذا الصدد.
لقد دعا تقرير «مجلس الشؤون الخارجية» في واشنطن، الذي أعد في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر إلى تبني ما أسماه بـ«الدبلوماسية الشعبية»، التي هي نقيض الدبلوماسية التقليدية التي كانت ترسم باباً واحداً للعمل الدبلوماسي يتمثل في طرق الأبواب الرسمية دون غيرها، كما أنها كانت تستخدم لغة بذاتها تتسم بالدقة والتهذيب والالتفاف حول المعاني دون الاصطدام بالأفكار أو التقاطع معها. وأريد بالدبلوماسية الشعبية إقدام الدبلوماسي الأميركي على طرق كل الأبواب المتاحة أمامه، وإلى التعامل مع الآخرين في الدول التي يعمل فيها بصورة مباشرة وبالشكل الذي تقتضيه كل حالة.
لقد وجدنا الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر وقد انتهجت سياسة جديدة، تمثل في حقيقة الأمر تدخلاً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من المطالبة بتغيير مناهج التعليم الى مراقبة المقالات التي تنشر والمسلسلات التليفزيونية التي تبث. وباسم «مقاومة الارهاب» خولت الولايات المتحدة لنفسها حق ممارسة ذلك التدخل، بل ذهبت إلى حد اقرار مبدأ الاقدام على التدخل العسكري تحسباً لاحتمالات الخطر، وهو ما سمي باستراتيجية الضربات الاستباقية، حتى خاضت واشنطن حربها ضد العراق دون أن يكون هناك عدوان من جانب العراق عليها، وهو ما يحدث لأول مرة في التاريخ الأميركيي. ومن الوقائع المدهشة في هذا السياق ما قرأناه ذات مرة علي لسان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، الذي قال في خطاب معلن ان اليمن كان معرضاً للقصف الجوي الذي تعرضت له أفغانستان، اذا لم تقرر صنعاء ضم المعاهد الدينية واخضاعها لسيطرة الحكومة. إن من المدهش أيضاً أن الخارجية الأميركية أزعجها صدور بيان عن مجمع البحوث الاسلامية في القاهرة دعا المسلمين الى الجهاد في مواجهة ما أسماه بالحملة «الصليبية» الجديدة، وللرد على ذلك فان الخارجية أعدت تقريراً بعثت به الى البيت الأبيض طالب بمخاطبة الحكومة المصرية للحد من الصلاحيات الممنوحة للأزهر، ومنع علمائه من التعرض للقضايا السياسية، كما طلب من الأزهر الاعتذار عن تلك «الفتوى»، وإلا وضعته الحكومة الأميركية على قائمة المنظمات الارهابية.
اذا كان ذلك هو موقف السياسة الأميركية، فان سلوك السفراء الذي نستهجنه لن يكون إلا انعكاساً وتطبيقاً لها. وسيبدو سخيفاً وبلا معنى استمرار طرح السؤال: لماذا يكرهوننا.
السؤال الآخر المهم هو هل هذا هو موقف السياسة الأميركية تجاه كل الدول، أم أن سلوك واشنطن يختلف من دولة إلى أخرى؟ ردي على السؤال أن ذلك الاستئساد أو الاجتراء لا يحدث إلا مع الدول مكسورة الجناح والمستضعفة، أما اذا وجد الدبلوماسيون الأميركيون من يوقفهم عند حدهم ويرد عليهم اهاناتهم، فانهم سيغيرون من لغتهم وسيلزمون حدود اللياقة وأصول الأعراف الدبلوماسية. وذلك يسري على الادارة الأميركية ذاتها، وما نموذج كوريا الشمالية منا ببعيد.