مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
جيل «السلام» في قلب الانتفاضة
هويدي 23-10-2000

قصة الطفل المصري أحمد محمد سعيد، الذي قرر الانضمام إلى انتفاضة الحجارة في فلسطين، تستحق أن تروى، لأنها محملة بدلالات بالغة الأهمية. فهذا الصبي الذي يبلغ من العمر 12 عاماً، والذي لا يزال يدرس في الصف الثاني الاعدادي باحدى المدارس القاهرية، أدرك بعد الذي رآه وسمعه في فلسطين أنه لا يستطيع ان يقف متفرجاً ازاء ما يجري.
وهي مصادفة لا تخلو من مغزى أن الطفل المصري ينتمي إلى جيل محمد الدرة، الطفل الفلسطيني الذي قتله الاسرائيليون حين كان يحتمي بأبيه أثناء احدى المواجهات الدامية، فهما من عمر واحد، وينتميان إلى الشريحة التي يراهن كثيرون على تدجينها ويطلقون على عناصرها وصف «أبناء أو زهور السلام» . أي انهما ـ وكل جيل الشباب الذي خرج للاشتباك مع الاسرائيليين ـ ممن تربوا ورضعوا ولقنوا جيداً «ثقافة السلام» التي يتشدق بها البعض. وهم الذين درسوا المناهج التي تم تغييرها واعادة تصميمها لكي تناسب مرحلة «السلام»، ومن ثم فانها نقيت من «الشوائب» التي أثرت كما يقولون على عقول الأجيال السابقة، وملأتهم بالبغض والكراهية لاسرائيل ومن لف لفها.
أحمد سعيد ملأه الغضب مما يجري طيلة الأسابيع الأخيرة، وبينما كان عائداً من مدرسته ذات يوم، شاهد تظاهرة في أحد شوارع الحي الذي يسكنه مع أبيه المهندس تردد هتافاً يقول: واحد اثنين شباب مصر راح فين (أو وين). كان الهتاف يستنفر ضمنياً الشباب المصري، ويتساءل أين هم في هذه الظروف، ويطالبهم بأن يتحركوا لنصرة اخوانهم في فلسطين.
ولا غرابة في ذلك، لأن التظاهرة ضمت شريحة أخرى من «جيل السلام» ، تمثلت في عدة مئات من تلميذات أحد المعاهد الدينية. ويبدو مما نشرته الصحف المصرية أن الهتاف مس وتراً حساساً عند الطفل المصري، الذي قرر آنذاك أن يذهب بنفسه إلى غزة للانضمام إلى شباب الانتفاضة والاشتباك مع الاسرائيليين.
عاد الصبي إلى بيته. ألقى كتبه جانباً، وأخذ مبلغ 60 جنيهاً مصرياً (حوالي 17 دولاراً) هي كل ماتوفر له، وانطلق صوب محطة السكة الحديد، لكي يذهب إلى العريش، ومنها إلى رفح، إلى غزة.
لم يكن يعرف أين توجد العريش، وان كان مدركاً أنها بداية دخوله إلى فلسطين.
فذهب إلى الاسكندرية التي ظن أنها ستوصله إلى مراده، وبعد وصوله عرف أنه أخطأ الطريق، واكتشف أنه أنفق ثلث المبلغ الذي معه لكي يصل إلى المحطة الغلط. قيل له ان ثمة حافلة (باص) تتوجه إلى العريش صبيحة اليوم التالي. أمضى بقية اليوم في الاسكندرية حيث أكل وشرب، وحين ذهب لكي يشتري تذكرة السفر إلى العريش وجد أن نقوده لا تكفي ولا تغطي ثمنها (كان قد بقي معه 21 جنيهاً بينما ثمن التذكرة 28 جنيهاً). وحين وجده الموظف المختص حزيناً لأنه لم يكن بوسعه شراء التذكرة، أشفق عليه ودفع الفرق من جيبه واشترى له طعاماً يستعين به على الرحلة.
وصل أحمد إلى العريش في المساء، وحين علم أن حافلة رفح تتحرك في صبيحة اليوم التالي، ذهب إلى أحد المساجد وقضى فيه الليل. حملته الحافلة إلى رفح، وعلم ممن سأله أن عليه أن يجتاز معبر رفح لكي يصل إلى غزة، ويصل إلى هدفه. ولم يكن الأمر سهلاً، لأن هناك شرطة تدقق في الذاهبين والقادمين. وهناك اكتشف أمره، حيث روى قصته لضابط الشرطة الذي قادوه إليه. فما كان من الرجل إلا أن احتجزه، وأخبر أباه هاتفياً لكي يأتي لاستلامه، ووفر له مكاناً للنوم إلى أن جاء الأب وأعاد أحمد إلى بيته ومدرسته، بعد أن فشلت محاولته العبور إلى غزة، ولم يستجب أحد لالحاحه.
هذه خلاصة لقصة ترمز إلى الحاصل في كل بيت مصري، ورغم أنني لا أشك في أن الانتفاضة هزت كل بيت عربي، إلا أنني سأقصر حديثي هنا عن مصر. ليس فقط لأنني أرى صورة مايجري فيها بعيني كل يوم، ولكن أيضاً لأنها الدولة التي سبقت الجميع في لعبة أو مغامرة السلام في العالم العربي.
من هذه الزاوية، فلست أبالغ إذا قلت أن ما رأيناه في مصر بعد الانتفاضة كان مفاجئاً، في صداه وعمقه. وعن نفسي فلم أتصور أن يكون السخط والغضب لا بذلك الاتساع ولا بذاك الكم. فالغضب الذي دفع الطفل أحمد سعيد إلى ترك أهله ومدرسته والذهاب إلى رفح للالتحاق بالشباب الفلسطيني في غزة، هو ذاته الذي انفجر في العديد من المدارس الاعدادية والثانوية، فضلاً عن الجامعات بطبيعة الحال. حتى أن عشرات من طلاب المدارس في ضاحية المعادي توجهوا صوب أحد محلات الأطعمة الأميركية وتظاهروا أمامه وحطموا واجهته. وتكرر ذلك في أماكن أخرى، الأمر الذي اضطر بعض الشركات التي تدير تلك المحلات إلى اغلاقها مؤقتاً.
وهو ذاته الغضب الذي عزز فكرة مقاطعة السلع الأميركية والاسرائيلية قبلها. وقد تبنى التلفزيون المصري في بعض برامجه الدعوة إلى مقاطعة السلع الاسرائيلية. وفي احدى حلقات برنامج «رئيس التحرير»، الذي يقدمه نجم التلفزيون المعروف حمدي قنديل، قال الرجل انه من المشين والمخجل ان يقتل الفلسطينيون برصاص الاسرائيليين، ثم يتعامل أي مصري مع البضائع الاسرائيلية، استيراداً أو شراء.
واذا كان الموقف من البضائع الاسرائيلية مفروغاً منه، خصوصاً أن الأغلبية في مصر تقاطعها ابتداء وقبل الانتفاضة، إلا أن الجديد هو حملة مقاطعة البضائع الأميركية، التي اشتدت إلى الحد الذي أثر بالفعل على ايرادات العديد من المحلات الكبيرة، التي كانت فروعاً لشركات غربية كبرى (سينسبري وماك بيرجر وماكدونالدز، مثلاً) فضلاً عن منتجات أميركية مثل البيبسي كولا وسجائر مارلبورو ومسحوق غسيل اريال وصابون لوكس وغير ذلك.
تولت لجان باسم «القدس» أو «المقاومة» الاعلان عن قوائم السلع الأميركية التي ينبغي مقاطعتها، وكذلك المحلات التجارية الأميركية أو التي لها رؤوس أموال يهودية. الأمر الذي أصاب سوق البضائع الأميركية بالركود النسبي. وهو مدفع أصحاب المحلات التي تبيع تلك البضائع إلى الاعلان عن «تنزيلات كبرى» لاغراء المشترين. وأهم من ذلك أن بعض الشركات التي ضربت مصالحها من جراء حملة المقاطعة لجأت إلى الاعلان في الصحف المصرية عن انها «مصرية صميمة» ، ولا علاقة لها لا بالأمريكان أو الاسرائيليين، وهي اعلانات جاءت صريحة في محاولتها اقناع المستهلك المصري بأنها بريئة من أمثال تلك «الشبهات»!.
اللافت للنظر في ذلك كله أن الشعب العادي هو الذي تحرك وقرر المقاطعة، وأن هذه المقاطعة التي كانت سابقة على ظهور اللجان المعنية شملت قطاعات واسعة من الناس، الذين كان ظننا أنهم ابتعدوا عن السياسة، وشغلوا بمعايشهم، وانكفأوا على ذواتهم، حتى انفصلوا حتى عن محيطهم العربي. خصوصاً بعد ما تبنى الخطاب السياسي المصري في المرحلة الساداتية شعار «مصر أولاً»، وهو الشعار الذي ترددت أصداؤه في عدة أقطار من العالم العربي، دأبت بدورها على الترويج لأولوية الأنا.
سقط الخطاب القُطْري، كما سقطت القشرة المصطنعة التي حاول البعض تشويه الادراك المصري بها، من خلال تسويق السلام المزيف. وازاء الشعور المصري العارم بالغضب وبالتلاحم مع الانتفاضة الفلسطينية، سكتت كل الأصوات التي ما برحت تزين السلام وتغوي الناس بفضائله المزعومه. بل واضطر بعض هؤلاء إلى تغيير لهجتهم والتحول إلى معسكر «الصقور» ، في مزايدة على الجميع، مثيرة للانتباه، ومنهم من أعلن تراجعه وانسحابه من مجموعة «كوبنهاجن» ، لأنها لم تحدد موقفاً حازماً ازاء الجرائم الاسرائيلية.
تبخر خلال أيام معدودة كل أثر لثقافة السلام، وكل تأييد لمسيرة السلام. وأدرك المجتمع بحسه التلقائي أن تلك العناوين لا تعبر عن شيء حقيقي أو جاد، وانما هي من قبيل التدليس والتزييف الذي أريد به تكريس المظالم والمخططات الاسرائيلية، وتلقائياً تضييع الحقوق الفلسطينية.
لقد كذبوا على الناس وغشوهم بعض الوقت، وكان من العسير أن تستمر الأكذوبة أو عملية الغش الجماعي طول الوقت. وأهم من ذلك أن حجم الغضب بدا كبيراً إلى الحد الذي يدعونا للقول بأن الجماهير لم تصدق شيئاً من كل ماظلت تردده وسائل الاعلام وخطابات أهل السياسة منذ بدأت مسيرة السلام. وهي حين لم تتحرك فانها لم تكن مستسلمة ولا مقتنعة، وانما كانت تختزن مشاعر الغضب والمرارة، إلى أن أظهرت تلك المشاعر في اللحظة المناسبة.
لقد قلنا، وقال كثيرون غيرنا، أن السلام لن تقوم له قائمة إذا قام على التدليس والغش، وفرض الحلول بالقوة. وأي سلام يتم التوصل إليه بهذه الأساليب سيظل مسكوناً بعوامل الانفجار، باعتبار أنه سيغدو سعيا لاغلاق الجرح الكبير على ما فيه من تقيحات.
ورسالة الغضب العربي بليغة في التعبير عن هذا المعنى. غير أن السؤال الذي يحتاج إلى تفكير جاد هو: كيف يمكن توظيف المشاعر التي كشفت عنها الأحداث، والتي أسقطت القناع عن الكثير مما يجري، بحيث تستثمر ايجابياً لصالح تصويب الأداء السياسي واذكاء حس المقاومة لدى الناس؟ شكراً للسيدين ايهود باراك وارييل شارون!
أضافة تعليق