مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ليتهم خدموا القضية بسكوتهم!
هويدي 24-2-2002

في ذات اليوم الذي نشر فيه نداء بعض الشخصيات الفلسطينية الذي دعا إلى وقف العمليات الاستشهادية في داخل اسرائيل نشرت الرسالة التي تركها لأسرته الطالب الجامعي محمد كايد الغول منفذ عملية تفجير الحافلة في القدس الغربية، التي أوقعت 19 قتيلاً اسرائيلياً وحوالي 50 جريحاً. وشاءت المقادير أن تبث وكالة الأنباء الفرنسية خبر الرسالتين وأن تنشر خلاصتهما جنباً إلى جنب على الصفحة الثانية من عدد «الشرق الأوسط» الصادر في 6/20 . رسالة الشخصيات الفلسطينية الـ55 استنكرت قتل «المدنيين الاسرائيليين»، واعتبرت أن العمليات الانتحارية تعمق من مشاعر الكراهية وتقوض فرص التعايش واقامة السلام بين الشعبين، ونشرت الرسالة كاعلان كتب بحروف كبيرة على صفحة كاملة في صحيفة القدس المقدسية، وقام بتمويل الاعلان الاتحاد الأوروبي لحملة السلام الشعبية.
أما رسالة الشاب محمد الغول فقد دعا فيها والدته ألا تبكيه وتمنى عليها ألا تحزن «بل ان تكون فخورة به لأنه شهيد». وتحدث عن العملية التي قام بها قائلاً إنها «لا تعني أنني أحب أن أقتل أو أموت مقتولاً، بل تهدف الى تأمين مستقبل أفضل للأجيال القادمة في فلسطين».
شاءت المقادير أيضاً أن تتحدث عن العمليات الاستشهادية في اليوم ذاته السيدة شيري بلير، زوجة رئيس الوزراء البريطاني، قائلة إن الشبان الفلسطينيين لم يعد لديهم أمل في الدفاع عن قضيتهم إلا من خلال تلك العمليات «الانتحارية». (اعتذرت بعد ذلك عما قالته بسبب الضغوط الصهيونية). وبنفس المنطق تحدث الملياردير الأمريكي تيد تيرنر مؤسس شبكة «سي.ان.ان» الذي قال ان الفلسطينيين يحاربون بالانتحاريين، وذلك كل مايملكون. وهو الكلام الذي لم يعجب الاسرائيليين بطبيعة الحال، فتحدثوا عن مقاطعة الشبكة بسبب «تحيزها للفلسطينيين»! وقبل ذلك بأيام قليلة (في 6/14) كان وفد من البرلمانيين البريطانيين قد أعد تقريراً عن زيارة قام بها للضفة الغربية وغزة، ذكروا فيه أن سياسات اسرائيل ستعود عليها بالكارثة، لأن حالة الاحباط واليأس الشديدة التي أشاعتها بين الفلسطينيين، ستؤدي الى تنفيذ العديد من العمليات الانتحارية داخل اسرائيل وفي المستوطنات التي أقامتها في المناطق الفلسطينية.
من ناحية أخرى، لا بد أن قراء «الشرق الأوسط» يذكرون ماقاله الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، في مقالته المنشورة بتاريخ 4/25، مشيراً إلى أن «الانفجارات الانتحارية التي تواصلت على مدى شهرين متتاليين أدت إلى قلب اسرائيل رأساً على عقب، كما أنها أفقدتها الشعور بالأمن أكثر من عمل أي جيش عربي خلال الخمسين سنة الماضية. وجعلت الاسرائيليين أكثر استعداداً من أي وقت للتخلي عن الأراضي الفلسطينية».
استحضار هذه الخلفيات مهم في تقييم البيان أو النداء الذي أصدره أولئك النفر من عناصر النخبة الفلسطينية، التي أحسب أنها ارتكبت مجموعة من الأخطاء الجسيمة، سواء في مضمون الرسالة التي بعثت بها أو في التوقيت الذي اختارته لتوجيهها.
فمن حيث المضمون، لا يستطيع المرء أن يخفف دهشته ازاء وصفهم للعمليات الفدائية بأنها «انتحارية»، وهو ما لا نستغربه من الاسرائيليين أو الامريكيين أو الأوروبيين، أو حتى بعض السياسيين العرب والفلسطينيين الذين يهمهم ارضاء الأطراف الغربية. ولكن أن يستخدم مثقفون فلسطينيون هذا الوصف لدمغ أنبل صور النضال والفداء والتضحية دفاعاً عن الحلم الفلسطيني، فذلك آخر ما يمكن أن يتوقعه المرء أو يتصوره، لقد رد الشاب محمد الغول على هذه المقولة في رسالته لأمه، حين أخبرها أنه ذهب لكي يضحي بنفسه من أجل هؤلاء الذين حقروا من شأنه وضنوا عليه بوصف الشهادة، واختاروا أن يقفوا في صف الناقدين والمنكرين، وهو موقع يشين أي مثقف شريف ويفقده شرعيته.
ان مضمون النداء يسيء الى شرعية النضال الفلسطيني، ويقدم مبرراً لشارون وحكومته لكي يستخدموا هذه التسمية في المحافل الدولية لتأكيد مايدعون أنه حق لهم في الدفاع عن مواطنيهم. في الوقت ذاته فان المرء يدهش ايما دهشة ازاء ذلك القلق الذي عبر عنه المثقفون الفلسطينيون الذين وقعوا على البيان، على مصير المدنيين الاسرائيليين، وهم الذين يرون بأعينهم كل يوم ما يحل بالمدنيين الفلسطينيين من جرائم، لم ترحم طفلاً ولا شيخاً ولا رجلاً أو امرأة. وهم أيضاً لا بد يعرفون أن وصف «المدنيين الاسرائيليين» هو تعبير مكذوب ومخادع، لأن هؤلاء يتحولون الى مقاتلين في لحظة زمن، ثم أن أغلبهم أعطوا أصواتهم لشارون لكي يواصل سياسة قمع الفلسطينيين وسحقهم. هم يعرفون أيضاً أن ثمة حرباً اسرائيلية مفتوحة ومعلنة على كل ما هو فلسطيني، حرب ابادة في حقيقة الأمر، كما يعرفون جيداً أن الفلسطينيين ضاقت بهم السبل بعدما جربوا كل حيل السلام وألاعيبه، ثم لم يجنوا شيئاً، إلا مزيداً من البؤس والاستيطان والتغول الاسرائيلي، وازاء ذلك كله أصبحت ظهورهم الى الحائط، ولم يبق أمامهم الا أن يضحوا بأرواحهم ، يفدون بها وطنهم ويدافعون بأجسامهم عن حلم أطفالهم. وهو ما استكثره عليهم أولئك النفر من المثقفين، فأدانوا مسلكهم وأعلنوا على الملأ عن غيرتهم على أمن الاسرائيليين وأمل التعايش معهم.
ان قارئ النداء يلحظ فيه أن الذين وقعوا عليه وجهوا كلماتهم وصوبوا أبصارهم ناحية الاسرائيليين والرأي العام الغربي، وكانوا حريصين على استجلاب رضى هؤلاء بأكثر من حرصهم على التعبير عن حقيقة الألم أو الحلم الفلسطيني. ويحزن المرء أن يقول انهم بدوا واقفين على أرضية الآخرين بأكثر من وقوفهم على الأرضية الفلسطينية. وان ادراكهم للوجع الاسرائيلي أكبر من تعبيرهم عن الوجع الفلسطيني.
ولا يستطيع المرء أن يخفي دهشته ازاء غياب الاشارة الواجبة الى حقيقة الاحتلال في البيان، باعتبار أن وجوده هو المصدر الأساسي لكل ما تشهده فلسطين من مآس، وهذه لا سبيل الى تجنبها الا بزوال الاحتلال. وما لم يتحقق ذلك فان المقاومة تكتسب مشروعيتها، بكل ما هو متاح من وسائل وبكل ما يملك الشعب الفلسطيني من قوة.
أما من ناحية التوقيت فان التوقيت لم يكن حليفاً لهم من أي باب. فقد أعلنوا عن موقفهم على ذلك النحو فيما بدا لبعض الغربيين ان الفلسطينيين معذورون ومحقون في ما يفعلون. وفيما أدرك هؤلاء ان الاسرائيليين لم يتركوا للفلسطينيين خياراً آخر، وسدوا أبواب الأمل في وجوههم، فبدت العمليات الاستشهادية خياراً أخيراً لا مفر منه. وبلغت المفارقة ذروتها حين وجدنا بعض الغربيين متفهمين لموقف الفلسطينيين ويقفون منهم موقف الاعذار، بينما علا صوت أولئك النفر من الفلسطينيين مستنكراً للرد الفلسطيني وداعياً الى ابطال سلاح العمليات الاستشهادية. من هذه الزاوية، فلا مفر من القول بأن موقف شيري بلير وتيد تيرنر بدا أكثر موضوعية وانصافاً من موقف حنان عشراوي وسري نسيبة وغيرهما من موقعي البيان.
انهم يطالبون المقاومة الفلسطينية بابطال والقاء السلاح الوحيد الذي ثبت أنه يمكن أن يسبب الوجع والايلام للاسرائيليين، باعترافهم الذي سجله وشهد به توماس فريدمان. وذلك مطلب يصعب فهم دوافعه، ويتعذر على المرء أن يقبل فكرة أن الهدف من توجيهه هو تهدئة خواطر الاسرائيليين واشعارهم بالأمان، كما يتعذر عليه أن يقتنع بأن من شأن ذلك ابطال ذريعة شارون في اجتياحه للضفة وقهره للفلسطينيين، لأن مشروع شارون يستهدف تقويض كل ما بني لاقرار السلام مع الفلسطينيين، قبل أن تكون هناك انتفاضة أو عمليات استشهادية.
لقد أثبتت مختلف شواهد الواقع فشل المراهنات التي علقت على النوايا الاسرائيلية أو الأمريكية أو حتى الأوروبية، وأكدت تلك الشواهد على أن تحرير فلسطين لن يتحقق الا باستمرار المقاومة، وبالفلسطينيين أنفسهم قبل أي أحد آخر، وحين تظهر وسط تلك الأجواء أصوات تطالب الفلسطينيين بوقف المقاومة والكف عن ايلام المحتلين، فان أصحاب تلك الأصوات يقفون من الناحية العملية في صف اجهاض الحلم الفلسطيني، حتى وان لم يقصدوا ذلك ولم يرغبوا فيه. اذ العبرة في هذه الحالة بمواجهة الواقع، وليس بالنوايا أو المقالات. وذلك لعمري مصير بائس لا يتمناه المرء لمثقف شريف، حتى وان هانت عزيمته... ليتهم سكتوا، وخدموا القضية بصمتهم.
أضافة تعليق