مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
باكستان تغلي!
هويدي 28-1-2002

باكستان تغلي هذه الايام، وأي مار بالعاصمة اسلام اباد يسمع صوت ذلك الغليان حيثما ذهب، إذ لا يكاد يلتقي أحداً إلا ويجده يتحدث بلغة مشحونة بالغضب والاستياء من سياسة الرئيس مشرف وقراراته التي صدمت الجميع، وعن تدهور الاوضاع السياسية فضلا عن الاقتصادية في البلاد.
كنت في اسلام اباد يوم الجمعة الماضي، في المطار تلقيت أول اشارات الغليان، حيث وقفت في الطابور أمام موظف الجوازات، ولاحظت ان مجموعة من الركاب الاميركيين كانوا معنا على ذات الطائرة القادمة من كابول التي ركبناها، افسح لهم الطريق ومروا دون أن يطلع أحد على جوازات سفرهم، ودون ان ينطق أحدهم بكلمة، لقد هزوا رؤوسهم ومروا، استوقفني المشهد فحدثت صديقاً باكستانياً لي كان ينتظرني بما رأيت، فارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة وقال: هؤلاء هم رجال المخابرات المركزية الاميركية، يدخلون ويخرجون من دون أن يسألهم أحد، ويتحركون في كل مكان بالبلاد بحرية لا حدود لها، باسم جمع المعلومات عن بن لادن وجماعته من «المتطرفين والإرهابيين»، وقبل ان أسأله عن أي شيء، وجدته انفجر غاضباً ومضى يتحدث عن «البلايا» التي حدثت بباكستان منذ وقعت الواقعة في 11 سبتمبر (ايلول)، والتي كانت العربدة الاميركية في البلاد من تجلياتها.
في الطريق الى اسلام اباد، لفت نظري في روالبندي ان ثمة اعلانات في الشوارع عن اجتماع «للعلماء والمشايخ» يوم السبت، حاولت ان أغير الحديث لتهدئة صاحبي الغاضب فسألته عن هدف ذلك الاجتماع ومغزاه، فوجدته ازداد غضباً وقال انه محاولة لاحتواء إحدى البلايا التي حلت بباكستان من جراء ما جرى في نيويورك وواشنطن، ثم اضاف انه بعد الخطاب الصدمة الذي ألقاه الرئيس برويز مشرف في 1/13 ادرك كثيرون انه ذهب الى تجاوز الخطوط الحمراء في المجتمع الباكستاني، حيث تناول الانشطة الاسلامية، واتهمها بالتطرف، وقرر حظر بعض الجماعات، واعتقال اعداد من الناشطين (وصل عددهم الى 1500 شخص)، كما انه اعتبر المقاومة الكشميرية «إرهاباً»، وذلك كله لم يألفه المواطن الباكستاني، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه على ذلك النحو منذ تأسست البلاد في عام 1947.
اتيح لي ان استكمل المناقشة مع نخبة من المثقفين الباكستانيين في المساء، فسمعت كلاماً كثيراً، سواء في نقد سياسة الرئيس مشرف، أو في الدفاع عنها وتبريرها، وخلال المناقشة التي استمرت الى منتصف الليل لاحظت ان الناقدين أغلبية وان مؤيديه أقلية، وجدت ان الفريقين رغم اختلافهما حول تقييم سياسة مشرف، إلا انهما يتفقان حول أمور عدة هي:
* ان الهوية الاسلامية هي المبرر الذي قامت من أجله باكستان، فالدولة حين تأسست قبل 53 عاماً كان العنصر الأساسي في تكوينها هو الانتماء الاسلامي بالدرجة الأولى، ومن ثم فان أي مساس بتلك الهوية من خلال تقليص الحضور الاسلامي يعد تقويضاً لأهم أسس قيام الدولة، ولذلك فان الضغوط الاميركية التي تمارس من أجل ذلك التقليص لا تحتملها طبيعة البلاد، ومن شأن استمرارها ان يفجر الوضع الداخلي بصورة أو أخرى، عند الحد الأدنى فانها ستظل مصدراً مهماً لعدم الاستقرار في البلاد.
* ان باكستان هزمت في افغانستان، وخسرت بسببها الكثير، فقد اصبحت نتيجة دعمها لنظام طالبان متهمة بالضلوع في رعاية الإرهاب، خصوصاً انها لم تستطع ان تسيطر على قرارات الملا عمر، زعيم طالبان، وفشلت في ان تكبح جماح انشطة تنظيم القاعدة، وان وضعها ذلك في موضع الشبهة، فانه فتح الباب لتقدم غريمتها الهند واحتلالها موقعاً متميزاً في علاقات وسياسة الحكومة الانتقالية التي تسلمت السلطة بعد انهيار طالبان، في الوقت ذاته فقد تولى السلطة في كابل نظام غير متحمس لاقامة علاقات ايجابية مع اسلام اباد، واذا اقامها فان ذلك سيكون فقط تحت ضغط الجيرة التي فرضتها الجغرافيا والحدود المشتركة.
* بسبب المزايدة الهندية والضغوط الاميركية فان حكومة الرئيس مشرف استجابت لكل ما طلبه الاميركان منها، ولم تستطع ان تقول «لا» حيث ادركت انها في الموقف الأضعف، وكانت النتيجة ان مشرف استجاب للابتزاز، ولم يستطع ان يعترض على أي مطلب طلب منه، وقد ساعده ذلك حقاً على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الاميركيين بصورة نسبية، الأمر الذي ربما جنب باكستان مخاطر عدة، بينها قصف مفاعلها النووي، أو تدمير بنيتها العسكرية، وهو خيار ظل يلوح في الأفق بعد 11 سبتمبر (ايلول)، لكن الضغوط الاميركية والهندية استمرت وتضاعفت، حتى بدا مطلوباً من الرئيس مشرف ان يكسب رضا هذه الاطراف ويخسر شعبه.
* استثمرت الهند الحملة ضد الإرهاب الى أبعد مدى، حيث لجأت الى ذات الاسلوب الذي اتبعته اسرائيل في الإيحاء بأنها بدورها ضحية «للإرهاب» الفلسطيني، وكثفت جهودها لسحق المقاومة وتدمير السلطة الفلسطينية، اذ اعتبرت الهند ان المقاومة الكشميرية بمثابة إرهاب أيضاً، ونسبت الى باكستان بالتالي انها تدعم الإرهاب وتؤوي الإرهابيين، ثم جاء الهجوم المسلح على البرلمان الهندي وسط هذه الحملة، لكي يؤججها ويبدو دليلا ساطعاً على البعد الإرهابي في المقاومة الكشميرية، ووقوع تلك الحادثة في ذلك الظرف بالذات شكك كثيرين في ملابساتها، حتى ذهب البعض الى ان الهجوم من تدبير المخابرات الهندية، وان الهدف النهائي لحكومة دلهي هو محاولة اغلاق ملف القضية الكشميرية العالق منذ عام 47، وقد تجاوبت واشنطن مع الحملة الهندية، وضغطت بدورها على الرئيس الباكستاني، الذي وجد نفسه مضطراً في خطابه الأخير الى وصف المقاومة الكشميرية بالإرهاب كما سبقت الاشارة.
* ان ثمة جماعات اسلامية متطرفة حقاً في باكستان سواء في أفكارها أو ممارساتها، كما ان ثمة جماعات أخرى مناوئة في الصراع الطائفي المستمر بين السنة والشيعة، والجماعات الأولى كانت مؤيدة لحركة طالبان على طول الخط والثانية لم تتورع عن قتل المصلين في المساجد التي تعود لهذا الطرف أو ذاك، ولكن مواجهة تلك الجماعات لاتكون بالقرارات السياسية واجراءات السلطة وعمليات المصادرة والقمع، ذلك ان هناك «ثقافة» سادت في المجتمع الباكستاني منذ تأسيسه، وفي مجتمعات المسلمين قبل تأسيس الدولة، هي التي افرزت تلك الجماعات بمختلف اتجاهاتها، وحين تصبح القضية ثقافية بالدرجة الأولى، فإن اجراءات السلطة ضدها تفاقمها ولا تعالجها.
* ان جرعة الاجراءات التي لجأ إليها الرئيس مشرف أكبر من أن يحتملها المجتمع الباكستاني إذ ما كان له ان يستقبل دفعة واحدة اجراءات من قبيل: حظر بعض الجماعات الاسلامية، إلقاء القبض على عدد كبير من قيادييها، فرض قيود على انشاء المدارس الدينية وإعادة النظر في مناهجها ووضعها تحت اشراف الدولة، فرض الرقابة على المساجد.
لقد تعلمنا في أدبيات السياسة التقليدية ان شدة الغليان يمكن ان تؤدي الى الانفجار، ولكن التطورات الحديثة في تقنيات الضغط وامتصاص الغضب شككت في حتمية العلاقة بين الغليان والانفجار، والدليل على ذلك ان ثمة مجتمعات عدة نعرفها تعيش تحت درجة الغليان منذ عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان، تماما كما الحاصل في حالات الذين يقضون سنوات طويلة في غرفة الانعاش، بين الحياة والموت.
والأمر ذلك فان احتمال الانفجار في باكستان ليس مقطوعاً به، لكن الذي لا يمكن انكاره ان الغليان هناك مستمر، ونطاقه يتسع حيناً بعد حين.
أضافة تعليق