هويدي 28-5-2001
في العشرين من شهر مايو (أيار) الحالي، كانت قد مرت سنة على وقف نشاط حزب العمل المصري، أحد أهم الاحزاب السياسية في البلاد. وفي اليوم التالي مباشرة صدر حكم القضاء بسجن الدكتور سعد الدين ابراهيم لمدة سبع سنوات، بعد ادانته في تهم التمويل الاجنبي والتربح ورشوة بعض موظفي الدولة. كما صدرت احكام اخرى بسجن عدد آخر من العاملين في مركز ابن خلدون، الذي اسسه، وتراوحت تلك الاحكام بين سنة واحدة وثلاث سنوات.
ليس هناك شبه يُذكر بين حالة حزب العمل وقضية الدكتور سعد الدين ابراهيم، الا اذا قلت ان مشكلة حزب العمل سياسية باطلاق، بينما قضية الدكتور ابراهيم قد تكون سياسية في جانب غير معلن، لكن ادانته هو ومن معه كانت بسبب ارتكابه مخالفات قانونية. ولا استبعد ان تكون تلك المخالفات بمثابة الذريعة التي جرى تصيدها، واستخدامها لتصفية الحسابات السياسية.
مع ذلك فالمقارنة بين القضيتين أو الملفين مسكونة ببعض المفارقات، منها مثلا ان جريدة «الشعب» الناطقة باسم حزب العمل، والتي اوقفت بدورها، كانت قد دأبت على مهاجمة الدكتور ابراهيم ومركزه من زاويتين، أولا: باعتبار ان مركز ابن خلدون اصبح احد قنوات ومراكز التطبيع مع اسرائيل. وثانيا: لان المركز الذي يعتمد بالكامل على التمويل الاجنبي مارس انشطة غذت المشاعر الطائفية والعنصرية في مصر، بالحاحه غير الصحي على المسألة القبطية وافتعاله لمشكلة النوبيين في مصر. وازاء هجوم جريدة «الشعب» على التطبيع والتمويل الاجنبي والدور المريب الذي كان يقوم به المركز، فان الدكتور ابراهيم رفع قضية على بعض كتاب الجريدة، ما زالت منظورة امام المحاكم حتى الان، ولم يُفصل فيها بعد. من تلك المفارقات ايضا، ان حزب العمل كان يمثل المعارضة العنيدة لسياسات الحكومة المصرية، بينما الدكتور سعد الدين ابراهيم كان يحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطة ويحظى برضى مشهود من جانب الحكومة، الامر الذي اتاح له ـ مثلا ـ ان يقدم برنامجا اسبوعيا على شاشات التليفزيون الذي تديره الدولة. وهو ما لا يمكن ان يتاح لأي مثقف معارض.
دفع حزب العمل ثمن معارضته وحملاته على رموز السلطة. فعلاوة على وقف الحزب وجريدته، فان رئيس تحرير الجريدة، الاستاذ مجدي حسين، واثنين من العاملين فيها حكم عليهم بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين وسنة، اما الامين العام للحزب، الاستاذ عادل حسين، فقد تعرض للسجن والملاحقة، الامر الذي اصابه في النهاية بانفجار في المخ، ادى الى وفاته. اما الدكتور سعد الدين ابراهيم فقد دفع ايضا ثمن مواقفه والاخطاء القانونية التي وقع فيها. ورغم ان اسباب الحكم بسجنه لم تعلن بعد، وبالتالي فاننا لسنا الان في موقف يسمح لنا بتحديد رأي في حيثيات القضية، الا انني اتمنى ألا يكون للجانب السياسي دور في الحكم عليه اكبر من دور المخالفات القانونية والجنائية. وفي كل الاحوال فان المرء لا بد ان يسجل شعوره بالحزن لايقاع عقوبة السجن بأي مثقف ويتضاعف ذلك الشعور لا ريب اذا كان للاسباب السياسية دور في معاقبته، ايا كان مقداره.
حين القي القبض على الدكتور سعد الدين ابراهيم واودع السجن اثناء التحقيق معه، كتبت في هذا المكان مقالة كان عنوانها «دفاع عن المواطن.. لا الدكتور»، وقلت صراحة انني رغم اختلافي الشديد معه في الفكر والموقف، ورغم انه كان دائما خصما كارها لمجمل التوجه الاسلامي، الا انني اقف على طول الخط مع حقه في معاملة انسانية تحفظ له كرامته، وحقه في محاكمة عادلة تتوفر فيها الضمانات القانونية التي تحميه وتبرئ ساحته.
هذا التزامن بين مرور سنة على وقف حزب العمل وجريدته، وبين اصدار الحكم على الدكتور سعد الدين ابراهيم، يغريني بمقارنة بين الحالتين على صعيد آخر، يتمثل اساسا في موقف الاعلام والمثقفين من كل منهما.
فقارئ الصحف العربية يلاحظ ان قضية الدكتور ابراهيم تصدرت صفحات بعض تلك الصحف، ومنذ القي القبض عليه وحتى هذه اللحظة، نُشرت عشرات المقالات تعقيبا على ما جرى، وتأييدا للرجل وتضامنا معه صار موضوعه بمثابة زاوية ثابتة في تلك الصحف. وحدث ذلك كله قبل ان يقول القضاء كلمته في ما هو منسوب للدكتور سعد الدين ابراهيم. اما حزب العمل، بكل وزنه ورصيده المعتبر في الشارع المصري، فان ما حل به قوبل بتجاهل شديد على مدار العام. ورغم ان الدكتور ابراهيم مثقف بارز الا انه في النهاية يظل فردا واحدا له تأثيره المتواضع في اطار النخبة، بينما حزب العمل يمثل كتلة سياسية مهمة في الشارع المصري. اما على صعيد المظلومية فهي اكثر ثبوتا في جانب حزب العمل، الذي اصدر القضاء حتى الان احد عشر حكما لصالحه، تطلب اعادة الحزب واطلاق سراح جريدته، وما زالت جهات الادارة متمسكة برفض الاثنين، وفي حالة الدكتور ابراهيم فان مظلوميته واردة، وليس مقطوعا بها، خصوصا ان الحكم الصادر ضده قابل للطعن فيه، ولم يصبح نهائيا بعد.
وانا لست ضد الاهتمام بشأن شخص يظن انه مظلوم، وليس عندي تحفظ على الاهتمام بمتابعة اخبار الدكتور ابراهيم وتوسيع نطاق التضامن معه، على الاقل في الشق السياسي من قضيته. انما ملاحظتي الاساسية تنصب على الانتقاء والتحيز في الدفاع عن «المظاليم»، بحيث تقوم الدنيا ولا تقعد دفاعا عن شخص بذاته من المظاليم، ثم يتم التعتيم والتجاهل لكيانات ورموز اخرى كبيرة، رغم ان الظلم الواقع بحقها من العيار الثقيل، وما حزب العمل الا نموذج واحد، ذكرته فقط بسبب التزامن الذي اشرت اليه، ولانه حزب كامل يضم عشرات الالوف من الاعضاء جرى اقصاؤهم من الساحة السياسية، ولو اتسع المجال لذكرت قائمة طويلة باسماء الرموز النقابية والمهنية الاثقل وزنا من الدكتور ابراهيم، وتعرضت لمظلومية مضاعفة، مرة لانهم سجنوا بتهم سياسية، ومرة ثانية حين تجاهلهم الاعلاميون والمثقفون وارتكبوا بحقهم مؤامرة صمت مدهش! من حق المرء ان يتساءل: لماذا تلك الضجة الكبيرة المثارة غضبا للدكتور ابراهيم، وذلك السكوت المريب ازاء ما جرى لحزب العمل، الذي لا يختلف اثنان انه أهم بكثير، من الناحيتين السياسية والموضوعية، من الدكتور ابراهيم ومركز ابن خلدون. واكرر انني لست ضد ما حظي به الرجل من اضواء واهتمام، وانما سؤالي منصب على تفسير استثناء حزب العمل وطي صفحته، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا في الحياة السياسية المصرية.
لن اشير الى المربع الذي يقف فيه كل منهما، وتقييمي من الناحية الوطنية وفي حسابات المصلحة القومية، وسأسهل الامر وأوافق من يقولون ان الدكتور حوكم وادين لاسباب سياسية، رغم اننا لا نعرفها بالضبط، وسأذهب الى أبعد قابلا بقول القائلين بان سجن الدكتور ابراهيم سبع سنوات فيه عدوان على الديموقراطية وحقوق الانسان، واسأل بعد ذلك: ألا يعد وقف حزب كامل ومنع جريدته من الصدور عدوانا ايضا على الديموقراطية وحقوق الانسان وإضعافا للمجتمع المدني؟
ولان الرد بالايجاب في الاغلب، حيث لا يعقل عند الراشدين ألا يعتبر وقف حزب شرعي وحجب صوته عدوانا على الديموقراطية، فلماذا اذن الكيل بمكيالين في هذه الحالة؟
اذا كان ذلك دفاعا عن الديموقراطية وحقوق الانسان، اعني انه اذا كان موقفا مبدئيا، فقد كان يتعين على الغيورين ان يعلنوا موقفا حازما، وان يتابعوا بنفس القدر من الاهتمام ما جرى لحزب العمل، لكن ذلك لم يحدث بدليل التجاهل الصارخ الذي اشرت اليه، بل انه في بعض الاحيان فان العكس هو ما جرى. اعني ان بعض المثقفين والقوى السياسية وقفوا الى جانب قمع حزب العمل، حتى ان احدهم كتب في صحيفة مصرية صبيحة يوم اجتماع لجنة الاحزاب التي قررت وقف الحزب والجريدة وقال صراحة: اننا لا نريد من اللجنة قرارا اقل من حل الحزب!، ولئن عبرت الصحف القومية في مصر عن الهوى السياسي، الا اننا وجدنا ان حزب التجمع اليساري وجريدته تبنيا عمليا موقف التحريض ضد الحزب وتشجيع تصفيته (صحح الحزب موقفه بصورة نسبية بعد وفاة الاستاذ عادل حسين)، الامر الذي يوحي بان الخصومات الفكرية والشخصية كان لها تأثيرها الاكبر، الذي كان على حساب المواقف المبدئية.
لست عضوا في حزب العمل، ولي ملاحظات عدة على خطابه، لكن ما يعنيني في اللحظة الراهنة هو تحرير موقف وسائل الاعلام والصوت العالي للمثقفين منه، مقارنا بموقف هؤلاء من قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم، وهل انطلق الموقف من التزام مبدئي أم من حسابات اخرى «تكتيكية»؟
ازعم ان الموقف في هذه الحالة لم يكن مبدئيا، وان تجاهل مظلومية وقمع حزب العمل له صلة بتوجهاته الاسلامية، وان الافراط في متابعة قضية الدكتور ابراهيم هو تعبير عن الاصطفاف العلماني الى جانبه واحتشاد الدوائر العلمانية النافذة وصاحبة الصوت العالي في دوائر المثقفين ووسائل الاعلام للدفاع عنه.
وليست هذه هي المرة الاولى التي يُضبط فيها اولئك النفر من المثقفين والاعلاميين «متلبسين» بالانتقائية والكيل بمكيالين، فلهم سوابق مشهورة في ذلك، حين ايدوا انقلاب العسكر على التجربة الديموقراطية الوليدة في الجزائر، لمجرد ان الفائز كان الجبهة الاسلامية للانقاذ، وحين هاجموا تطرف بعض الجماعات الاسلامية، والتزموا الصمت ازاء تطرف العديد من الانظمة والحكومات، وحين احتشدوا للدفاع عن سلمان رشدي ذات يوم، ورفضوا ان يضيفوا في بيانهم سطرا للدفاع عن سجناء الرأي من الناشطين الاسلاميين، وحين دافعوا عن تجريح الدين بحجة حرية الرأي، واحتشموا في مخاطبة السلاطين تزلفا وقربى.
ان الازمة ليست في الانظمة والحكومات فقط، لكننا يجب ان نعترف بانها طالت المثقفين ووسائل الاعلام ايضا، إذ حين نُكب هؤلاء بالاستقطاب العلماني ـ الاسلامي، فان هموم الوطن تراجعت، وتقدمت عليها الخصومات الفكرية والتصفيات المتبادلة، فخسر الطرفان، وخسر الوطن ايضا، ودفع الجميع ثمنا باهظا جراء ذلك.
في العشرين من شهر مايو (أيار) الحالي، كانت قد مرت سنة على وقف نشاط حزب العمل المصري، أحد أهم الاحزاب السياسية في البلاد. وفي اليوم التالي مباشرة صدر حكم القضاء بسجن الدكتور سعد الدين ابراهيم لمدة سبع سنوات، بعد ادانته في تهم التمويل الاجنبي والتربح ورشوة بعض موظفي الدولة. كما صدرت احكام اخرى بسجن عدد آخر من العاملين في مركز ابن خلدون، الذي اسسه، وتراوحت تلك الاحكام بين سنة واحدة وثلاث سنوات.
ليس هناك شبه يُذكر بين حالة حزب العمل وقضية الدكتور سعد الدين ابراهيم، الا اذا قلت ان مشكلة حزب العمل سياسية باطلاق، بينما قضية الدكتور ابراهيم قد تكون سياسية في جانب غير معلن، لكن ادانته هو ومن معه كانت بسبب ارتكابه مخالفات قانونية. ولا استبعد ان تكون تلك المخالفات بمثابة الذريعة التي جرى تصيدها، واستخدامها لتصفية الحسابات السياسية.
مع ذلك فالمقارنة بين القضيتين أو الملفين مسكونة ببعض المفارقات، منها مثلا ان جريدة «الشعب» الناطقة باسم حزب العمل، والتي اوقفت بدورها، كانت قد دأبت على مهاجمة الدكتور ابراهيم ومركزه من زاويتين، أولا: باعتبار ان مركز ابن خلدون اصبح احد قنوات ومراكز التطبيع مع اسرائيل. وثانيا: لان المركز الذي يعتمد بالكامل على التمويل الاجنبي مارس انشطة غذت المشاعر الطائفية والعنصرية في مصر، بالحاحه غير الصحي على المسألة القبطية وافتعاله لمشكلة النوبيين في مصر. وازاء هجوم جريدة «الشعب» على التطبيع والتمويل الاجنبي والدور المريب الذي كان يقوم به المركز، فان الدكتور ابراهيم رفع قضية على بعض كتاب الجريدة، ما زالت منظورة امام المحاكم حتى الان، ولم يُفصل فيها بعد. من تلك المفارقات ايضا، ان حزب العمل كان يمثل المعارضة العنيدة لسياسات الحكومة المصرية، بينما الدكتور سعد الدين ابراهيم كان يحتفظ بعلاقات طيبة مع السلطة ويحظى برضى مشهود من جانب الحكومة، الامر الذي اتاح له ـ مثلا ـ ان يقدم برنامجا اسبوعيا على شاشات التليفزيون الذي تديره الدولة. وهو ما لا يمكن ان يتاح لأي مثقف معارض.
دفع حزب العمل ثمن معارضته وحملاته على رموز السلطة. فعلاوة على وقف الحزب وجريدته، فان رئيس تحرير الجريدة، الاستاذ مجدي حسين، واثنين من العاملين فيها حكم عليهم بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين وسنة، اما الامين العام للحزب، الاستاذ عادل حسين، فقد تعرض للسجن والملاحقة، الامر الذي اصابه في النهاية بانفجار في المخ، ادى الى وفاته. اما الدكتور سعد الدين ابراهيم فقد دفع ايضا ثمن مواقفه والاخطاء القانونية التي وقع فيها. ورغم ان اسباب الحكم بسجنه لم تعلن بعد، وبالتالي فاننا لسنا الان في موقف يسمح لنا بتحديد رأي في حيثيات القضية، الا انني اتمنى ألا يكون للجانب السياسي دور في الحكم عليه اكبر من دور المخالفات القانونية والجنائية. وفي كل الاحوال فان المرء لا بد ان يسجل شعوره بالحزن لايقاع عقوبة السجن بأي مثقف ويتضاعف ذلك الشعور لا ريب اذا كان للاسباب السياسية دور في معاقبته، ايا كان مقداره.
حين القي القبض على الدكتور سعد الدين ابراهيم واودع السجن اثناء التحقيق معه، كتبت في هذا المكان مقالة كان عنوانها «دفاع عن المواطن.. لا الدكتور»، وقلت صراحة انني رغم اختلافي الشديد معه في الفكر والموقف، ورغم انه كان دائما خصما كارها لمجمل التوجه الاسلامي، الا انني اقف على طول الخط مع حقه في معاملة انسانية تحفظ له كرامته، وحقه في محاكمة عادلة تتوفر فيها الضمانات القانونية التي تحميه وتبرئ ساحته.
هذا التزامن بين مرور سنة على وقف حزب العمل وجريدته، وبين اصدار الحكم على الدكتور سعد الدين ابراهيم، يغريني بمقارنة بين الحالتين على صعيد آخر، يتمثل اساسا في موقف الاعلام والمثقفين من كل منهما.
فقارئ الصحف العربية يلاحظ ان قضية الدكتور ابراهيم تصدرت صفحات بعض تلك الصحف، ومنذ القي القبض عليه وحتى هذه اللحظة، نُشرت عشرات المقالات تعقيبا على ما جرى، وتأييدا للرجل وتضامنا معه صار موضوعه بمثابة زاوية ثابتة في تلك الصحف. وحدث ذلك كله قبل ان يقول القضاء كلمته في ما هو منسوب للدكتور سعد الدين ابراهيم. اما حزب العمل، بكل وزنه ورصيده المعتبر في الشارع المصري، فان ما حل به قوبل بتجاهل شديد على مدار العام. ورغم ان الدكتور ابراهيم مثقف بارز الا انه في النهاية يظل فردا واحدا له تأثيره المتواضع في اطار النخبة، بينما حزب العمل يمثل كتلة سياسية مهمة في الشارع المصري. اما على صعيد المظلومية فهي اكثر ثبوتا في جانب حزب العمل، الذي اصدر القضاء حتى الان احد عشر حكما لصالحه، تطلب اعادة الحزب واطلاق سراح جريدته، وما زالت جهات الادارة متمسكة برفض الاثنين، وفي حالة الدكتور ابراهيم فان مظلوميته واردة، وليس مقطوعا بها، خصوصا ان الحكم الصادر ضده قابل للطعن فيه، ولم يصبح نهائيا بعد.
وانا لست ضد الاهتمام بشأن شخص يظن انه مظلوم، وليس عندي تحفظ على الاهتمام بمتابعة اخبار الدكتور ابراهيم وتوسيع نطاق التضامن معه، على الاقل في الشق السياسي من قضيته. انما ملاحظتي الاساسية تنصب على الانتقاء والتحيز في الدفاع عن «المظاليم»، بحيث تقوم الدنيا ولا تقعد دفاعا عن شخص بذاته من المظاليم، ثم يتم التعتيم والتجاهل لكيانات ورموز اخرى كبيرة، رغم ان الظلم الواقع بحقها من العيار الثقيل، وما حزب العمل الا نموذج واحد، ذكرته فقط بسبب التزامن الذي اشرت اليه، ولانه حزب كامل يضم عشرات الالوف من الاعضاء جرى اقصاؤهم من الساحة السياسية، ولو اتسع المجال لذكرت قائمة طويلة باسماء الرموز النقابية والمهنية الاثقل وزنا من الدكتور ابراهيم، وتعرضت لمظلومية مضاعفة، مرة لانهم سجنوا بتهم سياسية، ومرة ثانية حين تجاهلهم الاعلاميون والمثقفون وارتكبوا بحقهم مؤامرة صمت مدهش! من حق المرء ان يتساءل: لماذا تلك الضجة الكبيرة المثارة غضبا للدكتور ابراهيم، وذلك السكوت المريب ازاء ما جرى لحزب العمل، الذي لا يختلف اثنان انه أهم بكثير، من الناحيتين السياسية والموضوعية، من الدكتور ابراهيم ومركز ابن خلدون. واكرر انني لست ضد ما حظي به الرجل من اضواء واهتمام، وانما سؤالي منصب على تفسير استثناء حزب العمل وطي صفحته، وكأنه لم يكن شيئا مذكورا في الحياة السياسية المصرية.
لن اشير الى المربع الذي يقف فيه كل منهما، وتقييمي من الناحية الوطنية وفي حسابات المصلحة القومية، وسأسهل الامر وأوافق من يقولون ان الدكتور حوكم وادين لاسباب سياسية، رغم اننا لا نعرفها بالضبط، وسأذهب الى أبعد قابلا بقول القائلين بان سجن الدكتور ابراهيم سبع سنوات فيه عدوان على الديموقراطية وحقوق الانسان، واسأل بعد ذلك: ألا يعد وقف حزب كامل ومنع جريدته من الصدور عدوانا ايضا على الديموقراطية وحقوق الانسان وإضعافا للمجتمع المدني؟
ولان الرد بالايجاب في الاغلب، حيث لا يعقل عند الراشدين ألا يعتبر وقف حزب شرعي وحجب صوته عدوانا على الديموقراطية، فلماذا اذن الكيل بمكيالين في هذه الحالة؟
اذا كان ذلك دفاعا عن الديموقراطية وحقوق الانسان، اعني انه اذا كان موقفا مبدئيا، فقد كان يتعين على الغيورين ان يعلنوا موقفا حازما، وان يتابعوا بنفس القدر من الاهتمام ما جرى لحزب العمل، لكن ذلك لم يحدث بدليل التجاهل الصارخ الذي اشرت اليه، بل انه في بعض الاحيان فان العكس هو ما جرى. اعني ان بعض المثقفين والقوى السياسية وقفوا الى جانب قمع حزب العمل، حتى ان احدهم كتب في صحيفة مصرية صبيحة يوم اجتماع لجنة الاحزاب التي قررت وقف الحزب والجريدة وقال صراحة: اننا لا نريد من اللجنة قرارا اقل من حل الحزب!، ولئن عبرت الصحف القومية في مصر عن الهوى السياسي، الا اننا وجدنا ان حزب التجمع اليساري وجريدته تبنيا عمليا موقف التحريض ضد الحزب وتشجيع تصفيته (صحح الحزب موقفه بصورة نسبية بعد وفاة الاستاذ عادل حسين)، الامر الذي يوحي بان الخصومات الفكرية والشخصية كان لها تأثيرها الاكبر، الذي كان على حساب المواقف المبدئية.
لست عضوا في حزب العمل، ولي ملاحظات عدة على خطابه، لكن ما يعنيني في اللحظة الراهنة هو تحرير موقف وسائل الاعلام والصوت العالي للمثقفين منه، مقارنا بموقف هؤلاء من قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم، وهل انطلق الموقف من التزام مبدئي أم من حسابات اخرى «تكتيكية»؟
ازعم ان الموقف في هذه الحالة لم يكن مبدئيا، وان تجاهل مظلومية وقمع حزب العمل له صلة بتوجهاته الاسلامية، وان الافراط في متابعة قضية الدكتور ابراهيم هو تعبير عن الاصطفاف العلماني الى جانبه واحتشاد الدوائر العلمانية النافذة وصاحبة الصوت العالي في دوائر المثقفين ووسائل الاعلام للدفاع عنه.
وليست هذه هي المرة الاولى التي يُضبط فيها اولئك النفر من المثقفين والاعلاميين «متلبسين» بالانتقائية والكيل بمكيالين، فلهم سوابق مشهورة في ذلك، حين ايدوا انقلاب العسكر على التجربة الديموقراطية الوليدة في الجزائر، لمجرد ان الفائز كان الجبهة الاسلامية للانقاذ، وحين هاجموا تطرف بعض الجماعات الاسلامية، والتزموا الصمت ازاء تطرف العديد من الانظمة والحكومات، وحين احتشدوا للدفاع عن سلمان رشدي ذات يوم، ورفضوا ان يضيفوا في بيانهم سطرا للدفاع عن سجناء الرأي من الناشطين الاسلاميين، وحين دافعوا عن تجريح الدين بحجة حرية الرأي، واحتشموا في مخاطبة السلاطين تزلفا وقربى.
ان الازمة ليست في الانظمة والحكومات فقط، لكننا يجب ان نعترف بانها طالت المثقفين ووسائل الاعلام ايضا، إذ حين نُكب هؤلاء بالاستقطاب العلماني ـ الاسلامي، فان هموم الوطن تراجعت، وتقدمت عليها الخصومات الفكرية والتصفيات المتبادلة، فخسر الطرفان، وخسر الوطن ايضا، ودفع الجميع ثمنا باهظا جراء ذلك.