مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أزمة الفراغ السياسي في مصر أبرزتها نتائج الانتخابات النيابية
هويدي 27-11-2000

أهم ما كشفت عنه الانتخابات النيابية التي جرت في مصر حديثا، ان ثمة فراغا كبيرا في الساحة السياسية رغم ان في البلاد 15حزبا شرعيا، وان التحول من التنظيم الواحد الى التعددية الحزبية السياسية تم منذ حوالي ربع قرن.
وهو أمر لافت للنظر لا ريب ولا يخلو من مفارقة، ان يعلن عن الأخذ بالتعددية السياسية منذ ذلك الأجل، ثم يكتشف بعد مضي ربع قرن ان مصر تعاني من الفراغ السياسي أو من حالة «موت السياسة» اذا جاز التعبير، لأن أغلبية الأصوات الانتخابية لم تصوت لمرشحي الأحزاب، بما فيها الحزب الوطني الحاكم، واعطت اصواتها للمستقلين، الذين رشحوا على غير لوائح الأحزاب.
المقارنة التي اشرت اليها لا يفسرها سوى انها تعبير عن انفصال الشكل عن المضمون في التطبيق الديمقراطي، وهو انفصال شائع في الكثير من دول العالم الثالث التي انتقلت الى نظام التعددية السياسية بعد انتهاء الحرب الباردة، ورفع رايات الديمقراطية على دول المعسكر الاشتراكي السابق، ومن ثم هبوب ريح التعددية السياسية، على مختلف اقطار آسيا وافريقيا، هذه الدول اخذت من الديمقراطية شكلها المتمثل في الأبنية والهياكل واللافتات والمؤسسات لكنها عجزت ـ بسبب تجذر الحكم الفردي ـ وعدم استيعابه وظيفة الديمقراطية، بما فيها من حق للمشاركة والمساءلة.
هذا الانفصال بين الشكل والمضمون أو الوظيفة في الديمقراطية، في العالم الثالث عبر عنه بعض الباحثين الغربيين بحسبانه انفصالا للديمقراطية عن الليبرالية واذ اشرت توا الى ان ذلك فيه الأزمة التي تكشفت للكافة في اعقاب الانتخابات النيابية المصرية الا ان الجديد في المشهد الانتخابي المصري الأخير انه بدا وكأنه خطوة باتجاه علاج تلك الأزمة، وأكرر انها مجرد خطوة، ولا أتردد في القول بأنها تحرك نسبي على الطريق الصحيح، لكنه لا يكاد يتجاوز الخطوة الواحدة على الطريق الذي احسبه يتجاوز الألف ميل! على تواضعها فإن تلك الخطوة أحدثت صدى كبيرا في العالم العربي، على الأقل فذلك ما استشعرته حين اتيح لي ان اشارك في مؤتمر حول مستقبل الثقافة العربية عقد بالرياض قبل أيام، ولاحظت ان سؤال الانتخابات ظل أول ما تردد على مسامعي ممن لقيتهم من المثقفين الذين قدموا من مختلف أقطار المشرق والمغرب. الأمر الذي بدا عاكسا بقوة لدي الشوق الذي تعانيه الدول العربية لأية رائحة ديمقراطية ترطب الكفاف أو الجدب السياسي الذي تعيشه الأمة في ظله منذ عقود طال أمدها.
وما كان لتلك الخطوة ان تتم لولا ان القضاء المصري اسهم في الاشراف على عملية التصويت في الدوائر الانتخابية، الأمر الذي اسهم في تقليل نسبة التزوير والتلاعب في الأصوات.
ففي مقال سابق نشر في هذا المكان قبل ثلاثة اسابيع (في 10/31) اشرت الى المفاجآت التي اسفرت عنها المرحلة الأولى من الانتخابات المصرية «تمت على ثلاث مراحل». وتمثلت تلك المفاجآت في انحسار شعبية الحزب الحاكم، الذي حصل في تلك المرحلة على 30% من الأصوات، بينما اعتدنا في السابق على نسب الثمانين والتسعين في المائة، كما تمثلت في فوز ستة من مرشحي الاخوان المسلمين، الذين شاركوا في الانتخابات باعتبارهم مستقلين، وفي هزال النتائج التي حققتها بقية الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها حزب الوفد الذي لم يحصل الا على مقعد واحد آنذاك.
في نهاية المقال قلت انها تعاملت مع جزء من الصورة فقط، وان الصورة سوف تتضح في شكلها النهائى خلال الاسابيع اللاحقة، وبعد ان تتم المرحلتان التاليتان، واضفت في هذا الصدد ان البعض لا يخفون خشيتهم من ان تلجأ اجهزة الادارة الى تكثيف ضغوطها في المرحلتين التاليتين لتصحيح النتائج، وضمان نسب فرز أعلى لصالح الحزب الوطني الحاكم، وهذا ما حدث بالفعل، حيث كانت تدخلات الادارة في هاتين المرحلتين اشد وضغوطها أقوى، بل انها لجأت الى العديد من الاجراءات القمعية، خصوصا في المرحلة الثالثة والأخيرة، واستهدفت بذلك امرين، أولهما حشد أكبر عدد من الأصوات لصالح مرشحي الحزب الوطني، وثانيهما حجب أكبر عدد من الأصوات عن مرشحي حركة الأخوان المسلمين.
رغم هذه الضغوط فإن مرشحي الحزب الحاكم لم يحصلوا على أكثر من 39% من الأصوات.
ارتفعت حصة الحزب من الناجحين بعد انضمام اعداد كبيرة من المستقلين اليه، الأمر الذي أوصل اغلبيته في مجلس الشعب الى 87%. غير ان النتيجة الاخرى المهمة ان حركة الأخوان فازت بسبعة عشر مقعدا (هناك دائرة معلقة نجح فيها اثنان من اعضاء الجماعة سيدة ورجل) وهو رقم تجاوز مجموع ما حصلت عليه احزاب المعارضة الاربعة التي خاضت الانتخابات (الوفد والناصري والتجمع والاحرار) حيث حصلوا على 16مقعدا لا أكثر (حزب العمل مجمد ولم يشارك اعضاؤه بصفتهم تلك في الانتخابات).
هذه النتيجة ابرزت مفارقة أخرى، تمثلت في أن الأخوان الذين يعدون خارج الشرعية «بسبب خظر نشاطهم العلني» اصبحوا يحوزون عددا من المقاعد يزيد على كل ما حصلته احزاب المعارضة الشرعية، وهو مأزق آخر، اثار العديد من التساؤلات حول مدى الشفافية التي تتمتع بها الخارطة السياسية في مصر.
ولا مفر في هذا الصدد من التنويه الى أن الأخوان اداروا معركتهم الانتخابية بدرجة عالية من الكفاءة اذ حين ينتزعون 17 مقعدا رغم ما تعرضوا له من حصار وملاحقة وصلت الى احتجاز بعض المرشحين في اقسام الشرطة لبعض الوقت، واحتجاز آلاف الناخبين من مؤيدي حركة الأخوان الى ما بعد انتهاء المعركة الانتخابية، حين يحققون نتيجة بهذا الشكل يتفوقون بها على كافة احزاب المعارضة الأخرى، فإن ذلك دال على مدى كفاءة ادارة المعركة، وكان من مظاهر تلك الكفاءة انهم انشأوا لهم خمسة مواقع على شبكة الانترنت، بثوا من خلالها تقارير يومية منتظمة ومفصلة عن كل ما تعرض له مرشحوهم، ساعة بساعة، الأمر الذي اخترق طوق الحصار الاعلامي الذي فرض حولهم، من جانب الصحف القومية والاذاعة والتلفزيون.
لفت النظر في ادارة معركة الاخوان بعدما رشحوا سيدة في الاسكندرية (فازت بأعلى الأصوات في دائرتها غير ان الانتخابات أوقفت)، انهم ايدوا مرشحا قبطيا بارزا في القاهرة (هو منير فخري عبد النور) الذي انتخب رئىسا للمجموعة البرلمانية لحزب الوفد في المجلس النيابي، كما ايدوا مرشحين لبعض الاحزاب الأخرى في عدة دوائر، ومن مفارقات معركة الانتخابية ايضا انه بينما ايد الأخوان ومعهم بعض الرموز الاسلامية المرشح القبطي في دائرته، فإن مرشح الحزب الوطني المنافس له دعا في منشوراته الى عدم انتخابه باعتبار انه «لا ولاية لكافر على مسلم»! واذا سجلت نتائج الانتخابات تراجع الاحزاب والحضور القوي لحركة الأخوان في الشارع المصري، فإنها جاءت معبرة ايضا عن تنامي دور ونفوذ رجال الاعمال المصريين، الذين اشارت الصحف الى انهم انفقوا ملايين الجنيهات لاستمالة الجماهير وشراء الأصوات في دوائرهم، كما انهم انفقوا ملايين أخرى في نشر الاعلانات بالصحف التي اشادت بدورهم وكفاءاتهم وعطائهم للجماهير. بل ان احد أولئك المليونيرات نشر اعلانا على صفحة كاملة باحدى الصحف اليومية عن اجتماع عقده مع مجلس جامعة القاهرة اقدم وأعرق الجامعات بعد الأزهر، وضم الاجتماع مدير الجامعة وعددا كبيرا من العملاء والاساتذة واراد به المرشح ان يقنع الناخبين بانه يبحث مع رجال الجامعة في كيفية تنمية دائرته التي تقع الجامعة في نطاقها، ونشرت أكبر الصحف المصرية الاعلان، رغم ان استخدام مجلس الجامعة لاغراض الدعاية الانتخابية لم يحدث في التاريخ المصري المعاصر، فضلا عن انه مخالف لقانون الجامعات.
عند الحد الأدنى، فإن عدد المليونيرات من رجال الاعمال الذين دخلوا مجلس الشعب يتجاوز عدد ممثلي حزب الوفد، الأمر الذي يعكس جانبا من الخارطة المصرية في عهد الخصخصة، التي برز فيها هؤلاء المليونيرات كمركز قوة يفوق في تأثيره ما تتمتع به بعض الأحزاب السياسية.
قلت في مقام آخر ان نتائج الانتخابات على جملتها افضل من سابقاتها لا ريب، لكنها بكثير دون الذي نرجوه، مع ذلك فلابد ان نحمد الخطوة التي اتخذت على طريق الألف ميل، وادعو الله ان تتبعها خطوات اخرى في الانتخابات المقبلة بعد خمس سنوات.
ألم أقل لكم في مرة سابقة اننا نراهن على بعد غد، لأن ما نراه لا يشجعنا على ان نجازف بالمراهنة على الغد؟
أضافة تعليق