هويدي 24-6-2001
اسئلة المستقبل تطرح نفسها بقوة بعد الفوز الكاسح الذي حققه محمد خاتمي، بعضها يتعلق بموقفه هو شخصياً بعد ان تعزز مركزه وأصبح في وضع يسمح له بأن يتحدى معارضيه ويضغط بكتلة الأصوات التي أيدته، الأمر الذي يفترض ان يمكنه من تطويع أو إزالة أية عقبة أمامه، والبعض الآخر يتعلق بالقوى الاصلاحية التي تسانده، وهل ستصعد وتسارع الى الاشتباك، أم انها ستظل على موقفها المشاغب في هدوء، والاحرص على الانحناء للعواصف. ثم هناك اسئلة أخرى عديدة وعلامات استفهام كبرى حول موقف المرشد آية الله علي خامنئي، من رئيس الجمهورية الذي يأتيه هذه المرة أكثر قوة وثباتاً واشد تأييداً. بذات القدر فهناك اسئلة تتعلق بسلوك المحافظين واستراتيجيتهم، بعدما تبين ان حوالي 80 في المائة من الاصوات ذهبت إليه، واعرضت عن خطابهم وعن الذين ساندوهم.
العملية لن تعود للوراء ونحن نقلب السيناريوهات أو نرجح بينها، ثمة اعتبارات في المشهد الايراني ينبغي ملاحظتها هي:
* ان المرشد له مقام خاص في المجتمع الايراني وفي ظل دستور الجمهورية الاسلامية، فهو ليس رأس الدولة فحسب، ولكنه ايضاً نائب الامام الغائب، وهذه الصفة الأخيرة أهم من الأولى، ولانه كذلك فالتعامل معه ينبغي أن يتم بدرجة عالية من الحيطة والحذر، أعني ان العلاقة معه ليست محكومة بالاعتبارات السياسية فحسب، وانما لها العمق العقيدي الذي يتجاوز إطار الاتفاق أو الاختلاف في التفكير السياسي.
* ان المرشد، وهو مرجع ديني في الوقت ذاته يستمد مرجعيته من التفاف الناس حوله وتأييدهم له، ومن ثم فانه لا يستطيع ان يتجاهل مزاج الجماهير وتوجهاتها، لانه اذا تجاهلها فإنه سوف ينعزل عنها، الأمر الذي يؤثر على تواصله مع الناس ويصبح سحباً من رصيد مرجعيته.
* ان المجتمع الايراني الآن تغير كثيراً عما كان عليه وقت قيام الثورة، وهناك جيل ظهر بأحلام وأشواق جديدة، ومن أهم ما انجزه خاتمي في ولايته الاولى ـ كما ذكرنا قبلا ـ انه رفع سقف الحوار والجرأة في المجتمع، واحدث تغييراً جوهريا في المناخ السائد، فقد اصبحت الديمقراطية مطلب الاغلبية الساحقة، وصار صوت الجماهير واجب الاستماع اليه، كما اصبحت شرعية النظام بمختلف مؤسساته مستمدة من تأييد الشعب ورضاه، ولم يعد احد يقبل بفكرة ان الولي الفقيه هو «هبة» من الله، وهو المناخ الذي دفع علي خامنئي في خطاب أخير له (ذكرى وفاة الخميني في 6/4) الى التأكيد على ان شرعية النظام مستمدة من الشعب.
الخلاصة انه في ظل تلك المتغيرات اصبح من العسير للغالبية أن تعود العجلة الى الوراء، واذا جرت تلك المحاولة من جانب أي طرف فإنها ستكون باهظة التكلفة، وسيدفع النظام ثمناً مرتفعاً للغاية لتحقيقها.
كل منهما بحاجة للآخر ان العلاقات بين أهل الحوزة العلمية لها طبيعة خاصة، فهي علاقة مجدولة ومتشابكة على نحو يحول عادة دون الانفراط، والمنتسبون الى الحوزة اذا اختلفوا فالأصل ان الخلاف لا يصل الى حد القطيعة، حتى اذا تصاعد ووصل الى حافة الخطر، وفي الولاية الأولى للرئيس خاتمي تعقدت علاقاته مع معسكر المحافظين مرات كثيرة، وذهبت الى مدى ظن الناس فيه ان الموقف على وشك الانفجار، لكن المرشد كان عادة ما يتدخل في اللحظة الاخيرة كي ينزع الفتيل ويحول دون الانفجار.
* ان خامنئي وخاتمي، كل منهما بحاجة الى الآخر، فخامنئي نائب الامام ويملك صلاحيات واسعة تفوت بكثير ما يملكه رئيس الجمهورية، بل هو قادر من الناحية الدستورية والقانونية على ان يشل حركة رئيس الجمهورية، أما خاتمي فهو نائب الشعب الذي يملك الآن تفويضاً من 80 في المائة من الجماهير التي صوتت لصالحه في الانتخابات، ولان آية الله خامنئي يستحوذ على أغلبية الصلاحيات، وخاتمي مؤيد من قبل أغلبية الشعب، فالأول يحتاج الى الرصيد الجماهيري الثاني، والثاني بحاجة الى صلاحيات الأول، بكلام آخر، فان جماهيرية خاتمي تعزز مركز ودور خامنئي، وصلاحيات القائد مطلوبة لانجاح مشروع خاتمي، والقائد ضعيف بغير الجماهير والرئيس ضعيف بغير الصلاحيات، والطرفان يدركان ذلك جيداً، وانتظام الاجتماعات الاسبوعية التي ينفرد فيها خاتمي مع خامنئي، تعبير عن ذلك الحرص، ولك ان تتصور انها تقوي باستمرار خطوط التفاهم والفهم المتبادل.
* ان الفوز الكاسح الذي حققه خاتمي، لا يعني على الاطلاق انه اصبح ينفرد بصدارة الساحة السياسية، فقوته المستمدة من تأييد الجماهير ينبغي ألا تترجم الى ضعف في الجانب المتعلق بالمحافظين، فهؤلاء الاخيرون اقوياء لا يزالون، واذا كان الاسلاميون يستمدون قوتهم من التأييد الجماهيري الواسع لهم، فالمحافظون اقوياء في مؤسسات الدولة القضائية والاقتصادية، اضافة الى مجالس الخبراء وصيانة الدستور وصيانة مصلحة النظام، هم اقوياء أيضاً في حرس الثورة والحوزة العلمية وفي البازار.
* ان الاختزال في تصنيف القوى السياسية في ايران يتسم بتبسيط مخل، فليس صحيحاً ان كل الاصلاحيين ابرار كما انه ليس صحيحاً ان كل المحافظين اشرار، فعلى الجانبين هناك معتدلون ومتطرفون، وهناك خير وشر، ودفاع الاصلاحيين عن الديمقراطية يوازيه ويوازيه دفاع المحافظين عن ثوابت الأمة وهويتها واستقلالها، وقد اثبتت التجربة ان ايران الاسلامية يتعذر ان يحكمها ويسير أمرها طرف واحد، وانه ما لم يلتف عقلاء الطرفين ويتعاونا، فالمسيرة كلها مهددة بمخاطر وشرور كثيرة وقد تغرق بهما معاً.
الاشتباك سيناريو أسوأ بعد ان نستحضر تلك الخلفيات والملابسات احسب اننا نصبح في موقف افضل يسمح لنا بأن نستعرض السيناريوهات المتخيلة للمستقبل، وافضل ان نستعرض معا اسوأ الفروض والاحتمالات وأفضلها.
في جلسة ضمت عدداً من المثقفين والمحللين الايرانيين طرحت عليهم السؤال حول اسوأ الفروض فقالوا ما يلي:
لا يهم كثيراً اشتباك الاصلاحيين الذين يستشعرون الآن مزيداً من الثقة والقوة، مع المحافظين الذين لنا ان نتصور عدم سعادتهم بنتائج الانتخابات الرئاسية، ذلك انهم عجزواً عن مقارعة خاتمي وفشلوا في إضعافه، فلا استطاعوا ان يرشحوا منافساً له يناطحه، ولا تمكنوا من خلال المرشحين الذين ايدوهم من وراء ستار ـ وعلناً أحياناً ـ ان يقلصوا من عدد الاصوات التي حصل عليها خاتمي.
لا غرابة في ان يستشعر المحافظون مرارة من جراء ذلك، ولا غرابة في ان يحاولوا، او يحاول نفر منهم على الاقل استفزاز الاصلاحيين وافقادهم اتزانهم، وسيكون ذلك أمراً سيئاً في كل الاحوال، لانه قد يؤدي الى انشغال كل طرف بتصفية حسابه مع الآخر، وانصراف الجميع عن التصدي للمشكلات الأساسية التي تواجه المجتمع.
وسيكون من نذر السوء لا ريب ان يغتر الاصلاحيون بقوتهم، فيقررون الانفراد بالسلطة وتشكيل حكومة من جماعتهم فقط، ومن ثم اقصاء المحافظين واستئصالهم من ساحة السلطة التنفيذية، وربما يشجعهم على ذلك ادراكهم ان المحافظين مهيمنون بالفعل على مواقع مجالس أخرى مفصلية في الدولة، أما الاسوأ فهو ان تستخلص المرارات اسوأ ما في النفوس، فيعلو صوت المتطرفين، فينجح المحافظون منهم مثلا في استدراج الاصلاحيين الى اشتباك معهم في الشوارع، أو أن يتحرش المتطرفون من الاصلاحيين بنظائرهم من المحافظين مدفوعين في ذلك بالغرور ذاته والثقة الزائدة بالنفس، بعد النجاح الكبير الذي حققه خاتمي في الانتخابات، ويتطور ذلك التحرش، الذي ربما تصيده الآخرون، الى اشتباك يتسع نطاقه، ويستدعي تدخلا من قوات الحرس والباسيج، ومثل هذا التدخل الذي سيكون في الأغلب الى جانب المحافظين باعتبار ان قيادة الحرس على الأقل لها موقف ناقد للاصلاحيين، فان من شأن ذلك ان يشيع توتراً في البلد، يعكر الصفو ويهدد الأمن العام، وفي هذه الحالة يستخدم المرشد صلاحياته التي منها «عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية».
ضغوط للصدام مع خامنئي الأشد سوءاً من ذلك احتمال آخر هو: ان يتورط خاتمي في صدام مع المرشد آية الله علي خامنئي، وموضوع الصلاحيات هو الأكثر ترشيحاً لمثل ذلك الاحتمال، باعتبار انها تمثل القضية المحورية التي بسببها قيدت حركة خاتمي في ولايته الأولى، ومن خلالها مارس المرشد ضغوطه (عندما أمر مجلس الشورى مثلا بأن يسحب مشروع قانون المطبوعات).
ذلك ان المادة 110 من الدستور الخاصة بوظائف المرشد وصلاحياته تتضمن 11 بنداً بعضها واسع للغاية مثل: تعيين السياسات العامة للنظام بعد التشاور مع مجمع تشخيص المصلحة والاشراف على حسن اجراء السياسات العامة، والى جانب قيادة القوات المسلحة واعلان الحرب والسلام والطوارئ فله ايضاً حق نصب وعزل كل من: فقهاء مجلس صيانة الدستور، رئيس السلطة القضائية، رئيس الاذاعة والتلفزيون، رئيس اركان القوات المسلحة، قائد حرس الثورة، قيادات القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي.
الجدل حول موضوع الصلاحيات ليس جديداً، لانه استأثر بجانب كبير من المناقشات خلال السنوات الاربع الماضية، ولا يزال، وثمة وجهة نظر واسعة للاستشاريين الاصلاحيين ترى انه ما لم تضبط هذه المسألة بصورة أو أخرى، فانها ستظل مشكلة أساسية في النظام التي تصقل حركة المجتمع، ذلك ان الولاية المطلقة للفقيه خطرة ما لم تعرف حدودها، وما اذا كان الولي الفقيه يتحرك في اطار الدولة ويخضع فوق القانون، ام انه فوق كل ذلك.
وليس سراً ان بين العناصر الاصلاحية المتطرفة من يدعو الى دفع الأمور الى نهايتها، ولا يمانع في تفجير العلاقة مع المرشد، باعتبار ان ذلك هو الحل الوحيد للاشكال، الذي عن طريقه يمكن اعادة صياغة موضوع الصلاحيات له، بحيث يكون هناك شيء من التوازن بين المرشد والرئيس، هذا الكلام كان يتردد في دورة خاتمي الاولى، وعندما كانت نسبة المؤيدين له في حدود 70 في المائة، الامر الذي اعتبره هؤلاء سنداً كافياً يمكن خاتمي من ان يخوض «معركته» ضد المرشد بثقة واطمئنان، وهي حجة اصبحت الآن أكثر قوة، بعدما وصلت نسبة فوز الرئيس خاتمي الى حوالي 80 في المائة.
من هذه الارقام اذاً فالخاسر المباشر هو خاتمي بكل تأكيد، ولن يختلف مصيره في هذه الحالة عن مصير الدكتور ابو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية بعد الثورة، حيث نبذ وأطيح به، وانتهى لاجئاً في فرنسا. صحيح ان المجتمع تغير الآن بدرجة كبيرة، والشعبية التي يتمتع بها خاتمي الآن، كان آية الله الخميني يتمتع بأكثر منها بداية الثورة، وكان بوسع الخميني آنذاك ان يقرر عزل بني صدر بعدما سحب مجلس الشورى ثقته منه، وهذه الخطوة تمت بيسر بالغ ولم يحدث ابعاد بني صدر أي رد فعل سلبي او صدى يذكر في المجتمع.
ان اقدام خامنئي على خطوة من ذلك القبيل لن يمر بسهولة ولا بالمجان، وإنما سيكون له ثمنه الباهظ للاسباب التي سبق ذكرها، الامر الذي يمكن ان يشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، بعد ان يؤدي ذلك الى استقطاب حاد تقف فيه القوى والمؤسسات والمجالس المؤيدة للمحافظين، ومعها الحوزة الدينية في قم ومشهر، وحرس الثورة، هذه القوى كلها تقف في جانب بينما يحتشد معسكر الاصلاحيين في الجانب المعاكس، وربما تدخلت جهات أخرى يهمها تفجير الوضع في البلاد، الأمر الذي يمكن ان يوصل الأمور الى ما لا تحمد عقباه.
حكومة الوحدة حل أمثل هذا هو السيناريو الأسوأ والأشد سوءاً، أما الخيار الأفضل فهو كما يلي:
ان يقرر خاتمي تشكيل حكومة وحدة وطنية، تمثل فيها القوى المحافظة والليبراليون والمستقلون، بحيث تكون نموذجاً يعكس مصالحة السلطة مع المجتمع، بعد النجاح النسبي الذي حققته محاولة مصالحة الحكومة الدينية مع الديمقراطية، وحكومة من هذا القبيل لن تتشكل إلا عبر اتفاق بين عقلاء الجانبين الاصلاحي والمحافظ، وقبل هذا وذاك فالأمر لا بد ان يسبقه تفاهم مع المرشد، يتم في اللقاءات التي يختلي فيها مع خاتمي، وهذا التفاهم يستصحب ادراكاً من الاصلاحيين لأهمية دور المرشد، ولضرورة كسبه الى صفهم، الأمر الذي يقتضي الكف عن الغمز فيه والدعوة الى تعديل الدستور للنظر في مسألة الصلاحيات، على الأقل بصورة مؤقتة حتى نزول الفكرة التي يحاول البعض ترويجها، واقناع المرشد بأنه هو ومسألة الفقيه مستهدفان من حملات الاصلاحيين.
بشكل مواز مع ما سبق فان خامنئي ادراكاً منه للشعبية الكاسحة التي حصل عليها خاتمي، ومحاولة منه للتجاوب مع الجماهير التي اعلنت وقوفها وراء مشروعه فإنه يبادر الى الاسهام في تخفيف الضغوط التي تمارس على خاتمي، خصوصاً من جانب مجلس صيانة الدستور، وهو المجلس الذي يتحكم في الترشيح للانتخابات وفي اجازة مشروعات القوانين التي يصدرها مجلس الشورى، فينتهز فرصة التشكيل الجديد للمجلس، الذي يفترض ان يتم العام المقبل، ويتخير مجموعة من الفقهاء المعتدلين والمحايدين، ويطلق يد مجلس الشورى في تقدير صلاحية ممثلي السلطة القضائية (معروف ان المجلس يضم 12 عضواً نصفهم من الفقهاء الذين يختارهم المرشد، والنصف الآخر ترشحه السلطة القضائية ويوافق عليه مجلس الشورى).
بهذه الخطوة يتم تذليل واحدة من أبرز العقبات التي ما برحت تكبل الاصلاحيين وتقيد حركتهم، الأمر الذي يفتح الطريق أمام خاتمي، لكي يواصل مسيرته وهو مطمئن الى تأمين ظهره.
بعد ان تمتد جسور الثقة بين المرشد ورئيس الجمهورية، وينجح خاتمي وفريقه في تبديد قلق خامنئي، فانه يخطو خطوة أخرى لتسهيل مهمة الحكومة، وتمكينها من بسط اصلاحاتها في مختلف الاتجاهات، وتتمثل هذه الخطوة في تنازل المرشد عن اختصاصاته في ما يتعلق ببعض اجهزة ومؤسسات الدولة، خصوصا القوات المسلحة والأمن والاذاعة والتلفزيون.
وثمة سوابق في هذا الصدد، تنازل بمقتضاها الخميني لبني صدر عن قيادة القوات المسلحة، ومن ثم فانه صار في زمانه نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة وفي مرحلة لاحقة كان المرشد يتنازل للرئيس عن اختصاصه بالاشراف على وزارة الأمن، وهكذا.
وبهذه الخطوة يتحقق الانسجام للحكومة، ولا تشتته، بحيث يغدو بعضها تابعاً لرئيس الجمهورية، بينما الوزارات الأكثر أهمية وحساسية تابعة للمرشد.
خطوة مهمة لخامنئي اي تلك السيناريوهات مرشحة للمستقبل؟
ردي الأول ان السياسة ليس فيها مطلق، وان كل شيء وارد فيها، ومن ثم فان كلاما عن السيناريوهات يظل نسبياً وقابلا للمراجعة، أما ردي الثاني فإن السيناريو السيئ وذاك الأسوأ مستبعدان في الأغلب، وهو استبعاد استند فيه الى ما سبق ان ذكرته من ان العلاقات الحوزوية لا تسمح للامور بأن تتدهور، وان لأهل الحوزة استشعارا قويا يمكنهم من وقف التدهور قبل أن يصل الى مداه.
بعد استبعاد هذين الاحتمالين يبقى أمامنا الاحتمال الايجابي، ورغم انني لا اتصور ان الافضل يمكن ان يتحقق بسرعة، إلا ان ثمة مؤشرات تدل على ان مسيرة الرئيس خاتمي ستتحرك في ذلك الاتجاه، ولي على ذلك شاهدان:
الأول صحة ممارسات خاتمي نفسه خلال ولايته الأولى، فلم يسع الى الصدام، وقاوم بشدة ضغوط دعاة حرق المراحل، وحرص على ان يمد جسور التفاهم مع المرشد والاجتماعات الاسبوعية التي يعقدها معه لا شك لها دورها في تحقيق التفاهم الايجابي، وقد ذكرت في حلقة سابقة ان رموز الاصلاحيين وهم يقيمون تجربة السنوات الاربع الماضية اعترفوا بأنهم قصروا في اعطاء المرشد حقه من الاهتمام والوصل، كما قصروا في توحيد علاقاتهم بالحوزة الدينية في قم، وهو ما يعني انهم سيحاولون تدارك ذلك الخطأ وعلاجه في الولاية الثانية.
الشاهد الثاني ان خامنئي خطا خطوة ايجابية ومهمة بالنسبة للاصلاحيين من قبيل ما أوردناه او تمنيناه في السيناريو الافضل، ففي الاسبوع الماضي (6/19) اطلق يد مجلس الشورى ذي الاغلبية الاصلاحية في الاشراف والمراقبة علي أعمال مختلف اجهزة النظام ومؤسساته، بما فيها ـ بل وأهم ما فيها ـ تلك التابعة مباشرة لاشرافه الشخصي، وهو موقف لايفسر إلا بكونه دعماً لمجلس الشورى وللاصلاحات، وقد علق رئيس المجلس، الشيخ مهدي كروبي، على قرار المرشد بقوله ان «أي شخص أو مجموعة أو مؤسسة داخل النظام، لم تعد بمنأى عن رقابة مجلس الشورى عبر لجان التحقيق والتحري البرلمانية».
وتبرز أهمية هذه الخطوة اذا انتبهنا الى ان معظم المؤسسات التابعة للمرشد خاضعة لنفوذ المحافظين، وانهم كانوا يستثمرون موقعهم المتميز ذاك، ويحتمون بالمرشد، ويمارسون ضغوطهم على الاصلاحيين.
يعني القرار الذي اتخذه خامنئي ان الاصلاحيين باتوا يمسكون بالوسائل القانونية الكفيلة بمراقبة أعمال منافسيهم المحافظين في تلك المؤسسات التي يصفها البعض بأنها مؤسسات موازية للحكومة الخاتمية ومستقلة عنها، وتمتلك ثروات تقدر بمليارات الدولارات كمؤسسة المستضعفين، كما تمتلك نفوذاً اعلامياً واسعاً كمؤسسة الاذاعة والتلفزيون، وبذلك انهى قرار المرشد خلافاً قانونياً حاداً حول الموضوع بين الاصلاحيين والمحافظين. والآخرون كانوا يتشددون في رفض ذلك الاشراف، ليس ذلك فحسب وانما جاء القرار مبشراً بامكانية فتح صفحة جديدة قوامها التعاون بين علي خامنئي وخاتمي.
محمد رضا خاتمي نائب رئيس مجلس الشورى وامين جبهة المشاركة (وشقيق رئيس الجمهورية) اعرب عن حفاوته وتقديره لموقف آية الله خامنئي، معتبراً «انه دليله على وجود اجماع بشأن حق مجلس الشورى في التحقيق في كل الامور التي تهم البلاد».
قرار خامنئي جاء في اعقاب الجدل الذي اثير بشأن رقابة مجلس الشورى على الاذاعة والتلفزيون، الذي حسمه الشيخ كروبي رئيس المجلس حين رفض الطلب معتبراً ان ذلك شأن المرشد، ووحده يختص به، ويبدو ان خامنئي قدر المبادرة، فردها بأحسن منها، واعطى توجيهه بحق مجلس الشورى في مباشرة تلك الرقابة.
لا بديل عن التفاهم من الواضح ان لغة التفاهم بين المرشد وبين رئيس الجمهورية هي الحل الأفضل لتحقيق التعاون بينهما، الذي يدرك كل منهما انه ضروري ولا بديل عنه، واذا استمرت الشواهد التي مررنا بها فمعنى ذلك ان ثمة مستقبلا افضل للاصلاحات، وان خاتمي الذي ينبغي ان يخرج من السياق عام 2005، بعد انتهاء ولايته الثانية، لن يكون بالضرورة آخر الاصلاحيين الذين يتولون الرئاسة.
هل يكون خاتمي آخر المعممين الذين يشغلون ذلك المنصب؟
الاحتمال كبير، لاننا لاحظنا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ان المرشحين العشرة، كان بينهما اثنان فقط من المعممين هما محمد خاتمي وحجة الاسلام علي فلاحيان، أما الثمانية الباقون فقد كانوا جميعاً من غير ابناء الحوزة (من الأفندية).
لاحظنا ايضاً ان المرشحين كانوا يحاولون اخفاء أية علاقة لهم بالمحافظين، وان قيادات ذلك المعسكر رددت في أكثر من مناسبة ان مرشحها الأثير للانتخابات القادمة هو وزير الخارجية السابق الدكتور علي ولايتي (طبيب اطفال)، وذكروا ايضاً اسم الشيخ هاشمي رفسنجاني، لكن حظوظه ضعيفة، لان ترتيبه جاء الأخير في الانتخابات البرلمانية الاخيرة في طهران.
واختم بتذكير الجميع بأن الخبرة علمتنا بأنه ليس في السياسة آخر كلام، وان كل كلام فيها قابل للتغيير في أي وقت، خصوصاً في العالم الثالث.
اسئلة المستقبل تطرح نفسها بقوة بعد الفوز الكاسح الذي حققه محمد خاتمي، بعضها يتعلق بموقفه هو شخصياً بعد ان تعزز مركزه وأصبح في وضع يسمح له بأن يتحدى معارضيه ويضغط بكتلة الأصوات التي أيدته، الأمر الذي يفترض ان يمكنه من تطويع أو إزالة أية عقبة أمامه، والبعض الآخر يتعلق بالقوى الاصلاحية التي تسانده، وهل ستصعد وتسارع الى الاشتباك، أم انها ستظل على موقفها المشاغب في هدوء، والاحرص على الانحناء للعواصف. ثم هناك اسئلة أخرى عديدة وعلامات استفهام كبرى حول موقف المرشد آية الله علي خامنئي، من رئيس الجمهورية الذي يأتيه هذه المرة أكثر قوة وثباتاً واشد تأييداً. بذات القدر فهناك اسئلة تتعلق بسلوك المحافظين واستراتيجيتهم، بعدما تبين ان حوالي 80 في المائة من الاصوات ذهبت إليه، واعرضت عن خطابهم وعن الذين ساندوهم.
العملية لن تعود للوراء ونحن نقلب السيناريوهات أو نرجح بينها، ثمة اعتبارات في المشهد الايراني ينبغي ملاحظتها هي:
* ان المرشد له مقام خاص في المجتمع الايراني وفي ظل دستور الجمهورية الاسلامية، فهو ليس رأس الدولة فحسب، ولكنه ايضاً نائب الامام الغائب، وهذه الصفة الأخيرة أهم من الأولى، ولانه كذلك فالتعامل معه ينبغي أن يتم بدرجة عالية من الحيطة والحذر، أعني ان العلاقة معه ليست محكومة بالاعتبارات السياسية فحسب، وانما لها العمق العقيدي الذي يتجاوز إطار الاتفاق أو الاختلاف في التفكير السياسي.
* ان المرشد، وهو مرجع ديني في الوقت ذاته يستمد مرجعيته من التفاف الناس حوله وتأييدهم له، ومن ثم فانه لا يستطيع ان يتجاهل مزاج الجماهير وتوجهاتها، لانه اذا تجاهلها فإنه سوف ينعزل عنها، الأمر الذي يؤثر على تواصله مع الناس ويصبح سحباً من رصيد مرجعيته.
* ان المجتمع الايراني الآن تغير كثيراً عما كان عليه وقت قيام الثورة، وهناك جيل ظهر بأحلام وأشواق جديدة، ومن أهم ما انجزه خاتمي في ولايته الاولى ـ كما ذكرنا قبلا ـ انه رفع سقف الحوار والجرأة في المجتمع، واحدث تغييراً جوهريا في المناخ السائد، فقد اصبحت الديمقراطية مطلب الاغلبية الساحقة، وصار صوت الجماهير واجب الاستماع اليه، كما اصبحت شرعية النظام بمختلف مؤسساته مستمدة من تأييد الشعب ورضاه، ولم يعد احد يقبل بفكرة ان الولي الفقيه هو «هبة» من الله، وهو المناخ الذي دفع علي خامنئي في خطاب أخير له (ذكرى وفاة الخميني في 6/4) الى التأكيد على ان شرعية النظام مستمدة من الشعب.
الخلاصة انه في ظل تلك المتغيرات اصبح من العسير للغالبية أن تعود العجلة الى الوراء، واذا جرت تلك المحاولة من جانب أي طرف فإنها ستكون باهظة التكلفة، وسيدفع النظام ثمناً مرتفعاً للغاية لتحقيقها.
كل منهما بحاجة للآخر ان العلاقات بين أهل الحوزة العلمية لها طبيعة خاصة، فهي علاقة مجدولة ومتشابكة على نحو يحول عادة دون الانفراط، والمنتسبون الى الحوزة اذا اختلفوا فالأصل ان الخلاف لا يصل الى حد القطيعة، حتى اذا تصاعد ووصل الى حافة الخطر، وفي الولاية الأولى للرئيس خاتمي تعقدت علاقاته مع معسكر المحافظين مرات كثيرة، وذهبت الى مدى ظن الناس فيه ان الموقف على وشك الانفجار، لكن المرشد كان عادة ما يتدخل في اللحظة الاخيرة كي ينزع الفتيل ويحول دون الانفجار.
* ان خامنئي وخاتمي، كل منهما بحاجة الى الآخر، فخامنئي نائب الامام ويملك صلاحيات واسعة تفوت بكثير ما يملكه رئيس الجمهورية، بل هو قادر من الناحية الدستورية والقانونية على ان يشل حركة رئيس الجمهورية، أما خاتمي فهو نائب الشعب الذي يملك الآن تفويضاً من 80 في المائة من الجماهير التي صوتت لصالحه في الانتخابات، ولان آية الله خامنئي يستحوذ على أغلبية الصلاحيات، وخاتمي مؤيد من قبل أغلبية الشعب، فالأول يحتاج الى الرصيد الجماهيري الثاني، والثاني بحاجة الى صلاحيات الأول، بكلام آخر، فان جماهيرية خاتمي تعزز مركز ودور خامنئي، وصلاحيات القائد مطلوبة لانجاح مشروع خاتمي، والقائد ضعيف بغير الجماهير والرئيس ضعيف بغير الصلاحيات، والطرفان يدركان ذلك جيداً، وانتظام الاجتماعات الاسبوعية التي ينفرد فيها خاتمي مع خامنئي، تعبير عن ذلك الحرص، ولك ان تتصور انها تقوي باستمرار خطوط التفاهم والفهم المتبادل.
* ان الفوز الكاسح الذي حققه خاتمي، لا يعني على الاطلاق انه اصبح ينفرد بصدارة الساحة السياسية، فقوته المستمدة من تأييد الجماهير ينبغي ألا تترجم الى ضعف في الجانب المتعلق بالمحافظين، فهؤلاء الاخيرون اقوياء لا يزالون، واذا كان الاسلاميون يستمدون قوتهم من التأييد الجماهيري الواسع لهم، فالمحافظون اقوياء في مؤسسات الدولة القضائية والاقتصادية، اضافة الى مجالس الخبراء وصيانة الدستور وصيانة مصلحة النظام، هم اقوياء أيضاً في حرس الثورة والحوزة العلمية وفي البازار.
* ان الاختزال في تصنيف القوى السياسية في ايران يتسم بتبسيط مخل، فليس صحيحاً ان كل الاصلاحيين ابرار كما انه ليس صحيحاً ان كل المحافظين اشرار، فعلى الجانبين هناك معتدلون ومتطرفون، وهناك خير وشر، ودفاع الاصلاحيين عن الديمقراطية يوازيه ويوازيه دفاع المحافظين عن ثوابت الأمة وهويتها واستقلالها، وقد اثبتت التجربة ان ايران الاسلامية يتعذر ان يحكمها ويسير أمرها طرف واحد، وانه ما لم يلتف عقلاء الطرفين ويتعاونا، فالمسيرة كلها مهددة بمخاطر وشرور كثيرة وقد تغرق بهما معاً.
الاشتباك سيناريو أسوأ بعد ان نستحضر تلك الخلفيات والملابسات احسب اننا نصبح في موقف افضل يسمح لنا بأن نستعرض السيناريوهات المتخيلة للمستقبل، وافضل ان نستعرض معا اسوأ الفروض والاحتمالات وأفضلها.
في جلسة ضمت عدداً من المثقفين والمحللين الايرانيين طرحت عليهم السؤال حول اسوأ الفروض فقالوا ما يلي:
لا يهم كثيراً اشتباك الاصلاحيين الذين يستشعرون الآن مزيداً من الثقة والقوة، مع المحافظين الذين لنا ان نتصور عدم سعادتهم بنتائج الانتخابات الرئاسية، ذلك انهم عجزواً عن مقارعة خاتمي وفشلوا في إضعافه، فلا استطاعوا ان يرشحوا منافساً له يناطحه، ولا تمكنوا من خلال المرشحين الذين ايدوهم من وراء ستار ـ وعلناً أحياناً ـ ان يقلصوا من عدد الاصوات التي حصل عليها خاتمي.
لا غرابة في ان يستشعر المحافظون مرارة من جراء ذلك، ولا غرابة في ان يحاولوا، او يحاول نفر منهم على الاقل استفزاز الاصلاحيين وافقادهم اتزانهم، وسيكون ذلك أمراً سيئاً في كل الاحوال، لانه قد يؤدي الى انشغال كل طرف بتصفية حسابه مع الآخر، وانصراف الجميع عن التصدي للمشكلات الأساسية التي تواجه المجتمع.
وسيكون من نذر السوء لا ريب ان يغتر الاصلاحيون بقوتهم، فيقررون الانفراد بالسلطة وتشكيل حكومة من جماعتهم فقط، ومن ثم اقصاء المحافظين واستئصالهم من ساحة السلطة التنفيذية، وربما يشجعهم على ذلك ادراكهم ان المحافظين مهيمنون بالفعل على مواقع مجالس أخرى مفصلية في الدولة، أما الاسوأ فهو ان تستخلص المرارات اسوأ ما في النفوس، فيعلو صوت المتطرفين، فينجح المحافظون منهم مثلا في استدراج الاصلاحيين الى اشتباك معهم في الشوارع، أو أن يتحرش المتطرفون من الاصلاحيين بنظائرهم من المحافظين مدفوعين في ذلك بالغرور ذاته والثقة الزائدة بالنفس، بعد النجاح الكبير الذي حققه خاتمي في الانتخابات، ويتطور ذلك التحرش، الذي ربما تصيده الآخرون، الى اشتباك يتسع نطاقه، ويستدعي تدخلا من قوات الحرس والباسيج، ومثل هذا التدخل الذي سيكون في الأغلب الى جانب المحافظين باعتبار ان قيادة الحرس على الأقل لها موقف ناقد للاصلاحيين، فان من شأن ذلك ان يشيع توتراً في البلد، يعكر الصفو ويهدد الأمن العام، وفي هذه الحالة يستخدم المرشد صلاحياته التي منها «عزل رئيس الجمهورية مع ملاحظة مصالح البلاد، بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلفه عن وظائفه القانونية».
ضغوط للصدام مع خامنئي الأشد سوءاً من ذلك احتمال آخر هو: ان يتورط خاتمي في صدام مع المرشد آية الله علي خامنئي، وموضوع الصلاحيات هو الأكثر ترشيحاً لمثل ذلك الاحتمال، باعتبار انها تمثل القضية المحورية التي بسببها قيدت حركة خاتمي في ولايته الأولى، ومن خلالها مارس المرشد ضغوطه (عندما أمر مجلس الشورى مثلا بأن يسحب مشروع قانون المطبوعات).
ذلك ان المادة 110 من الدستور الخاصة بوظائف المرشد وصلاحياته تتضمن 11 بنداً بعضها واسع للغاية مثل: تعيين السياسات العامة للنظام بعد التشاور مع مجمع تشخيص المصلحة والاشراف على حسن اجراء السياسات العامة، والى جانب قيادة القوات المسلحة واعلان الحرب والسلام والطوارئ فله ايضاً حق نصب وعزل كل من: فقهاء مجلس صيانة الدستور، رئيس السلطة القضائية، رئيس الاذاعة والتلفزيون، رئيس اركان القوات المسلحة، قائد حرس الثورة، قيادات القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي.
الجدل حول موضوع الصلاحيات ليس جديداً، لانه استأثر بجانب كبير من المناقشات خلال السنوات الاربع الماضية، ولا يزال، وثمة وجهة نظر واسعة للاستشاريين الاصلاحيين ترى انه ما لم تضبط هذه المسألة بصورة أو أخرى، فانها ستظل مشكلة أساسية في النظام التي تصقل حركة المجتمع، ذلك ان الولاية المطلقة للفقيه خطرة ما لم تعرف حدودها، وما اذا كان الولي الفقيه يتحرك في اطار الدولة ويخضع فوق القانون، ام انه فوق كل ذلك.
وليس سراً ان بين العناصر الاصلاحية المتطرفة من يدعو الى دفع الأمور الى نهايتها، ولا يمانع في تفجير العلاقة مع المرشد، باعتبار ان ذلك هو الحل الوحيد للاشكال، الذي عن طريقه يمكن اعادة صياغة موضوع الصلاحيات له، بحيث يكون هناك شيء من التوازن بين المرشد والرئيس، هذا الكلام كان يتردد في دورة خاتمي الاولى، وعندما كانت نسبة المؤيدين له في حدود 70 في المائة، الامر الذي اعتبره هؤلاء سنداً كافياً يمكن خاتمي من ان يخوض «معركته» ضد المرشد بثقة واطمئنان، وهي حجة اصبحت الآن أكثر قوة، بعدما وصلت نسبة فوز الرئيس خاتمي الى حوالي 80 في المائة.
من هذه الارقام اذاً فالخاسر المباشر هو خاتمي بكل تأكيد، ولن يختلف مصيره في هذه الحالة عن مصير الدكتور ابو الحسن بني صدر، أول رئيس للجمهورية بعد الثورة، حيث نبذ وأطيح به، وانتهى لاجئاً في فرنسا. صحيح ان المجتمع تغير الآن بدرجة كبيرة، والشعبية التي يتمتع بها خاتمي الآن، كان آية الله الخميني يتمتع بأكثر منها بداية الثورة، وكان بوسع الخميني آنذاك ان يقرر عزل بني صدر بعدما سحب مجلس الشورى ثقته منه، وهذه الخطوة تمت بيسر بالغ ولم يحدث ابعاد بني صدر أي رد فعل سلبي او صدى يذكر في المجتمع.
ان اقدام خامنئي على خطوة من ذلك القبيل لن يمر بسهولة ولا بالمجان، وإنما سيكون له ثمنه الباهظ للاسباب التي سبق ذكرها، الامر الذي يمكن ان يشيع الفوضى والاضطراب في البلاد، بعد ان يؤدي ذلك الى استقطاب حاد تقف فيه القوى والمؤسسات والمجالس المؤيدة للمحافظين، ومعها الحوزة الدينية في قم ومشهر، وحرس الثورة، هذه القوى كلها تقف في جانب بينما يحتشد معسكر الاصلاحيين في الجانب المعاكس، وربما تدخلت جهات أخرى يهمها تفجير الوضع في البلاد، الأمر الذي يمكن ان يوصل الأمور الى ما لا تحمد عقباه.
حكومة الوحدة حل أمثل هذا هو السيناريو الأسوأ والأشد سوءاً، أما الخيار الأفضل فهو كما يلي:
ان يقرر خاتمي تشكيل حكومة وحدة وطنية، تمثل فيها القوى المحافظة والليبراليون والمستقلون، بحيث تكون نموذجاً يعكس مصالحة السلطة مع المجتمع، بعد النجاح النسبي الذي حققته محاولة مصالحة الحكومة الدينية مع الديمقراطية، وحكومة من هذا القبيل لن تتشكل إلا عبر اتفاق بين عقلاء الجانبين الاصلاحي والمحافظ، وقبل هذا وذاك فالأمر لا بد ان يسبقه تفاهم مع المرشد، يتم في اللقاءات التي يختلي فيها مع خاتمي، وهذا التفاهم يستصحب ادراكاً من الاصلاحيين لأهمية دور المرشد، ولضرورة كسبه الى صفهم، الأمر الذي يقتضي الكف عن الغمز فيه والدعوة الى تعديل الدستور للنظر في مسألة الصلاحيات، على الأقل بصورة مؤقتة حتى نزول الفكرة التي يحاول البعض ترويجها، واقناع المرشد بأنه هو ومسألة الفقيه مستهدفان من حملات الاصلاحيين.
بشكل مواز مع ما سبق فان خامنئي ادراكاً منه للشعبية الكاسحة التي حصل عليها خاتمي، ومحاولة منه للتجاوب مع الجماهير التي اعلنت وقوفها وراء مشروعه فإنه يبادر الى الاسهام في تخفيف الضغوط التي تمارس على خاتمي، خصوصاً من جانب مجلس صيانة الدستور، وهو المجلس الذي يتحكم في الترشيح للانتخابات وفي اجازة مشروعات القوانين التي يصدرها مجلس الشورى، فينتهز فرصة التشكيل الجديد للمجلس، الذي يفترض ان يتم العام المقبل، ويتخير مجموعة من الفقهاء المعتدلين والمحايدين، ويطلق يد مجلس الشورى في تقدير صلاحية ممثلي السلطة القضائية (معروف ان المجلس يضم 12 عضواً نصفهم من الفقهاء الذين يختارهم المرشد، والنصف الآخر ترشحه السلطة القضائية ويوافق عليه مجلس الشورى).
بهذه الخطوة يتم تذليل واحدة من أبرز العقبات التي ما برحت تكبل الاصلاحيين وتقيد حركتهم، الأمر الذي يفتح الطريق أمام خاتمي، لكي يواصل مسيرته وهو مطمئن الى تأمين ظهره.
بعد ان تمتد جسور الثقة بين المرشد ورئيس الجمهورية، وينجح خاتمي وفريقه في تبديد قلق خامنئي، فانه يخطو خطوة أخرى لتسهيل مهمة الحكومة، وتمكينها من بسط اصلاحاتها في مختلف الاتجاهات، وتتمثل هذه الخطوة في تنازل المرشد عن اختصاصاته في ما يتعلق ببعض اجهزة ومؤسسات الدولة، خصوصا القوات المسلحة والأمن والاذاعة والتلفزيون.
وثمة سوابق في هذا الصدد، تنازل بمقتضاها الخميني لبني صدر عن قيادة القوات المسلحة، ومن ثم فانه صار في زمانه نائباً للقائد الأعلى للقوات المسلحة وفي مرحلة لاحقة كان المرشد يتنازل للرئيس عن اختصاصه بالاشراف على وزارة الأمن، وهكذا.
وبهذه الخطوة يتحقق الانسجام للحكومة، ولا تشتته، بحيث يغدو بعضها تابعاً لرئيس الجمهورية، بينما الوزارات الأكثر أهمية وحساسية تابعة للمرشد.
خطوة مهمة لخامنئي اي تلك السيناريوهات مرشحة للمستقبل؟
ردي الأول ان السياسة ليس فيها مطلق، وان كل شيء وارد فيها، ومن ثم فان كلاما عن السيناريوهات يظل نسبياً وقابلا للمراجعة، أما ردي الثاني فإن السيناريو السيئ وذاك الأسوأ مستبعدان في الأغلب، وهو استبعاد استند فيه الى ما سبق ان ذكرته من ان العلاقات الحوزوية لا تسمح للامور بأن تتدهور، وان لأهل الحوزة استشعارا قويا يمكنهم من وقف التدهور قبل أن يصل الى مداه.
بعد استبعاد هذين الاحتمالين يبقى أمامنا الاحتمال الايجابي، ورغم انني لا اتصور ان الافضل يمكن ان يتحقق بسرعة، إلا ان ثمة مؤشرات تدل على ان مسيرة الرئيس خاتمي ستتحرك في ذلك الاتجاه، ولي على ذلك شاهدان:
الأول صحة ممارسات خاتمي نفسه خلال ولايته الأولى، فلم يسع الى الصدام، وقاوم بشدة ضغوط دعاة حرق المراحل، وحرص على ان يمد جسور التفاهم مع المرشد والاجتماعات الاسبوعية التي يعقدها معه لا شك لها دورها في تحقيق التفاهم الايجابي، وقد ذكرت في حلقة سابقة ان رموز الاصلاحيين وهم يقيمون تجربة السنوات الاربع الماضية اعترفوا بأنهم قصروا في اعطاء المرشد حقه من الاهتمام والوصل، كما قصروا في توحيد علاقاتهم بالحوزة الدينية في قم، وهو ما يعني انهم سيحاولون تدارك ذلك الخطأ وعلاجه في الولاية الثانية.
الشاهد الثاني ان خامنئي خطا خطوة ايجابية ومهمة بالنسبة للاصلاحيين من قبيل ما أوردناه او تمنيناه في السيناريو الافضل، ففي الاسبوع الماضي (6/19) اطلق يد مجلس الشورى ذي الاغلبية الاصلاحية في الاشراف والمراقبة علي أعمال مختلف اجهزة النظام ومؤسساته، بما فيها ـ بل وأهم ما فيها ـ تلك التابعة مباشرة لاشرافه الشخصي، وهو موقف لايفسر إلا بكونه دعماً لمجلس الشورى وللاصلاحات، وقد علق رئيس المجلس، الشيخ مهدي كروبي، على قرار المرشد بقوله ان «أي شخص أو مجموعة أو مؤسسة داخل النظام، لم تعد بمنأى عن رقابة مجلس الشورى عبر لجان التحقيق والتحري البرلمانية».
وتبرز أهمية هذه الخطوة اذا انتبهنا الى ان معظم المؤسسات التابعة للمرشد خاضعة لنفوذ المحافظين، وانهم كانوا يستثمرون موقعهم المتميز ذاك، ويحتمون بالمرشد، ويمارسون ضغوطهم على الاصلاحيين.
يعني القرار الذي اتخذه خامنئي ان الاصلاحيين باتوا يمسكون بالوسائل القانونية الكفيلة بمراقبة أعمال منافسيهم المحافظين في تلك المؤسسات التي يصفها البعض بأنها مؤسسات موازية للحكومة الخاتمية ومستقلة عنها، وتمتلك ثروات تقدر بمليارات الدولارات كمؤسسة المستضعفين، كما تمتلك نفوذاً اعلامياً واسعاً كمؤسسة الاذاعة والتلفزيون، وبذلك انهى قرار المرشد خلافاً قانونياً حاداً حول الموضوع بين الاصلاحيين والمحافظين. والآخرون كانوا يتشددون في رفض ذلك الاشراف، ليس ذلك فحسب وانما جاء القرار مبشراً بامكانية فتح صفحة جديدة قوامها التعاون بين علي خامنئي وخاتمي.
محمد رضا خاتمي نائب رئيس مجلس الشورى وامين جبهة المشاركة (وشقيق رئيس الجمهورية) اعرب عن حفاوته وتقديره لموقف آية الله خامنئي، معتبراً «انه دليله على وجود اجماع بشأن حق مجلس الشورى في التحقيق في كل الامور التي تهم البلاد».
قرار خامنئي جاء في اعقاب الجدل الذي اثير بشأن رقابة مجلس الشورى على الاذاعة والتلفزيون، الذي حسمه الشيخ كروبي رئيس المجلس حين رفض الطلب معتبراً ان ذلك شأن المرشد، ووحده يختص به، ويبدو ان خامنئي قدر المبادرة، فردها بأحسن منها، واعطى توجيهه بحق مجلس الشورى في مباشرة تلك الرقابة.
لا بديل عن التفاهم من الواضح ان لغة التفاهم بين المرشد وبين رئيس الجمهورية هي الحل الأفضل لتحقيق التعاون بينهما، الذي يدرك كل منهما انه ضروري ولا بديل عنه، واذا استمرت الشواهد التي مررنا بها فمعنى ذلك ان ثمة مستقبلا افضل للاصلاحات، وان خاتمي الذي ينبغي ان يخرج من السياق عام 2005، بعد انتهاء ولايته الثانية، لن يكون بالضرورة آخر الاصلاحيين الذين يتولون الرئاسة.
هل يكون خاتمي آخر المعممين الذين يشغلون ذلك المنصب؟
الاحتمال كبير، لاننا لاحظنا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة ان المرشحين العشرة، كان بينهما اثنان فقط من المعممين هما محمد خاتمي وحجة الاسلام علي فلاحيان، أما الثمانية الباقون فقد كانوا جميعاً من غير ابناء الحوزة (من الأفندية).
لاحظنا ايضاً ان المرشحين كانوا يحاولون اخفاء أية علاقة لهم بالمحافظين، وان قيادات ذلك المعسكر رددت في أكثر من مناسبة ان مرشحها الأثير للانتخابات القادمة هو وزير الخارجية السابق الدكتور علي ولايتي (طبيب اطفال)، وذكروا ايضاً اسم الشيخ هاشمي رفسنجاني، لكن حظوظه ضعيفة، لان ترتيبه جاء الأخير في الانتخابات البرلمانية الاخيرة في طهران.
واختم بتذكير الجميع بأن الخبرة علمتنا بأنه ليس في السياسة آخر كلام، وان كل كلام فيها قابل للتغيير في أي وقت، خصوصاً في العالم الثالث.