مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
هذا ردي على الإسرائيليين: إنكم تخفون عورة الاحتلال
هويدي 24-9-2001

ماذا تقول في لص استولى على بيتك بقوة السلاح، وحين سعيت الى اخراجه منه ملأ الدنيا ضجيجا وصياحا، واتهمك بالعدوانية والارهاب؟ لا اظن ان أوصافا مثل الصفاقة أو البجاحة أو الوقاحة تكفي في التعبير عن انكار ذلك المسلك، لانه يستحق اكثر من ذلك بكثير، ولذلك سأترك لخيالك اختيار الوصف المناسب! هذا الكلام اقوله بمناسبة المحاولات الاسرائيلية الجارية الآن لاقناع العالم بأن الاسرائيليين بدورهم «ضحايا» للارهاب الاصولي، ويتعرضون لذات الخطر الذي بوغتت به الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) الجاري، وان العمليات الاستشهادية التي يقوم بها شباب المقاومة الاسلامية في الاراضي المحتلة، جرى استنساخها في الهجوم الانتحاري الذي استهدف نيويورك وواشنطن. وهي الحملة الخبيثة التي تهيل التراب وتطمس تماما كل معالم جريمة الاغتصاب التي تمت منذ نصف قرن، مع ما استصحبته من عمليات قتل وترويع وابادة، ثم الكشف حتى الأن عن 30 مذبحة للفلسطينيين، جرى توثيقها وتحديد ضحاياها بالاسم والعنوان واليوم والساعة، بل واعترف ببعضها نفر من المؤرخين الجدد في اسرائيل.
لقد غسلوا ايديهم من دماء الضحايا، وراهنوا على العبث بذاكرة المواطن الغربي، وعلى قدرة وسائل الاعلام على التغييب والتزوير والتدليس، ثم ارتدوا مسوح البراءة، ودعوا الرأي العام الغربي الى التعاطف مع «قضيتهم»، بينما هم يتمددون باسترخاء في البيت المسروق، وعلى مرأى ومسمع من اصحابه القابعين غير بعيد منه.
في سبيلهم الى تحقيق مرادهم، ولاحكام دور الضحية، فانهم ما برحوا يذكرون بان الامر ليس مقصورا على «ارهاب» يقوم به الفلسطينيون ضدهم، وانما ينضاف اليه جهد تعبيري آخر يقوم به بعض العلماء والكتاب المسلمين ـ ذكروا بين الاولين الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وادرجوا اسمي بين الآخرين ـ استهدف تشجيع العمليات الاستشهادية والحفاوة بها، (وهو ما تبدى في فتاوى الدكتور القرضاوي وخطبه) والتعبير عن الفرحة في حالات نجاحها (وهذه الاخيرة تخصني، حيث استشهدوا بمقالة بهذا المعنى نشرت في جريدة «الاهرام» وبعض الصحف الاخرى يوم 14 اغسطس، في اعقاب عملية القدس، ووصفت فيها المقاومة الفلسطينية وشبابها الساعي الى الشهادة، بأنه «الاضاءة الوحيدة في سماء الامة»).
كل الاستدلالات التي استخدموها صحيحة. لكن الغلط الجسيم ـ سمه بجاحة أو وقاحة إن شئت ـ كان في المنطلق والغاية. اعني في ادعاء البراءة وانكار دور اللص، وفي ادعاء التماثل بين وضع الدولتين، الولايات المتحدة واسرائيل.
لم يكن خافيا ان اسرائيل منذ الساعة الاولى لوقوع الهجوم الارهابي على الولايات المتحدة سعت الى التحرك سريعا لاستثمار الموقف لصالحها بكل السبل، في الداخل والخارج. فقد اعتبرت ما جرى فرصتها الكبرى لانزال اكبر قدر من الضربات الموجعة بالفلسطينيين لسحق انتفاضتهم والقضاء عليها، بينما العالم مشغول بالحدث الامريكي الكبير. وهو ما عبرت عنه صراحة الكتابات الاسرائيلية. وكان ديفيد كيمحي احد الذين قالوا صراحة ان اسرائيل ستكون غبية اذا لم تنتهز الفرصة وتنقض على الانتفاضة وتجهز عليها (هآرتس 9/17).
ليس هذا فحسب، وانما تبين ان الجيش الاسرائيلي ارسل مجموعات من المصورين لتصوير فرح بعض الفلسطينيين في المخيمات بعد وقوع الهجوم، لاقناع الامريكيين والرأي العام الغربي بأن اسرائيل هي التي تضامنت واستنكرت الارهاب واعلنت الحداد، بينما الفلسطينيون «المتطرفون والارهابيون» هم الذين فرحوا وشمتوا، وقد كشفت صحيفة هآرتس (عدد 9/13) عن الحيلة الخبيثة التي قام بها الجيش الاسرائيلي في هذا الصدد. واضاف كاتب المقال ميرون بفنستي انهم ارادوا بذلك ايضا التغطية على الفظائع التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي في الضفة الغربية.
لم تكتف اسرائيل بتشويه صورة الفلسطينيين والعرب بعامة، وانما سارعت ايضا الى تحذير الرأي العام الغربي من تنامي التيارات الاسلامية، التي اعتبرتها مصدرا للارهاب في العالم، وادعوا انها ـ بكل فصائلها ـ ضد الغرب وضد الديموقراطية وضد الحضارة الحديثة، ومن ثم فان الابواق الاسرائيلية رفعت شعار «الاسلام هو العدو الاول» (معاريف 9/14) و(جيروزاليم بوست 9/14) و(هآرتس 9/13).
هذا المسلك ليس جديدا، فقد سبق لتلك الابواق أن اطلقت صيحة الاسلام العدو، مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات. وكان مفهوما آنذاك انها ارادت ان ترسل للجميع رسالة تقول انه اذا كانت اسرائيل قد ادت دورها كحامية للمصالح الغربية ابان سنوات الحرب الباردة، ونجحت في وقف المد الشيوعي في العالم العربي(!) فان اهمية دورها مستمرة، حيث ستقوم بذات المهمة في مواجهة «الخطر الاسلامي» الذي لاحت بوادره في المنطقة.
ذلك كله مفهوم ومتوقع، لكن ما ذهب الاسرائيليون اليه مؤخرا كان شيئا جديدا، اتسم بالجرأة الشديدة، والاسراف في الاستهانة بالذاكرة الغربية والعبث بها، وبالنسبة لي على الاقل، فقد فوجئت بادعائهم انهم يتعرضون لذات الخطر الذي تعرض له الامريكيون وبزعمهم ان كلامنا عن تأييد العمليات الاستشهادية في الاراضي المحتلة خلق مناخا سوغ للارهابيين ارتكاب جريمتهم التي راح ضحيتها آلاف الابرياء في نيويورك وواشنطن.
ان هذا الادعاء الخبيث والمراوغ مردود عليه بأمرين; الاول يجعلونه في الاغلب، والثاني يعرفونه بيقين. أما الاول فهو أن احدا لا يستطيع ان يزايد على المسلمين في تقديس الحياة الانسانية ولا في الدفاع عن الكرامة الانسانية، فثقافة المسلمين المرجعية ـ المتمثلة في القرآن الكريم ـ تمنع ازهاق أي روح ظلما وعدوانا، حتى وإن كانت تلك روح حيوان أو طائر، ومعروفة قصة المرأة التي دخلت النار في قطة عذبتها حتى قتلتها، كما ذكر الحديث النبوي، وهي ذات المرجعية التي اعتبرت ان «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (سورة المائدة ـ الاية 32) ـ والكلام عن النفس عام، لا يميز بين دين وآخر أو جنس وآخر، وهو ذات التعميم الذي اطلقه القرآن في تقرير حق الكرامة لكل بني البشر دون تمييز (سورة الاسراء ـ الآية 70).
والامر كذلك، فليس بوسع احد من الراشدين ذوي الضمائر ان يدعي على المسلمين بأنهم يستهينون بالحياة الانسانية من أي باب، وهم حين يذهبون للاستشهاد ويضحون بأنفسهم حين يجد الجد، فانهم بذلك يقدمون ارواحهم دفاعا عن الحياة الكريمة، ولاعلاء كلمة الحق والعدل.
ذلك يقودنا الى الشق الاخر الذي يعرفه الاسرائيليون جيدا ويغيبونه أو ينكرونه، وهو ان ثمة فرقا جوهريا بين الحالتين الاسرائيلية والامريكية، يتمثل في ان الاولين محتلون ومغتصبون للارض الفلسطينية، بينما الامر مختلف بالنسبة للامريكيين، والاحتلال يفرض المقاومة بكل الوسائل التي من بينها العمليات الاستشهادية لا ريب، والفلسطينيون الذين قُتِلوا وأُخرجوا من ديارهم أو نُهبت ارضهم، لا يحتاجون الى فتوى لكي يقاتلوا المحتلين، تماما كما ان الفرنسيين والبولنديين لم يكونوا بحاجة الى فتوى لكي يقاوموا النازيين، فميثاق الامم المتحدة والقانون الدولي يكفلان لهم ذلك، وفي التجارب الانسانية التي نعرفها فان كل الذين قاوموا بالسلاح اعتبروا «مناضلين» صفق لهم الجميع وظلوا محل الحفاوة والتقدير، وحدهم الفلسطينيون الذين حين ناضلوا خلع عليهم الاعلام الذي تسيطر عليه مراكز القوى الصهيونية وصف «الارهابيين» و«المخربين»! ان الموقف من الاحتلال لا مساومة عليه، قانونا وشرعا، والموقف الشرعي لم يختلف في ذلك مع الموقف القانوني الا في الدرجة، فالقانون الدولي يبيح للواقعين تحت الاحتلال ان يقاوموا الغاصبين بكل الوسائل باعتبار ذلك دفاعا عن النفس، بينما الموقف الشرعي يوجب عليهم ذلك، ويعتبر الجهاد في هذه الحالة فرض عين على كل مسلم ومسلمة ويحث المسلمين على التضحية بارواحهم فداء لاوطانهم ودفاعا عن حقوقهم المهدورة، حيث تتوافر الاحاديث التي تعتبر شهيدا من مات دون ماله أو عرضه، اما اعظم الشهداء فهو من جهر بكلمة الحق في وجه الظلمة والمستبدين، ودفع حياته ثمنا لذلك. اما حين يتعلق الامر بالوطن المغصوب، فاستنفار الجميع واجب، والتسابق على الشهادة مفتوحة ابوابه على مصارعها، والمتقاعسون عن ذلك ينتظرهم عقاب الله في الاخرة.
والذين شجعوا العمليات الاستشهادية وفرحوا بها، كانت كل تلك الحقائق والمعاني راسخة في اذهانهم، وفي المقدمة منها حقيقة الغصب والاحتلال ومعنى المقاومة لعدو ماكر وشرس، له سجله الحافل بالوحشية والملطخ بالدم.
من هذه الزاوية يختلف الامر تماما في الحالة الامريكية. وحين افتى الشيخ يوسف القرضاوي بتأييد العمليات الاستشهادية في الاراضي المحتلة وحدها وبعدم جوازها خارج هذه الحدود، فانه كان مدركا لذلك الفرق الجوهري الذي يريد الاسرائيليون طمسه وتغييبه عن الاذهان.
لا يعني ذلك السعادة بالموقف الامريكي ولا الرضى عنه، وانما يعني ان ما لا نرضى عنه في الموقف الامريكي يمكن التعامل معه بوسائل اخرى، ليست العمليات الاستشهادية بينها بيقين.
ان اسرائيل لكي تحقق مرادها في الوقيعة وتأجيج الخصومة بين المسلمين والغرب لن تكف عن الكذب والتدليس الذي لا يتورع عن العبث أو أهدار أي شيء، ومن اسف ان البعض في الغرب يصدقونها. الا اننا نعول ـ في ظل عجزنا الاعلامي المشهود ـ على نفاذ السنن التي لا تسمح للكذب بأن يستمر طول الوقت، ونرجو الا يطول انتظارنا.
أضافة تعليق