مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الدعاة و هموم الناس
د. عبدالله الزبير عبدالرحمن
27 يوليو، 2011 - 26 شعبان 1432هـ
إن رواحل الدعاة هم أولئك الذين يتقدمون الناس ويتصدرونهم، يقضون الحوائج، ويصلون المقطوعين، ويغيثون الملاهيف، ويعيشون هموم الناس. وإلا فما حكمة التقدم والتصدر? وهل كان الدعاة -من الرسل والمصلحين وأتبــاعهم- في تلاحق الرسالات إلا قائمين بهمّ الناس مشاركين، يسهمون في رعاية مقاصد الجماعة المعتبرات مصالح ومنافع، أو دفع ما يلحق من مفاسد ومضار??

الرسل وهموم الناس:

فالرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا يتقوقعون في حصون يحرسهم أتباعهم، أو ينظرون من وراء جدر، بل كانوا يخرجون إلى الناس يعيشون بينهم ويأكلون طعامهم ويمشون في أسواقهم، يتعرفون على أحوالهم ليعيشوا كما يعيشون، فيراهم الناس فيقتدون بهم ويتأسون بحالهم.. إنهم كانوا دعاة حق بصدق، رواداً في أقوامهم، يحبون الخير لشعوبهم، ومن هو كذلك لا يتهرب عن مشاكلهم، ويتوارى عند تلاطم الهموم، ويقول: أنتم وشأنكم، وإنما يقدم نفسه وعقله، يتبنى هموم قومه، يذلل ويدفع ويزيل، وكذلك كانوا. وههنا نقف على سنة بعض أنبياء الله ورسله الكرام في تبني هموم الناس.

1- يوسف عليه السلام:

فيوسف عليـه السلام ما فـتئ أن مكن له الله في قلب الملك إلا صدر مطالبه بالسعي في تبني هموم الناس، ممن هم في حاجة إلى نصرتــهم ورعـايــة مصالحهم التــي لولا تبنــيـها ستهضم وتلـقى عـن البال وتهمـل، فكان عليه السلام في أول مطلب له لـدى المـلك -وقد اطمـأن إليـه وآمن بصلاحـه وأنه من المحسنين- أن طلـب الولايـة ليكــون بها قــادراً على تبــني همــوم قومـه، فقال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم } (يوسف:55).. وما كان طلب يوسف عليه السلام الولاية في عهد مــلك كافر وفي ظل دولة كافرة، إلا لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصـلاح وتوصيــل الفقراء إلى حقـوقهم، فرأى أن ذلك فرض عين عليه(67).

يقول سيد قطب رحمه الله: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة، وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنمًا يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة، إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون)(68).

2- موسى وهارون عليهما السلام:

وموسى عليه السلام هو وهارون بادرا فرعون بمطلبهما الجماهيري: أن يحرر بني إسرائيــل من أســره واستضعافه واستغلاله واستعباده، يقولان لفرعون: {إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم، قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى} (طه:47).

فلم يكونا لينسيا هم جماهيرهم من بني إسرائيل وهم يـرزحـون تحت سلطــان فــرعــون الباطش المستعلي والمسـتعبـد، وإنما قدما ما يهم الناس في حين الإرسال على مسائل الدين وقضايا الدعوة المحضة، ليعلم أن هموم الناس من صميم قضايا الدعوة الواجب مراعاتها بل الواجب تقديمها على قضايا الدين المحضة.. قبل الدعوة إلى التوحيد يسارع الدعاة إلى رفع الظلم وتخفيفه على الناس.

3- محمد صلى الله عليه وسلم:

ورسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم كان أول المسلمين قيامًا على أمر الناس، ومشاركة لهم في همومهم، يخفف عنهم وطأة الاستضعاف المعيشي والاضطهاد الاجتماعي، ويزيل فيهم الظلم الطبقي، فيمشي في حاجة المحتاج ولو كان محتقرًا أو أمة مسلوبة الحرية. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت)(69). فيقضي لها حاجتها، وإن كانت أمة..

بل وإن كانت امرأة في عقلها شيء من خــرف أو جنـون، فـعن أنس رضي الله عنه: (أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها)(70).

ولربما ظن منزوع إلى السلبية في قضايا الناس أن يحاول تخصيص هذا التصرف النبوي بالإماء وصواحب الجنون، ليروى له في ذوات العقل والشرف من النساء وأصحاب الحاجة ذات السنة النبويــة، ففي ســنن أبي داود عن أنــس رضــي الله عنــه قــال: (جاءت امراءة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال لها: يا أم فلان اجلسي في أي نواحي السكك شئت حتى أجلس إليك، قال: فجلست فجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم إليها حتى قضت حاجتها)(71).

وهكذا كان رسـول الله صلّى الله عليه وسلّم وبذلك وصفه ربه تعالى، هامًًا بأمر الأمة، قائمًا على نفي الشر عنها، حريصًا على نفعهم وصلاحهم، يعنت لحال من يشقى وتضيق به السبل، يقول تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128). جوانب ملحة لتبني هموم الناس فيها:

وهناك في عصرنا وواقعنا جوانب صارت ملحة، تنادي الدعاة إلى الله أن سارعوا إلى الناس أدركوهم، قفوا معهم في خندقها تخففوا عنهم ويلات وتسكتوا أنات، وتقيموا جسور المحبة والولاء بينكم وبينهم.

هذه الجوانب التي تحتاج إلى الدعاة ليتبنوا فيها هموم جماهيرهم، أهمها في تصورنا ما يلي:

1- الهم المعاشي:

إن الناس -خاصة قليلي الدخل ومن ضعفت فيهم أسباب المعيشة الرغدة- يصبحون على هم المعاش ويمسون عليه.. وإن الشباب ممن شابهوا من سبق كذلك يصبحون ويمسون وينتبهون وينامون على هم السكنى والزواج، ونحو ذلك من الهموم التي صارت اليوم ظاهرة عالمية يشترك في الاغتمام بها الناس دون انحصار بحدود دولة أو فقر دولة.

ولقد نبه النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذه الهموم أنها توازي حيازة الدنيا لمن تأرق بها واغتم لها، فإنه حين تفارقه هذه الهموم يكون كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك بعينه: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)(72).

لذلك لا بد للدعاة أن يسهموا في تبني هموم الناس في هذا المجال، بتبني مشروعات تخفف وطأتها عليهم، كمشروعات التكافل الاجتماعي، والزواج الجماعي، والاقتراح على أولي الأمر بإقامة مساكن شعبية ورعاية اجتماعية، ودعم الفقراء والإنفاق الحكومي على المحتاجين، وجباية الزكاة وفرض جبايات على الأغنياء لترد على الفقراء... وهكذا..

ولم يكن تبني هموم المعاش والإسهام في تفاديها وتخفيفها على الناس غائبًا عن مشروعات الإسلام الحضارية، ولقد اتخذ الشـرع تدابـير عمـليـة وتشريعــات حاظرة لإيقاف تمدد أسباب هذه الهموم..

أ- فحرم الاحتكار في أقوات الناس، وأوقف التلاعب في أقوات النـاس، لتتــمكن الجماهير على أوســع قدر من الحصول على ما يقتاتون.

ب- وحرم أنواعًا وصورًا من أشكــال البيــوع التي تظـهر إباحتها في الأصل، ولكن لما كانت تزيد من الضيق على الجماهير، وتسهم في تـنـامي الهـم والغـم; حـظـرها ومنع منـها، مـن هــذا النوع:

- قال ابن عمر: (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبيع حاضر لباد)(73).

وقال جابر: (قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)(74).

- نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تلقي الركبان، فقال: (لا تلقوا الركبان)(75)، وما ذلك إلا تخفيفًا لهم المعاش، ولئلا يتضرر الناس بذلك، إذ يؤديان -تلقي الركبان وبيع الحاضر لباد- إلى غلاء الأسعار وضنك الحياة بعسر الشراء للأقوات(76).

ومثل هذه الصور كثيرة، كالنجش، والبيع على بيع الأخ، وغيرها، لأنها جميعًا تؤدي إلى تنامي الهموم بالمعاش والرزق. فسلك الشرع ما يسد كل سبب يولد الهم في الناس، بما ينبه حملة الشريعة والدعاة لها إلى تقديم المعالجات المخففة منه حتى يتفرغ الهم في عبادة الله، بدل أن يستوعبه المعاش ويسجنه الاسترزاق.

2- هم التعليم:

ومن مهام الدعاة أن يتبنوا هم تعليم الجماهير ما يبصرهم أمور دينهم ودنياهم.. ولا يخفى أن القرآن ابتدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول التنزيل يطالبه القراءة والتعليم، حين قال رب العزة: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم} (العلق:1-5) .

والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن ليفوته هذا الهم، حتى فدى أسارى من أسرى بدر من أهل مكة ممن كان يكتب، يدفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمونهم القراءة والكتابة، فإذا حذقوا كان فداءهم، كما تروي كتب السير(77).

3- الهم السياسي:

ولا ينبغي للدعاة أن يغفلوا عن هموم الناس في السياسة والحكم، وأعظم همّ يسارع الدعاة إلى مشاركة الناس فيه وتبنيه عنهم، هو همّ إرجاع أمر الأمة إلى الشورى، وتوفير العدالة، وتقرير الحريات السياسية، فإنها من مقاصد الشرع وغايات الدين وكليات القرآن.

فالنــاس يجــب أن يكــونــوا أحـــرارًا في اعتقــادهم واختـيار مــا يدينون به ويعتقدون، والله تعالى يقول: {لا إكراه في الدين} (البقـرة:256).. ويقـول تعـالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } (يونس:99).. وحرم الإسلام التجسس، وفي القرآن قول الله تعالى: {ولا تجسسوا} (الحجرات:12).

4- الهم الاجتماعي:

إن كثيراً من أبناء المسلمين المنتمين للأمة، المشاركين في الملة والدين، الناطقين بشهادة الحق، الملتزمين بتعاليم الشرع، في كثير من بلداننا الإسلامية لا يزالون يرزحون تحت الاستعباد والرق، الاستعباد الطبقي والرق الاجتماعي، وإن لم يكن رقًا بشراء وبيع، فإنه لمجرد اللون، أو الضعف القبلي، أو لمواقف موروثة، أو لقلة المتاع الدنيوي الزائل، أو غير ذلك.

وإن شريعتنا لا تقر مثل هذه الأوضـاع، ولم يكن الاستسياد أو الاستعباد في تعاليم الشرع ومنطوق الوحي وسنة المعصوم المرسل، وتصرفات المستخلفين بعده ممن حرس نهجه والتزم هديه ووقف حيث أراد الوحي ونطق، لم يكونا -الاستسياد والاستعباد- بسبب اللون، وبسبب ضعف القبيلة أو قـلة المتــاع، أو غيـرها، وإنما كانا بالقرب والبعد من الدين الحق، قيامًا والتزامًا وتفاعلاً وانفعالاً به وبتعاليمه.

إن معيار التكارم البشري في منطق الشرع ومنطوق الوحي المتــلو هــو تحصيل التقــوى والصلاح، وقـد قـال الله سبحـانه وتعالى في ذلك مصرحًا تصريحًا: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).

وإن معيار التفاضل الإنساني في منطوق السنة المعصومة ومنطوق الوحي المبيِّن غير المتلو تعبداً -السنة النبوية- ليس هو المعايير القشرية الطينية والتزيينية من المتاع واللون والتكاثر والتصاهر، بل هو الالتزام والتقوى والصلاح، فاللون آية لله لا مادة تفاضل، والمال مادة طغيان لا معيار تفاضل، والكثرة غثاء كغثاء السيل إن اعتمد على غير الهدى والدين لا معيار تفاضل معتبر في الشرع.. وهذه المعاني الضرورية لحياة الأمة وبقائها كخير الأمم والشاهدة عليها هي التي نطق بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في وسط أيام التشريق والأمة من حوله مجتمعة حاضرة: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا أحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت?. قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)(78).

فالواجب على الدعاة حمل هذا الهم الاجتماعي المشكل، حتى صار اللون دليل عبودية، والقلة شاهد تدن، والضعف القبلي علة تسفل وانحطاط، وأين ذلك?! وعند من ?! عند المسلمين وفي مجتمعاتهم التي يجب عليهم أن يقيموا الدين فيها، وينضبطوا بضوابط الشرع، ويحتكموا إلى معيار القرآن والسنة.

لا يمكن أن يكون غايـة ما يجـوز أن يمـارسه هذه الطبــقات من الأعمال والمهن تنظيف الطرق والمراحيض ودور المياه، وأقصى ما يسمح لهم الاسترزاق بسـؤال النـاس، فلا يحـق لهم التعليم، ولا يسمح لهم بالوظائف العامة، ولا تجوز لهم المشاركات الشعبية في السيـاسـة، ولا الإسهـام في دفع الحياة إلى الخيـر ونفـع الأمــة، ولا الاهتمام بأمر المسلمين..

فقد آن للدعاة أن يتبنوا هذا الهم المعضل، ليرجعوا هذه الفئات والطبقات إلى مواقعها في الحياة الاجتماعية والسعي لإرجاع حقوقها المسلوبة، وإذابة الرواسب الجاهلية التي غطت على حقائق الإسلام وتعاليمه الصريحة، ومبـادئ العدل المطلق، الذي لا يمكن أن يكون هذا الوضع هو مقتضى العدل فيهم.

هذا الهم الاجتماعي يبدو بظهور جلي في بلاد ويخفت في بلاد، وكل في بلده يحمل هم هؤلاء، فإنهم إخواننا في الدين، ورصيد الدعوة في كل حين..

وليـحـذر الدعـاة من إهمـال هـذا الجـانب مـن هموم النــاس، إما استهوانًا لهذه الفئات، أو إسقاطًا للنظر تحت الأرجل دون أن يمد في الآفاق، ويتجاوز به الحاضر والغد القريب إلى ما بعد الغد من أزمان وأيام وأحوال وتقلبات. والأيام دول بين الناس، وفقد هذه الفئات العريضة من أبناء الأمة للون أو لانتماء قبلي أوغيره.

من كتاب ( دعوة الجماهير مكونات الخطاب و وسائل التسديد ) كتاب الأمة 76
*إسلاميات
أضافة تعليق