هويدي 23-9-2002
الشائعات التي راجت في مصر خلال الأشهر الأخيرة حول احتمالات ترشيح جمال مبارك، الابن الأكبر للرئيس حسني مبارك، تحولت الى أخبار لها قدر معتبر من الصدقية منذ يوم الثلاثاء الماضي. فقد أصدر الرئيس يومذاك عدة قرارات باعادة تشكيل قيادة الحزب الوطني الحاكم، بحيث أصبح جمال مبارك أهم شخصية فيه، وبعد التأكيد على أن الحكومة هي حكومة حزب الأغلبية، فلم يعد من المبالغة القول بأن جمال مبارك صار من الناحية العملية أهم شخصية مؤثرة في النظام، بعد الرئيس حسني مبارك بطبيعة الحال، الأمر الذي يعني تصعيداً كبيراً وتقنيناً لدوره في الخارطة السياسية، يفتح الباب أمامه لكي يصبح أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية، مع انتهاء الولاية الرابعة للرئيس مبارك بعد ثلاث سنوات (عام 2005).
بدأت الشائعات تروج في الأوساط السياسية والاعلامية حين بدأ ظهور جمال مبارك على مسرح الحياة العامة، ولكنها نفيت استناداً إلى أن نشاطه محصور في المجال الاقتصادي دون السياسي، وكان ظاهر الأمر يوحي بذلك في حينه، خصوصاً أنه في ذلك الوقت كان عضواً في المجلس الاقتصادي المصري الأمريكي ومتحدثاً باسمه. غير أن الشائعات التي هدأت لبعض الوقت عادت تتردد في وقت لاحق حين صدر قرار بتعيين جمال مبارك عضواً بالأمانة العامة للحزب الوطني الحاكم، الأمر الذي بدا أنه اشارة الى دخوله المعترك السياسي متجاوزاً بذلك المجال الاقتصادي. وبصفته تلك، فانه بدأ يتجول في المحافظات ويتحدث في المؤتمرات الشعبية، وفضلاً عن ذلك فانه وجه بعض عنايته الى قطاع الشباب، حيث رأس منظمة باسم «جمعية المستقبل» التي تولت تأهيل واعادة تدريب المنضمين اليها من الشباب، الذين كانوا يتمتعون بوضع خاص في مجالات العمل، الأمر الذي أعاد الى الأذهان تجربة «منظمة الشباب» في المرحلة الناصرية، التي كانت تعد كوادر النظام وتهيئهم لتولي مسؤوليات المستقبل (بعض أعضاء تلك المنظمة يتولون الآن مواقع مهمة في الحكومة وقيادة الحزب الوطني).
في الوقت ذاته فان جمال مبارك أصبح بحكم قربه من والده وثقته فيه يمارس بعض الصلاحيات التنفيذية والسياسية خصوصاً في المجال الاقتصادي، حتى قيل انه كان له رأيه ودوره في اختيار وزراء المجموعة الاقتصادية، وفي اختيار وزراء آخرين في قول آخر.
في هذا الصيف رصد المراقبون عدة مؤشرات أخرى، منها أن جمال مبارك سافر الى لندن بدعوة من قيادة حزب العمال، للاطلاع على تجربة الحزب وكيفية مباشرته أنشطته، وأمضى هناك عدة أسابيع لهذا الغرض. وأعيد تشكيل المجلس الاقتصادي المصري الامريكي، ولم يدرج اسمه في التشكيل الجديد، الأمر الذي فهم منه أن اخراجه لم يكن استبعاداً بطبيعة الحال، بقدر ما كان اعفاء من مسؤوليات وارتباطات عضوية المجلس، لتمكينه من القيام بمهام أخرى.
في الوقت ذاته بدأت الصحف تتحدث عن الاعداد لعقد المؤتمر الثامن للحزب الوطني، الذي لم يكن له حضور فاعل في الحياة السياسية (خارج حدود خوض الانتخابات والفوز بالأغلبية)، والدليل على ذلك ان مؤتمر الحزب لم ينعقد منذ عشر سنوات.
ومع الدعوة الى عقد مؤتمر الحزب، بدأ الحديث في الصحف القومية عن ضرورة تفعيله، واعادة بنائه، وتطعيمه بقيادات شابة تعيد جريان الدماء في شرايينه المتصلبة وكانت فكرة تطوير الحزب قد طفت على السطح أثناء الانتخابات النيابية الأخيرة ولكنها وئدت بعدما نجح أركان الحزب التقليديون ممن يسمون بالحرس القديم في ابقاء كل شيء كما كان عليه. وخلال الشهرين اللذين سبقا موعد انعقاد الحزب حدثت ثلاث «فرقعات» شوهت صورة أهم ثلاث قيادات من عناصر الحرس القديم، وكانت ملفات الفساد هي القاسم المشترك بين الفرقعات الثلاث. في البداية أعلن القبض على وكيل وزارة الاعلام وأحد أهم أعوان وزير الاعلام السيد صفوت الشريف عضو الأمانة العامة للحزب بتهمة تقاضي رشوة لاظهار بعض الشخصيات على شاشات التليفزيون، ولم تكد أصداء الفضيحة تهدأ حتى أعلن عن القاء القبض على الساعد الأيمن لوزير الزراعة الدكتور يوسف والي والأمين العام للحزب بتهمة الرشوة أيضاً. وبينما دوي هذه العملية الثانية لا يزال يهز الساحة السياسية، حدثت الفرقعة الثالثة حين ألقي القبض على أحد رؤساء البنوك بتهمة الفساد، وكان الرجل معروفاً بأن ضامنه وكفيله هو رجل الحزب القوي، السيد كمال الشاذلي مسؤول التنظيم فيه ووزير الدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى.
قد يكون ذلك التتابع مجرد مصادفة، لكن أوساط الراصدين والمراقبين رجحت أن الأمر ليس كذلك بالضبط، وان تجريح صورة هؤلاء الثلاثة يمهد لاضعاف موقفهم واخراجهم من الساحة، بل وحتى ان تم ذلك بالصدفة حقاً، الا أنه في النهاية أحدث مفعول التجريح والاضعاف قبل انعقاد مؤتمر الحزب.
بعد الذي جرى لم يعد هناك شك في أن قيادة الحزب الوطني سيطاح بها، وقويت جداً الشائعات والتكهنات في هذا الصدد، غير أن رئيس تحرير جريدة الأهرام كتب مقالاً قبل انعقاد المؤتمر بأيام معدودة لامتصاص البلبلة التي نشأت عن رواج تلك الشائعات، قال فيه انه لن يحدث تغيير في قيادات الحزب، ولكن التغيير سيكون في أفكاره وأسلوب عمله فقط. وأثبتت التطورات اللاحقة ان الكلام كان صحيحاً وغير صحيح. صحيح لأن الأشخاص لم يتغيروا ظاهرياً، وغير صحيح لأن اختصاصاتهم سحبت بطريقة ذكية وأعطيت لغيرهم، الأمر الذي أدى الى ابقائهم، وربما الى ترقيتهم، وفي الوقت ذاته الى اضعافهم وتسليم مقاليد الحزب الى عناصر أخرى جديدة. بكلام آخر فان التغيير الذي أعلن عنه في ختام مؤتمر الحزب أدى الى الاحتفاظ باللافتات وربما تفخيم الألقاب، في حين أحدث انقلاباً هادئاً في موازين القوة داخل الحزب - كيف؟
لقد عين الأمين العام للحزب، الدكتور يوسف والي، في وظيفة شرفية اعلا هي نائب رئيس الحزب للشؤون الداخلية. وعين السيد صفوت الشريف في منصب الأمين العام للحزب، في تصعيد مثير للانتباه، لكن مع تعيين جمال مبارك رئيساً للجنة السياسات في الحزب، فقد انتقل مركز القوة عملياً الى اللجنة ورئيسها وليس الى أمين الحزب. أما السيد كمال الشاذلي أمين التنظيم، فقد أصبح أميناً مساعداً أو ظل محتفظاً بلقبه الأصلي لكن أهم صلاحيات أمانة التنظيم، ما يتعلق بالعضوية والشؤون المالية والادارية، سحبت ووزعت على أمانات أخرى تولاها آخرون.
في التشكيل الجديد للأمانة العامة تولى جمال مبارك رئاسة لجنة السياسات كما أشرنا تواً.
واسمها له دلالته المهمة. فهي ليست لجنة سياسية لكنها لجنة للسياسات التي يفترض ان تضع التصور العام لكل سياسات الحزب الحاكم، على مختلف الأصعدة، في الداخل والخارج، الأمر الذي يفترض أن يرسم خطوط عمل الحزب والحكومة في ذات الوقت. لذلك لم يكن السيد صفوت الشريف مبالغاً حين وصف اللجنة بأنها «قلب وعقل الحزب»، وان لم يشر الى أنها تؤدي ذات الوظيفة بالنسبة لحكومة الحزب أيضاً.
والأمر كذلك فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان أهم ما حققه المؤتمر الثامن للحزب التي نحى جانباً قيادات الحرس القديم، وفتح الباب واسعاً لبروز دور جمال مبارك على نحو مقنن على المسرح السياسي المصري. وهو ما يمكنه من أن يكون أحد المرشحين للانتخابات الرئيسية القادمة. ذلك ان الرئيس مبارك الذي يبلغ من العمر الآن 74 عاماً، كان قد انتخب لولاية رابعة (مدتها 6 سنوات) في عام 1999، ولأن الدستور بعد التعديل الذي أدخله الرئيس الراحل أنور السادات يسمح بانتخاب الرئيس لعدة دورات، وليس لدورتين اثنتين فقط كما كان في السابق، فان الرئيس مبارك له الحق في أن يستمر لولاية خامسة ان شاء الله، وأن يخوض الانتخابات المقرر اجراؤها في عام 2005. واذا لم يحدث ذلك فان الباب سيكون مفتوحاً للآخرين، علماً بأنه حسب الدستور المصري فان المرشحين للرئاسة ينبغي أن يحوزوا موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب (الذي يتمتع فيه الحزب الوطني بأغلبية ساحقة)، قبل أن تطرح أسماؤهم على الاستفتاء الجماهيري العام للاختيار فيما بينهم.
جدير بالذكر في هذا الصدد ان المرشح للرئاسة ينبغي الا يقل عمره عن 40 سنة، وجمال مبارك الذي ولد في عام 1963، سيبلغ سن الأربعين في أواخر العام القادم (2003)، الأمر الذي يجعله مستوفياً شرط السن، اذا ما رغب في ترشيح نفسه للمنصب.
أكثر ما يميز هذا «السيناريو» انه يعتمد أسلوباً هادئاً في تتابع حلقاته، لكن الثغرة الأساسية فيه تكمن في أن عمليات الاختيار والتصعيد تمت بالاختيار وليس بالانتخاب، ولولا تلك الثغرة لكان بوسعنا أن نقول ان ذلك التتابع التزم بالشكل الديمقراطي الى حد معتبر، ومن ثم فعلينا أن نقبل بنتائجه وتداعياته، علماً بأن الخرائط والأجواء الراهنة كان يمكن أن توفر لجمال مبارك في الانتخابات الداخلية أغلبية تسمح له بأن يحتل موقعاً متقدماً في الحزب، وملاحظة تشكيل قيادة الحزب على ذلك النحو سجلتها جريدة «الأهالي» الناطقة بلسان حزب «التجمع الوطني»، التي صدر عددها في 9/18 بعناوين بعرض صفحتها الأولى تقول: هذه هي ديمقراطية الحزب الحاكم كلهم بالتعيين - 6 آلاف عضو في مؤتمر الحزب الحاكم لم يشاركوا في الترشيح أو الانتخاب للمكتب السياسي والأمانة العامة.
لقد أثار المشهد لغطاً واسع النطاق في مصر حول المستقبل واحتمالاته ومفاجآته، وباستثناء الأصداء التي سجلتها صحافة المعارضة فان كثيرين يقولون ان الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو في ظاهره. أما الاتجاه الغالب فيبدو أنه يرفع شعارات من قبيل: لننتظر ونر، والعبد في التفكير والرب في التدبير، و... هذا أول الكلام وليس آخره.
الشائعات التي راجت في مصر خلال الأشهر الأخيرة حول احتمالات ترشيح جمال مبارك، الابن الأكبر للرئيس حسني مبارك، تحولت الى أخبار لها قدر معتبر من الصدقية منذ يوم الثلاثاء الماضي. فقد أصدر الرئيس يومذاك عدة قرارات باعادة تشكيل قيادة الحزب الوطني الحاكم، بحيث أصبح جمال مبارك أهم شخصية فيه، وبعد التأكيد على أن الحكومة هي حكومة حزب الأغلبية، فلم يعد من المبالغة القول بأن جمال مبارك صار من الناحية العملية أهم شخصية مؤثرة في النظام، بعد الرئيس حسني مبارك بطبيعة الحال، الأمر الذي يعني تصعيداً كبيراً وتقنيناً لدوره في الخارطة السياسية، يفتح الباب أمامه لكي يصبح أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية، مع انتهاء الولاية الرابعة للرئيس مبارك بعد ثلاث سنوات (عام 2005).
بدأت الشائعات تروج في الأوساط السياسية والاعلامية حين بدأ ظهور جمال مبارك على مسرح الحياة العامة، ولكنها نفيت استناداً إلى أن نشاطه محصور في المجال الاقتصادي دون السياسي، وكان ظاهر الأمر يوحي بذلك في حينه، خصوصاً أنه في ذلك الوقت كان عضواً في المجلس الاقتصادي المصري الأمريكي ومتحدثاً باسمه. غير أن الشائعات التي هدأت لبعض الوقت عادت تتردد في وقت لاحق حين صدر قرار بتعيين جمال مبارك عضواً بالأمانة العامة للحزب الوطني الحاكم، الأمر الذي بدا أنه اشارة الى دخوله المعترك السياسي متجاوزاً بذلك المجال الاقتصادي. وبصفته تلك، فانه بدأ يتجول في المحافظات ويتحدث في المؤتمرات الشعبية، وفضلاً عن ذلك فانه وجه بعض عنايته الى قطاع الشباب، حيث رأس منظمة باسم «جمعية المستقبل» التي تولت تأهيل واعادة تدريب المنضمين اليها من الشباب، الذين كانوا يتمتعون بوضع خاص في مجالات العمل، الأمر الذي أعاد الى الأذهان تجربة «منظمة الشباب» في المرحلة الناصرية، التي كانت تعد كوادر النظام وتهيئهم لتولي مسؤوليات المستقبل (بعض أعضاء تلك المنظمة يتولون الآن مواقع مهمة في الحكومة وقيادة الحزب الوطني).
في الوقت ذاته فان جمال مبارك أصبح بحكم قربه من والده وثقته فيه يمارس بعض الصلاحيات التنفيذية والسياسية خصوصاً في المجال الاقتصادي، حتى قيل انه كان له رأيه ودوره في اختيار وزراء المجموعة الاقتصادية، وفي اختيار وزراء آخرين في قول آخر.
في هذا الصيف رصد المراقبون عدة مؤشرات أخرى، منها أن جمال مبارك سافر الى لندن بدعوة من قيادة حزب العمال، للاطلاع على تجربة الحزب وكيفية مباشرته أنشطته، وأمضى هناك عدة أسابيع لهذا الغرض. وأعيد تشكيل المجلس الاقتصادي المصري الامريكي، ولم يدرج اسمه في التشكيل الجديد، الأمر الذي فهم منه أن اخراجه لم يكن استبعاداً بطبيعة الحال، بقدر ما كان اعفاء من مسؤوليات وارتباطات عضوية المجلس، لتمكينه من القيام بمهام أخرى.
في الوقت ذاته بدأت الصحف تتحدث عن الاعداد لعقد المؤتمر الثامن للحزب الوطني، الذي لم يكن له حضور فاعل في الحياة السياسية (خارج حدود خوض الانتخابات والفوز بالأغلبية)، والدليل على ذلك ان مؤتمر الحزب لم ينعقد منذ عشر سنوات.
ومع الدعوة الى عقد مؤتمر الحزب، بدأ الحديث في الصحف القومية عن ضرورة تفعيله، واعادة بنائه، وتطعيمه بقيادات شابة تعيد جريان الدماء في شرايينه المتصلبة وكانت فكرة تطوير الحزب قد طفت على السطح أثناء الانتخابات النيابية الأخيرة ولكنها وئدت بعدما نجح أركان الحزب التقليديون ممن يسمون بالحرس القديم في ابقاء كل شيء كما كان عليه. وخلال الشهرين اللذين سبقا موعد انعقاد الحزب حدثت ثلاث «فرقعات» شوهت صورة أهم ثلاث قيادات من عناصر الحرس القديم، وكانت ملفات الفساد هي القاسم المشترك بين الفرقعات الثلاث. في البداية أعلن القبض على وكيل وزارة الاعلام وأحد أهم أعوان وزير الاعلام السيد صفوت الشريف عضو الأمانة العامة للحزب بتهمة تقاضي رشوة لاظهار بعض الشخصيات على شاشات التليفزيون، ولم تكد أصداء الفضيحة تهدأ حتى أعلن عن القاء القبض على الساعد الأيمن لوزير الزراعة الدكتور يوسف والي والأمين العام للحزب بتهمة الرشوة أيضاً. وبينما دوي هذه العملية الثانية لا يزال يهز الساحة السياسية، حدثت الفرقعة الثالثة حين ألقي القبض على أحد رؤساء البنوك بتهمة الفساد، وكان الرجل معروفاً بأن ضامنه وكفيله هو رجل الحزب القوي، السيد كمال الشاذلي مسؤول التنظيم فيه ووزير الدولة لشؤون مجلسي الشعب والشورى.
قد يكون ذلك التتابع مجرد مصادفة، لكن أوساط الراصدين والمراقبين رجحت أن الأمر ليس كذلك بالضبط، وان تجريح صورة هؤلاء الثلاثة يمهد لاضعاف موقفهم واخراجهم من الساحة، بل وحتى ان تم ذلك بالصدفة حقاً، الا أنه في النهاية أحدث مفعول التجريح والاضعاف قبل انعقاد مؤتمر الحزب.
بعد الذي جرى لم يعد هناك شك في أن قيادة الحزب الوطني سيطاح بها، وقويت جداً الشائعات والتكهنات في هذا الصدد، غير أن رئيس تحرير جريدة الأهرام كتب مقالاً قبل انعقاد المؤتمر بأيام معدودة لامتصاص البلبلة التي نشأت عن رواج تلك الشائعات، قال فيه انه لن يحدث تغيير في قيادات الحزب، ولكن التغيير سيكون في أفكاره وأسلوب عمله فقط. وأثبتت التطورات اللاحقة ان الكلام كان صحيحاً وغير صحيح. صحيح لأن الأشخاص لم يتغيروا ظاهرياً، وغير صحيح لأن اختصاصاتهم سحبت بطريقة ذكية وأعطيت لغيرهم، الأمر الذي أدى الى ابقائهم، وربما الى ترقيتهم، وفي الوقت ذاته الى اضعافهم وتسليم مقاليد الحزب الى عناصر أخرى جديدة. بكلام آخر فان التغيير الذي أعلن عنه في ختام مؤتمر الحزب أدى الى الاحتفاظ باللافتات وربما تفخيم الألقاب، في حين أحدث انقلاباً هادئاً في موازين القوة داخل الحزب - كيف؟
لقد عين الأمين العام للحزب، الدكتور يوسف والي، في وظيفة شرفية اعلا هي نائب رئيس الحزب للشؤون الداخلية. وعين السيد صفوت الشريف في منصب الأمين العام للحزب، في تصعيد مثير للانتباه، لكن مع تعيين جمال مبارك رئيساً للجنة السياسات في الحزب، فقد انتقل مركز القوة عملياً الى اللجنة ورئيسها وليس الى أمين الحزب. أما السيد كمال الشاذلي أمين التنظيم، فقد أصبح أميناً مساعداً أو ظل محتفظاً بلقبه الأصلي لكن أهم صلاحيات أمانة التنظيم، ما يتعلق بالعضوية والشؤون المالية والادارية، سحبت ووزعت على أمانات أخرى تولاها آخرون.
في التشكيل الجديد للأمانة العامة تولى جمال مبارك رئاسة لجنة السياسات كما أشرنا تواً.
واسمها له دلالته المهمة. فهي ليست لجنة سياسية لكنها لجنة للسياسات التي يفترض ان تضع التصور العام لكل سياسات الحزب الحاكم، على مختلف الأصعدة، في الداخل والخارج، الأمر الذي يفترض أن يرسم خطوط عمل الحزب والحكومة في ذات الوقت. لذلك لم يكن السيد صفوت الشريف مبالغاً حين وصف اللجنة بأنها «قلب وعقل الحزب»، وان لم يشر الى أنها تؤدي ذات الوظيفة بالنسبة لحكومة الحزب أيضاً.
والأمر كذلك فلعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان أهم ما حققه المؤتمر الثامن للحزب التي نحى جانباً قيادات الحرس القديم، وفتح الباب واسعاً لبروز دور جمال مبارك على نحو مقنن على المسرح السياسي المصري. وهو ما يمكنه من أن يكون أحد المرشحين للانتخابات الرئيسية القادمة. ذلك ان الرئيس مبارك الذي يبلغ من العمر الآن 74 عاماً، كان قد انتخب لولاية رابعة (مدتها 6 سنوات) في عام 1999، ولأن الدستور بعد التعديل الذي أدخله الرئيس الراحل أنور السادات يسمح بانتخاب الرئيس لعدة دورات، وليس لدورتين اثنتين فقط كما كان في السابق، فان الرئيس مبارك له الحق في أن يستمر لولاية خامسة ان شاء الله، وأن يخوض الانتخابات المقرر اجراؤها في عام 2005. واذا لم يحدث ذلك فان الباب سيكون مفتوحاً للآخرين، علماً بأنه حسب الدستور المصري فان المرشحين للرئاسة ينبغي أن يحوزوا موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب (الذي يتمتع فيه الحزب الوطني بأغلبية ساحقة)، قبل أن تطرح أسماؤهم على الاستفتاء الجماهيري العام للاختيار فيما بينهم.
جدير بالذكر في هذا الصدد ان المرشح للرئاسة ينبغي الا يقل عمره عن 40 سنة، وجمال مبارك الذي ولد في عام 1963، سيبلغ سن الأربعين في أواخر العام القادم (2003)، الأمر الذي يجعله مستوفياً شرط السن، اذا ما رغب في ترشيح نفسه للمنصب.
أكثر ما يميز هذا «السيناريو» انه يعتمد أسلوباً هادئاً في تتابع حلقاته، لكن الثغرة الأساسية فيه تكمن في أن عمليات الاختيار والتصعيد تمت بالاختيار وليس بالانتخاب، ولولا تلك الثغرة لكان بوسعنا أن نقول ان ذلك التتابع التزم بالشكل الديمقراطي الى حد معتبر، ومن ثم فعلينا أن نقبل بنتائجه وتداعياته، علماً بأن الخرائط والأجواء الراهنة كان يمكن أن توفر لجمال مبارك في الانتخابات الداخلية أغلبية تسمح له بأن يحتل موقعاً متقدماً في الحزب، وملاحظة تشكيل قيادة الحزب على ذلك النحو سجلتها جريدة «الأهالي» الناطقة بلسان حزب «التجمع الوطني»، التي صدر عددها في 9/18 بعناوين بعرض صفحتها الأولى تقول: هذه هي ديمقراطية الحزب الحاكم كلهم بالتعيين - 6 آلاف عضو في مؤتمر الحزب الحاكم لم يشاركوا في الترشيح أو الانتخاب للمكتب السياسي والأمانة العامة.
لقد أثار المشهد لغطاً واسع النطاق في مصر حول المستقبل واحتمالاته ومفاجآته، وباستثناء الأصداء التي سجلتها صحافة المعارضة فان كثيرين يقولون ان الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو في ظاهره. أما الاتجاه الغالب فيبدو أنه يرفع شعارات من قبيل: لننتظر ونر، والعبد في التفكير والرب في التدبير، و... هذا أول الكلام وليس آخره.