هويدي 29-10-2001
لا يزال اللغط مستمرا في اوساط المسلمين حول الفتوى التي صدرت في اواخر شهر سبتمبر (ايلول) الماضي، بشأن موقف العسكريين المسلمين العاملين بالقوات المسلحة الامريكية. صحيح ان الذين تصدوا للموضوع بمختلف مواقعهم اتفقوا على رفض واستنكار الهجوم الذي وقع على نيويورك وواشنطن، وادى الى ازهاق ارواح حوالي ستة الاف شخص من الابرياء، الا ان الخلافات ثارت حول موقف العسكريين المسلمين الامريكيين، البالغ عددهم 15 ألف شخص، من الاشتراك في حملة ملاحقة الارهاب التي تشنها القوات الامريكية بوجه اخص، ورغم ان الفتوى المعنية، التي وقعها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري والدكتور محمد العوا والدكتور هيثم الخياط، وآخرهم كاتب هذه السطور، هذه الفتوى كانت قد صدرت قبل الحرب في (9/27)، لكنها حين ترجمت ووصلت الى ايدي كثيرين، كانت الحرب قد اعلنت، الامر الذي فهم منه ان الفتوى جاءت مؤيدة للحرب ولقتل الافغان المسلمين، وهو امر ابعد ما يكون عن الحقيقة، ليس فقط لانها صدرت قبل احد عشر يوما من بدء الحرب، ولكن ايضا لان موقعيها اعلنوا موقفهم الرافض لتلك الحرب الظالمة، في بيانات معلنة، لذلك فان الزج بالفتوى في سياق الحرب يضعها في غير سياقها الاصلي، فيشوهها ويسيء فهمها، واذكر في هذا الصدد بان أي فتوى لكي تفهم على نحو صحيح، فينبغي لا ان توضع في سياق زمانها فحسب، وإنما ايضا يتعين ان تقرأ بحسبانها اجابة عن اسئلة محددة، وفي حالة معينة، فهي لا تجيب عن اسئلة اخرى قد ترد في ذهن المتلقي العادي، ولا مجال لتعميمها، بحيث لا تسري الا على الحالة المسؤول عنها، فشرعية الحرب مثلا خارج موضوع السؤال، كما ان ما ينطبق على الولايات المتحدة لا يسري على المسلمين في المانيا أو تركيا مثلا. اذ طالما ان لكل بلد خصوصيته وملابساته، فان كل حالة يكون لها وضعها الخاص، لانه اذا كانت الفتوى بمثابة تنزيل الحكم على الواقع، فمن الطبيعي ان تتغير تبعا لاختلاف ذلك الواقع في المكان والزمان.
حينما تم تداول الفتوى بعد الحرب، لوحق الموقعون عليها بالاسئلة والاستفهامات، وكان الشيخ يوسف القرضاوي اكثرنا تعرضا لتلك الاسئلة، ليس فقط لانه على رأس من وقعوا الفتوى، ولكن ايضا بسبب مرجعيته المعتبرة، واتساع نطاق احتكاكه بجمهور السائلين، الذين يتابعونه في خطبه ولقاءاته وبرامجه التليفزيونية ذائعة الصيت.
ازاء ذلك فان الدكتور القرضاوي كتب رأيا توضيحيا للفتوى، في محاولة منه لرفع الالتباس الذي احاط بها من ابداء اساءة فهمها والتسرع في قراءتها. وفيه نص على: ان الاسلام قد حرم على المسلم ان يواجه اخاه المسلم بالسلاح، واعتبر ذلك من اعمال الكفر واعمال الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض». وقال «اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا : يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «انه كان حريصا على قتل صاحبه» وهذه كلها احاديث صحيحة متفق عليها. بل حرم الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلم ان يشير الى أخيه المسلم بسلاحه ـ مجرد اشارة ـ لا جادا ولا مازحا.
وهنا يبرز سؤال المسلم الذي يكون مجندا في جيش، لا يملك فيه الا طاعة رؤسائه وتنفيذ أوامرهم التي يصدرونها اليه، وليس من حقه ان يقول: لا، أو: لم؟ وفق الانظمة العسكرية المعروفة في العالم اليوم، فاذا كان جيش دولته هذا يحارب دولة مسلمة، وهو جندي في هذا الجيش، فماذا يصنع؟ هو مكره على أن يتحرك بحركة الجيش، اذ هو فيه مجرد آلة في ترس كبير.
الذي يتوجه اليه النظر الفقهي هنا: ان المسلم اذا أمكنه ان يتخلف عن هذه الحرب بطلب اجازة أو اعضائه من هذه الحرب، لان ضميره لا يوافق عليها، أو نحو ذلك فالواجب عليه ان يفعل ذلك، حتى لا يتورط في مواجهة المسلم بغير حق. وكذلك اذا استطاع ان يطلب العمل في الصفوف الخلفية لخدمة الجيش، لا في مباشرة القتال فهذا أخف. ذلك ما لم يترتب على موقفه هذا ضرر بالغ له أو لجماعته الاسلامية التي هو جزء منها، كأن يصنف هو واخوانه في مربع الذين يعيشون في الوطن، وولاؤهم لغيره، وقد يكون في هذا التصنيف خطر على الأقلية الاسلامية ومصيرها، ووجودها الديني والدعوي، وقد يؤدي بالجهود الدعوية والتربوية الهائلة التي بذلت لعشرات السنين من اجل تقوية الوجود الاسلامي وتثبيته، واعتبار المسلمين جزءا من مجتمعهم، يجب ان يندمجوا فيه حضاريا، ولا يذوبون فيه دينيا، فلا يجوز ان يتصرفوا تصرفا يجعلهم مشبوهين أو مشكوكا فيهم، بحيث يعتبرهم المجتمع العام طابورا خامسا.
ولا ينبغي للافراد ان يريحوا ضمائرهم بالتخلف عن الحرب اذا كان ذلك سيضر المجموعة الاسلامية كلها، فإن القاعدة الشرعية: ان الضرر الادنى يتحمل لدفع الضرر الاعلى، وان الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وحق الجماعة مقدم على حق الافراد، وفقه التعارض بين المصالح والمفاسد من أهم انواع الفقه، الذي سميته (فقه الموازنات) وهو فقه يفتقده الكثير من المسلمين، فلا يجوز ان يخضع العلماء لفقه العوام، الذين يغلبون فقه الظواهر على المقاصد.
واذا اضطر المسلم للقتال مكرها تحت ضغط الظروف التي ذكرناها فينبغي له ان يبتعد ـ بقدر ما يمكنه ـ عن القتل المباشر، وان يشارك في الحرب اذا شارك، وهو كاره منكر لها بقلبه، كما هو شأن المؤمن اذا عجز عن تغيير المنكر بيده أو بلسانه، فهو يغيره بقلبه ـ أي بالكراهية والنفور ـ وذلك اضعف الايمان.
خلال الفترة التي اعقبت صدور الفتوى ايدها البعض، وتحفظ عليها اخرون في بعض مواضعها، وصدرت فتاوى اخرى مخالفة لها، كما انها صارت هدفا للهجوم وتعرض كاتبوها للاتهام والتجريح من قبل قلة من المفتين، الذين اعتادوا ان يشّهروا بكل من خالفهم.
ورغم ان تعدد الفتاوى امر مفهوم ولا ضير فيه، خصوصا بين اهل العلم الذين يلتزمون بادب الاختلاف، الا ان الامر يكون احيانا مصدرا للحيرة والبلبلة، خصوصا حين يتعلق الامر بحالة كالتي نحن بصددها. ان من شأن بعض الفتاوى ان تورث بعض الجنود المسلمين الامريكيين شعورا بالاثم اذا اطاعوا الاوامر الصادرة اليهم بالاشتراك في الحرب، وربما اضطر بعضهم الى الاستقالة اذا رفض تنفيذ تلك الاوامر، وهو ما ارتآه بعض المفتين ممن قالوا ان الاستقالة في هذه الحالة افضل من المشاركة في قتل مسلم.
من الذين لم يختلفوا كثيرا مع الفتوى التي سبقت الاشارة اليها الشيخ فيصل مولوي من لبنان، الذي حرم مشاركة الجندي الامريكي المسلم في المهمات العسكرية التي قد توكل اليه في افغانستان، ثم انتهى الى انه: اذا ترتب على هذا الموقف نتائج اخرى ضارة لا يمكن تحملها بالنسبة له شخصيا أو للجالية الاسلامية ككل، فان الضرورات تبيح المحظورات، وعليه الموازنة بين الامرين، واختيار اقلها ضررا، وهو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره. وقد وجدت ان ما اجمله الشيخ فيصل في ثلاثة اسطر، هو الذي فعلته الفتوى موضع الجدل، إذ انبنت على فكرة الضرورة والاكراه.
من بين الذين عارضوا مبدأ المشاركة في العمليات العسكرية الدكتور علي جمعة، استاذ اصول الفقه بجامعة الازهر، والدكتور احمد الريسوتي، استاذ الشريعة بالمغرب، والدكتور صلاح سلطان رئيس الجامعة الاسلامية بالولايات المتحدة، ومما قاله الدكتور علي جمعة، الذي اصدر فتواه بعد قيام الحرب، انه: على الجندي المسلم في الجيش الامريكي ان يعتذر عن هذه الحرب، فان لم يستطع فليكن في الجهاز الاداري مثلا، فان لم يستطع فليقدم استقالته، فان اضطر الى الخروج وكان بين الصفوف فلا يقتل مسلما بسلاحه فان قتله خطأ فعليه الدية والكفارة، وان قتله عمدا ارتكب اثم من قتل مسلما عمدا.
اما الدكتوران احمد الريسوتي وصلاح سلطان فلم يجيزا الاشتراك في الحرب باطلاق، رغم ان الدكتور الريسوتي اباح للمسلم العادي ان يدفع الضرائب للدولة غير المسلمة التي يعيش في ظلها ويحمل جنسيتها، استنادا الى قاعدة الضرورة والاكراه.
حين اتيح لي ان اراجع الادلة والاسانيد التي تم الاعتماد عليها لدى كل فريق، وبعدما استمعت وشاركت في مناقشات حول الموضوع حضرها بعض الذين تصدوا للموضوع، وجدت ان مبعث الاختلاف ليس فقط كون الفتوى الاولى صدرت قبل الحرب، حين لم يكن معلوما مثلا ان المدنيين الافغان سيتعرضون للقصف، أو بعد ابتداء تلك الحرب، وإنما نشأ التباين في المواقف من جراء الاختلاف في الادراك والاولويات وزاوية النظر. فهناك من لم يجد في الامر ضررا ولا ضرورة، وان المسلمين يستطيعون ابراء ذمتهم وعدم المشاركة في المهام الموكولة اليهم، وحتى اذا استقالوا من الجندية (لاحظ ان عددهم 15 ألفا) فلن يصيبهم أو يصيب الجالية الاسلامية ضرر كبير كما يُظن، ومن ثم فلن يؤثر ذلك على مستقبل الاسلام في تلك البلاد، وربما كان الاختلاف في تقدير هذه المسألة ناشئا عن ان الذين افتوا لانهم من غير المسلمين الامريكيين، لم يكونوا على اتفاق حول الحجم الحقيقي لذلك الضرر المظنون وهو ما يحسمه اهل البلاد انفسهم، ومن هؤلاء من قالوا ان الحرب غير عادلة وليس لهم ان يشاركوا فيها، لانه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، الامر الذي يثير سؤالين احدهما عما اذا كان ذلك يسري على حكومات الدول غير الاسلامية، أم على الحكومات الاسلامية وحدها، والثاني عما اذا كان ذلك ينطبق على العسكريين ايضا حيث لا يملك «المخلوق» منهم في هذه الحالة ارادته في الدول الاسلامية، فما بالك بغير الاسلامية؟
الامر الذي بدا ملتبسا في اذهان الجميع هو معنى ومسؤولية ان يكون المسلم مواطنا في بلد غير مسلم، لا علاقة لقوانينه واعرافه بالاسلام، الى اي مدى يملك ذلك المسلم ان يتحلل من التزاماته كمواطن، خصوصا اذا كان جنديا لا يملك الا ان يمتثل الى الاوامر الصادرة اليه، وهو عنصر في المسألة يتعلق بحدود وطبيعة العلاقة بين الانتماء الديني والانتماء الوطني، وكيف يمكنه التوفيق بين الانتماء للجماعة الدينية والجماعة الوطنية في الوطن ذاته، وهو الموضوع الذي طال الجدل بشأنه حتى ادرك المتحاورون انه يحتاج الى مزيد من التعميق والاثراء، اذ انه جديد على خبرة العقل الاسلامي، جدة فكرة المواطنة ومستلزماتها.
المفارقة اللافتة للنظر هنا، ان مثل هذه المناقشات لم نجد لها آثاراً في الحالات التي تقاتل فيها المسلمون في ما بينهم، العراق وايران مثلاً، أو الصراع الراهن بين الفصائل الافغانية، وكأنما قتال المسلمين في ما بينهم مقبول ومحتمل، اما اذا قاتلهم غيرهم فهنا تكون المشكلة ويقع المحظور من: ان «ظلم» ذوي القربى اشد مضاضة، فما بالك بهم لو انهم قتلوا؟!
لا يزال اللغط مستمرا في اوساط المسلمين حول الفتوى التي صدرت في اواخر شهر سبتمبر (ايلول) الماضي، بشأن موقف العسكريين المسلمين العاملين بالقوات المسلحة الامريكية. صحيح ان الذين تصدوا للموضوع بمختلف مواقعهم اتفقوا على رفض واستنكار الهجوم الذي وقع على نيويورك وواشنطن، وادى الى ازهاق ارواح حوالي ستة الاف شخص من الابرياء، الا ان الخلافات ثارت حول موقف العسكريين المسلمين الامريكيين، البالغ عددهم 15 ألف شخص، من الاشتراك في حملة ملاحقة الارهاب التي تشنها القوات الامريكية بوجه اخص، ورغم ان الفتوى المعنية، التي وقعها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري والدكتور محمد العوا والدكتور هيثم الخياط، وآخرهم كاتب هذه السطور، هذه الفتوى كانت قد صدرت قبل الحرب في (9/27)، لكنها حين ترجمت ووصلت الى ايدي كثيرين، كانت الحرب قد اعلنت، الامر الذي فهم منه ان الفتوى جاءت مؤيدة للحرب ولقتل الافغان المسلمين، وهو امر ابعد ما يكون عن الحقيقة، ليس فقط لانها صدرت قبل احد عشر يوما من بدء الحرب، ولكن ايضا لان موقعيها اعلنوا موقفهم الرافض لتلك الحرب الظالمة، في بيانات معلنة، لذلك فان الزج بالفتوى في سياق الحرب يضعها في غير سياقها الاصلي، فيشوهها ويسيء فهمها، واذكر في هذا الصدد بان أي فتوى لكي تفهم على نحو صحيح، فينبغي لا ان توضع في سياق زمانها فحسب، وإنما ايضا يتعين ان تقرأ بحسبانها اجابة عن اسئلة محددة، وفي حالة معينة، فهي لا تجيب عن اسئلة اخرى قد ترد في ذهن المتلقي العادي، ولا مجال لتعميمها، بحيث لا تسري الا على الحالة المسؤول عنها، فشرعية الحرب مثلا خارج موضوع السؤال، كما ان ما ينطبق على الولايات المتحدة لا يسري على المسلمين في المانيا أو تركيا مثلا. اذ طالما ان لكل بلد خصوصيته وملابساته، فان كل حالة يكون لها وضعها الخاص، لانه اذا كانت الفتوى بمثابة تنزيل الحكم على الواقع، فمن الطبيعي ان تتغير تبعا لاختلاف ذلك الواقع في المكان والزمان.
حينما تم تداول الفتوى بعد الحرب، لوحق الموقعون عليها بالاسئلة والاستفهامات، وكان الشيخ يوسف القرضاوي اكثرنا تعرضا لتلك الاسئلة، ليس فقط لانه على رأس من وقعوا الفتوى، ولكن ايضا بسبب مرجعيته المعتبرة، واتساع نطاق احتكاكه بجمهور السائلين، الذين يتابعونه في خطبه ولقاءاته وبرامجه التليفزيونية ذائعة الصيت.
ازاء ذلك فان الدكتور القرضاوي كتب رأيا توضيحيا للفتوى، في محاولة منه لرفع الالتباس الذي احاط بها من ابداء اساءة فهمها والتسرع في قراءتها. وفيه نص على: ان الاسلام قد حرم على المسلم ان يواجه اخاه المسلم بالسلاح، واعتبر ذلك من اعمال الكفر واعمال الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض». وقال «اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا : يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «انه كان حريصا على قتل صاحبه» وهذه كلها احاديث صحيحة متفق عليها. بل حرم الرسول صلى الله عليه وسلم على المسلم ان يشير الى أخيه المسلم بسلاحه ـ مجرد اشارة ـ لا جادا ولا مازحا.
وهنا يبرز سؤال المسلم الذي يكون مجندا في جيش، لا يملك فيه الا طاعة رؤسائه وتنفيذ أوامرهم التي يصدرونها اليه، وليس من حقه ان يقول: لا، أو: لم؟ وفق الانظمة العسكرية المعروفة في العالم اليوم، فاذا كان جيش دولته هذا يحارب دولة مسلمة، وهو جندي في هذا الجيش، فماذا يصنع؟ هو مكره على أن يتحرك بحركة الجيش، اذ هو فيه مجرد آلة في ترس كبير.
الذي يتوجه اليه النظر الفقهي هنا: ان المسلم اذا أمكنه ان يتخلف عن هذه الحرب بطلب اجازة أو اعضائه من هذه الحرب، لان ضميره لا يوافق عليها، أو نحو ذلك فالواجب عليه ان يفعل ذلك، حتى لا يتورط في مواجهة المسلم بغير حق. وكذلك اذا استطاع ان يطلب العمل في الصفوف الخلفية لخدمة الجيش، لا في مباشرة القتال فهذا أخف. ذلك ما لم يترتب على موقفه هذا ضرر بالغ له أو لجماعته الاسلامية التي هو جزء منها، كأن يصنف هو واخوانه في مربع الذين يعيشون في الوطن، وولاؤهم لغيره، وقد يكون في هذا التصنيف خطر على الأقلية الاسلامية ومصيرها، ووجودها الديني والدعوي، وقد يؤدي بالجهود الدعوية والتربوية الهائلة التي بذلت لعشرات السنين من اجل تقوية الوجود الاسلامي وتثبيته، واعتبار المسلمين جزءا من مجتمعهم، يجب ان يندمجوا فيه حضاريا، ولا يذوبون فيه دينيا، فلا يجوز ان يتصرفوا تصرفا يجعلهم مشبوهين أو مشكوكا فيهم، بحيث يعتبرهم المجتمع العام طابورا خامسا.
ولا ينبغي للافراد ان يريحوا ضمائرهم بالتخلف عن الحرب اذا كان ذلك سيضر المجموعة الاسلامية كلها، فإن القاعدة الشرعية: ان الضرر الادنى يتحمل لدفع الضرر الاعلى، وان الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، وحق الجماعة مقدم على حق الافراد، وفقه التعارض بين المصالح والمفاسد من أهم انواع الفقه، الذي سميته (فقه الموازنات) وهو فقه يفتقده الكثير من المسلمين، فلا يجوز ان يخضع العلماء لفقه العوام، الذين يغلبون فقه الظواهر على المقاصد.
واذا اضطر المسلم للقتال مكرها تحت ضغط الظروف التي ذكرناها فينبغي له ان يبتعد ـ بقدر ما يمكنه ـ عن القتل المباشر، وان يشارك في الحرب اذا شارك، وهو كاره منكر لها بقلبه، كما هو شأن المؤمن اذا عجز عن تغيير المنكر بيده أو بلسانه، فهو يغيره بقلبه ـ أي بالكراهية والنفور ـ وذلك اضعف الايمان.
خلال الفترة التي اعقبت صدور الفتوى ايدها البعض، وتحفظ عليها اخرون في بعض مواضعها، وصدرت فتاوى اخرى مخالفة لها، كما انها صارت هدفا للهجوم وتعرض كاتبوها للاتهام والتجريح من قبل قلة من المفتين، الذين اعتادوا ان يشّهروا بكل من خالفهم.
ورغم ان تعدد الفتاوى امر مفهوم ولا ضير فيه، خصوصا بين اهل العلم الذين يلتزمون بادب الاختلاف، الا ان الامر يكون احيانا مصدرا للحيرة والبلبلة، خصوصا حين يتعلق الامر بحالة كالتي نحن بصددها. ان من شأن بعض الفتاوى ان تورث بعض الجنود المسلمين الامريكيين شعورا بالاثم اذا اطاعوا الاوامر الصادرة اليهم بالاشتراك في الحرب، وربما اضطر بعضهم الى الاستقالة اذا رفض تنفيذ تلك الاوامر، وهو ما ارتآه بعض المفتين ممن قالوا ان الاستقالة في هذه الحالة افضل من المشاركة في قتل مسلم.
من الذين لم يختلفوا كثيرا مع الفتوى التي سبقت الاشارة اليها الشيخ فيصل مولوي من لبنان، الذي حرم مشاركة الجندي الامريكي المسلم في المهمات العسكرية التي قد توكل اليه في افغانستان، ثم انتهى الى انه: اذا ترتب على هذا الموقف نتائج اخرى ضارة لا يمكن تحملها بالنسبة له شخصيا أو للجالية الاسلامية ككل، فان الضرورات تبيح المحظورات، وعليه الموازنة بين الامرين، واختيار اقلها ضررا، وهو وحده الذي يتحمل مسؤولية اختياره. وقد وجدت ان ما اجمله الشيخ فيصل في ثلاثة اسطر، هو الذي فعلته الفتوى موضع الجدل، إذ انبنت على فكرة الضرورة والاكراه.
من بين الذين عارضوا مبدأ المشاركة في العمليات العسكرية الدكتور علي جمعة، استاذ اصول الفقه بجامعة الازهر، والدكتور احمد الريسوتي، استاذ الشريعة بالمغرب، والدكتور صلاح سلطان رئيس الجامعة الاسلامية بالولايات المتحدة، ومما قاله الدكتور علي جمعة، الذي اصدر فتواه بعد قيام الحرب، انه: على الجندي المسلم في الجيش الامريكي ان يعتذر عن هذه الحرب، فان لم يستطع فليكن في الجهاز الاداري مثلا، فان لم يستطع فليقدم استقالته، فان اضطر الى الخروج وكان بين الصفوف فلا يقتل مسلما بسلاحه فان قتله خطأ فعليه الدية والكفارة، وان قتله عمدا ارتكب اثم من قتل مسلما عمدا.
اما الدكتوران احمد الريسوتي وصلاح سلطان فلم يجيزا الاشتراك في الحرب باطلاق، رغم ان الدكتور الريسوتي اباح للمسلم العادي ان يدفع الضرائب للدولة غير المسلمة التي يعيش في ظلها ويحمل جنسيتها، استنادا الى قاعدة الضرورة والاكراه.
حين اتيح لي ان اراجع الادلة والاسانيد التي تم الاعتماد عليها لدى كل فريق، وبعدما استمعت وشاركت في مناقشات حول الموضوع حضرها بعض الذين تصدوا للموضوع، وجدت ان مبعث الاختلاف ليس فقط كون الفتوى الاولى صدرت قبل الحرب، حين لم يكن معلوما مثلا ان المدنيين الافغان سيتعرضون للقصف، أو بعد ابتداء تلك الحرب، وإنما نشأ التباين في المواقف من جراء الاختلاف في الادراك والاولويات وزاوية النظر. فهناك من لم يجد في الامر ضررا ولا ضرورة، وان المسلمين يستطيعون ابراء ذمتهم وعدم المشاركة في المهام الموكولة اليهم، وحتى اذا استقالوا من الجندية (لاحظ ان عددهم 15 ألفا) فلن يصيبهم أو يصيب الجالية الاسلامية ضرر كبير كما يُظن، ومن ثم فلن يؤثر ذلك على مستقبل الاسلام في تلك البلاد، وربما كان الاختلاف في تقدير هذه المسألة ناشئا عن ان الذين افتوا لانهم من غير المسلمين الامريكيين، لم يكونوا على اتفاق حول الحجم الحقيقي لذلك الضرر المظنون وهو ما يحسمه اهل البلاد انفسهم، ومن هؤلاء من قالوا ان الحرب غير عادلة وليس لهم ان يشاركوا فيها، لانه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، الامر الذي يثير سؤالين احدهما عما اذا كان ذلك يسري على حكومات الدول غير الاسلامية، أم على الحكومات الاسلامية وحدها، والثاني عما اذا كان ذلك ينطبق على العسكريين ايضا حيث لا يملك «المخلوق» منهم في هذه الحالة ارادته في الدول الاسلامية، فما بالك بغير الاسلامية؟
الامر الذي بدا ملتبسا في اذهان الجميع هو معنى ومسؤولية ان يكون المسلم مواطنا في بلد غير مسلم، لا علاقة لقوانينه واعرافه بالاسلام، الى اي مدى يملك ذلك المسلم ان يتحلل من التزاماته كمواطن، خصوصا اذا كان جنديا لا يملك الا ان يمتثل الى الاوامر الصادرة اليه، وهو عنصر في المسألة يتعلق بحدود وطبيعة العلاقة بين الانتماء الديني والانتماء الوطني، وكيف يمكنه التوفيق بين الانتماء للجماعة الدينية والجماعة الوطنية في الوطن ذاته، وهو الموضوع الذي طال الجدل بشأنه حتى ادرك المتحاورون انه يحتاج الى مزيد من التعميق والاثراء، اذ انه جديد على خبرة العقل الاسلامي، جدة فكرة المواطنة ومستلزماتها.
المفارقة اللافتة للنظر هنا، ان مثل هذه المناقشات لم نجد لها آثاراً في الحالات التي تقاتل فيها المسلمون في ما بينهم، العراق وايران مثلاً، أو الصراع الراهن بين الفصائل الافغانية، وكأنما قتال المسلمين في ما بينهم مقبول ومحتمل، اما اذا قاتلهم غيرهم فهنا تكون المشكلة ويقع المحظور من: ان «ظلم» ذوي القربى اشد مضاضة، فما بالك بهم لو انهم قتلوا؟!