هويدي 25-12-2000
كسب المسلمون في الولايات المتحدة نقطة ثمينة قبل أكثر من اسبوع، حين نجحت المساعي التي بذلوها لاطلاق سراح الأكاديمي الفلسطيني الدكتور مازن النجار، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من «النضال» ضد تحدي وتعسف الاجهزة الامنية الاميركية. وفي الوقت الذي حقق فيه المسلمون هذا الكسب، منيت الجهود الصهيونية بنكسة شديدة في ولاية فلوريدا، وهي الجهود التي سعت منذ البداية الى الإيقاع والتآمر على الدكتور النجار، من خلال التحريض الاعلامي ضده واتهامه بمساندة الأنشطة الإرهابية والضلوع فيها. وكانت الصحف الصهيونية هي الأداة التي استخدمت في حبك المؤامرة على الرجل، وبعد فشلها وانفضاح زيف الادعاءات ضد الدكتور النجار، انكشف موقف المنظمات والأبواق الصهيونية، واصيبت التجمعات التي تساندها بعزلة شديدة في فلوريدا.
محنة الدكتور النجار الذي كان يدرس اللغة العربية في جامعة «ساوث فلوريدا» بمدينة تامبا، بدأت عام 97، حين ألقي القبض عليه وأودع السجن بتهمة «الإرهاب»، وتحويل أموال الى حركة الجهاد الاسلامي الفلسطينية (تمويل الإرهاب الاسرائيلي مباح بطبيعة الحال!)، ومعروف ان منتصف التسعينات شهد حملة شديدة ضد الناشطين الاسلاميين في الولايات التحدة (وغير الناشطين أيضاً!)، وذلك بعدما نجحت الأبواق الصهيونية في التعجيل باصدار قانون «الإرهاب»، في اعقاب محاولة تفجير مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك، التي لُفِّقت تهمة المسؤولية عنها للدكتور عمر عبد الرحمن، وهو الحادث الذي استغل أسوأ استغلال، في إيهام الاميركيين بل والادارة الاميركية بأن الخطر الاسلامي يقرع أبواب الولايات المتحدة ويكاد يهددها. وكانت رسالة الفيلم التسجيلي الاميركي «الجهاد في اميركا»، الذي اعد مادته أحد المتعصبين الصهاينة «ايمرسون» معبرة عن تلك الفكرة التي نجحت في التخويف مما سمي «الخطر الاخضر».
الصرعة المعادية للمسلمين والعرب تجلت أكثر في قانون لاحق عرف باسم قانون «الأدلة السرية»، الذي لم يتخيل أحد انه يمكن أن يصدر في دولة ديمقراطية، بل في أي دولة متحضرة، ناهيك من دولة تعتبر نفسها زعيمة «العالم الحر»، وقد أجاز هذا القانون احتجاز الأشخاص الذين يفترض انهم يهددون أمن الدولة، ومحاكمتهم بناء على أدلة سرية، تعلن الأجهزة الأمنية وجودها، لكنها لا تحيط المتهم بطبيعة تلك الأدلة، على الأقل حتى لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فيما هو منسوب إليه، ورغم عدم دستورية القانون، وتعارضه مع أبسط مبادئ حقوق الانسان فانه صدر، وكان العرب والمسلمون في مقدمة الذين يراد ملاحقتهم وتصفية وجودهم به.
لم يكن سراً ان جماعات الضغط الصهيونية هي التي حركت الحملة كلها، وهي التي وقفت وراء تشويه صورة المسلمين، وهي التي شجعت اصدار قانون الإرهاب، وهي التي مررت قانون الأدلة السرية، تماماً كما ان تلك الجهود هي التي تصيدت الدكتور النجار، وظلت تشوه صورته وتلاحقه، حتى ألقت به في السجن في نهاية المطاف.
منذ احتجز الدكتور النجار، الذي كان الى جانب عمله الاكاديمي اماماً لمسجد القسام في تامبا، بدأت معركة اطلاق سراحه، خصوصاً ان الرجل لم تقدم ضده أي تهمة سوى ذلك الادعاء الفضفاض المتمثل في عنوان الإرهاب، وفي الوقت ذاته بدأت حملة التجمعات الاسلامية التي تعاونت مع منظمات حقوق الانسان، ضد قانون الأدلة السرية، وهو القانون الذي اصبح سيفاً مسلطاً على رقاب أي عربي أو مسلم.
الشخصيات والمنظمات الاسلامية التي حملت قضية النجار تحركت على أكثر من مستوى، شرحوا القضية من خلال المنافذ الاعلامية التي اتيحت لهم، حتى أوصلوها الى عامة الناس في ولاية فلوريدا على الأقل، وطرقوا أبواب أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وزعماء الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وخاطبوا بعض الأطراف في البيت الأبيض، واستنجدوا بمنظمة العفو الدولية، وغيرها من المنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
في الوقت، ذاته فإن التجمعات الصهيونية ظلت طوال تلك الفترة تحرض الجهات الاميركية المختلفة على الدكتور النجار، وتحذر من اطلاق سراحه، حتى صورت الرجل وكأنه شر مطلق يهدد النظام الاميركي، بكل سطوته وهيلمانه، كل ذلك وليس في جعبة تلك التجمعات تهمة حقيقية واحدة، أو واقعة محددة، تدين الرجل.
لم يكن أحد من الذين لاحقوه وأبقوه في السجن طيلة الـ1307 أيام، بعدما شوهوا صورته، وحرموا أسرته منه، لم يكن بمقدور هؤلاء ان يقولوا ان الرجل مجرم لا لانه إرهابي، ولكن لانه فلسطيني وعربي ومسلم، اي انه في عرف البغض الصهيوني العميق إرهابي «بالثلاثة»، وإزاء غياب أي تهمة بحق الدكتور النجار، فقد كانت تلك جريرته المركبة، التي لم ينكرها ولم يستطع التخلص منها، وربما كان أحد أسباب تعنت الأجهزة الأمنية معه انه رفض اغراءهم باطلاق سراحه ومنحه الجنسية، مقابل تجنيده لصالحها، وبيعه ـ خيانته بتعبير أدق ـ لفلسطينيته وعروبته واسلامه، الأمر الذي صنفه «متطرفاً»، الى جانب كونه إرهابياً بالهوية! حين طال الأمر بحبس الدكتور النجار اتسعت حملة التضامن معه والدعوة الى اطلاق سراحه، حتى يمكن القول ان هذه القضية حركت الجالية العربية والاسلامية في الولايات المتحدة، إذ بسبب حجم الظلم والعسف الذي بدا في القضية، فإن كل عربي أو مسلم بريء أدرك انه في خطر دائم، ولذلك فإن موضوع قانون «الأدلة السرية» ظل يحتل مقدمة اهتمام المنظمات الاسلامية الاميركية، التي قامت بدور كبير في تعبئة بعض قطاعات الرأي العام الاميركي ضد القانون، وتبصيرها بمخاطره وتهديده للحريات المدنية في الولايات المتحدة، وفي حدود علمي أن ممثلي المنظمات الاسلامية طرحوا الموضوع في جلسات مناقشة عقدت بينهم وبين ممثلي المرشحين للرئاسة الاميركية، جورج بوش وآل غور، وكان هناك اتفاق على معارضته وضرورة السعي لإلغائه، بل ان جورج بوش ذهب الى أبعد من ذلك وأعلن في أحد اللقاءات العلنية انه سيعمل على إلغاء وصمة الدليل السري.
واذا تصارحنا في هذه النقطة، فينبغي ان نسجل ان هذا الموقف لم يصدر فقط عن التزام بالعدل والانصاف، أو غيرة على الحريات المدنية، ويقيناً فإنه لم يكن يعبر عن تحيز للمسلمين، ولكنه كان نابعاً من الحرص على أصوات المسلمين، وبسبب تصريحه ذاك، فإن بوش حصل على أصوات 88 في المائة من المسلمين بولاية فلوريدا، الذين يبلغ عددهم هناك 200 ألف شخص.
هذا الموقف من جانب المسلمين ازعج الى حد كبير الدوائر الصهيونية في الولايات المتحدة، وتلك التي تدور في فلكها، ليس فقط لان من شأن ذلك ان يزيد من الضغط لإلغاء القانون (وهذا صحيح)، ولكن الأهم من ذلك ان هؤلاء ادركوا تزايد تأثير أصوات المسلمين في الحياة العامة، وهو التأثير الذي تحتكره حتى الآن الدوائر الصهيونية بالدرجة الأولى، وهذا الخوف في محله، لان اصوات خمسة ملايين مسلم في الولايات المتحدة، من شأنها ان تحدث تحولات مهمة في الحياة السياسية الاميركية، اذا حشدت في أي اتجاه أو لمصالح أي مرشح.
صحيح ان هذا الأمل يبدو بعيداً الآن، لان تغلغل اليهود في القطاعات الاقتصادية والثقافية والفنية ـ فضلا عن المجالات السياسية والعلمية ـ قطع شوطاً بعيداً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بوجه أخص بعد الانتصار الذي حققته اسرائيل في حرب 67، غير ان بُعد الأمل لا يعني بالضرورة استحالته.
مع ذلك فلسنا بصدد الحديث عن تحولات مرتقبة في السياسة الاميركية، لكن الثابت ان ظهور القوة النسبية للصوت الاسلامي يعد خطوة مهمة على طريق تحقيق الأمل المنشود، الذي قد يصبح تحقيقه عنصر توازن في السياسة الاميركية.
قلت ان تجمع المسلمين واحتشادهم حول قضية الدكتور النجار الذي كان ضحية «الأدلة السرية»، يعد مؤشراً مهماً في المشهد الذي نحن بصدده، لكن التجربة تظل الى جانب ذلك حافلة بدلالات أخرى في مقدمتها:
* ان تربص الدوائر الصهيونية بالناشطين العرب والمسلمين، والسعي الدؤوب لاستئصالهم من الساحة الاميركية يزداد حيناً بعد حين، وهو مرشح للتصعيد في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعدما بدا في الأفق ان اولئك الناشطين لا يحاولون فقط الدفاع عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وإنما أيضاً يحاولون التأثير في الحسابات الداخلية للسياسة الاميركية، التي كانت تنفرد بتلك الدوائر بتوجيهها تبعاً لمصالحها.
* ان الحملة المعادية للعرب والمسلمين لها صداها داخل الأجهزة الاميركية، خصوصاً الأمنية منها، ذلك ان احتجاز الدكتور النجار طيلة تلك المدة ما كان ليحدث لولا تعنت المباحث الفيدرالية، وتعنت بعض القضاة، وتعنت بعض المسؤولين في وزارة العدل الاميركية ذاتها، وقد كانت وزيرة العدل جانيت رينو من بين اولئك المتعنتين.
* ان ذلك ينبغي ألا يحجب دور بعض الاميركيين الشرفاء الذين أدركوا الظلم في القضية، وضموا صوتهم الى صوت الانصاف والعدل في المسألة، وفي المقدمة من هؤلاء يقف دافيد كول الاستاذ في جامعة جورج تاون، وهو محام في الوقت نفسه، حمل القضية على كتفه وظل مدافعاً عنها حتى الافراج عن النجار، منهم أيضاً قاضي الهجرة الذي أمر بالافراج عنه حينما اكتشف افلاس الأدلة ضد الرجل، واقتنع بمدى التلفيق والزيف في الموضوع، منهم أيضاً العديد من أساتذة الجامعات والكتاب وممثلو الجماعات المدافعة عن الحقوق المدنية.
* ان المباحث الفيدرالية الاميركية لديها قدرة هائلة على التلفيق والتحايل على انتهاك الحريات المدنية، وهو ما انكشف بوضوح في موضوع الدكتور مازن، لكنه انفضح أكثر في قضية عالم الذرة الاميركي (صيني الأصل) الذي نسبت إليه المباحث 59 تهمة منها 34 تهمة عقوبتها السجن مدى الحياة، ثم بعد 8 شهور اكتشف قاضيه ان كل هذه التهم ملفقة ولا أساس لها، فأمر بالافراج عنه، وأدان المباحث الفيدرالية علناً.
* ان أصوات العرب والمسلمين الاميركيين هي سلاحهم الأساسي في الدفاع عن حقوقهم وعن القضايا التي يتصدون لها، ومضاء هذا السلاح وقوته مرهونان بمشاركتهم في الحياة العامة، وتمسكهم بالحضور في مختلف مؤسسات المجتمع المدني، من خلال الأصوات الكثيرة التي يملكونها، خصوصاً ان عددهم يقارب اليهود في الولايات المتحدة، لكن شتان بين وزن هؤلاء وهؤلاء.
يفرحنا لا ريب اطلاق سراح أي مظلوم، مسلماً كان أم غير مسلم، لكن فرحة مثلي لن تكتمل إلا اذا وعي المسلمون في الغرب دروس تجربة الدكتور النجار، واستفادوا منها!
كسب المسلمون في الولايات المتحدة نقطة ثمينة قبل أكثر من اسبوع، حين نجحت المساعي التي بذلوها لاطلاق سراح الأكاديمي الفلسطيني الدكتور مازن النجار، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من «النضال» ضد تحدي وتعسف الاجهزة الامنية الاميركية. وفي الوقت الذي حقق فيه المسلمون هذا الكسب، منيت الجهود الصهيونية بنكسة شديدة في ولاية فلوريدا، وهي الجهود التي سعت منذ البداية الى الإيقاع والتآمر على الدكتور النجار، من خلال التحريض الاعلامي ضده واتهامه بمساندة الأنشطة الإرهابية والضلوع فيها. وكانت الصحف الصهيونية هي الأداة التي استخدمت في حبك المؤامرة على الرجل، وبعد فشلها وانفضاح زيف الادعاءات ضد الدكتور النجار، انكشف موقف المنظمات والأبواق الصهيونية، واصيبت التجمعات التي تساندها بعزلة شديدة في فلوريدا.
محنة الدكتور النجار الذي كان يدرس اللغة العربية في جامعة «ساوث فلوريدا» بمدينة تامبا، بدأت عام 97، حين ألقي القبض عليه وأودع السجن بتهمة «الإرهاب»، وتحويل أموال الى حركة الجهاد الاسلامي الفلسطينية (تمويل الإرهاب الاسرائيلي مباح بطبيعة الحال!)، ومعروف ان منتصف التسعينات شهد حملة شديدة ضد الناشطين الاسلاميين في الولايات التحدة (وغير الناشطين أيضاً!)، وذلك بعدما نجحت الأبواق الصهيونية في التعجيل باصدار قانون «الإرهاب»، في اعقاب محاولة تفجير مبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك، التي لُفِّقت تهمة المسؤولية عنها للدكتور عمر عبد الرحمن، وهو الحادث الذي استغل أسوأ استغلال، في إيهام الاميركيين بل والادارة الاميركية بأن الخطر الاسلامي يقرع أبواب الولايات المتحدة ويكاد يهددها. وكانت رسالة الفيلم التسجيلي الاميركي «الجهاد في اميركا»، الذي اعد مادته أحد المتعصبين الصهاينة «ايمرسون» معبرة عن تلك الفكرة التي نجحت في التخويف مما سمي «الخطر الاخضر».
الصرعة المعادية للمسلمين والعرب تجلت أكثر في قانون لاحق عرف باسم قانون «الأدلة السرية»، الذي لم يتخيل أحد انه يمكن أن يصدر في دولة ديمقراطية، بل في أي دولة متحضرة، ناهيك من دولة تعتبر نفسها زعيمة «العالم الحر»، وقد أجاز هذا القانون احتجاز الأشخاص الذين يفترض انهم يهددون أمن الدولة، ومحاكمتهم بناء على أدلة سرية، تعلن الأجهزة الأمنية وجودها، لكنها لا تحيط المتهم بطبيعة تلك الأدلة، على الأقل حتى لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فيما هو منسوب إليه، ورغم عدم دستورية القانون، وتعارضه مع أبسط مبادئ حقوق الانسان فانه صدر، وكان العرب والمسلمون في مقدمة الذين يراد ملاحقتهم وتصفية وجودهم به.
لم يكن سراً ان جماعات الضغط الصهيونية هي التي حركت الحملة كلها، وهي التي وقفت وراء تشويه صورة المسلمين، وهي التي شجعت اصدار قانون الإرهاب، وهي التي مررت قانون الأدلة السرية، تماماً كما ان تلك الجهود هي التي تصيدت الدكتور النجار، وظلت تشوه صورته وتلاحقه، حتى ألقت به في السجن في نهاية المطاف.
منذ احتجز الدكتور النجار، الذي كان الى جانب عمله الاكاديمي اماماً لمسجد القسام في تامبا، بدأت معركة اطلاق سراحه، خصوصاً ان الرجل لم تقدم ضده أي تهمة سوى ذلك الادعاء الفضفاض المتمثل في عنوان الإرهاب، وفي الوقت ذاته بدأت حملة التجمعات الاسلامية التي تعاونت مع منظمات حقوق الانسان، ضد قانون الأدلة السرية، وهو القانون الذي اصبح سيفاً مسلطاً على رقاب أي عربي أو مسلم.
الشخصيات والمنظمات الاسلامية التي حملت قضية النجار تحركت على أكثر من مستوى، شرحوا القضية من خلال المنافذ الاعلامية التي اتيحت لهم، حتى أوصلوها الى عامة الناس في ولاية فلوريدا على الأقل، وطرقوا أبواب أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وزعماء الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وخاطبوا بعض الأطراف في البيت الأبيض، واستنجدوا بمنظمة العفو الدولية، وغيرها من المنظمات المدافعة عن الحقوق المدنية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
في الوقت، ذاته فإن التجمعات الصهيونية ظلت طوال تلك الفترة تحرض الجهات الاميركية المختلفة على الدكتور النجار، وتحذر من اطلاق سراحه، حتى صورت الرجل وكأنه شر مطلق يهدد النظام الاميركي، بكل سطوته وهيلمانه، كل ذلك وليس في جعبة تلك التجمعات تهمة حقيقية واحدة، أو واقعة محددة، تدين الرجل.
لم يكن أحد من الذين لاحقوه وأبقوه في السجن طيلة الـ1307 أيام، بعدما شوهوا صورته، وحرموا أسرته منه، لم يكن بمقدور هؤلاء ان يقولوا ان الرجل مجرم لا لانه إرهابي، ولكن لانه فلسطيني وعربي ومسلم، اي انه في عرف البغض الصهيوني العميق إرهابي «بالثلاثة»، وإزاء غياب أي تهمة بحق الدكتور النجار، فقد كانت تلك جريرته المركبة، التي لم ينكرها ولم يستطع التخلص منها، وربما كان أحد أسباب تعنت الأجهزة الأمنية معه انه رفض اغراءهم باطلاق سراحه ومنحه الجنسية، مقابل تجنيده لصالحها، وبيعه ـ خيانته بتعبير أدق ـ لفلسطينيته وعروبته واسلامه، الأمر الذي صنفه «متطرفاً»، الى جانب كونه إرهابياً بالهوية! حين طال الأمر بحبس الدكتور النجار اتسعت حملة التضامن معه والدعوة الى اطلاق سراحه، حتى يمكن القول ان هذه القضية حركت الجالية العربية والاسلامية في الولايات المتحدة، إذ بسبب حجم الظلم والعسف الذي بدا في القضية، فإن كل عربي أو مسلم بريء أدرك انه في خطر دائم، ولذلك فإن موضوع قانون «الأدلة السرية» ظل يحتل مقدمة اهتمام المنظمات الاسلامية الاميركية، التي قامت بدور كبير في تعبئة بعض قطاعات الرأي العام الاميركي ضد القانون، وتبصيرها بمخاطره وتهديده للحريات المدنية في الولايات المتحدة، وفي حدود علمي أن ممثلي المنظمات الاسلامية طرحوا الموضوع في جلسات مناقشة عقدت بينهم وبين ممثلي المرشحين للرئاسة الاميركية، جورج بوش وآل غور، وكان هناك اتفاق على معارضته وضرورة السعي لإلغائه، بل ان جورج بوش ذهب الى أبعد من ذلك وأعلن في أحد اللقاءات العلنية انه سيعمل على إلغاء وصمة الدليل السري.
واذا تصارحنا في هذه النقطة، فينبغي ان نسجل ان هذا الموقف لم يصدر فقط عن التزام بالعدل والانصاف، أو غيرة على الحريات المدنية، ويقيناً فإنه لم يكن يعبر عن تحيز للمسلمين، ولكنه كان نابعاً من الحرص على أصوات المسلمين، وبسبب تصريحه ذاك، فإن بوش حصل على أصوات 88 في المائة من المسلمين بولاية فلوريدا، الذين يبلغ عددهم هناك 200 ألف شخص.
هذا الموقف من جانب المسلمين ازعج الى حد كبير الدوائر الصهيونية في الولايات المتحدة، وتلك التي تدور في فلكها، ليس فقط لان من شأن ذلك ان يزيد من الضغط لإلغاء القانون (وهذا صحيح)، ولكن الأهم من ذلك ان هؤلاء ادركوا تزايد تأثير أصوات المسلمين في الحياة العامة، وهو التأثير الذي تحتكره حتى الآن الدوائر الصهيونية بالدرجة الأولى، وهذا الخوف في محله، لان اصوات خمسة ملايين مسلم في الولايات المتحدة، من شأنها ان تحدث تحولات مهمة في الحياة السياسية الاميركية، اذا حشدت في أي اتجاه أو لمصالح أي مرشح.
صحيح ان هذا الأمل يبدو بعيداً الآن، لان تغلغل اليهود في القطاعات الاقتصادية والثقافية والفنية ـ فضلا عن المجالات السياسية والعلمية ـ قطع شوطاً بعيداً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بوجه أخص بعد الانتصار الذي حققته اسرائيل في حرب 67، غير ان بُعد الأمل لا يعني بالضرورة استحالته.
مع ذلك فلسنا بصدد الحديث عن تحولات مرتقبة في السياسة الاميركية، لكن الثابت ان ظهور القوة النسبية للصوت الاسلامي يعد خطوة مهمة على طريق تحقيق الأمل المنشود، الذي قد يصبح تحقيقه عنصر توازن في السياسة الاميركية.
قلت ان تجمع المسلمين واحتشادهم حول قضية الدكتور النجار الذي كان ضحية «الأدلة السرية»، يعد مؤشراً مهماً في المشهد الذي نحن بصدده، لكن التجربة تظل الى جانب ذلك حافلة بدلالات أخرى في مقدمتها:
* ان تربص الدوائر الصهيونية بالناشطين العرب والمسلمين، والسعي الدؤوب لاستئصالهم من الساحة الاميركية يزداد حيناً بعد حين، وهو مرشح للتصعيد في المرحلة المقبلة، خصوصاً بعدما بدا في الأفق ان اولئك الناشطين لا يحاولون فقط الدفاع عن قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وإنما أيضاً يحاولون التأثير في الحسابات الداخلية للسياسة الاميركية، التي كانت تنفرد بتلك الدوائر بتوجيهها تبعاً لمصالحها.
* ان الحملة المعادية للعرب والمسلمين لها صداها داخل الأجهزة الاميركية، خصوصاً الأمنية منها، ذلك ان احتجاز الدكتور النجار طيلة تلك المدة ما كان ليحدث لولا تعنت المباحث الفيدرالية، وتعنت بعض القضاة، وتعنت بعض المسؤولين في وزارة العدل الاميركية ذاتها، وقد كانت وزيرة العدل جانيت رينو من بين اولئك المتعنتين.
* ان ذلك ينبغي ألا يحجب دور بعض الاميركيين الشرفاء الذين أدركوا الظلم في القضية، وضموا صوتهم الى صوت الانصاف والعدل في المسألة، وفي المقدمة من هؤلاء يقف دافيد كول الاستاذ في جامعة جورج تاون، وهو محام في الوقت نفسه، حمل القضية على كتفه وظل مدافعاً عنها حتى الافراج عن النجار، منهم أيضاً قاضي الهجرة الذي أمر بالافراج عنه حينما اكتشف افلاس الأدلة ضد الرجل، واقتنع بمدى التلفيق والزيف في الموضوع، منهم أيضاً العديد من أساتذة الجامعات والكتاب وممثلو الجماعات المدافعة عن الحقوق المدنية.
* ان المباحث الفيدرالية الاميركية لديها قدرة هائلة على التلفيق والتحايل على انتهاك الحريات المدنية، وهو ما انكشف بوضوح في موضوع الدكتور مازن، لكنه انفضح أكثر في قضية عالم الذرة الاميركي (صيني الأصل) الذي نسبت إليه المباحث 59 تهمة منها 34 تهمة عقوبتها السجن مدى الحياة، ثم بعد 8 شهور اكتشف قاضيه ان كل هذه التهم ملفقة ولا أساس لها، فأمر بالافراج عنه، وأدان المباحث الفيدرالية علناً.
* ان أصوات العرب والمسلمين الاميركيين هي سلاحهم الأساسي في الدفاع عن حقوقهم وعن القضايا التي يتصدون لها، ومضاء هذا السلاح وقوته مرهونان بمشاركتهم في الحياة العامة، وتمسكهم بالحضور في مختلف مؤسسات المجتمع المدني، من خلال الأصوات الكثيرة التي يملكونها، خصوصاً ان عددهم يقارب اليهود في الولايات المتحدة، لكن شتان بين وزن هؤلاء وهؤلاء.
يفرحنا لا ريب اطلاق سراح أي مظلوم، مسلماً كان أم غير مسلم، لكن فرحة مثلي لن تكتمل إلا اذا وعي المسلمون في الغرب دروس تجربة الدكتور النجار، واستفادوا منها!