مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
كي نحسن قراءة الإسلام السياسي
هويدي 28-8-2000

سواء بسبب الصراع الحاصل حول الممارسة الديموقراطية في ايران أو الانتخابات النيابية المفترض اجراؤها في مصر بعد شهرين، فالجدل حول «الاسلام السياسي» اصبح يحتل مكانا ملحوظا في الخطاب الاعلامي العربي، واصبح احد أهم الاسئلة المطروحة في هذا الصدد هو ذلك الذي ينصب على واقع ومستقبل الاسلام السياسي.
أحدث ما قرأت من كتابات حول الموضوع مقالة نشرتها «الشرق الاوسط» في الاسبوع الماضي «يوم 8/20» وجدتها نموذجية في التعبير عن وجهة النظر المخاصمة للتيار الاسلامي، التي لا ترى له مستقبلا، وتعتبره صاحب مشروع تسلطي واستبدادي، مرشح للانقراض، ولست هنا في صدد مناقشة حجج المقالة ومحتواها، فهي لم تضف شيئا الى ما تردده ابواق معينه منذ عقدين من الزمن.
واحتالت على ذلك بتوجيه السهام الى ما يسمى بالاسلام السياسي، وهو الوصف المبتدع الذي اريد به وصف وحصار كل دعاة مشروع النهضة الاسلامي. غير أني وجدت المقالة تجسد العديد من الاخطاء التي يقع فيها الناقدون والكارهون لمجمل التوجه الاسلامي، من ثم فقد اعتبرت انها فرصة لتسليط الضوء على تلك الاخطاء، التي ينصب اكثرها على المعلومات والمنهج، لظني ان المعلومات الخاطئة، والمنهج المعوج من شأنهما أن يمهدا لاستخلاص النتائج البائسة والمضللة، هذا اذا افترضنا ان المطلوب اجراء تقييم موضوعي يعتمد على المعلومات الصحيحة والمنهج القويم.
لست في وارد اثبات ان الذين يرفعون رايات المشروع الاسلامي مبرؤون من كل نقيصة، ولا ان تجاربهم لا يأتيها الباطل من خلف أو أمام، وانما كل الذي ارجوه ان يعامل هؤلاء باعتبارهم ناسا من الناس فيهم الصالح والطالح، كما ان تجاربهم لها نجاحاتها واحباطاتها وهي خاضعة للنقد والمراجعة، وهو ما اعتبره مقدمة لقائمة الاخطاء المنهجية والمعلوماتية التي اريد التنبيه اليها في هذا المقام.
لن اقف طويلا امام الخطأ في المصطلح ذاته، لانه لا يوجد اسلام سياسي وآخر غير سياسي، فالاسلام منذ نزل كان رؤية للكون ونظاما للحياة أرسى مجموعة من القيم والقواعد الحاكمة لمختلف الانشطة، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغير ذلك، ويتعذر على المسلم الحق ان يؤمن ببعض التعاليم وينكر بعضها، ومن ثم ان يقبل بحضور للاسلام في بعض نواحي حياته ثم يسقط ذلك الحضور أو يلغيه في نواح اخرى، وان احتمل الامر تنوعا أو اختلافات في ترتيب الاولويات، حسب مقتضى الحال في كل مكان. ومع ذلك فقد نجح الاعلام القوي في اضافة المصطلح الى لغة خطابنا حتى تحول الى نوع من الخطأ الشائع الذي تتناوله الالسنة رغم ادراك الخلل البنيوي فيه.
يتفرع عما سبق خطأ آخر، يتمثل في اختزال المشروع الاسلامي في العمل السياسي، واختزال العمل السياسي في الوصول الى الحكم والتمكن من السلطة وهو ابتسار معيب يهون كثيرا من شأن المشروع الاسلامي، الذي قلت توا انه يتجاوز بكثير حدود العمل السياسي وازعم أن ذلك الاختزال ليس كله بريئا، وان بعض دوافعه ليست فوق الشبهة، كما اشرت توا، واذهب في هذا الصدد الى ان الشأن السياسي لا يحتل رأس قائمة مهام ذلك المشروع، لان الشق التربوي والاخلاقي والاجتماعي يتقدم عليه بامتياز.
الخطأ الثالث يتمثل في التعامل مع الاسلاميين باعتبارهم كتلة واحدة، الامر الذي تلغى فيه كل التمايزات الطبيعية المفترضة، سواء على المستوى القطري أو المستوى الفكري وذلك منطق مدهش للغاية، يسقط دور الجغرافيا والتاريخ، وكل عناصر الخصوصية الثقافية والحضارية التي تتوافر لكل قطر، كما يلغي تضاريس وحدود المدارس الفكرية التي توجد في كل مجتمع انساني طبيعي.
وأي باحث مبتدىء في علم الاجتماع يدرك جيدا ان اختلاف المجتمعات والافكار والمذاهب مؤد بالضرورة الى اختلاف التجارب السياسية في كل بلد عن نظائرها في البلد الاخر، وأن تلك التجارب والخبرات لا تختلف من بلد الى بلد فحسب، وانما من الطبيعي ان تختلف ايضا داخل البلد الواحد. فالتجربة السنية مختلفة بالضرورة عن التجربة الشيعية في ايران، والجزائر تختلف عن المغرب، والقطران يختلفان عن مصر والسعودية والاردن، مثلا، وفي داخل كل قطر هناك المعتدلون والمتطرفون والذين هم بين بين، ليس في الشأن الاسلامي وحده وانما في كل مجالات العمل العام.
امثال تلك البديهيات المستقرة، يسقطها ويهدرها بعض الناقدين، بحيث يتكلمون عن «الاسلام السياسي» بحسبانه تلك الكتلة الصماء التي تمتد من افغانستان الى الجزائر، ومن غانا الى فرغانا! ان المرء لا يستطيع ان يفترض البراءة في من يعممون فكرة ولاية الفقيه مثلا، وهي خصوصية شيعية صرفة، على مجمل العالم الاسلامي، بذات القدر فمن السخف المشبوه أن تعد تجربة «طالبان» في افغانستان نموذجا للاسلام السياسي، أو ان تعد الجماعة الاسلامية المسلحة في الجزائر نموذجا للحركات الاسلامية، ولانستطيع ان نحاكم الامة بسبب فشل الجبهة الاسلامية في السودان في ارساء الديموقراطية في البلاد، اذ يظل ذلك الفشل محسوبا على الجبهة وحدها، ومن غير المعقول ان يتحمل مسؤوليته الناشطون الاسلاميون حيثما وجدوا.
الخطأ الرابع الذي يقع فيه هؤلاء انهم يتعاملون مع الحركات الاسلامية وكأنها كيانات متفردة هبطت من السماء، معزولة ومقطوعة الصلة بالواقع المحيط بها وذلك خلل منهجي جسيم، لان تلك الحركات هي في حقيقة الامر نتاج للواقع الذي نشأت فيه، أو استجابة لمتطلبات ذلك الواقع، فالحركات التي نشأت في المجتمعات الصحراوية مختلفة عن نظيراتها في المجتمعات الزراعية، والتي تشكلت في اجواء ديموقراطية مختلفة عن تلك التي ترعرعت في مجتمعات خاضعة لانظمه شمولية أو استبدادية.
ولكم تمنيت ان يجري احد الباحثين دراسة حول توجهات الجماعات السياسية التي نشأت في ظل انظمة ديكتاتورية، وكيف ان جنوح بعضها الى التطرف كان من ثمار ممارسات القمع والاقصاء السياسي الذي تتعرض له بعض المجتمعات بصفة دورية.
الخطأ الخامس يتمثل في تعميم بعض الافكار التي افرزتها تجارب العقود الاخيرة على مجمل تاريخ الاحياء الاسلامي، ولعل فكرة «التكفير» تعد نموذجا لذلك، حيث لا يصبح التكفير مطروحا في ساحة العمل الاسلامي الا خلال العقود الثلاثة الاخيرة وفي العصر الحديث، فنحن لا نعرف حركة اسلامية معتبرة في العالم العربي أو خارجه استخدمت سلاح التكفير، الذي لم يظهر الا في ستينيات القرن العشرين.
في مقام اخر قلت ان التكفير السياسي كان سابقا على التكفير في الدين، أو حين تكدس الاقصاء السياسي، واصبح «كل من تحزَّب خان» وتعين علينا ان نصبح «كلنا هيئة التحرير»، وغدا كل من ليس معنا سياسيا ساقط الاعتبار وخارجا على الامة وعلى الملة السياسية! حين حدث ذلك، وتلقت بعض مجتمعاتنا دروسا في نفي الاخر واستئصاله، لم يكن مفاجئا ولا غريبا ان تظهر اجيال في وقت لاحق، تمارس الاقصاء والنفي على طريقتها، وتعتبر كل من ليس على ولاء «لجماعتنا» مطرودا بدوره من الملة الدينية وكافرا «بالثلاثة».
الخطأ السادس ان هؤلاء يصرون على ان اصحاب المشروع الاسلامي جميعا يعانون من التخلف العقلي والعيوب الفكرية الخلقية، وهو اصرار مدهش يدين واقعنا بقدر ما يدين الاسلاميين لان المجتمعات التي لا تفرز الا تلك الكيانات البائسة والمشوهة لا بد أن يكون فيها شيء منحرف اصلا، لا بد ان تكون من السوء بدرجة جعلت افرازها بذلك البؤس! انهم يصرون على رؤية احد اوجه الحقيقة، ويتجاهلون وجوهها الاخرى خصوصا تلك التي تعد اكثر اعتدالا واحتراما، وقد اشرت في الاسبوع الماضي، وفي كتابات اخرى عديدة الى بعض ملامح تلك الاوجه التي تشكل مساحات متزايدة من رقعة العمل الاسلامي المعاصر.
ان الحكم على المشروع الاسلامي استنادا الى تجربة «طالبان» في افغانستان مثلا، لا يقل في خطئه وفساده عن الحكم على الديموقراطية من خلال التجربة العلمانية في تركيا، والغاء كل رصيد التجربة الاسلامية، بما في ذلك الحضارة العظيمة والتراث الفكري والفقهي الجليل، جرم يعادل اسقاط كل انجازات التجربة الديموقراطية في الغرب.
ان هناك متطرفين بين الاسلاميين حقا، لكننا يجب ان نلاحظ ان ثمة تطرفا علمانيا بالمقابل، وواجب المخلصين العقلاء ان يواجهوا التطرف على الجانبين، لا ان ينشغلوا بطرف دون آخر، وفي الوقت ذاته عليهم ان يمدوا الايدي الى المعتدلين هنا وهناك، لا ان يعمدوا الى استئصال الجميع على أي جانب.
الخطأ السابع ان أولئك الخصوم يتصورون ان ظاهرة الاحياء الاسلامي هي الى انقراض، وهذا تصور مبني على التمني اكثر منه على ادراك حقائق الواقع، لان جذور الانتماء الاسلامي المستمرة منذ اكثر من 14 قرنا، اعمق بكثير مما يظنون، وهي ليست مستحدثة ولا طارئة كما يتوهمون ـ وذلك خطأ آخر ـ وانما يشكل الاسلامي ركيزة اساسية لهذه الامة، التي اصبح كيانها يرتبط به وجودا وعدما، من ثم فالانقراض الذي يرجوه هؤلاء لا يلوح خطره الا حين يتم تغييب الاسلام والغاء دوره.. والايام بيننا.
أضافة تعليق