هويدي 23-7-2001
يصعب على المرء أن يصدق أن الجهود التي تبذل الآن لمحاكمة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون في بلجيكا على جريمته الكبرى في «صبرا وشاتيلا»، لم يقدم لها أي عون عربي من أي نوع، وان اعضاء الرابطة العربية الاوروبية الذين قدموا الشكوى الى القضاء البلجيكي ينفقون على القضية من جيوبهم الخاصة، ومن رواتبهم ومداخيلهم المحدودة والمتواضعة ويستغرب المرء أن يقدم اولئك الباحثون الشبان على تلك الخطوة غير المسبوقة التي تستهدف استدعاء احد القادة الاسرائيليين الى العدالة الدولية لأول مرة في تاريخها، ويتم ذلك وسط تقاعس مذهل من جانبنا، وكأن الأمر لا يعني احدا في العالم العربي، وكأن اولئك الفقراء من المغتربين ذوي الاصول العربية أكثر غيرة على كرامة واستحقاقات هذه الأمة، من أنظمتها وجماعاتها الاهلية ورموزها، وهو أمر لا يمكن تصوره، ولا سبيل الى فهمه الا اذا اعتبر مشهدا في سجل اللامعقول العربي، الذي لا يحكمه منطق من أي باب.
القصة نشرت الصحف العربية طرفا منها، وخلاصتها ان قانونا صدر في بلجيكا عام 1993يسمح بمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب امام القضاء البلجيكي، حتى اذا وقعت خارج البلاد، وحتى اذا لم يكن بين ضحاياها احد من البلجيكيين، واستندت بلجيكا في اصدارها للقانون الى اتفاقية جنيف الرابعة المنظمة للقانون الدولي والانساني، التي تحـظر تلك الممارسات وتجرمها. وبعد ذلك ـ في عام 94 ـ وقعت مذبحة رواندا، التي شكلت صدمة كبيرة للرأي العام العالمي، وكان لها وقعها في أوروبا، خصوصا بعدما فقد أكثر من مليون شخص حياتهم اثناءها، فجرى توسيع نطاق القانون كي يشمل جرائم الابادة الجماعية وكل الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية، وفيه جرى التأكيد على عدم العفو عن مرتكبي تلك الجرائم أو سقوطها بالتقادم.
في سياق هذه «الصحوة» أمكن التوصل في عام 1998 الى عقد اتفاقية دولية لانشاء محكمة جنائية عالمية في روما، تختص بملاحقة ومحاكمة كل الذين يرتكبون جرائم ضد الانسانية، وبدت الاجواء مواتية لملاحقة المتهمين في تلك الممارسات، فكانت سابقة بينوشيه ديكتاتور شيلي وحاكمها الاسبق، حيث اضطرت السلطات البريطانية لمنعه من مغادرة اراضيها، بناء على أمر قبض اصدره قاض اسباني لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها ضد معارضيه اثناء حكمه لبلاده، شملت اعمال التعذيب والقتل والاختفاء، وتلت تلك السابقة الأولى سوابق لاحقة، استهدفت محاكمة مجرمين آخرين، من أمثال ضباط أمن موريتانيين في باريس، وحسين حبري رئيس تشاد السابق المقيم في السنغال وعزة ابراهيم نائب الرئيس العراقي في فيينا وخالد نزار وزير الدفاع الجزائري السابق في باريس ومسؤولين في مذابح رواندا ووزير الداخلية التونسي في جنيف وفي بلجيكا رفعت دعوى أخرى طالبت بريطانيا بتسليم بينوشيه لمحاكمته في بروكسل، وهناك سابقة أخرى مماثلة، فقد صدر في بلجيكا أمر بالقبض على وزير خارجية الكونغو، الذي وجه بيانا عبر اذاعة بلاده في اغسطس (آب) عام 98 دعا فيه بشكل مباشر الى قتل الكونغوليين ذوي الأصل التوتسي ووصفهم بأنهم «ميكروبات ضارة يجب التخلص منها» مما أدى الى ملاحقتهم وقتل عدة مئات منهم، وفي اعقاب صدور أمر القبض على الرجل في بروكسل اضطرت الحكومة الكونغولية الى اقالته من منصبه، لأن أمر القبض أجبره على البقاء داخل حدود بلاده وعدم الخروج منها، الأمر الذي عطل وظيفته الاساسية كوزير للخارجية.
في لحظة بدا ان ثمة حركة واسعة على ذلك الصعيد في كل اتجاه تبحث عن القصاص ورد الاعتبار وتحاول تقديم مرتكبي الجرائم ضد الانسانية الى العدالة الدولية، بينما ظل العرب غائبين، في حين ان اسرائيل لم تتوقف عن اقتراف تلك الجرائم منذ أكثر من نصف قرن «دع عنك الآن ان طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، واقامة دولة فوق جثة ذلك البلد واشلائه يعد جريمة كبرى ضد الانسانية لا يمكن نسيانها أو اغتفارها».
يحتاج هنا الموقف الى تفسير ليس هذا مقامه أو اوانه، لكنه يظل من تجليات «الغيبوبة» التي حلت بالعالم العربي، فغيبت عنه مثل هذه الآفاق، بحيث تم استغراق الجميع في المجال السياسي دون غيره، ولم يقتصر الأمر على الانظمة فحسب، ولكن الوزراء أصاب الجماعات الاهلية ايضا.
هذه الغيبوبة شجعت نفرا من العرب المقيمين في أوروبا والحاملين لجنسياتها على أن يخوضوا غمار التجربة، وان يكسروا جدار الصمت والتجاهل، وهذا فعله مجموعة الباحثين والدارسين ذوي الاصول العربية، حين اسسوا «الرابطة العربية الاوروبية» التي رأسها البارز في شؤون الأمن الدولي دياب أبو جهجه اللبناني الأصل، ولأن اغلب اعضاء مجلس الادارة من اللبنانيين، فقد كانت مذبحة صبرا وشاتيلا حاضرة في اذهانهم بقوة، ومنهم من شغل بتقديم شكوى الى القضاء البلجيكي منذ صدر قانون عام 93، وقد اشتد ذلك الهاجس وأصبح أكثر الحاحا بعدما تولى شارون رئاسة الوزراء في اسرائيل، في اشارة لا تخلو من دلائل شريرة، خصوصا في أجواء الادعاء بالدخول في طور التسوية السلمية وطي صفحة «الصراع» في الملف العربي الاسرائيلي.
لم يكن الأمر سهلا ولا يزال، فرفع قضية لمحاكمة قيادي اسرائيلي ومجرم حرب في ثقل ارييل شارون، فيه مغامرة كبرى، لأن اسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون، مثلما يزعم اليهود انهم شعب الله المختار، ثم ان الجماعات الصهيونية والموالية في اسرائيل لن تسكت امام دعوى من ذلك القبيل، وانما ستحشد كل ما تملك من نفوذ ومال لاحباط المحاولة وافشالها، في الوقت ذاته فإن رفع قضية من ذلك القبيل وتوكيل فريق من المحامين البلجيكيين ذوي الاجور المرتفعة لاتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة، التي قد تستغرق سنتين أو ثلاثا، أمر ليس بالهين، ولكنه يشكل عبئا ماليا ضخما يفوق طاقة تلك المجموعة التي تصدت للمسألة في بروكسل. في هذا السياق، فإن اعداد ملف القضية أو الشكاوى وجمع الوقائع واستنطاق الشهود ومتابعتهم حيثما وجدوا، ذلك يمثل عبئا آخر.
رغم ذلك فقد اختار اولئك الباحثون ان يغامروا، وان يتحملوا عبء المحاولة وتكاليفها الباهظة، على المستويين الادبي والمادي، من ثم فإنهم بدأوا في العمل بشكل جاد منذ ستة أشهر، جهزوا خلالها ملف القضية واثبتوا اقوال 26 شاهدا، وجاؤوا بالفتاة الفلسطينية سعاد سرور، التي كانت ممن نجوا من المذبحة، بعد قتل اسرتها واغتصابها واطلاق الرصاص عليها، مما اصابها بشلل اعجزها عن استخدام ساقيها، استقدموها من بيروت واستضافوها في بيوتهم ببروكسل، ووكلوا ثلاثة من المحامين للسير في اجراءات القضية، بالتعاون مع محامين آخرين في بيروت، وبعض المنظمات الاوروبية المعنية بحقوق الانسان، استكملوا الملف ووثقوا معلوماته، وقبله قاضي التحقيق البلجيكي، وأمر بالتحقيق في الأدلة والتثبت من صحتها، ويفترض ان يرفع الأمر بعد ذلك الى النائب العام البلجيكي لاخذ قرار بصدد الاستمرار في نظر الدعوى.
أحدث الأمر ضجة تناقلت الصحف ووكالات الانباء اخبارها، ومورست ضغوط ـ ومازالت ـ لاعادة النظر في القانون واضفاء بعض الحصانة على قادة الدول الاجنبية، وقال مسؤولون فرنسيون ان من شأن المضي في الدعوى أن يؤثر على «مسيرة السلام» في المنطقة (!) وليس معروفا ما اذا كانت الضغوط ستحقق مرادها أم لا لكن الحاصل الآن ان الدعوى رفعت بالفعل، ومن ثم فإنها أصبحت حقيقة واقعة يتعين التعامل معها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ذلك يحدث والعالم العربي كله واقف موقف المتفرج، بما في ذلك المنظمات الاهلية، باستثناء احدى المنظمات في القاهرة، التي دعت رئيس الرابطة العربية الأوروبية والمحامي البلجيكي لوك والين ممثل هيئة الدفاع في القضية، الى اجتماع تحضيري عقد في الاسبوع الماضي، اعدادا لمؤتمر حول التفرقة العنصرية يفترض ان يتم في جنوب افريقيا أو في الشهر المقبل اغسطس (آب) واعتبرت المنظمة المحامي البلجيكي ضيف شرف، بينما اعتبرت رئيس الرابطة التي وكلته، ومرافقا معه هو كمال عوالي، اعتبرتهما مراقبين، ولم يعط أي منهما فرصة الكلام امام المؤتمر! وكان ذلك شكلا آخر من اشكال التجاهل المدهش.
هؤلاء الشبان العرب المناضلون في بروكسل يستحقون عون العالم العربي، فضلا عن تقديره وامتنانه لهم، واذا كانت بعض الانظمة لها حساباتها التي تدفعها الى تجاهل الموضوع أو عدم الانخراط في مساعيه واجراءاته، فلا افهم لماذا لا يتشكل تجمع أهلي للتضامن مع الجهود المبذولة لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، وليتنا نتوسع في الفكرة بحيث يساند ذلك التجمع مختلف اشكال النضال القانوني الذي يستهدف محاسبة اسرائيل على جرائمها امام العدالة الدولية. أقول ذلك وفي ذهني ان هناك مسعى الآن في الولايات المتحدة لرفع قضية ضد شركة «انتل» العملاقة التي تصنع شرائح الكومبيوتر، لأنها اقامت مجمعا صناعيا بتكلفة مليار دولار في اسرائىل، فوق أرض عربية فلسطينية باسم «عراق المنشية»، تمت ابادتها رغم النص على ضمان سلامتها في اتفاقية الهدنة المودعة لدى الأمم المتحدة، الأمر الذي يعد انتهاكا لاحكام تلك الاتفاقية الدولية، من جانب احدى الشركات الاميركية.
مثل هذه الجهود لا يستطيع أحد ـ بما في ذلك اسرائيل ذاتها ـ ان يزعم بأنها «ارهاب» ولكنها شكل من اشكال المقاومة التي تجاهلناها طويلا، بينما ينبغي ان نطرق بابها، مع احتفاظنا بحقنا المشروع في ممارسة اشكال المقاومة الأخرى.. فهل من مجيب؟
يصعب على المرء أن يصدق أن الجهود التي تبذل الآن لمحاكمة رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون في بلجيكا على جريمته الكبرى في «صبرا وشاتيلا»، لم يقدم لها أي عون عربي من أي نوع، وان اعضاء الرابطة العربية الاوروبية الذين قدموا الشكوى الى القضاء البلجيكي ينفقون على القضية من جيوبهم الخاصة، ومن رواتبهم ومداخيلهم المحدودة والمتواضعة ويستغرب المرء أن يقدم اولئك الباحثون الشبان على تلك الخطوة غير المسبوقة التي تستهدف استدعاء احد القادة الاسرائيليين الى العدالة الدولية لأول مرة في تاريخها، ويتم ذلك وسط تقاعس مذهل من جانبنا، وكأن الأمر لا يعني احدا في العالم العربي، وكأن اولئك الفقراء من المغتربين ذوي الاصول العربية أكثر غيرة على كرامة واستحقاقات هذه الأمة، من أنظمتها وجماعاتها الاهلية ورموزها، وهو أمر لا يمكن تصوره، ولا سبيل الى فهمه الا اذا اعتبر مشهدا في سجل اللامعقول العربي، الذي لا يحكمه منطق من أي باب.
القصة نشرت الصحف العربية طرفا منها، وخلاصتها ان قانونا صدر في بلجيكا عام 1993يسمح بمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب امام القضاء البلجيكي، حتى اذا وقعت خارج البلاد، وحتى اذا لم يكن بين ضحاياها احد من البلجيكيين، واستندت بلجيكا في اصدارها للقانون الى اتفاقية جنيف الرابعة المنظمة للقانون الدولي والانساني، التي تحـظر تلك الممارسات وتجرمها. وبعد ذلك ـ في عام 94 ـ وقعت مذبحة رواندا، التي شكلت صدمة كبيرة للرأي العام العالمي، وكان لها وقعها في أوروبا، خصوصا بعدما فقد أكثر من مليون شخص حياتهم اثناءها، فجرى توسيع نطاق القانون كي يشمل جرائم الابادة الجماعية وكل الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية، وفيه جرى التأكيد على عدم العفو عن مرتكبي تلك الجرائم أو سقوطها بالتقادم.
في سياق هذه «الصحوة» أمكن التوصل في عام 1998 الى عقد اتفاقية دولية لانشاء محكمة جنائية عالمية في روما، تختص بملاحقة ومحاكمة كل الذين يرتكبون جرائم ضد الانسانية، وبدت الاجواء مواتية لملاحقة المتهمين في تلك الممارسات، فكانت سابقة بينوشيه ديكتاتور شيلي وحاكمها الاسبق، حيث اضطرت السلطات البريطانية لمنعه من مغادرة اراضيها، بناء على أمر قبض اصدره قاض اسباني لمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها ضد معارضيه اثناء حكمه لبلاده، شملت اعمال التعذيب والقتل والاختفاء، وتلت تلك السابقة الأولى سوابق لاحقة، استهدفت محاكمة مجرمين آخرين، من أمثال ضباط أمن موريتانيين في باريس، وحسين حبري رئيس تشاد السابق المقيم في السنغال وعزة ابراهيم نائب الرئيس العراقي في فيينا وخالد نزار وزير الدفاع الجزائري السابق في باريس ومسؤولين في مذابح رواندا ووزير الداخلية التونسي في جنيف وفي بلجيكا رفعت دعوى أخرى طالبت بريطانيا بتسليم بينوشيه لمحاكمته في بروكسل، وهناك سابقة أخرى مماثلة، فقد صدر في بلجيكا أمر بالقبض على وزير خارجية الكونغو، الذي وجه بيانا عبر اذاعة بلاده في اغسطس (آب) عام 98 دعا فيه بشكل مباشر الى قتل الكونغوليين ذوي الأصل التوتسي ووصفهم بأنهم «ميكروبات ضارة يجب التخلص منها» مما أدى الى ملاحقتهم وقتل عدة مئات منهم، وفي اعقاب صدور أمر القبض على الرجل في بروكسل اضطرت الحكومة الكونغولية الى اقالته من منصبه، لأن أمر القبض أجبره على البقاء داخل حدود بلاده وعدم الخروج منها، الأمر الذي عطل وظيفته الاساسية كوزير للخارجية.
في لحظة بدا ان ثمة حركة واسعة على ذلك الصعيد في كل اتجاه تبحث عن القصاص ورد الاعتبار وتحاول تقديم مرتكبي الجرائم ضد الانسانية الى العدالة الدولية، بينما ظل العرب غائبين، في حين ان اسرائيل لم تتوقف عن اقتراف تلك الجرائم منذ أكثر من نصف قرن «دع عنك الآن ان طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، واقامة دولة فوق جثة ذلك البلد واشلائه يعد جريمة كبرى ضد الانسانية لا يمكن نسيانها أو اغتفارها».
يحتاج هنا الموقف الى تفسير ليس هذا مقامه أو اوانه، لكنه يظل من تجليات «الغيبوبة» التي حلت بالعالم العربي، فغيبت عنه مثل هذه الآفاق، بحيث تم استغراق الجميع في المجال السياسي دون غيره، ولم يقتصر الأمر على الانظمة فحسب، ولكن الوزراء أصاب الجماعات الاهلية ايضا.
هذه الغيبوبة شجعت نفرا من العرب المقيمين في أوروبا والحاملين لجنسياتها على أن يخوضوا غمار التجربة، وان يكسروا جدار الصمت والتجاهل، وهذا فعله مجموعة الباحثين والدارسين ذوي الاصول العربية، حين اسسوا «الرابطة العربية الاوروبية» التي رأسها البارز في شؤون الأمن الدولي دياب أبو جهجه اللبناني الأصل، ولأن اغلب اعضاء مجلس الادارة من اللبنانيين، فقد كانت مذبحة صبرا وشاتيلا حاضرة في اذهانهم بقوة، ومنهم من شغل بتقديم شكوى الى القضاء البلجيكي منذ صدر قانون عام 93، وقد اشتد ذلك الهاجس وأصبح أكثر الحاحا بعدما تولى شارون رئاسة الوزراء في اسرائيل، في اشارة لا تخلو من دلائل شريرة، خصوصا في أجواء الادعاء بالدخول في طور التسوية السلمية وطي صفحة «الصراع» في الملف العربي الاسرائيلي.
لم يكن الأمر سهلا ولا يزال، فرفع قضية لمحاكمة قيادي اسرائيلي ومجرم حرب في ثقل ارييل شارون، فيه مغامرة كبرى، لأن اسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون، مثلما يزعم اليهود انهم شعب الله المختار، ثم ان الجماعات الصهيونية والموالية في اسرائيل لن تسكت امام دعوى من ذلك القبيل، وانما ستحشد كل ما تملك من نفوذ ومال لاحباط المحاولة وافشالها، في الوقت ذاته فإن رفع قضية من ذلك القبيل وتوكيل فريق من المحامين البلجيكيين ذوي الاجور المرتفعة لاتخاذ الاجراءات القانونية اللازمة، التي قد تستغرق سنتين أو ثلاثا، أمر ليس بالهين، ولكنه يشكل عبئا ماليا ضخما يفوق طاقة تلك المجموعة التي تصدت للمسألة في بروكسل. في هذا السياق، فإن اعداد ملف القضية أو الشكاوى وجمع الوقائع واستنطاق الشهود ومتابعتهم حيثما وجدوا، ذلك يمثل عبئا آخر.
رغم ذلك فقد اختار اولئك الباحثون ان يغامروا، وان يتحملوا عبء المحاولة وتكاليفها الباهظة، على المستويين الادبي والمادي، من ثم فإنهم بدأوا في العمل بشكل جاد منذ ستة أشهر، جهزوا خلالها ملف القضية واثبتوا اقوال 26 شاهدا، وجاؤوا بالفتاة الفلسطينية سعاد سرور، التي كانت ممن نجوا من المذبحة، بعد قتل اسرتها واغتصابها واطلاق الرصاص عليها، مما اصابها بشلل اعجزها عن استخدام ساقيها، استقدموها من بيروت واستضافوها في بيوتهم ببروكسل، ووكلوا ثلاثة من المحامين للسير في اجراءات القضية، بالتعاون مع محامين آخرين في بيروت، وبعض المنظمات الاوروبية المعنية بحقوق الانسان، استكملوا الملف ووثقوا معلوماته، وقبله قاضي التحقيق البلجيكي، وأمر بالتحقيق في الأدلة والتثبت من صحتها، ويفترض ان يرفع الأمر بعد ذلك الى النائب العام البلجيكي لاخذ قرار بصدد الاستمرار في نظر الدعوى.
أحدث الأمر ضجة تناقلت الصحف ووكالات الانباء اخبارها، ومورست ضغوط ـ ومازالت ـ لاعادة النظر في القانون واضفاء بعض الحصانة على قادة الدول الاجنبية، وقال مسؤولون فرنسيون ان من شأن المضي في الدعوى أن يؤثر على «مسيرة السلام» في المنطقة (!) وليس معروفا ما اذا كانت الضغوط ستحقق مرادها أم لا لكن الحاصل الآن ان الدعوى رفعت بالفعل، ومن ثم فإنها أصبحت حقيقة واقعة يتعين التعامل معها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ذلك يحدث والعالم العربي كله واقف موقف المتفرج، بما في ذلك المنظمات الاهلية، باستثناء احدى المنظمات في القاهرة، التي دعت رئيس الرابطة العربية الأوروبية والمحامي البلجيكي لوك والين ممثل هيئة الدفاع في القضية، الى اجتماع تحضيري عقد في الاسبوع الماضي، اعدادا لمؤتمر حول التفرقة العنصرية يفترض ان يتم في جنوب افريقيا أو في الشهر المقبل اغسطس (آب) واعتبرت المنظمة المحامي البلجيكي ضيف شرف، بينما اعتبرت رئيس الرابطة التي وكلته، ومرافقا معه هو كمال عوالي، اعتبرتهما مراقبين، ولم يعط أي منهما فرصة الكلام امام المؤتمر! وكان ذلك شكلا آخر من اشكال التجاهل المدهش.
هؤلاء الشبان العرب المناضلون في بروكسل يستحقون عون العالم العربي، فضلا عن تقديره وامتنانه لهم، واذا كانت بعض الانظمة لها حساباتها التي تدفعها الى تجاهل الموضوع أو عدم الانخراط في مساعيه واجراءاته، فلا افهم لماذا لا يتشكل تجمع أهلي للتضامن مع الجهود المبذولة لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، وليتنا نتوسع في الفكرة بحيث يساند ذلك التجمع مختلف اشكال النضال القانوني الذي يستهدف محاسبة اسرائيل على جرائمها امام العدالة الدولية. أقول ذلك وفي ذهني ان هناك مسعى الآن في الولايات المتحدة لرفع قضية ضد شركة «انتل» العملاقة التي تصنع شرائح الكومبيوتر، لأنها اقامت مجمعا صناعيا بتكلفة مليار دولار في اسرائىل، فوق أرض عربية فلسطينية باسم «عراق المنشية»، تمت ابادتها رغم النص على ضمان سلامتها في اتفاقية الهدنة المودعة لدى الأمم المتحدة، الأمر الذي يعد انتهاكا لاحكام تلك الاتفاقية الدولية، من جانب احدى الشركات الاميركية.
مثل هذه الجهود لا يستطيع أحد ـ بما في ذلك اسرائيل ذاتها ـ ان يزعم بأنها «ارهاب» ولكنها شكل من اشكال المقاومة التي تجاهلناها طويلا، بينما ينبغي ان نطرق بابها، مع احتفاظنا بحقنا المشروع في ممارسة اشكال المقاومة الأخرى.. فهل من مجيب؟