مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
واشنطن وتل أبيب.. مَنْ يلعب بمن؟
هويدي 29-4-2002

لم يكن الكلام أصلاً للنشر. على الأقل فتلك كانت رغبة محدثي الأمريكي الخبير بما يجري في كواليس واشنطن، الذي ظل لمدة 90 دقيقة يتحدث بمرارة شديدة عن صراعات القوى في الادارة الأمريكية، التي وصفها بأنها من نماذج صراعات السلطة في العالم الثالث، ثم استدرك قائلاً ان نتائجها أخطر بكثير، لأن أمثال تلك الصراعات في العالم الثالث عادة ما تكون حول الاستئثار بالسلطة أو الثروة ـ أو بهما معاً ـ ولا يكون لها تأثير يذكر خارج الحدود. أما في الحالة الأمريكية فصراع مراكز القوى في حالة الرئيس بوش بوجه أخص يؤثر على السياسة الخارجية، ويتجاوز حدود البلاد بطبيعة الحال.
خص صاحبنا الرئيس بوش بالاشارة، لأنه ـ حسب قوله ـ أجهل من تولى منصب الرئيس في التاريخ الأمريكي، وهو رئيس الصدفة بامتياز، حيث لم يخطر على باله ـ أو حتى بال المحيطين به ـ انه يمكن أن يصلح لأكثر من أن يكون حاكماً لاحدى الولايات، وحين شغل المنصب في تكساس. فقد اعتبر كل من يعرفه انه حقق نهاية أحلامه، مستفيداً من موقع أسرته المالي فضلاً عن كونه ابناً للرئيس الأسبق. من ثم فقد توقع له هؤلاء أن ينصرف بعد ذلك الى اهتماماته الأساسية التي توزعت بين الموسيقى ولعب البيسبول. لكن حدثت المفاجأة الكبرى ولعبت الصدفة دورها، وأصبح حاكم تكساس رئيساً للولايات المتحدة، في غفلة من الزمن.
وبسبب انعدام خلفيته واهتماماته السياسية، ومحدودية ذكائه في الوقت ذاته، فقد أصبح «لعبة» ـ الوصف من عنده ـ في أيدي المحيطين به. ودلل محدثي على بساطة الرئيس الأمريكي وسذاجة تفكيره انه قرأ في عام 2001 كتاباً بعنوان «شرقاً إلى تارتري»، أي إلى الجحيم، لمؤلفه روبرت كابلن، وهو ما رسخ في ذهنه فكرة ان في العالم الخارجي مجتمعات ودولاً شريرة يجب قهرها. وذلك يسر على عناصر اليمين الأصولي والصهيوني المحيطين به مهمة اقناعه بحكاية «محور الشر» التي ترددت لاحقاً في خطبه وتصريحاته.
باختصار كانت الصورة التي رسمها الخبير الأمريكي للرئيس بوش ليست قاتمة فحسب، وانما ميئسة أيضاً، حتى قال انه كان يدعى لبعض الاستشارات والمناسبات في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، لكنه لم يعد يستجيب لها، بعدما اعتبرها مضيعة للوقت، في ظل وجود ادارة (أمريكية) ميئوس منها.
في السياق ذكر محدثي تفصيلات كثيرة حول مظاهر «اللعب بالرئيس» في البيت الأبيض، وقال انها للعلم فقط وليس للنشر، معتبراً أن الذين يكتبون في الشأن السياسي الأمريكي يجب أن يكونوا على وعي كاف بالخرائط والمعادلات السياسية في واشنطن، ومدركين ان المشهد في البيت الأبيض الآن مختلف تماماً عن كل ما سبقه.
طبقاً للأعراف المتبعة في المهنة، فانني احتفظت لنفسي بما قال، واعتبرت أن حقي لا يتجاوز الافادة من الصورة الكلية التي رسمها، دون التفاصيل التي ذكرها. لكني فوجئت حين قرأت المقال الافتتاحي للعدد الأخير من مجلة «نيوزويك» بأن المعلومات التي ذكرها صاحبنا منشورة بالأسماء والتواريخ والتفصيل الذي أحسبه لم يخف شيئاً، بل أضاف معلومات أخرى مهمة. ازاء ذلك اعتبرت انني أصبحت في حل مما الزمت نفسي به، ووجدت أنني لن أنتهك الأعراف والتقاليد في المهنة لو قدمت للقارئ خلاصة لما تضمنته مقالة «نيوزويك»، باعتبار أنه بعد النشر أصبح مباحاً وفي متناول كل الناس.
كاتب المقال الافتتاحي الذي ورد في الطبعة العربية للمجلة هو، فريد زكريا (أمريكي من أصل هندي)، وقد استهله بالاشارة الى أن الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت حرباً داخلية مريرة (في كواليس الادارة الأمريكية) أسفرت عن سياسة خارجية عقيمة، وعن تآكل المصداقية الأمريكية في العالم. ثم استطرد قائلاً: عندما بدأت اسرائيل احتلالها للضفة الغربية في 3/30، كان تعليق الرئيس بوش: أتفهم تماماً حاجة اسرائيل للدفاع عن نفسها. وحينما كبر حجم الاعتداء وازدادت حدته وتكاثرت الاحتجاجات في شوارع العالم العربي، غير البيت الأبيض من لغة خطابه. ففي 4/4 وقف بوش مع كولن باول في حديقة الورود، وأعلن عن سياسة جديدة، حيث دعا بوش عرفات الى ادانة الارهاب (بعد أن حمله المسؤولية عنه)، كما حث اسرائيل على «وقف الغزو وبدء الانسحاب».
بعد يومين، وحين تبين أن اسرائيل لم تعر دعوة بوش سوى أهمية ضئيلة، قال الرئيس الأمريكي في اشارة ذات مغزى أنه كان يقصد «الانسحاب بلا تأخير». وفي اليوم التالي، بينما كان وزير الخارجية كولن باول يتأهب لمغادرة واشنطن في زيارته للشرق الأوسط، سأل الاعلامي دولف بليتزر من شبكة «سي. إن. إن» مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس: هل أنتم مستعدون لمنح الاسرائيليين بضعة أيام، للبدء بانسحاب عسكري منظم؟ فأجابته رايس: «لا، بلا تأخير تعني بلا تأخير، أي الآن». ـ وعندما أعلنت اسرائيل بعد يومين انها ستنسحب من مدينتين في الضفة، وصف بوش ذلك الاعلان بأنه «بداية»، وأضاف أنه «على الاسرائيليين أن يواصلوا انسحابهم» ـ وبطبيعة الحال فانهم لم يفعلوا شيئاً! أضاف الكاتب بعد ذلك ما قصه: في ذلك الحين كان كل من وزارة الدفاع ومكتب نائب الرئيس قد أعلن الحرب على سياسة الرئيس. فبعدما نصحا البيت الأبيض بتجاهل المسألة الاسرائيلية ـ الفلسطينية لمدة 15 شهراً ـ وقد ثبت أن هذه النصيحة كانت خطأ فادحاً ـ فانهما أصبحا عازمين على إفشال مهمة باول، فقد أوصيا الرئيس بالتوقف عن الادلاء بتصريحات تدعم وزير الخارجية. وانحرف الكونغرس عن موقفه، حيث سارع الديموقراطيون والجمهوريون الى الوقوف الى جانب شارون بدلاً من بوش. وضغط اليمين المسيحي والمحافظون الجدد على البيت الأبيض ضغطاً مستمراً، مدينين باول الذي كان يجتمع بالزعماء الأجانب (!).
ـ نجحت خطتهم فتراجع البيت الأبيض. وبحلول 4/11، قال آري فلايشر المتحدث باسم البيت الأبيض ان «الرئيس يعتقد أن أرييل شارون هو رجل سلام». وتوقفت التصريحات الداعية إلى الانسحاب أو الداعمة لباول. وفي 4/15 أرسل البيت الأبيض نائب وزير الدفاع بول وولفويتز لالقاء كلمة أمام تجمع يهدف الى حث اسرائيل على عدم الانسحاب، في اللحظة ذاتها التي كان وزير الخارجية في القدس، يدعو اسرائيل إلى الانسحاب (!).
ولأن شارون يعرف واشنطن ويفهم اشاراتها، فقد أدرك أن باول في موقف سيئ، ولذلك فلم يعتن بابلاغه بأنه قرر الانسحاب من مدينتين أخريين، وفضل أن يعلن ذلك لاحقاً على قناة «سي. إن. إن»، الأمر الذي سبب حرجاً بالغاً لوزير الخارجية الأمريكي. ورغم أن مختلف الشواهد دلت على فشل مهمة كولن باول وهزيمة السياسة الأمريكية في المنطقة، فان الرئيس بوش قرر أن يسمي الهزيمة انتصاراً، مما زاد في غموض سياسته. ففي 4/17 كرر قوله ان شارون رجل سلام، وأصر على أن اسرائيل قد أعارت دعوته الى الانسحاب اهتمامها. ثم قال انه «يتفهم» الحاجة إلى استمرار حصار رام الله. وقد ناقض كلامه هذا بوضوح الخطاب الذي سبق أن ألقاه في حديقة الورود ـ قبل 13 يوماً من تاريخ هذا الخطاب ـ والذي دعا فيه إلى انسحاب اسرائيلي فوري «من المدن الفلسطينية ـ بما فيها رام الله».
أحسب أن الفكرة التي قدمها الكاتب ليست جديدة على القارئ العربي، الذي أصبح يعي جيداً أن من يسمون بالصقور وعلى رأسهم نائب الرئيس تشيني هم الذين يديرون دفة السياسة الأمريكية، وأن وزير الخارجية كولن باول دوره مهمش في القرار السياسي. وهو لا يظهر في الصورة إلا من باب التجمل فحسب. الجديد الذي يقع المرء عليه في النص يتمثل في التفاصيل المذكورة، وفي مستوى الصراع الذي وصل إلى حد اذلال وزير الخارجية واهانته (عنوان لمقاله هو: اذلال كولن باول)، ثم في الجرأة التي تمارسها قوى اليمين الأصولي والصهيوني في الادارة الأمريكية، التي بلغت حد الانحياز إلى شارون ضد بوش، وتوجيه نائب وزير الدفاع الصهيوني المتعصب بول وولفويتز (يهودي) لالقاء كلمة أمام تجمع لحث اسرائيل على عدم الانسحاب، بينما كان وزير الخارجية كولن باول في القدس يدعوها للانسحاب! ظاهر الأمر أن قوى اليمين والعناصر الصهيونية تلعب فعلاً بالرئيس بوش، لكن حقيقة الأمر أن اسرائيل هي التي تلعب بالجميع، وتستثمر الصراع لصالحها في نهاية المطاف.
أضافة تعليق