هويدي 24-12-2002
* المزاج العام في تركيا غير متحمس للعرب ويعتبر مجتمعاتهم متخلفة والدول العربية ليس لديها ادراك بأهمية تركيا استراتيجيا
* حينما وقع الزلزال سارعت إسرائيل الى المساعدة وبنت قرية للمشردين أثبتت حضورها في الريف التركي والدول العربية قدمت مساعدات بدون أي رسالة إلى المتلقين.
* بعد يومين من اختيار عبدالله غول رئيسا للوزراء في تركيا، تلقى ذات صباح اتصالا هاتفيا من رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون هنأه فيه بتولي المنصب، ووجه إليه الدعوة لزيارة اسرائيل، وشاءت المقادير ان تبث وكالة أنباء الأناضول بعد ظهر اليوم ذاته تصريحا لوزير الخارجية في واحدة من أهم الدول العربية رحب فيه بالحكومة الجديدة، وقال انها تضم بعض الوزراء الذين يمكن ان يؤدوا دورا ايجابيا في تحسين العلاقات التركية ـ العربية، في اشارة موحية الى أن المبادرة منتظرة من الجانب التركي. كنت في أنقرة في ذلك اليوم، ولاحظت ان الذين لقيتهم لم تفتهم المقارنة بين الاقبال الاسرائيلي والحذر العربي، الأمر الذي اعتبره البعض تعبيرا عن واقع العلاقات بين تركيا من ناحية وكل من العرب واسرائيل من ناحية ثانية.
* الحالة «دون ما نتمناه»
* لم يكن الأمر مفاجئا لأحد، فالمسؤولون الاتراك وأغلب السفراء العرب لا يختلفون حول تشخيص العلاقات العربية ـ التركية بحسبانها «دون ما نتمناه»، وهو ذات الوصف الذي سمعته من المسؤولين الذين لقيتهم، بدءا من رئيس الوزراء عبدالله غول ورئيس البرلمان بولند ارانج الى الدكتور سيف قاشهان مدير معهد السياسة الخارجية والسفير غونر اوزتك مدير مركز ابحاث الشرق الأوسط والبلقان، ومن المفارقات التي تلفت النظر في هذا الصدد ان العلاقات التي توترت يوما ما بين دمشق وأنقرة، ووصلت الى درجة تهديد وانذار الأخيرة بالرد العسكري على سورية في عام 98، انقلبت الآن رأسا على عقب في اتجاه ايجابي، حتى اصبحت سورية تحتل رأس قائمة الدول العربية في تعاملها التجاري مع تركيا (الذي وصل الى حوالي مليار دولار سنويا)، كما أصبح المسؤولون السوريون هم أنشط زائر سياسي عربي لأنقرة، حتى قيل لي هناك ان 60 مسؤولا سوريا زاروا العاصمة التركية خلال السنتين الاخيرتين، لذلك لم يكن غريبا ان يكون الرئيس بشار الأسد هو ثاني رئيس هنأ عبد الله غول بمنصبه، بعد الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش.
ليست هذه هي المفارقة الوحيدة، وانما يلاحظ أيضا انه بينما أصبحت العلاقات بين أغلب العواصم العربية وأنقرة مفتقدة الى الحرارة الواجبة فإن اقبال الشعوب العربية على تركيا يتزايد عاما بعد عام، وقد حقق معدلات غير مسبوقة في العام الماضي، في الاغلب بسبب عزوف اعداد غير قليلة من العرب عن قضاء عطلاتهم في الولايات المتحدة وأوروبا للأسباب المفهومة التي طرأت بعد 11 سبتمبر (ايلول)، واتجاههم الى تركيا وماليزيا والمغرب في المرتبة الثالثة.
* لماذا تبدو الاستجابة العربية محدودة
* اننا اذا حاولنا أن نعطي علامة تقييم للعلاقات العربية التركية على المستوى الرسمي، فانها لن تعدو كثيرا حدود «المقبول»، حيث يظل «الجيد» استثناء يصعب تعميمه أو القياس عليه، وقد غاظني وأحزنني كثيرا ان يصبح التقدير الاعلى في هذا الصدد من نصيب الدول الغربية واسرائيل ودول آسيا الوسطى، التي تصنف في إطار ما يسمى بالحزام التركي، بسبب من ذلك فان أحد الأسئلة التي حاولت البحث عن اجابة لها في أنقرة هو ذلك الذي ينصب على تفسير لغياب الحرارة المرتجاة عن مسار العلاقات العربية التركية.
لقد عشنا معا أربعة قرون، وهذا ليس بالأمر الهين، وما نسج من وشائج خلال تلك الفترة يصعب تجاهله أو محوه، هكذا قال السفير غونر اوزتك حينما ناقشته في الموضوع، ثم أضاف ان رواسب الماضي مازالت تؤثر سلبا على محاولات تنشيط العلاقات في الحاضر أو التطلع الى المستقبل، وهذه الرواسب بعضها قديم يمكن تجاوزه، وبعضها حديث فقد أهميته، وهو يرى ان على المثقفين مسؤولية اغناء الحوار المشترك، وان المدخل العملي لدفع عجلة العلاقات يتمثل في التعاون الاقتصادي، الذي من شأنه ان يمد بين الطرفين جسر المصالح، وعليه يمكن ان تعبر أشياء أخرى كثيرة، وفي تقديره ان ثمة محاولات من الجانب التركي لفتح ذلك الباب لكن الاستجابة مازالت محدودة من الجانب العربي، الذي من مشكلاته انه يتوزع على أكثر من عشرين دولة، وكل دولة لها حساباتها ومصالحها الخاصة، الأمر الذي لا يوفر دائما فرصة الاتفاق على رؤية مشتركة أو استراتيجية واحدة إزاء ملفات وقضايا عديدة.
حين سألته عن اشارته الى المحاولات التركية لمد الجسور مع العالم العربي، قال ان تركيا دعت في سنة 2000 الى مؤتمر عقد في اسطنبول لبحث مستقبل التعاون الاقتصادي مع العالم العربي في القرن الواحد والعشرين، وشاركت فيه 12 دولة عربية، وكان يفترض ان يعقد دورة أخرى في أي عاصمة عربية لاستكمال الحوار حول الموضوع، ولكن ذلك لم يحدث، وحين دعا أحد المراكز البحثية في تونس الى حوار عربي ـ تركي في صيف العام الحالي (2002) وجدنا ان الحضور العربي متواضع، وغابت عنه عدة دول في مقدمتها مصر والسعودية وسورية، ولذلك فان نجاح المؤتمر كان محدودا، وثمة جهود أخرى للوصل والحوار باشرتها بعض المراكز البحثية العربية الأخرى (مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مثلا)، ولكنها ظلت تعبر عن اهتمامات أفراد أو مؤسسات أهلية، لا عن سياسات أو استراتيجية عربية.
* هكذا تم فك الارتباط
* كنت قد حملت معي في سفرتي الى تركيا كتاب «حجاب وحراب» الذي صدر في بيروت، وألفه الدكتور محمد نورالدين خبير الشؤون التركية عن أزمة الهوية هناك، واستوقفني في مستهله عبارة قال فيها ان العرب والاتراك جمعت بينهم رابطتان هما الأرض والخلافة، والأولى ذهبت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، أما الثانية فقد ذهبت بالغائها واقامة الجمهورية في عام 1923، وهو ما أدى الى «فك الارتباط» الذي نشأ طيلة تلك الفترة بين الطرفين.
تتبع المؤلف مسار العلاقات العربية التركية بعد ذلك، حيث كان طبيعيا أن تضعف تلك العلاقات، خصوصا ان صدى إلغاء الخلافة كان قويا وعميقا في العالم العربي والاسلامي، لكن الملاحظة المهمة في هذا الصدد ان الاعراض التركي عن العرب كان واضحا طيلة سنوات حكم اتاتورك التي استمرت 15 عاما (من عام 1923 الى 1938) حيث شهدت تلك الفترة جهودا حثيثة من جانب نظامه للقطيعة مع العرب، والالتحاق اللحوح بأوروبا والغرب بعامة، ومن الملاحظات ذات الدلالة في هذه النقطة ان كلمة «عربي» لم تذكر في البيانات الوزارية لبيانات الحكومات الجمهورية التركية منذ تأسيسها في عام 1923 إلا بعد ذلك بـ23 سنة أي في عام .1946 لم يكن اتاتورك مهتما بالعرب ولا حريصا على كسب ودهم، ولا غرابة في ذلك فاذا كان الرجل قد اختار القطيعة مع الاسلام بشعائره وأهله، فقد كانت قطيعته مع العرب أمرا طبيعيا، خصوصا انه حسم اختياره لصالح الالتحاق بالغرب، واعلن حربه حتى على الحرف العربي، الذي كتبه باللاتينية، كذلك لم يكن مستغربا والأمر كذلك ان تظل العلاقات بين تركيا والعالم العربي طيلة حكم اتاتورك عند الحدود الدنيا، حيث لم تكن لبلاده علاقات دبلوماسية إلا مع بلدين عربيين فقط هما مصر والعراق، ولندرة الاتصالات بين الجانبين آنذاك، يذكر ان أول اتصال رسمي بين مسؤول تركي وآخر عربي بعد اقامة الجمهورية تمثل في مشاركة وزير خارجية تركيا، توفيق رشدي اراس، في مؤتمر الشعوب الاسلامية الذي انعقد في مكة عام 1926، أما أول زيارة لمسؤول عربي كبير الى انقرة، فقد تمت في عام 1928، وكان الزائر هو الأمير فيصل آل سعود، الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك (وأصبح ملكا فيما بعد)، ويسجل ملف العلاقات ان الحدث الابرز كان زيارة الملك فيصل ملك العراق لتركيا صيف العام 1931، التي صحبه فيها رئيس وزرائه نوري السعيد، وعدت أول زيارة لرئيس دولة عربي الى تركيا الكمالية.
* حين ظهرت اسرائىل
* انشغل العرب والاتراك خلال العشرينيات والثلاثينيات بالمشكلات التي اسفرت عنها الحرب العالمية الاولى، تركيا شغلت بترتيب اوضاعها الداخلية، والعرب انشغلوا بالوضع الذي استجد نتيجة توقيع اتفاقية سايكس بيكو، ووقوعهم تحت سيطرة القوتين الاستعماريتين انجلترا وفرنسا، في الوقت ذاته ترتب على تفكك الدولة العثمانية، اثارة بعض المشاكل الحدودية بين تركيا الجمهورية وجيرانها العرب، وكانت أهمها مشكلتا لواء الموصل في العراق ولواء الاسكندرونة في سورية، وكانت الموصل تحت السيطرة التركية حينا من الدهر، ثم احتلها الانجليز، وتمسكت تركيا بتبعيتها لها، إلا انه تمت تسوية الأمر باتفاق وقع بين تركيا والعراق وحضرته بريطانيا باعتبارها دولة الانتداب، وبمقتضاه عاد لواء الموصل الى العراق (بعض القوميين الاتراك لايزالون يعتبرونه لواء سليبا)، أما لواء الاسكندرونة الذي كان تحت الانتداب الفرنسي، فقد عقدت فرنسا بشأنه صفقة مع حكومة أنقرة أدت الى إلحاقه بالحدود التركية، مقابل ضمان وقوف تركيا الى جانب فرنسا في أي حرب عالمية جديدة.
ألقت مشكلتا الموصل والاسكندرونة بظلالها السلبية على العلاقات العربية التركية، واشاعت في أجوائها حالة من التوتر وعدم الارتياح، وهو ما لم تأبه به تركيا التي كانت قد ادارت ظهرها للعرب، وتحولت باهتمامها صوب أوروبا في الغرب.
جاء اعتراف تركيا باسرائيل عند نشوئها في عام 1948 ليضيف سعيا آخر لتوتير الأجواء مع العرب، ثم تتابعت بعد ذلك أسباب أخرى في مقدمتها دخول تركيا في الاحلاف العسكرية التي استهدفت حصار المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات ثم تأييد بعض الدول العربية لحزب العمال الكردي الذي اصبح رمزا للإرهاب في الخطاب السياسي التركي، وحين هدأت العلاقات وخفت في محيطها الزوابع في السبعينيات والثمانينيات فصاعدا، كانت تركيا قد اصبحت جزءا من الاستراتيجية الاميركية، وفيما يشبه التحالف الاستراتيجي مع اسرائيل، اعني ان تغريبها وصل الى منتهاه، حتى بلغ الشواطىء الاسرائيلية.
* لا توجد استراتيجية عربية
* هل كان ذلك بسبب الاندفاع التركي في الالتحاق بالغرب، ومن ثم عزوفها عن الالتفات الى الشرق بمختلف مكوناته، أم انه من نتائج غياب استراتيجية عربية ترمي الى الحفاظ على علاقات إيجابية مع تركيا تغريها بأن لها مصلحة في التعامل مع العرب وتكبح جماح تورطها في علاقات أبعد مع اسرائيل.
سفير عربي صديق ومخضرم أجاب بصراحة على السؤال، وطلب مني ألا أذكر اسمه حتى لا أحرجه مع حكومته أو مع الأتراك، وكانت اجابته على النحو التالي:
ليس هناك استراتيجية عربية واضحة في التعامل مع تركيا، ولكن هناك اجتهادات عربية تختلف باختلاف سياسة ومصالح كل بلد، وأحيانا تبعا لمزاج كل زعيم. وضرب لذلك مثلا بإحدى الدول العربية الكبيرة التي أقام زعيمها علاقة خاصة مع الرئيس السابق سليمان ديميريل، الأمر الذي أضفى حماسا وحيوية على علاقة بلده مع أنقرة، ولكن حين انتهت مدة رئاسة ديميريل، وانتخب محله الرئيس الحالي احمد نجدت سيزر، وقام الاخير بزيارة لعاصمة الدولة المذكورة والتقى برئيسها، فان «الكيمياء» لم تفعل مفعولها بين الرجلين، في الاغلب لان الرئيس التركي لم يكن سياسيا في الاساس، وانما هو رجل قانون صارم لايجيد فن العلاقات العامة، كانت النتيجة ان العلاقة ظلت رسمية وافتقدت الى الحميمية التي كانت قائمة في عهد ديميريل، ولان درجة المودة انخفضت، فإن حرارة العلاقات تراجعت على نحو تدريجي، حتى اتسمت ببرود نسبي، وتجلت في تقاعس وزراء الدولة العربية في الاستجابة للدعوات التركية أو حضور المناسبات التي تدخل في اختصاصهم، حتى ان وزير التعليم العالي العربي حدد ثلاثة مواعيد لزيارة أنقرة، ثم ألغاها في اللحظة الأخيرة واحدا تلو الآخر.
* موقف عدائي للعسكر
* لايزال المزاج العام في تركيا قليل الحماس للتعامل مع العرب بشكل عام، حيث ينظر الى مجتمعاتهم باعتبارها متخلفة، ولم تضع أقدامها على عتبات التقدم أو النهوض بعد، وهم يفضلون التعامل مع اوروبا المتحضرة، مع ذلك فهم يرغبون في تنشيط علاقاتهم الاقتصادية بالعالم العربي والاسلامي الذي يعتبرونه سوقا واسعة يستطيعون ان يقدموا لها الكثير، وان يفيدوا ويستفيدوا، ولاشك ان تراجع الانتاج الصناعي في العالم العربي يغري الصناعيين الاتراك بامكانية جني الكثير من التعامل مع الاسواق العربية، ويتطلع قطاع المقاولات التركي الى فرصة مماثلة، رغم ان تجربتهم مع ليبيا لم تنجح تماما، لانهم لم يستطيعوا ان يحصلوا على حقوقهم المالية بعد انجازهم لعدة مشروعات هناك، وليس من شك في ان تردد الاتحاد الاوروبي في قبول عضوية تركيا يدفع الاقتصاديين فضلا عن السياسيين الاتراك الى البحث عن بدائل أخرى حتى يحسم الأمر، ومن المهم للغاية ان يثبت العرب في الوقت الراهن ان أسواقهم يمكن ان تشكل أحد البدائل المرشحة، هذا اذا كانوا حريصين على توثيق علاقاتهم مع تركيا ومدركين لأهميتها السياسية والاستراتيجية.
بين النخبة العسكرية التركية بوجه أخص هناك تيار (لوبي) لايحترم العرب ويحارب بشدة أي محاولة للاقتراب منهم، وهذا التيار له علاقاته الوثيقة ومصالحه القوية مع الاميركيين والاسرائيليين، بل يضغط بشدة لصالح تمتين تلك العلاقات، وقبل أشهر معدودة ضغطت عناصر ذلك التيار لشراء صفقة دبابات مع اسرائيل بأسعار تبين انها أغلى من الأسعار العالمية، الأمر الذي حمل الميزانية التركية أعباء كانت في غنى عنها.
ونجحت اسرائيل في أن تقنع النخبة التركية بأنها تجني الكثير من الفوائد من خلال التعامل / التحالف معها، وبطبيعة الحال فان الولايات المتحدة لعبت دورا لايستهان به في بيع اسرائيل الى تركيا، على سبيل المثال، الاتفاق بين الصناعيين الاسرائيليين والاميركيين على اقامة مناطق صناعية للتصدير في تركيا، اطلق عليها اسم «المناطق المؤهلة»، وانتاج تلك المناطق يخرج من تركيا الى اسرائيل، ومنها يصدر الى الولايات المتحدة، في الوقت ذاته هناك تعاون قوي مع اسرائيل في مجال الزراعة خصوصا في مشروع تنمية جنوب شرقي الاناضول المعروف باسم غاب GAP وهو مشروع كبير يخطط له بحيث يستوعب مركزا عالميا للانتاج الزراعي تشارك فيه تركيا واسرائيل والولايات المتحدة (التمويل اميركي)، وتكون جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى إحدى أسواقه الرئيسية.
على صعيد آخر فهناك لجنة مشتركة بين اسرائيل وتركيا لبحث موضوع المياه الفائضة في تركيا والشحيحة في اسرائيل، ويرأس الفريق الاسرائيلي في اللجنة مدير مكتب رئيس الوزراء (اسمه افيجدور اسحاق) ويرأسها من الجانب التركي نائب وزير الطاقة.
ولا تفوت اسرائيل مناسبة إلا وتحاول اثبات الحضور في تركيا، فحين وقع الزلزال الذي راح ضحيته أربعة آلاف تركي في عام 1999، سارعت اسرائيل الى ارسال فرق الانقاذ، وقدمت دول عربية وغير عربية مساعدات مالية وعينية للمنكوبين، وقدم مجلس التعاون الخليجي مليوني دولار لاغاثتهم، لكن اسرائيل بعد ان ارسلت فرق الانقاذ أقامت قرية صغيرة في ضواحي مدينة «امنه بازاري»، ضمت 350 منزلا (تكلفت 10 ملايين دولار) اسهاما منها في إيواء الذين شردهم الزلزال، وفي مدخل القرية ثبتت لوحة حجرية كبيرة كتبت عليها باللغتين الانجليزية والتركية: القرية الاسرائيلية ـ التركية، هدية من الشعب الاسرائيلي والحكومة التركية الى شعب امنه بازاري، والى جوارها رفع العلمان التركي والاسرائيلي، وبهذه اللفتة نجح الاسرائيليون في اثبات حضورهم في الريف التركي، في حين لم يتسلم الناس رسالة المتبرعين الآخرين، بمن فيهم الذين تبرعوا بأربعمائة مليون دولار.
* في انتظار ماذا؟
* أخيرا قال الدبلوماسي العربي المخضرم ان بعض الحكومات العربية آثرت الانتظار وهي تتابع المشهد التركي، حتى تظهر نتائج الانتخابات النيابية، وحين فاز حزب العدالة والتنمية ذو الخلفية الاسلامية، فان تلك الحكومات اختارت ان تواصل الانتظار حتى ينجلي الموقف تماما، وتتأكد من ان حكومة حزب العدالة لن تنتهي نهاية حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين اربكان، التي اضطرت للاستقالة في نهاية المطاف اثر اصطدامها مع العسكر، وبسبب موقف الانتظار هذا فان تلك الحكومات وقفت متفرجة ولم تفعل شيئا، في حين ان كل صاحب مصلحة يتحرك بسرعة ليحقق مراده ويدافع عن مصالحه، الأمر الذي يضيف نقاطا الى رصيد الذين يتحركون، ويصنف المنتظرين والمتفرجين في خانة الصفر.
بسبب هذه الملابسات فانني خرجت بانطباع مؤداه ان مشكلة العلاقات التركية العربية تتلخص في نقطتين، الأولى انه ليس ثمة ادراك عربي لأهمية بلد مثل تركيا، له موقعه الاستراتيجي الخطير، الذي يشرف من خلاله على ثلاث دول عربية واسلامية مهمة (هي سورية والعراق وايران)، ويصل ما بين الشرق والغرب، كما ان له ثقله السكاني المعتبر وقوته العسكرية التي لايستهان بها، وقدراته الاقتصادية الكبيرة، أما النقطة الثانية فهي ما قيل من انه لاتوجد استراتيجية عربية تتوخى المصالح العليا للأمة، في المدى القريب أو البعيد، وهذه الاستراتيجية غائبة تماما عن التعاطف مع الشأن التركي، بقدر غيبتها عن غيره من الشؤون.
هل يحق لنا والأمر كذلك أن نلوم الأتراك أو نعاتبهم؟
* المزاج العام في تركيا غير متحمس للعرب ويعتبر مجتمعاتهم متخلفة والدول العربية ليس لديها ادراك بأهمية تركيا استراتيجيا
* حينما وقع الزلزال سارعت إسرائيل الى المساعدة وبنت قرية للمشردين أثبتت حضورها في الريف التركي والدول العربية قدمت مساعدات بدون أي رسالة إلى المتلقين.
* بعد يومين من اختيار عبدالله غول رئيسا للوزراء في تركيا، تلقى ذات صباح اتصالا هاتفيا من رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون هنأه فيه بتولي المنصب، ووجه إليه الدعوة لزيارة اسرائيل، وشاءت المقادير ان تبث وكالة أنباء الأناضول بعد ظهر اليوم ذاته تصريحا لوزير الخارجية في واحدة من أهم الدول العربية رحب فيه بالحكومة الجديدة، وقال انها تضم بعض الوزراء الذين يمكن ان يؤدوا دورا ايجابيا في تحسين العلاقات التركية ـ العربية، في اشارة موحية الى أن المبادرة منتظرة من الجانب التركي. كنت في أنقرة في ذلك اليوم، ولاحظت ان الذين لقيتهم لم تفتهم المقارنة بين الاقبال الاسرائيلي والحذر العربي، الأمر الذي اعتبره البعض تعبيرا عن واقع العلاقات بين تركيا من ناحية وكل من العرب واسرائيل من ناحية ثانية.
* الحالة «دون ما نتمناه»
* لم يكن الأمر مفاجئا لأحد، فالمسؤولون الاتراك وأغلب السفراء العرب لا يختلفون حول تشخيص العلاقات العربية ـ التركية بحسبانها «دون ما نتمناه»، وهو ذات الوصف الذي سمعته من المسؤولين الذين لقيتهم، بدءا من رئيس الوزراء عبدالله غول ورئيس البرلمان بولند ارانج الى الدكتور سيف قاشهان مدير معهد السياسة الخارجية والسفير غونر اوزتك مدير مركز ابحاث الشرق الأوسط والبلقان، ومن المفارقات التي تلفت النظر في هذا الصدد ان العلاقات التي توترت يوما ما بين دمشق وأنقرة، ووصلت الى درجة تهديد وانذار الأخيرة بالرد العسكري على سورية في عام 98، انقلبت الآن رأسا على عقب في اتجاه ايجابي، حتى اصبحت سورية تحتل رأس قائمة الدول العربية في تعاملها التجاري مع تركيا (الذي وصل الى حوالي مليار دولار سنويا)، كما أصبح المسؤولون السوريون هم أنشط زائر سياسي عربي لأنقرة، حتى قيل لي هناك ان 60 مسؤولا سوريا زاروا العاصمة التركية خلال السنتين الاخيرتين، لذلك لم يكن غريبا ان يكون الرئيس بشار الأسد هو ثاني رئيس هنأ عبد الله غول بمنصبه، بعد الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش.
ليست هذه هي المفارقة الوحيدة، وانما يلاحظ أيضا انه بينما أصبحت العلاقات بين أغلب العواصم العربية وأنقرة مفتقدة الى الحرارة الواجبة فإن اقبال الشعوب العربية على تركيا يتزايد عاما بعد عام، وقد حقق معدلات غير مسبوقة في العام الماضي، في الاغلب بسبب عزوف اعداد غير قليلة من العرب عن قضاء عطلاتهم في الولايات المتحدة وأوروبا للأسباب المفهومة التي طرأت بعد 11 سبتمبر (ايلول)، واتجاههم الى تركيا وماليزيا والمغرب في المرتبة الثالثة.
* لماذا تبدو الاستجابة العربية محدودة
* اننا اذا حاولنا أن نعطي علامة تقييم للعلاقات العربية التركية على المستوى الرسمي، فانها لن تعدو كثيرا حدود «المقبول»، حيث يظل «الجيد» استثناء يصعب تعميمه أو القياس عليه، وقد غاظني وأحزنني كثيرا ان يصبح التقدير الاعلى في هذا الصدد من نصيب الدول الغربية واسرائيل ودول آسيا الوسطى، التي تصنف في إطار ما يسمى بالحزام التركي، بسبب من ذلك فان أحد الأسئلة التي حاولت البحث عن اجابة لها في أنقرة هو ذلك الذي ينصب على تفسير لغياب الحرارة المرتجاة عن مسار العلاقات العربية التركية.
لقد عشنا معا أربعة قرون، وهذا ليس بالأمر الهين، وما نسج من وشائج خلال تلك الفترة يصعب تجاهله أو محوه، هكذا قال السفير غونر اوزتك حينما ناقشته في الموضوع، ثم أضاف ان رواسب الماضي مازالت تؤثر سلبا على محاولات تنشيط العلاقات في الحاضر أو التطلع الى المستقبل، وهذه الرواسب بعضها قديم يمكن تجاوزه، وبعضها حديث فقد أهميته، وهو يرى ان على المثقفين مسؤولية اغناء الحوار المشترك، وان المدخل العملي لدفع عجلة العلاقات يتمثل في التعاون الاقتصادي، الذي من شأنه ان يمد بين الطرفين جسر المصالح، وعليه يمكن ان تعبر أشياء أخرى كثيرة، وفي تقديره ان ثمة محاولات من الجانب التركي لفتح ذلك الباب لكن الاستجابة مازالت محدودة من الجانب العربي، الذي من مشكلاته انه يتوزع على أكثر من عشرين دولة، وكل دولة لها حساباتها ومصالحها الخاصة، الأمر الذي لا يوفر دائما فرصة الاتفاق على رؤية مشتركة أو استراتيجية واحدة إزاء ملفات وقضايا عديدة.
حين سألته عن اشارته الى المحاولات التركية لمد الجسور مع العالم العربي، قال ان تركيا دعت في سنة 2000 الى مؤتمر عقد في اسطنبول لبحث مستقبل التعاون الاقتصادي مع العالم العربي في القرن الواحد والعشرين، وشاركت فيه 12 دولة عربية، وكان يفترض ان يعقد دورة أخرى في أي عاصمة عربية لاستكمال الحوار حول الموضوع، ولكن ذلك لم يحدث، وحين دعا أحد المراكز البحثية في تونس الى حوار عربي ـ تركي في صيف العام الحالي (2002) وجدنا ان الحضور العربي متواضع، وغابت عنه عدة دول في مقدمتها مصر والسعودية وسورية، ولذلك فان نجاح المؤتمر كان محدودا، وثمة جهود أخرى للوصل والحوار باشرتها بعض المراكز البحثية العربية الأخرى (مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت مثلا)، ولكنها ظلت تعبر عن اهتمامات أفراد أو مؤسسات أهلية، لا عن سياسات أو استراتيجية عربية.
* هكذا تم فك الارتباط
* كنت قد حملت معي في سفرتي الى تركيا كتاب «حجاب وحراب» الذي صدر في بيروت، وألفه الدكتور محمد نورالدين خبير الشؤون التركية عن أزمة الهوية هناك، واستوقفني في مستهله عبارة قال فيها ان العرب والاتراك جمعت بينهم رابطتان هما الأرض والخلافة، والأولى ذهبت مع نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، أما الثانية فقد ذهبت بالغائها واقامة الجمهورية في عام 1923، وهو ما أدى الى «فك الارتباط» الذي نشأ طيلة تلك الفترة بين الطرفين.
تتبع المؤلف مسار العلاقات العربية التركية بعد ذلك، حيث كان طبيعيا أن تضعف تلك العلاقات، خصوصا ان صدى إلغاء الخلافة كان قويا وعميقا في العالم العربي والاسلامي، لكن الملاحظة المهمة في هذا الصدد ان الاعراض التركي عن العرب كان واضحا طيلة سنوات حكم اتاتورك التي استمرت 15 عاما (من عام 1923 الى 1938) حيث شهدت تلك الفترة جهودا حثيثة من جانب نظامه للقطيعة مع العرب، والالتحاق اللحوح بأوروبا والغرب بعامة، ومن الملاحظات ذات الدلالة في هذه النقطة ان كلمة «عربي» لم تذكر في البيانات الوزارية لبيانات الحكومات الجمهورية التركية منذ تأسيسها في عام 1923 إلا بعد ذلك بـ23 سنة أي في عام .1946 لم يكن اتاتورك مهتما بالعرب ولا حريصا على كسب ودهم، ولا غرابة في ذلك فاذا كان الرجل قد اختار القطيعة مع الاسلام بشعائره وأهله، فقد كانت قطيعته مع العرب أمرا طبيعيا، خصوصا انه حسم اختياره لصالح الالتحاق بالغرب، واعلن حربه حتى على الحرف العربي، الذي كتبه باللاتينية، كذلك لم يكن مستغربا والأمر كذلك ان تظل العلاقات بين تركيا والعالم العربي طيلة حكم اتاتورك عند الحدود الدنيا، حيث لم تكن لبلاده علاقات دبلوماسية إلا مع بلدين عربيين فقط هما مصر والعراق، ولندرة الاتصالات بين الجانبين آنذاك، يذكر ان أول اتصال رسمي بين مسؤول تركي وآخر عربي بعد اقامة الجمهورية تمثل في مشاركة وزير خارجية تركيا، توفيق رشدي اراس، في مؤتمر الشعوب الاسلامية الذي انعقد في مكة عام 1926، أما أول زيارة لمسؤول عربي كبير الى انقرة، فقد تمت في عام 1928، وكان الزائر هو الأمير فيصل آل سعود، الذي كان وزيرا للخارجية آنذاك (وأصبح ملكا فيما بعد)، ويسجل ملف العلاقات ان الحدث الابرز كان زيارة الملك فيصل ملك العراق لتركيا صيف العام 1931، التي صحبه فيها رئيس وزرائه نوري السعيد، وعدت أول زيارة لرئيس دولة عربي الى تركيا الكمالية.
* حين ظهرت اسرائىل
* انشغل العرب والاتراك خلال العشرينيات والثلاثينيات بالمشكلات التي اسفرت عنها الحرب العالمية الاولى، تركيا شغلت بترتيب اوضاعها الداخلية، والعرب انشغلوا بالوضع الذي استجد نتيجة توقيع اتفاقية سايكس بيكو، ووقوعهم تحت سيطرة القوتين الاستعماريتين انجلترا وفرنسا، في الوقت ذاته ترتب على تفكك الدولة العثمانية، اثارة بعض المشاكل الحدودية بين تركيا الجمهورية وجيرانها العرب، وكانت أهمها مشكلتا لواء الموصل في العراق ولواء الاسكندرونة في سورية، وكانت الموصل تحت السيطرة التركية حينا من الدهر، ثم احتلها الانجليز، وتمسكت تركيا بتبعيتها لها، إلا انه تمت تسوية الأمر باتفاق وقع بين تركيا والعراق وحضرته بريطانيا باعتبارها دولة الانتداب، وبمقتضاه عاد لواء الموصل الى العراق (بعض القوميين الاتراك لايزالون يعتبرونه لواء سليبا)، أما لواء الاسكندرونة الذي كان تحت الانتداب الفرنسي، فقد عقدت فرنسا بشأنه صفقة مع حكومة أنقرة أدت الى إلحاقه بالحدود التركية، مقابل ضمان وقوف تركيا الى جانب فرنسا في أي حرب عالمية جديدة.
ألقت مشكلتا الموصل والاسكندرونة بظلالها السلبية على العلاقات العربية التركية، واشاعت في أجوائها حالة من التوتر وعدم الارتياح، وهو ما لم تأبه به تركيا التي كانت قد ادارت ظهرها للعرب، وتحولت باهتمامها صوب أوروبا في الغرب.
جاء اعتراف تركيا باسرائيل عند نشوئها في عام 1948 ليضيف سعيا آخر لتوتير الأجواء مع العرب، ثم تتابعت بعد ذلك أسباب أخرى في مقدمتها دخول تركيا في الاحلاف العسكرية التي استهدفت حصار المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات ثم تأييد بعض الدول العربية لحزب العمال الكردي الذي اصبح رمزا للإرهاب في الخطاب السياسي التركي، وحين هدأت العلاقات وخفت في محيطها الزوابع في السبعينيات والثمانينيات فصاعدا، كانت تركيا قد اصبحت جزءا من الاستراتيجية الاميركية، وفيما يشبه التحالف الاستراتيجي مع اسرائيل، اعني ان تغريبها وصل الى منتهاه، حتى بلغ الشواطىء الاسرائيلية.
* لا توجد استراتيجية عربية
* هل كان ذلك بسبب الاندفاع التركي في الالتحاق بالغرب، ومن ثم عزوفها عن الالتفات الى الشرق بمختلف مكوناته، أم انه من نتائج غياب استراتيجية عربية ترمي الى الحفاظ على علاقات إيجابية مع تركيا تغريها بأن لها مصلحة في التعامل مع العرب وتكبح جماح تورطها في علاقات أبعد مع اسرائيل.
سفير عربي صديق ومخضرم أجاب بصراحة على السؤال، وطلب مني ألا أذكر اسمه حتى لا أحرجه مع حكومته أو مع الأتراك، وكانت اجابته على النحو التالي:
ليس هناك استراتيجية عربية واضحة في التعامل مع تركيا، ولكن هناك اجتهادات عربية تختلف باختلاف سياسة ومصالح كل بلد، وأحيانا تبعا لمزاج كل زعيم. وضرب لذلك مثلا بإحدى الدول العربية الكبيرة التي أقام زعيمها علاقة خاصة مع الرئيس السابق سليمان ديميريل، الأمر الذي أضفى حماسا وحيوية على علاقة بلده مع أنقرة، ولكن حين انتهت مدة رئاسة ديميريل، وانتخب محله الرئيس الحالي احمد نجدت سيزر، وقام الاخير بزيارة لعاصمة الدولة المذكورة والتقى برئيسها، فان «الكيمياء» لم تفعل مفعولها بين الرجلين، في الاغلب لان الرئيس التركي لم يكن سياسيا في الاساس، وانما هو رجل قانون صارم لايجيد فن العلاقات العامة، كانت النتيجة ان العلاقة ظلت رسمية وافتقدت الى الحميمية التي كانت قائمة في عهد ديميريل، ولان درجة المودة انخفضت، فإن حرارة العلاقات تراجعت على نحو تدريجي، حتى اتسمت ببرود نسبي، وتجلت في تقاعس وزراء الدولة العربية في الاستجابة للدعوات التركية أو حضور المناسبات التي تدخل في اختصاصهم، حتى ان وزير التعليم العالي العربي حدد ثلاثة مواعيد لزيارة أنقرة، ثم ألغاها في اللحظة الأخيرة واحدا تلو الآخر.
* موقف عدائي للعسكر
* لايزال المزاج العام في تركيا قليل الحماس للتعامل مع العرب بشكل عام، حيث ينظر الى مجتمعاتهم باعتبارها متخلفة، ولم تضع أقدامها على عتبات التقدم أو النهوض بعد، وهم يفضلون التعامل مع اوروبا المتحضرة، مع ذلك فهم يرغبون في تنشيط علاقاتهم الاقتصادية بالعالم العربي والاسلامي الذي يعتبرونه سوقا واسعة يستطيعون ان يقدموا لها الكثير، وان يفيدوا ويستفيدوا، ولاشك ان تراجع الانتاج الصناعي في العالم العربي يغري الصناعيين الاتراك بامكانية جني الكثير من التعامل مع الاسواق العربية، ويتطلع قطاع المقاولات التركي الى فرصة مماثلة، رغم ان تجربتهم مع ليبيا لم تنجح تماما، لانهم لم يستطيعوا ان يحصلوا على حقوقهم المالية بعد انجازهم لعدة مشروعات هناك، وليس من شك في ان تردد الاتحاد الاوروبي في قبول عضوية تركيا يدفع الاقتصاديين فضلا عن السياسيين الاتراك الى البحث عن بدائل أخرى حتى يحسم الأمر، ومن المهم للغاية ان يثبت العرب في الوقت الراهن ان أسواقهم يمكن ان تشكل أحد البدائل المرشحة، هذا اذا كانوا حريصين على توثيق علاقاتهم مع تركيا ومدركين لأهميتها السياسية والاستراتيجية.
بين النخبة العسكرية التركية بوجه أخص هناك تيار (لوبي) لايحترم العرب ويحارب بشدة أي محاولة للاقتراب منهم، وهذا التيار له علاقاته الوثيقة ومصالحه القوية مع الاميركيين والاسرائيليين، بل يضغط بشدة لصالح تمتين تلك العلاقات، وقبل أشهر معدودة ضغطت عناصر ذلك التيار لشراء صفقة دبابات مع اسرائيل بأسعار تبين انها أغلى من الأسعار العالمية، الأمر الذي حمل الميزانية التركية أعباء كانت في غنى عنها.
ونجحت اسرائيل في أن تقنع النخبة التركية بأنها تجني الكثير من الفوائد من خلال التعامل / التحالف معها، وبطبيعة الحال فان الولايات المتحدة لعبت دورا لايستهان به في بيع اسرائيل الى تركيا، على سبيل المثال، الاتفاق بين الصناعيين الاسرائيليين والاميركيين على اقامة مناطق صناعية للتصدير في تركيا، اطلق عليها اسم «المناطق المؤهلة»، وانتاج تلك المناطق يخرج من تركيا الى اسرائيل، ومنها يصدر الى الولايات المتحدة، في الوقت ذاته هناك تعاون قوي مع اسرائيل في مجال الزراعة خصوصا في مشروع تنمية جنوب شرقي الاناضول المعروف باسم غاب GAP وهو مشروع كبير يخطط له بحيث يستوعب مركزا عالميا للانتاج الزراعي تشارك فيه تركيا واسرائيل والولايات المتحدة (التمويل اميركي)، وتكون جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى إحدى أسواقه الرئيسية.
على صعيد آخر فهناك لجنة مشتركة بين اسرائيل وتركيا لبحث موضوع المياه الفائضة في تركيا والشحيحة في اسرائيل، ويرأس الفريق الاسرائيلي في اللجنة مدير مكتب رئيس الوزراء (اسمه افيجدور اسحاق) ويرأسها من الجانب التركي نائب وزير الطاقة.
ولا تفوت اسرائيل مناسبة إلا وتحاول اثبات الحضور في تركيا، فحين وقع الزلزال الذي راح ضحيته أربعة آلاف تركي في عام 1999، سارعت اسرائيل الى ارسال فرق الانقاذ، وقدمت دول عربية وغير عربية مساعدات مالية وعينية للمنكوبين، وقدم مجلس التعاون الخليجي مليوني دولار لاغاثتهم، لكن اسرائيل بعد ان ارسلت فرق الانقاذ أقامت قرية صغيرة في ضواحي مدينة «امنه بازاري»، ضمت 350 منزلا (تكلفت 10 ملايين دولار) اسهاما منها في إيواء الذين شردهم الزلزال، وفي مدخل القرية ثبتت لوحة حجرية كبيرة كتبت عليها باللغتين الانجليزية والتركية: القرية الاسرائيلية ـ التركية، هدية من الشعب الاسرائيلي والحكومة التركية الى شعب امنه بازاري، والى جوارها رفع العلمان التركي والاسرائيلي، وبهذه اللفتة نجح الاسرائيليون في اثبات حضورهم في الريف التركي، في حين لم يتسلم الناس رسالة المتبرعين الآخرين، بمن فيهم الذين تبرعوا بأربعمائة مليون دولار.
* في انتظار ماذا؟
* أخيرا قال الدبلوماسي العربي المخضرم ان بعض الحكومات العربية آثرت الانتظار وهي تتابع المشهد التركي، حتى تظهر نتائج الانتخابات النيابية، وحين فاز حزب العدالة والتنمية ذو الخلفية الاسلامية، فان تلك الحكومات اختارت ان تواصل الانتظار حتى ينجلي الموقف تماما، وتتأكد من ان حكومة حزب العدالة لن تنتهي نهاية حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين اربكان، التي اضطرت للاستقالة في نهاية المطاف اثر اصطدامها مع العسكر، وبسبب موقف الانتظار هذا فان تلك الحكومات وقفت متفرجة ولم تفعل شيئا، في حين ان كل صاحب مصلحة يتحرك بسرعة ليحقق مراده ويدافع عن مصالحه، الأمر الذي يضيف نقاطا الى رصيد الذين يتحركون، ويصنف المنتظرين والمتفرجين في خانة الصفر.
بسبب هذه الملابسات فانني خرجت بانطباع مؤداه ان مشكلة العلاقات التركية العربية تتلخص في نقطتين، الأولى انه ليس ثمة ادراك عربي لأهمية بلد مثل تركيا، له موقعه الاستراتيجي الخطير، الذي يشرف من خلاله على ثلاث دول عربية واسلامية مهمة (هي سورية والعراق وايران)، ويصل ما بين الشرق والغرب، كما ان له ثقله السكاني المعتبر وقوته العسكرية التي لايستهان بها، وقدراته الاقتصادية الكبيرة، أما النقطة الثانية فهي ما قيل من انه لاتوجد استراتيجية عربية تتوخى المصالح العليا للأمة، في المدى القريب أو البعيد، وهذه الاستراتيجية غائبة تماما عن التعاطف مع الشأن التركي، بقدر غيبتها عن غيره من الشؤون.
هل يحق لنا والأمر كذلك أن نلوم الأتراك أو نعاتبهم؟