مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رسالتان من موسكو وجاكرتا
هويدي 28-10-2002

السؤال الصعب الذي كثيرا ما يغيب في مواجهة مشاهد العنف التي تتلاحق أمام اعيننا بين الحين والآخر هو: لماذا؟ سؤال صعب على السائل كما انه صعب على المجيب. فالسائل قد يتهم في مقاصده، فيفهم سؤاله باعتباره نوعا من التبرير، رغم ان المطلوب بشدة في مثل هذه الحالات هو عمق الفهم وسبر الأغوار، إما لاستئصال جذور الظاهرة أو لتفادي احتمال تكرارها، وهو صعب على المجيب اذا ما اراد أن يكون صادقا، فقد يجد نفسه مكرها على أن يمارس نوعا من النقد الذاتي، ومن ثم يجهر بما لا يجب.
ان ادانة العنف موقف يجب الجهر به واعلانه في كل مناسبة شريطة الا يتم ذلك بطريقة انتقائية تعمد الى التنديد بالعنف اذا مارسه افراد أو جماعات، وغض الطرف عن عنف الانظمة والمؤسسات. لكن الادانة يجب أن تظل خطوة أولى وليس خطوة أخيرة، نعم هناك جهات يتعين عليها أن تطبق القانون، وتحاسب كل من اعتدى عليه، لكن ازعم ان أصحاب الرأي لهم مهمة أخرى لا شأن لها بالمحاسبة، اذ ان دورهم أكبر في عملية التحليل وسبر الاغوار، والاجتهاد في البحث عن اجابة على السؤال لماذا؟ ومن اسف ان كثيرين من حملة الاقلام استسهلوا الجلوس على منصة المحاكمة، والقيام بدور الادعاء أو القضاة، ولن اتحدث عن الذين آثروا أن يقوموا بدور رجال الشرطة او المرشدين.
سأتخير هنا نموذجين للعنف الذي اعنيه، أولهما ما جرى في موسكو، حيث احتجز بعض الشيشانين (ما بين 20 إلى 40 شخصا) أكثر من سبعمائة شخص في أحد مسارح العاصمة واعلنوا انهم لن يطلقوا سراحهم، وقد يقتلونهم واحدا تلو الآخر، ما لم تعلن الحكومة الروسية انسحاب قواتها من أراضي جمهوريتهم، أما النموذج الثاني فهو ذلك التفجير المروع الذي حدث في أحد ملاهي جزيرة بالي الاندونيسية وأدى الى مصرع 190 شخصا أغلبهم من الأجانب.
لست متجاهلا ما جرى في اسرائيل، حيث نجح شباب حركة الجهاد الاسلامي أخيرا في تفجير حافلة اسرائيلية أغلب ركابها من الجنود، في عملية استهشادية جريئة، أدت الى مصرع 15اسرائىليا واصابة خمسين آخرين، فضلا عن استشهادية الشابين بطلي العملية، بطبيعة الحال، اذ على الرغم من ارتفاع عدد ضحاياها، ومن أهمية الرسالة التي وجهتها الى الغطرسة الاسرائيلية، فإنني أتصور ان خلفياتها مفهومة ومبررة، ناهيك من انها وان تضمنت عنفا الا ان التسمية الصحيحة لها ليست كذلك، ونحن نخطىء خطأ جسيما، موضوعيا وسياسيا وتاريخيا، اذا لم نضع العملية في اطارها الصحيح، من حيث كونها مقاومة مشروعة في مواجهة احتلال غاشم، لم يتوقف يوما عن قتل وتدمير حياة الفلسطينيين العزل.
في ما يتعلق باحتجاز الشيشانيين للرهائن في مسرح موسكو، فإنني مع كل ما ادان تعريض ارواح الابرياء للخطر، بل ازعم انها عمل شنيع، ما كان ينبغي ان يقدم عليه الشيشانيون، غير أننا اذا تجاوزنا نقطة استبشاع ما جرى وإدانته، وحاولنا أن نجيب على السؤال: لماذا لجأ الشيشانيون الى القيام بعملية من هذا القبيل، فإن حقائق عدة ستظهر أمامنا في مقدمتها ما يلي:
ان الشعب الشيشاني يشعر بالقهر من جراء الهيمنة القيصرية والسوفياتية والروسية، التي دامت لأكثر من 250 عاما، ويتطلع الى استرداد حريته التي سلبت، وكرامته التي ديست.
ان الوضع الخاص لجمهورية الشيشان، كإحدى الجمهوريات التي تتمتع بالحكم الذاتي، سواء في ظل الاتحاد السوفياتي أو روسيا الاتحادية، لم يشبع تطلعات الشيشانيين في الحرية والكرامة.
ان الشيشانيين حينما سعوا منذ عام 91 للانفصال ومقاومة الهيمنة الروسية ثم اعلنوا استقلالهم في 1994ووجهوا بحملة قمع شديدة وقاسية، لم تقف عند احباط الانفصال، ولكنها استهدفت كسر ارادة الشيشانيين وتركيعهم وجعلهم عبرة لكل من تسول له نفسه أن يفكر في الانفصال عن السيطرة الروسية من أبناء الجمهوريات الاسلامية الأخرى، خصوصا في منطفة القوقاز.
ان الروس حينما نجحوا بصورة نسبية في انهاء التمرد والانفصال لجأوا الى تشديد قبضتهم على الاراضي الشيشانية، فكثفوا من وجودهم من ناحية، ومن الاجراءات القمعية من ناحية أخرى، الأمر الذي ضاعف من مشاعر الغضب والثورة لدى الشيشانيين، ومن ثم عمق من الفجوة بين الجانبين ولم يغير من ذلك ان موسكو استعانت ببعض الشيشانيين، الذين لم يكونوا سوى حفنة من العملاء الذين كان تمثيلهم لموسكو أقوى من تمثيلهم للشعب الشيشاني.
ان القيادة الروسية وقد آثرت من البداية سحق الشيشانيين مستخدمة في ذاتها تفوقها العسكري واسلحتها التي فتكت بالناس ودمرت العمران، فإنها انتهزت فرصة شن الولايات المتحدة ما سمي بالحملة الدولية لمكافحة الارهاب، واعتبرت المقاومة الشيشانية ارهابا يجب القضاء عليه، واستفادت موسكو من تلك الاجواء، ومن التأييد العالمي لحملة مكافحة الارهاب، فأغلقت الملف الشيشاني، ورفضت أى تفاهم مع قادة المقاومة الشيشانية، قبل ان يلقوا السلاح ويسلموا أنفسهم لممثليها العسكريين.
ازاء انسداد الأفق على ذلك النحو فقد الشيشانيون أي أمل في تحقيق شيء مما تطلعوا اليه ومع انشغال الدول الكبرى بمكافحة الارهاب وبالتطورات الحاصلة على أرض فلسطين، فقد تراجع الملف الشيشاني الى الظل حتى كاد ينسى تماما، ورغم ان المقاومة الشيشانية لم تتوقف والاشتباك مع القوات الروسية كان له ضحاياه باستمرار الا انه مع تراجع أولوية الملف، فإن وقائع ذلك الاشتباك لم تعد تحظ بما تستحقه من أهمية، حتى بدت وكأنها أخبار كوكب آخر، ازاء ذلك حل اليأس بالشيشانيين، واختاروا اللجوء الى تلك العملية الانتحارية الكبيرة في قلب موسكو، التي لن تجلب لهم الاستقلال بطبيعة الحال، ولكنها ستلفت انظار الجميع الى القضية، وقد تستدعي الملف وتضعه في بؤرة الاهتمام العام مرة أخرى.
لا أظن ان الشيشانيين تصوروا انهم سيحصلون على استقلال بلدهم بهذه الطريقة، كما استبعد ان يكونوا قد توقعوا امكانية انسحاب القوات الروسية كمقابل لاطلاق سراح رهائن المجمع الثقافي، لكنني أذهب الى انهم بما فعلوه ارادوا ان يذكروا العالم بقضيتهم، على غرار ما فعله بعض الفلسطينيين في السابق للفت انظار العالم الى قضيتهم من خلال خطف بعض الطائرات.
لقد سدت موسكو كل المنافذ أمام الشيشانيين، وتصورت انها بقوتها العسكرية الكاسحة تستطيع أن تقهرهم وان تجهض الحلم الذي يراودهم منذ قرنين ونصف قرن من الزمان، وحين اوصلتهم الى اليأس حدث ذلك المشهد المأساوي الذي هز موسكو وخطف ابصار العالم في نهاية الاسبوع الفائت، ولأن الأمر كذلك، فإنه ما لم تغير موسكو سياسة القهر «الشاروني» الذي تتبعه بحق الشيشانيين، فلن يحتاج المرء الى جهد لكي يتوقع أن تتكرر أمثال تلك الحوادث المروعة، ليس فقط لأن تلك نتيجة منطقية، ولكن ايضا لأن دروس التاريخ تدل على ذلك وتؤكده، وفي فلسطين عبرة لمن يعتبر، حيث تبت ان القهر والظلم لا يقيم سلاما، وانما يغذي بذور الغضب ويزرع الغاما لا نلبث أن تنفجر تباعا. لقد انتهت عملية مسرح موسكو بتلك النهاية المأساوية التي تابعها الجميع، لكن ذلك لن يكون نهاية المطاف، واذا كان الشيشانيون قد بعثوا الى الجميع برسالة من خلال ماقاموا به، فانه يظل من المهم للغاية أن يتم تسلم الرسالة وأن يستوعب درسها ومغزاها قبل فوات الأوان.
ما جرى في جزيرة بالي لا يزال محاطاً ببعض الغموض، الا أن الاشارات التي خرجت من العاصمة الإندونيسية ربطت بين التفجير وبين أنشطة بعض الجماعات الاسلامية في البلاد. وبصرف النظر عما اذا كان ذلك سيثبت على نحو أكيد أم لا، فالقدر المتيقن ان السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة ازاء قضايا العالم الاسلامي، وبوجه أخص قضية فلسطين، اثارت مشاعر المسلمين في كل مكان. ولأن مسلمي دول الأطراف أكثر حساسية ازاء أي عدوان يقع على المسلمين ومقدساتهم، فان أي مراقب متابع لواقع المسلمين في تلك البلدان بوسعه أن يدرك مدى السخط والغضب المترسب في أعماق الكثيرين هناك، من جراء المواقف الأميركية التي تستهتر بمشاعر المسلمين في فلسطين كما في أفغانستان. ولا ينبغي أن نسقط من الاعتبار صدى عمليات القمع الوحشي الذي يمارسه الاسرائيليون بحق الفلسطينيين، في أوساط مسلمي تلك الأقطار، الذين يرون عبر الفضائيات اخوانهم في فلسطين يفترسون كل يوم، بينما المسجد الأقصى يدنسه الاحتلال الاسرائيلي، ويتم ذلك بغطاء ودعم أميركيين.
عبر الكاتب البريطاني باتريك سيل عن هذه الفكرة في مقالة نشرتها له صحيفة «الحياه» في 18/10 الحالي، استشهد خلالها بما كتبه في الموضوع محلل سياسي اندونيسي مرموق هو يوسف ونندي مؤسس مركز جاكرتا للدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي نشرت له صحيفة «جاكرتا بوست» تعليقاً حذر فيه من أنه ما لم تمارس أمريكا سياسة أكثر توازناً في النزاع العربي ـ الاسرائيلي فان القادة المسلمين المعتدلين في جنوب شرقي آسيا سيجدون صعوبة في مواجهة نفوذ المسلمين الراديكاليين على الرأي العام المحلي. وجاء في المقال قوله: «ان الناس يشاهدون كل يوم قمع اخوانهم المسلمين واهانتهم واذا ما هاجمت أميركا العراق ستتحول النقمة الى حقد وكراهية حقيقيين.
هذه النظرة تجد صداها في تقرير أعده فيليب باورنغ، أحد أهم المراقبين على الساحة الآسيوية ونشرته جريدة «هيرالد تريبيون» جاء فيه ان سياسة واشنطن نحو العراق لا تلاقي إلا القليل من التأييد شرق آسيا.. فقد ألحق الخطاب الحربي ضرراً بالغاً بصورة أميركا ومن الصعب أن تجد بين الآسيويين من يصدق بأن صدام يهدد اميركا أو أن للولايات المتحدة الحق فى أن تفرض تغيير النظام.
وتابع: هناك شعور عدائي واضح لدى المسلمين في آسيا نحو مايشاهدون من حملة عدائية سافرة يشنها الأصوليون المسيحيون اضافة الى العناصر المناصرة لاسرائيل في واشنطن.
من جانبه قال باتريك سيل انه بدلاً من الاعتراف بالأسباب الجذرية للارهاب سعى معظم الأميركيين الى لوم المجتمعات العربية والاسلامية على ماوقع من هجمات، ووصفوها بأنها «دول عاجزة» و«متأصلة في الشر» بسبب ارتباطها بدين «عنيف» هو الاسلام، ومعارضتها للغرب ولإسرائيل.
وعلق على ذلك قائلاً ان واشنطن ونتيجة للتحليل الضيق، فانها بدلاً من أن تغير سياستها، فانها استعاضت عن ذلك بمحاولتها تغيير الأنظمة العربية، ثم انها وهي تكافح الارهاب عمدت الى استخدام القوة العسكرية دون سواها، الأمر الذي كانت له أصداؤه السلبية في العالم الاسلامي. وماجرى في بالي ومايحدث في أقطار آسيوية أخرى ليس سوى نتاج تلك السلسلة من الأخطاء لكنهم لا يعتبرون.
أضافة تعليق