مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الاعتدال ما وافق الهوى الغربي وكل ما عداه تطرف
هويدي 27-1-2003

في ندوة لندنية دعيت إليها بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 اثير موضوع التطرف والاعتدال في العالم الاسلامي، فقال أحد المستشرقين الانجليز ضاحكا بعد ان استمع الى المناقشات التي دارت في ذلك الصدد: يبدو اننا سنعترف في النهاية بأن المتطرفين هم اولئك الذين لا يعجبوننا، أما المعتدلون فهم الذين يتصرفون طبقا لهوانا ويستجيبون لرغباتنا. تذكرت هذه المقولة حينما تابعت ما نشرته خلال الاسبوعين الأخيرين الصحافة العربية اللندنية بوجه أخص من تعليقات تطرقت الى ذلك الموضوع، إذ وجدت ان الكاتبين احتكموا الى مزاجهم الخاص، فما وافقهم كان اعتدالا وما لم يعجبهم صنف في مربع التطرف، وما ادراك ما هو!
تصادف ان نشرت الصحف في الفترة ذاتها خلاصة للبحث الذي قدمه الى مجمع الفقه الاسلامي في الدوحة، الشيخ يوسف القرضاوي الفقيه الأصولي الكبير، الذي تصنفه بعض الدوائر الغربية ضمن المتطرفين، حتى منعته الولايات المتحدة من دخول أراضيها، وضغطت في مناسبات عديدة ومن خلال وسائل مختلفة لوقف برنامجه الاسبوعي الذي تقدمه قناة الجزيرة بعنوان «الشريعة والحياة». كان بحث الدكتور القرضاوي قد عرض لموضوع «الخطاب الاسلامي، والعولمة»، وفيه دعا الى «تبني العالمية وعدم اغفال المحلية وتحري التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوى مع انكار الإرهاب الممنوع وتأييد الجهاد المشروع».
وإذ دعا الى التعبير بالاخوة عن العلاقات بين البشر، سواء كانت انسانية او قومية أو وطنية، معتبرا ان الاخوة ليست مقصورة على الرابطة الدينية فحسب، فانه استهجن الإرهاب الذي هو بمثابة استخدام للعنف في مواجهة من ليست بينك وبينه قضية، وإنما يستهدف فقط ترويع الآخرين. في هذا السياق ادان الشيخ القرضاوي خطف الطائرات واحتجاز الرهائن والتهديد بقتلهم وقتل السياح كما حدث في مذبحة الاقصر في مصر، كما رأى ان ما حدث في جزيرة بالي باندونيسيا هو الإرهاب، إذ انه ليست هناك مشكلة بين الذين ارتكبوا هذه الجريمة والسياح. وأدان أيضا ما اقترفته جماعة ابو سياف، وقال ان من الإرهاب أحداث 11 سبتمبر في اميركا، واختطاف طائرات مدنية بركابها وكذلك ضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وشدد على أن أول إرهاب يجب أن يدان هو إرهاب الدولة الصهيونية المتجبرة، ونبه الى أنه ليس من الإرهاب في شيء الدفاع عن الوطن وقتال الغاصب المعتدي. وقال ان اميركا التي ساندت الدولة التي قامت على الدم والإرهاب منذ اليوم الأول (اسرائيل) تمارس نوعا من الإرهاب.
دعا القرضاوي في بحثه الى الالتزام بالعقلانية والعلمية والاجتهاد والتجديد، والى رفض التعصب والانغلاق وانتهاج سبيل الرفق والتسامح والرحمة. وفي حديثه عن الجدال مع الآخرين بالتي هي أحسن، فانه دعا الى عدم مخاطبة المخالفين باسم الكفار، مفضلا استخدام لغة القرآن حين وجه اليهم النداء قائلا يا أيها الناس. كما لم يحبذ استخدام مصطلح أهل الذمة، رغم انه ايجابي في أصله، بعد ان حملته الممارسة بمعان سلبية، ولم يجد مانعا في استخدام مصطلح المواطنة والمواطن، خصوصا ان الفقهاء يعتبرون أهل الذمة من أهل دار الاسلام.
واذا تذكرنا ان الشيخ القرضاوي له فتوى شهيرة في الدفاع عن الديمقراطية وتداول السلطة، والتأصيل الفقهي لمبدأ «الأمة مصدر السلطات»، فان أول ما يتبادر الى الذهن هو: بأي معيار يمكن اعتباره متطرفا، واذا لم تكن تلك المواقف تعبيرا عن الاعتدال والوسطية، فكيف يكون الاعتدال إذن؟!
المشكلة في تقييم موقف الدكتور القرضاوي وأمثاله من رموز الاعتدال تكمن في أمرين; الأول انهم ينطلقون من المرجعية الاسلامية، والثاني انهم يؤيدون العمليات الاستشهادية في الأرض المحتلة، إذ عند كثيرين في الغرب خاصة ـ وعند بعض مثقفينا المتغربين للأسف ـ فانهم لم يعودوا قادرين على قبول فكرة ان يكون المرء مسلما ملتزما، ومعتدلا أو ديمقراطيا في ذات الوقت، وهو موقف لا يفسر سوى المزاج المتشكك والمستريب في الاسلام، إما بسبب خلفية ثقافية مناهضة، أو نتيجة للاستسلام المدهش للدعايات التي رسخت في الاذهان صورة نمطية يتعذر بمقتضاها التوفيق أو التعايش بين الاسلام والديمقراطية.
أما الالحاح على وقف العمليات الاستشهادية، واعتبار ذلك حدا فاصلا بين الاعتدال والتطرف أو الإرهاب، فليس خافيا ان للهوى الاسرائيلي دورا اساسيا فيه، وهو الهوى الذي استجابت له الادارة الاميركية، وشابهها في ذلك من انطلت عليهم اللعبة فتجاهلوا الاحتلال الذي هو السبب، وتعلقوا بالنتيجة المتمثلة في المقاومة والعمليات الاستشهادية.
قرأت مقالا في «الحياة» اللندنية (في 14/1) كتبه الناطق باسم لجنة الشؤون الخارجية في الحزب الشعبي الحاكم في اسبانيا، خوستافو دي اريستيغي، معلقا على تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا، وتمسكه بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وفيه تحدث عن ضرورة وضع حزب العدالة تحت المراقبة للاطمئنان الى التزامه بالسلوك الديمقراطي، والتحقق من القطيعة التي أحدثها قادته مع حزب الرفاه «المتطرف» الذي نشأوا فيه. وقد درجت عدة كتابات غربية على وصف حزب الرفاه بالتطرف رغم انه قبل عمليا كل مبادئ وقيم الممارسة الديمقراطية، من التعددية الى تداول السلطة مرورا بمبدأ التغيير السلمي، لكن خطأه الوحيد انه رفع الراية الاسلامية، الأمر الذي استنفر مختلف القوى الغربية ضده، وهو ما ادركه مؤسسو حزب العدالة الذين لم يشيروا في برنامجهم الى الاسلام، وقدموا أنفسهم بحسبانهم ديمقراطيين وليسوا اسلاميين، ودأبوا في الوقت ذاته على نفي «التهمة» الأخيرة، وغاية ما تحدثوا عنه في هذا الصدد قولهم ان حزبهم ديمقراطي اسلامي محافظ، شأنه في ذلك شأن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في الغرب.
في مقالة السياسي الاسباني اشارات واضحة الى ان النماذج الديمقراطية المعتدلة في العالم العربي توجد في عدد محدد من الاقطار التي تمسك بزمامها قيادات شابة تلقت تعليمها في جامعات العالم الديمقراطي، واحتذت النموذج الغربي، وكأنه أراد أن يقول لنا انكم لن تصبحوا معتدلين وديمقراطيين إلا اذا تغربتم، اما اذا اردتم ان تبقوا كما انتم، ملتزمين بمرجعية الأغلبية الاسلامية، فلا أمل فيكم والتطرف مآلكم!
بذات المنطق المزاجي والتغريبي حاكم امير طاهري مجمع الفقه الاسلامي الذي عقد دورته الأخيرة في العاصمة القطرية الدوحة، لأنه انتهى الى قرارات لم تعجبه ولم تلق عنده هوى، فتطاول على علمائه الأجلاء، وانهال عليهم سبا وتقريعا في مقالته المنشورة بـ«الشرق الاوسط» (في 23/1) حيث وصفهم بالانتهازية والانهزامية والديماغوجية والافتقاد الى الشجاعة وغمز في آرائهم التي اعتبرها «سخيفة»...إلخ. ويبدو انه سمع بالمجمع لأول مرة لانه تحدث عن اعضائه باستهانة شديدة حيث وصفهم بأنهم «فقهاء الدوحة» وقال انهم مجموعة من رجال الدين وهي مدعومة من حكومة قطر، وتسعى لمنافسة الأزهر كمركز للمسلمين السنة، وهو لم يعلم بأن المجمع مشكل منذ عقدين من الزمان تقريبا يضم عددا من كبار علماء الأمة، وهو متفرع عن منظمة المؤتمر الاسلامي وليس تابعا لحكومة قطر أو مدعوما منها، ثم انه ليس في منافسة مع الأزهر الذي يرأس مجمعا موازيا للبحوث الاسلامية في مصر.
لقد اعترض السيد طاهري على مبدأ مناقشة الفقهاء لبعض القضايا السياسية التي تهم المسلمين في موضوع العولمة، واستكثر عليهم ان يحددوا موقفا من المشاكل الملحة التي تواجه الأمة في الوقت الراهن، رغم انهم أهل علم ورأي وليسوا أهل قرار، وحينما انتقدوا العدوان الاميركي والبريطاني ضد العراق، فانه اعتبر ذلك موقفا انتهازيا، لمجرد انه جاء مخالفا للهوى السياسي في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حين ان موقف المجتمع في هذا الموضوع لم يختلف كثيرا عن موقف الكنائس في بريطانيا التي رفضت الحرب وادانتها.
شكك طاهري في موقف المجمع من موضوع الإرهاب، في حين كان هم أعضائه ألا توصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وهو اذ يسخر من علمائه تساءل عما اذا كان الذين قتلوا مائتي سائح في اندونيسيا يعتبرون ابطالا اسلاميين، في حين اعلن الشيخ القرضاوي صراحة ان ما جرى في بالي كان عملا إرهابيا كما سبقت الاشارة.
لم يتوقف الكاتب عن تقريع المجتمع منذ السطر الأول لمقالته حتى ختامها، حيث استهوته فتوى حول المصارف أصدرها مجمع البحوث الاسلامية في مصر (وليس الأزهر كما ذكر)، فقد اعتبرها رأيا جيدا تحمس له، وعندما لم يقتنع اعضاء مجمع الفقه بالفتوى وانتقدوها، فانه اعتبر الكلام «وجهة نظر سخيفة سرعان ما تنسى»، في الوقت ذاته فانه طعن في شجاعة أعضاء مجمع الفقه لانهم احلوا اتخاذ موقف معلن في مسألة العمليات الاستشهادية، التي يصر هو على انها انتحارية، وقد اغضبه انهم لم يتبنوا موقفه في ادانة تلك العمليات واستهجانها.

المشكلة التي يواجهها في المرحلة الراهنة المخلصون والأوفياء من أهل العلم الشرعي تكمن فيما يتعرضون له من ضغوط شديدة من جانب أهل الهوى السياسي، حتى ان الذين يعارضون تدخل الدين في السياسة، من مثل الذين سبقت الاشارة اليهم، لا يمانعون بل يحرصون أشد الحرص علي تدخل السياسة في الدين، وهذا التسييس حتى للفتاوى الشرعية هو في حقيقة الأمر نوع من التأميم لها، الذي يحكم الحصار على العقل العربي حين يتم جنبا الى جنب مع تأميم السياسة والاعلام، في الوقت الذي تمت فيه خصخصة المشروعات الاقتصادية والخدمات العامة.
ان مسلمي هذا الزمان حين يتطلعون الى فتوى تصدر عن أهل الاجتهاد فانهم يريدون ان يعرفوا حقا ماذا يقول الرأي الشرعي الذي يهتدي بالنصوص والمقاصد العليا، في حين ان هناك من يضغط لكي ينطق المجتهدون بما يقوله البيت الابيض، أو بما يتفق مع أهواء أهل السياسة والمصالح الخاصة، وهم يعتبرون ذلك ليبرالية واعتدالا واستنارة!

أضافة تعليق