هويدي 26-5-2003
فوجئت بما نشرته الصحيفة في ذلك الصباح، حين وجدت اسمي مقحما في كلام عن ثقافة القتل في العالم العربي، الأمر الذي أثار لدي فضولا دفعني الى الاهتمام بمتابعة ما نشرته الصحف في الأيام التالية من صور وأسماء للمشاركين في تفجيرات الرياض والدار البيضاء، بحثا عن اسم لي أو صورة بينهم، وحين لم أجد شيئا من ذلك القبيل، فهمت انهم لم يأخذوا الكلام المنشور على محمل الجد، وانهم أدركوا ان ذلك الكلام لم يكن سوى محاولة للتحريض والدس الرخيص، الذي لا يؤبه به ولا يلتفت إليه، وإنما يُلقى وراء الظهور ويرد عليه بالتجاهل والصمت.
هي حكاية تستحق ان تروى، لانها تلقي أضواء كاشفة على المستوى الفضائحي الذي وصل إليه الحوار من جانب بعض الكاتبين، ذلك ان صحيفة «الشرق الأوسط» كانت قد نشرت لي مقالا في عدد الاثنين الموافق 12 من مايو (ايار) الحالي كان عنوانه «افكار مشبوهة في هجاء الأمة وتسويق الهزيمة»، وفيه عرضت ثلاثا من تلك الأفكار التي روجت لها الأبواق الاميركية في الاعلام العربي، كانت أولاها فكرة ادعت أن الصراع في العالم العربي ليس بين قوى الهيمنة ودعاة الاستقلال، وليس بين المخططات الصهيونية والحلم العربي، وإنما هو في نظرهم صراع بين ثقافتين، الأولى عالمية تهدف الى دمج الشرق الاوسط في قيم حكم القانون والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية السوق، والثانية هي ثقافة الاحتراب مع العالم ورفض الدخول في منظومة قيم، احتماء بالأصولية الدينية المسلحة، أو الأفكار القومية المتشددة.
كان واضحا من الفكرة انها تتستر على جريمة احتلال العراق، وتحاول تجميلها بحسبانها خطوة على طريق دمج الشرق الاوسط في منظومة القيم التي سبقت الاشارة إليها، في الوقت ذاته فانها صنفت الدعوة الى رفض الاحتلال في المربع المقابل، المسكون بالأصولية الدينية والفكر القومي المتشدد.
اعتبرت صدور هذا الكلام بمثابة واقعة «تلبس» في جريمة خداع الرأي العام وتضليله، وقلت ان اثبات الواقعة مهم للغاية، وهو ما يكفيني، حيث لا تحتاج الفكرة الى مناقشة أو تعليق، باعتبار ان الموقف فيها مفضوح ولا يحتاج الى تفنيد أو رد، ولذلك اكتفيت بالاشارة إليها حتى لاتتسرب أو تمر من دون أن ينتبه إليها أحد.
الفكرة الثانية تمثلت في اتهام العرب بأنهم يعشقون جلاديهم ومولعون بالمستبد القومي، وقد اعتبر صاحبها ان كل من وقف ضد الغزو ودافع عن العراق، إنما دافع عن صدام حسين ونظامه، ومن ثم تَثبْتْ بحق الجميع تهمة الولع بذلك المستبد. ليس ذلك فحسب، وإنما وجدت ان من سوّق هذه الفكرة وصف المثقفين والسياسيين الذين دافعوا عن كرامة الأمة واستقلالها بأوصاف عدة، بينها انهم معادون للسادات ويؤمنون بالاشتراكية الوطنية والوحدة الاندماجية العربية، وانهم معادون للسامية، هكذا دفعة واحدة.
في رد الفكرة قلت انها تنطلق من مغالطة جوهرية افترضت ان الدفاع عن العراق ومعارضة احتلاله بمثابة دفاع عن صدام حسين. وذلك تبسيط مخل يفترض ان الوطن لا كرامة له ولا يُدافع عنه (لاحظ بالمناسبة ان معارضي صدام حسين هم الذين يعارضون الاحتلال الآن) قلت أيضا انه اذا كان هناك من انخدع بالشعارات القومية التي رفعها صدام حسين، فان ذلك لا ينبغي ان يحمل بحسبانه ولعا بالمستبد، لان القراءة الصحيحة لهذا الجانب من الصورة تتمثل في شوق الجماهير وتطلعها الى من يحقق احلامها المجهضة، وافتقادها الى النموذج أو الرمز الذي يجسد تلك الاحلام ويسعى الى تحقيقها، الأمر الذي يدفع قطاعات من الجماهير للاستجابة الى من يتحدث عنها أو يرفع شعاراتها ولو على سبيل الإدعاء والتدليس. اضفت في هذه النقطة انه يبدو مستغربا ان يلجأ البعض الى تبكيت شعوبنا لأنها تبحث عمن يحقق لها أحلامها، ولا يطالبون الحكام وأولي الأمر بأن يكونوا عند حسن ظن شعوبهم، وان يجسدوا تطلعات تلك الشعوب وأشواقها.
الفكرة الثالثة تبنت الدعوة الى إعادة تأهيل العراق بعد سقوط النظام البعثي، أسوة بما فعلته في المانيا الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، حين سعت الى استئصال النازية واعادة تأهيل الشعب الالماني، وقلت ان القائلين بهذه الفكرة لم يقرأوا شيئا عما فعلته الدول المنتصرة في الحرب لتحقيق ذلك الاستئصال وباسم إعادة التأهيل، وشرحت في هذا الصدد ما سجلته بعض المراجع التاريخية عن ممارسات تلك الدول بحق الناس والبلد في المانيا، وكلها ممارسات لا تشجع على الاحتذاء من أي باب.
هذا الذي قلته في مقال «الشرق الأوسط» كان حلقة من كتابات عدة تتبعت فيها افكار اشاعة الهزيمة واليأس، وحث العرب والمسلمين على الانبطاح أمام الرغبات الاميركية والتسليم بالاطماع الاسرائيلية، وهي الافكار التي جرى التسويق لها بهمة ملحوظة بعد سقوط النظام العراقي، ودخول العالم العربي في دورة جديدة من الانكسار.
بعد اسبوع واحد من ظهور مقال الافكار المشبوهة، في 12 مايو الحالي، طالعت تعليقين عليه، الأول نشرته صحيفة «الأهرام» للكاتب الجزائري الدكتور محيي الدين عميمور، وهو من عناصر جبهة التحرير، أشار فيه الى خطورة تلك الافكار التي يروج لها البعض، وقال ان فرية الصراع بين ثقافتي الاندماج في العالم أو الاحتراب ضده هي «طرح تروج له عناصر المخابرات المركزية»، وأشار الدكتور عميمور الى انه حذر دائما من «أحصنة طروادة» التي تتحرك في العالم العربي، ثم اضاف قائلا «لكنني لم اتصور اننا مخترقون الى هذا الحد، وبأن الطابور الخامس سيتحرك في وضح النهار، رافعا راياته ومرددا هتافاته».
أما التعليق الثاني فقد نشرته «الشرق الأوسط» في اليوم ذاته (الاثنين 19 مايو) للسيد مأمون فندي بدأه بالحديث عن المقابر الجماعية التي عثر عليها في العراق، وهاجم كعادته قناة الجزيرة التي ادعى انها لم تبرز صور تلك المقابر، واعتبر ذلك من قبيل «التبلد الحسي»، ثم اضاف ان ذلك التبلد «نابع من العنف الثقافي المتمثل في كتابات الكثيرين ممن يتصدون لموضوع تغطية الجثث بكلام منمق نميس، وهذا النوع من الكتابة الناعمة التي يتبناها فهمي هويدي وغيره من المدافعين عن القتلة بتأسيس هذه الأفكار وتحويلها الى مؤسسات تحكم حياة البشر». أي انه فجأة اشركني في المسؤولية عن «التبلد» المزعوم الذي رمى به قناة الجزيرة، ليس ذلك فحسب، وإنما نسب اليّ الدفاع عن القتلة كما حمّل كتاباتي مسؤولية تأسيس الافكار الشريرة وتحولها الى مؤسسات تحكم حياة البشر.
قدم السيد فندي بعد ذلك إلينا موعظة دينية قال فيها ما نصه: «ان الفهم الصحيح أو المنفتح للدين يقول ان الرب كان محترزا ضد من سيأتون ويستخدمون اسم الله في معارك أرضية(!)، واستطيع القول ان النصوص تحذر من ألاعيب الذين يسفكون الدماء باسمه، وربما يمكن القول إن القرآن الكريم كان صريحا في التحذير من فساد المؤسسة الدينية، باعتبارها في كثير من الاحيان تسعى الى اغراض دنيوية، سياسية أو اجتماعية، فردية أو اجتماعية، تهدف الى دنئ المكسب، ومد اليد باسم الاله لسرقة الآخرين وتشويههم. وهذا ما قال عنه صاحبنا انها «أفكار مشبوهة» (؟!) وما مشبوهة إلا أفكاره».
في موضع لاحق من النص عاد السيد فندي ليقول «ان القاتل في كل الحالات هو «الفكر المشبوه»، المنقول على الله بغير الحق.. و«ان بداية القتل في الرياض والدار البيضاء هي ثقافة القتل وفقه القتل»... إلخ.
اذا نحيت جانبا ما اتسم به النص من ركاكة واضطراب وتسطيح، وغضضت الطرف مؤقتا عن قدر الضحالة وقلة المعرفة الذي كشف عنه، فستجد ان الذي اصاب الكاتب بالتوتر والانفعال هو ما كتبته عن «الافكار المشبوهة»، وهو العنوان الذي اشار اليه صراحة، وغاية ما فتح الله به عليه في رد ما أوردته فيه انه قال بعد الاشارة الى عنوانه: «وما مشبوهة إلا أفكاره»، وظن انه بهذه العبارة دحض ما قلت!
في موضع اخر اعتبر كلامي فكرا «قاتلا»، بزعم انه منقول على اللغة بغير حق، في حين ان المقال كله ـ كما رأيت ـ كان ردا وكشفا لمزاعم الابواق الاميركية التي اخترقت الاعلام العربي.
ذلك كله في كفة، وأضع في كفة أخرى ادعاءه ان كتاباتي الناعمة (شكراً) بمثابة دفاع عن القتلة، واسهام في تأسيس الأفكار وتحويلها الى مؤسسات تحكم حياة البشر، إذ فضلا عن ان الكلام بمثابة تحريض علني وصريح، فانه يعد من الناحية القانونية اتهاما خطيرا بغير دليل، يعرض صاحبه للمساءلة القانونية، وهو ما حدثني بشأنه نفر من كبار رجال القانون في مصر، ومنهم من اقترح عليّ رفع قضية على الكاتب والجريدة، تطالب الاول باثبات صحة ادعائه، واذا فشل في ذلك، فان الاثنين يلزمان بالاعتذار والتعويض المادي، بل ان احدهم بادر الى اعداد مذكرة ضافية بالدعوى القضائية، وبعث بها اليّ، حتى أقرر بشأنها قراري، وهو ما أجلت البت فيه، مؤثرا ـ حتى اشعار آخر ـ ان اضع ملف القضية بين يدي القارىء لكي يكون على بينة من ذلك النموذج «الحواري» المدهش، واثقا من سلامة حسه، ومطمئنا الى عدالة حكمه، ومازلت أكثر ميلا الى طي الصفحة والانصراف الى ما هو أهم وأجدى، متمثلا في ذلك أدب القرآن في وصفه للمؤمنين من عباد الرحمن، الذين اذا ما خاطبهم ذلك الصنف من الناس بمثل ما خوطبت به قالوا: سلاما!
فوجئت بما نشرته الصحيفة في ذلك الصباح، حين وجدت اسمي مقحما في كلام عن ثقافة القتل في العالم العربي، الأمر الذي أثار لدي فضولا دفعني الى الاهتمام بمتابعة ما نشرته الصحف في الأيام التالية من صور وأسماء للمشاركين في تفجيرات الرياض والدار البيضاء، بحثا عن اسم لي أو صورة بينهم، وحين لم أجد شيئا من ذلك القبيل، فهمت انهم لم يأخذوا الكلام المنشور على محمل الجد، وانهم أدركوا ان ذلك الكلام لم يكن سوى محاولة للتحريض والدس الرخيص، الذي لا يؤبه به ولا يلتفت إليه، وإنما يُلقى وراء الظهور ويرد عليه بالتجاهل والصمت.
هي حكاية تستحق ان تروى، لانها تلقي أضواء كاشفة على المستوى الفضائحي الذي وصل إليه الحوار من جانب بعض الكاتبين، ذلك ان صحيفة «الشرق الأوسط» كانت قد نشرت لي مقالا في عدد الاثنين الموافق 12 من مايو (ايار) الحالي كان عنوانه «افكار مشبوهة في هجاء الأمة وتسويق الهزيمة»، وفيه عرضت ثلاثا من تلك الأفكار التي روجت لها الأبواق الاميركية في الاعلام العربي، كانت أولاها فكرة ادعت أن الصراع في العالم العربي ليس بين قوى الهيمنة ودعاة الاستقلال، وليس بين المخططات الصهيونية والحلم العربي، وإنما هو في نظرهم صراع بين ثقافتين، الأولى عالمية تهدف الى دمج الشرق الاوسط في قيم حكم القانون والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية السوق، والثانية هي ثقافة الاحتراب مع العالم ورفض الدخول في منظومة قيم، احتماء بالأصولية الدينية المسلحة، أو الأفكار القومية المتشددة.
كان واضحا من الفكرة انها تتستر على جريمة احتلال العراق، وتحاول تجميلها بحسبانها خطوة على طريق دمج الشرق الاوسط في منظومة القيم التي سبقت الاشارة إليها، في الوقت ذاته فانها صنفت الدعوة الى رفض الاحتلال في المربع المقابل، المسكون بالأصولية الدينية والفكر القومي المتشدد.
اعتبرت صدور هذا الكلام بمثابة واقعة «تلبس» في جريمة خداع الرأي العام وتضليله، وقلت ان اثبات الواقعة مهم للغاية، وهو ما يكفيني، حيث لا تحتاج الفكرة الى مناقشة أو تعليق، باعتبار ان الموقف فيها مفضوح ولا يحتاج الى تفنيد أو رد، ولذلك اكتفيت بالاشارة إليها حتى لاتتسرب أو تمر من دون أن ينتبه إليها أحد.
الفكرة الثانية تمثلت في اتهام العرب بأنهم يعشقون جلاديهم ومولعون بالمستبد القومي، وقد اعتبر صاحبها ان كل من وقف ضد الغزو ودافع عن العراق، إنما دافع عن صدام حسين ونظامه، ومن ثم تَثبْتْ بحق الجميع تهمة الولع بذلك المستبد. ليس ذلك فحسب، وإنما وجدت ان من سوّق هذه الفكرة وصف المثقفين والسياسيين الذين دافعوا عن كرامة الأمة واستقلالها بأوصاف عدة، بينها انهم معادون للسادات ويؤمنون بالاشتراكية الوطنية والوحدة الاندماجية العربية، وانهم معادون للسامية، هكذا دفعة واحدة.
في رد الفكرة قلت انها تنطلق من مغالطة جوهرية افترضت ان الدفاع عن العراق ومعارضة احتلاله بمثابة دفاع عن صدام حسين. وذلك تبسيط مخل يفترض ان الوطن لا كرامة له ولا يُدافع عنه (لاحظ بالمناسبة ان معارضي صدام حسين هم الذين يعارضون الاحتلال الآن) قلت أيضا انه اذا كان هناك من انخدع بالشعارات القومية التي رفعها صدام حسين، فان ذلك لا ينبغي ان يحمل بحسبانه ولعا بالمستبد، لان القراءة الصحيحة لهذا الجانب من الصورة تتمثل في شوق الجماهير وتطلعها الى من يحقق احلامها المجهضة، وافتقادها الى النموذج أو الرمز الذي يجسد تلك الاحلام ويسعى الى تحقيقها، الأمر الذي يدفع قطاعات من الجماهير للاستجابة الى من يتحدث عنها أو يرفع شعاراتها ولو على سبيل الإدعاء والتدليس. اضفت في هذه النقطة انه يبدو مستغربا ان يلجأ البعض الى تبكيت شعوبنا لأنها تبحث عمن يحقق لها أحلامها، ولا يطالبون الحكام وأولي الأمر بأن يكونوا عند حسن ظن شعوبهم، وان يجسدوا تطلعات تلك الشعوب وأشواقها.
الفكرة الثالثة تبنت الدعوة الى إعادة تأهيل العراق بعد سقوط النظام البعثي، أسوة بما فعلته في المانيا الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، حين سعت الى استئصال النازية واعادة تأهيل الشعب الالماني، وقلت ان القائلين بهذه الفكرة لم يقرأوا شيئا عما فعلته الدول المنتصرة في الحرب لتحقيق ذلك الاستئصال وباسم إعادة التأهيل، وشرحت في هذا الصدد ما سجلته بعض المراجع التاريخية عن ممارسات تلك الدول بحق الناس والبلد في المانيا، وكلها ممارسات لا تشجع على الاحتذاء من أي باب.
هذا الذي قلته في مقال «الشرق الأوسط» كان حلقة من كتابات عدة تتبعت فيها افكار اشاعة الهزيمة واليأس، وحث العرب والمسلمين على الانبطاح أمام الرغبات الاميركية والتسليم بالاطماع الاسرائيلية، وهي الافكار التي جرى التسويق لها بهمة ملحوظة بعد سقوط النظام العراقي، ودخول العالم العربي في دورة جديدة من الانكسار.
بعد اسبوع واحد من ظهور مقال الافكار المشبوهة، في 12 مايو الحالي، طالعت تعليقين عليه، الأول نشرته صحيفة «الأهرام» للكاتب الجزائري الدكتور محيي الدين عميمور، وهو من عناصر جبهة التحرير، أشار فيه الى خطورة تلك الافكار التي يروج لها البعض، وقال ان فرية الصراع بين ثقافتي الاندماج في العالم أو الاحتراب ضده هي «طرح تروج له عناصر المخابرات المركزية»، وأشار الدكتور عميمور الى انه حذر دائما من «أحصنة طروادة» التي تتحرك في العالم العربي، ثم اضاف قائلا «لكنني لم اتصور اننا مخترقون الى هذا الحد، وبأن الطابور الخامس سيتحرك في وضح النهار، رافعا راياته ومرددا هتافاته».
أما التعليق الثاني فقد نشرته «الشرق الأوسط» في اليوم ذاته (الاثنين 19 مايو) للسيد مأمون فندي بدأه بالحديث عن المقابر الجماعية التي عثر عليها في العراق، وهاجم كعادته قناة الجزيرة التي ادعى انها لم تبرز صور تلك المقابر، واعتبر ذلك من قبيل «التبلد الحسي»، ثم اضاف ان ذلك التبلد «نابع من العنف الثقافي المتمثل في كتابات الكثيرين ممن يتصدون لموضوع تغطية الجثث بكلام منمق نميس، وهذا النوع من الكتابة الناعمة التي يتبناها فهمي هويدي وغيره من المدافعين عن القتلة بتأسيس هذه الأفكار وتحويلها الى مؤسسات تحكم حياة البشر». أي انه فجأة اشركني في المسؤولية عن «التبلد» المزعوم الذي رمى به قناة الجزيرة، ليس ذلك فحسب، وإنما نسب اليّ الدفاع عن القتلة كما حمّل كتاباتي مسؤولية تأسيس الافكار الشريرة وتحولها الى مؤسسات تحكم حياة البشر.
قدم السيد فندي بعد ذلك إلينا موعظة دينية قال فيها ما نصه: «ان الفهم الصحيح أو المنفتح للدين يقول ان الرب كان محترزا ضد من سيأتون ويستخدمون اسم الله في معارك أرضية(!)، واستطيع القول ان النصوص تحذر من ألاعيب الذين يسفكون الدماء باسمه، وربما يمكن القول إن القرآن الكريم كان صريحا في التحذير من فساد المؤسسة الدينية، باعتبارها في كثير من الاحيان تسعى الى اغراض دنيوية، سياسية أو اجتماعية، فردية أو اجتماعية، تهدف الى دنئ المكسب، ومد اليد باسم الاله لسرقة الآخرين وتشويههم. وهذا ما قال عنه صاحبنا انها «أفكار مشبوهة» (؟!) وما مشبوهة إلا أفكاره».
في موضع لاحق من النص عاد السيد فندي ليقول «ان القاتل في كل الحالات هو «الفكر المشبوه»، المنقول على الله بغير الحق.. و«ان بداية القتل في الرياض والدار البيضاء هي ثقافة القتل وفقه القتل»... إلخ.
اذا نحيت جانبا ما اتسم به النص من ركاكة واضطراب وتسطيح، وغضضت الطرف مؤقتا عن قدر الضحالة وقلة المعرفة الذي كشف عنه، فستجد ان الذي اصاب الكاتب بالتوتر والانفعال هو ما كتبته عن «الافكار المشبوهة»، وهو العنوان الذي اشار اليه صراحة، وغاية ما فتح الله به عليه في رد ما أوردته فيه انه قال بعد الاشارة الى عنوانه: «وما مشبوهة إلا أفكاره»، وظن انه بهذه العبارة دحض ما قلت!
في موضع اخر اعتبر كلامي فكرا «قاتلا»، بزعم انه منقول على اللغة بغير حق، في حين ان المقال كله ـ كما رأيت ـ كان ردا وكشفا لمزاعم الابواق الاميركية التي اخترقت الاعلام العربي.
ذلك كله في كفة، وأضع في كفة أخرى ادعاءه ان كتاباتي الناعمة (شكراً) بمثابة دفاع عن القتلة، واسهام في تأسيس الأفكار وتحويلها الى مؤسسات تحكم حياة البشر، إذ فضلا عن ان الكلام بمثابة تحريض علني وصريح، فانه يعد من الناحية القانونية اتهاما خطيرا بغير دليل، يعرض صاحبه للمساءلة القانونية، وهو ما حدثني بشأنه نفر من كبار رجال القانون في مصر، ومنهم من اقترح عليّ رفع قضية على الكاتب والجريدة، تطالب الاول باثبات صحة ادعائه، واذا فشل في ذلك، فان الاثنين يلزمان بالاعتذار والتعويض المادي، بل ان احدهم بادر الى اعداد مذكرة ضافية بالدعوى القضائية، وبعث بها اليّ، حتى أقرر بشأنها قراري، وهو ما أجلت البت فيه، مؤثرا ـ حتى اشعار آخر ـ ان اضع ملف القضية بين يدي القارىء لكي يكون على بينة من ذلك النموذج «الحواري» المدهش، واثقا من سلامة حسه، ومطمئنا الى عدالة حكمه، ومازلت أكثر ميلا الى طي الصفحة والانصراف الى ما هو أهم وأجدى، متمثلا في ذلك أدب القرآن في وصفه للمؤمنين من عباد الرحمن، الذين اذا ما خاطبهم ذلك الصنف من الناس بمثل ما خوطبت به قالوا: سلاما!