ماهر بن محمد القرشي
نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل مبدأ الاستطاعة الشرعية في كافة مشاريعنا الإصلاحية، ويبدو الأمر واضحا حين نمعن النظر في واقع التجارب الإسلامية على الصعيدين السياسي والدعوي على حد سواء، فهناك نماذج إسلامية حية اهتدت إلى هذه الحقيقة فنجحت، ولا تزال نجاحاتها تكبر يوما بعد يوم، في حين أن هناك نماذج إسلامية أخرى ما زالت عالقة في دائرة الفشل، وستظل كذلك إلى أن تعي هذه الحقيقة. خلاصة القول إن المطلوب منا شرعا هو ما يقع في دائرة الممكن، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، بشرط أن تظل دائرة الكمال بمثابة (البوصلة) التي نتجه إليها دوماً..
حين كنت أتابع مجريات الأخبار في المشهدين التونسي والمصري والتداعيات المتسارعة حيال ذلك، كنت أقلب النظر في مواقف الشرعيين تجاه هذين الحدثين الجللين، ولفت انتباهي مطالبات بعض الشرعيين التي قد تصنف في الوقت الراهن في خانة الحلول غير الممكنة، كالمطالبة بتحكيم الشريعة بشكل فوري وحاسم، في الوقت الذي تعصف بتلك المجتمعات ظروف سياسية واجتماعية تفرض علينا جميعاً عدم تخطي الحلول الممكنة وفق سنة التدرج النبوية.
إن ثمّة مسافة غائبة عند بعض المهتمين بشأن الإصلاح بين الأنموذج الإسلامي الكامل والأنموذج الإسلامي الممكن، قد تصل بهؤلاء - كنتيجة طبيعية - إلى درجة اليأس والإحباط تارة، أو إلى تخطي السنن الكونية والشرعية تارة أخرى، في حين أن هذه المسافة لم تغب يوما ما عن مجريات السيرة النبوية بكافة تفاصيلها وأحداثها، ولم تغب أيضا عن سير المصلحين العظماء على مدِّ التاريخ.
وأعني بالأنموذج الإسلامي الكامل: فهم النص الشرعي كما هو، بعيدا عن أي مؤثرات من خارجه، في حين أن الأنموذج الممكن هو تنزيل مفهوم النص بما يلائم الواقع ويصلحه، وقد يقتضي ذلك التخلي عن بعض مفاهيم النص في سبيل تحقيق أعلى المصلحتين أو درء أعلى المفسدتين، وهو ما يسمّيه علماء الأصول بتحقيق المناط.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (28/67-68) إلى المسافة الفاصلة بين الكمال والإمكان في سياق حديثه عن أحكام الولايات الشرعية، حين قال : (يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ اسْتَعَانَ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَظُلْمٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَقْدُورِ...وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَامِلٌ، فَيَفْعَلُ خَيْر الْخَيْرَيْنِ وَيَدْفَعُ شَرّ الشَّرَّيْنِ...وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ...وَكَذَلِكَ يُوسُفُ كَانَ نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ، وَفَعَلَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ).
هذه المسافة الفاصلة قد تقترب أحيانا إلى درجة التّماس بين الممكن والكامل وقد تبتعد في أكثر الأحيان، وفي الحديث الصحيح: ((اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ))، وإن نجاح أي دعوة صحيحة مرتهن بوعي هذه الحقيقة.
ولقد أعطانا القرآن الكريم دروساً متكررة حيال هذه الحقيقة، فالخمر مثلا لم يحرم جملة واحدة مع أنه رجس منذ اللحظة الأولى إلى اللحظة التي نزل فيها التحريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فما الذي تغيّر إذن؟ بطبيعة الحال مادة الخمر هي هي لم تتغير، إنما الذي تغير واقع الناس آنذاك، وهذا تحديدا ما نعنيه بالمسافة الفاصلة بين الأنموذج الكامل والأنموذج الممكن، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها – تأكيدا لهذا المعنى – أنها قالت : ((إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ – أي القرآن الكريم - سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ، نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا)).
طالما أن هناك فرق بين الممكن والكامل، فيا تُرى ما المطلوب منا تحقيقه، وهل هناك موازنة يجب أن نتوخاها عند رسم مشاريعنا الإصلاحية؟ غني عن الذكر أننا في مثل هذه الحال - كغيرها من الأحوال الأخرى الكثيرة - بين طرفين ووسط؛ فالطرف الأول من غلبت عليه حالة الأنموذج الممكن (الواقعي)، ونسي أو كاد أن ينسى التطلُّع إلى الأنموذج الكامل، إلى أن تلاشى الفرق تدريجيا بين الأنموذجين الكامل والممكن في نهاية المطاف، فغدت الملامح الفكرية لهذا الاتجاه تجعل من الأنموذج الممكن نموذجا كاملا، وترتّب على ذلك غياب الوعي بالممكن؛ تبعاً لغياب الوعي بالأنموذج الكامل.
أما الطرف الآخر فقد عاش في عالم المثال، ولم يعد قادرا على إبصار الواقع الذي بين يديه بتحدياته وظروفه المختلفة، فلم يَسْلم من إحدى خطيئتين: إما اليأس والقنوط، ومن ثَمََّ اعتزال الناس والخلود في عالم المثل والأحلام، وإما تخطي السنن الكونية والشرعية، وجَلْبِ الويلات تلو الويلات التي قد لا تنتهي إلا بانتهاء أجله المحتوم، وكم مريد للإصلاح لا يحسنه.
وكما ترى فإن الفشل في هذين الاتجاهين يعود إلى غياب الوعي بالمسافة الفاصلة بين الكمال والإمكان، فالأولون جعلوا من الممكن كاملا، والآخرون جعلوا من الكامل ممكنا في حين أن الحق بين هذين الاتجاهين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
ولبيان ذلك، يجب في أول الأمر تحديد الأنموذج الكامل بآلياته وطرقه المعتبرة، ومن ثمَّ النظر في الواقع للوصول إلى صيغة توفيقية بين النص والواقع بحسب الآليات والطرق المعتبرة أيضا، وبهذا نكون قد رسمنا الخطوة الأولى في هذا الطريق، وهي تحديد المسافة بين النص والواقع (الكامل والممكن).
وهذه الخطوة تحديدا لا ينبغي تخطيها إلا بعد أن يتنادى لها الراسخون من أهل العلم الشرعي وأهل الدراية بالواقع على حد سواء؛ إذ هي الخطوة الأهم والأصعب من بين الخطوات الأخرى في هذا الطريق، ثم لم يبق لنا بعد ذلك سوى أن نخطو خطوتين إلى الأمام: الأولى تفعيل الصيغة التوفيقية بين النص والواقع؛ امتثالا لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
وفي بعض الأحوال قد تُمثّل الصيغة التوفيقية صورة من صور التّماس (التطابق) بين الكمال والإمكان، إما على وجه جزئي وهو الأكثر، أو على وجه كامل على هيئة ما تحقق في مجتمع المدينة إبان العهد النبوي، بيد أن هذه الصيغة التوفيقية في الأغلب إنما تعكس المسافة بين النص والواقع، وحينئذ فلا مناص من تفعيل الممكن وتأجيل الأنموذج الكامل إلى أن يصير ممكناً.
وأما الخطوة الأخيرة، فهي الاقتراب من الكمال شيئا فشيئا بحسب الاستطاعة، وقد تكون هذه الخطوة في أحيان كثيرة قابعة في الوجدان لا تجد لها طريقا إلى النور، وحسبك بجهاد القلب في مثل هذه الظروف، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، فإن من جملة مقاصد الشريعة مدافعة الباطل سواء بإزالته (وهو الكمال إن كان مقدورا عليه)، أو تقليله (وهو الممكن إن لم يكن مقدورا على الكمال)، أو حتى تعطيل تمدُّدِه (وهو من أدنى درجات الممكن وذلك أضعف الأيمان).
فالشريعة قامت على جلب المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))، وقال: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).
بقي أن أشير إلى أن درجات تغيير المنكر مراتب – كما هو مقرر - أعلاها التغيير باليد ثم اللسان ثم القلب، وحيث إن هذه المراتب الثلاثة مشروطة بالاستطاعة، ولا يُتَصوَّر أن يقع القسر والإكراه على القلب، فإنه - والحال هذه - لا يعذر من الإنكار البتة، غير أن هذه المراتب قد تختلف في الترتيب؛ تبعا لاختلافها في مناط التكليف (الاستطاعة الشرعية) (حيث يتم تحصيل أعلى المصلحتين ودفع أعلى المفسدتين)، ومن طَرَدَ الترتيب السابق فقد ناقض النص قبل مناقضته لواقعه الذي يعيش فيه، فقد يصل الإنكار باللسان إلى الرتبة الأولى حين تكون الاستطاعة الشرعية في صفه، وكذلك الحال في التغيير بالقلب.
وبالتالي، فنحن بحاجة ماسة إلى تفعيل مبدأ الاستطاعة الشرعية في كافة مشاريعنا الإصلاحية، ويبدو الأمر واضحا حين نمعن النظر في واقع التجارب الإسلامية على الصعيدين السياسي والدعوي على حد سواء، فهناك نماذج إسلامية حية اهتدت إلى هذه الحقيقة فنجحت، ولا تزال نجاحاتها تكبر يوما بعد يوم، في حين أن هناك نماذج إسلامية أخرى ما زالت عالقة في دائرة الفشل، وستظل كذلك إلى أن تعي هذه الحقيقة.
خلاصة القول إن المطلوب منا شرعا هو ما يقع في دائرة الممكن، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، بشرط أن تظل دائرة الكمال بمثابة (البوصلة) التي نتجه إليها دوماً.
*العصر
نحن بحاجة ماسة إلى تفعيل مبدأ الاستطاعة الشرعية في كافة مشاريعنا الإصلاحية، ويبدو الأمر واضحا حين نمعن النظر في واقع التجارب الإسلامية على الصعيدين السياسي والدعوي على حد سواء، فهناك نماذج إسلامية حية اهتدت إلى هذه الحقيقة فنجحت، ولا تزال نجاحاتها تكبر يوما بعد يوم، في حين أن هناك نماذج إسلامية أخرى ما زالت عالقة في دائرة الفشل، وستظل كذلك إلى أن تعي هذه الحقيقة. خلاصة القول إن المطلوب منا شرعا هو ما يقع في دائرة الممكن، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، بشرط أن تظل دائرة الكمال بمثابة (البوصلة) التي نتجه إليها دوماً..
حين كنت أتابع مجريات الأخبار في المشهدين التونسي والمصري والتداعيات المتسارعة حيال ذلك، كنت أقلب النظر في مواقف الشرعيين تجاه هذين الحدثين الجللين، ولفت انتباهي مطالبات بعض الشرعيين التي قد تصنف في الوقت الراهن في خانة الحلول غير الممكنة، كالمطالبة بتحكيم الشريعة بشكل فوري وحاسم، في الوقت الذي تعصف بتلك المجتمعات ظروف سياسية واجتماعية تفرض علينا جميعاً عدم تخطي الحلول الممكنة وفق سنة التدرج النبوية.
إن ثمّة مسافة غائبة عند بعض المهتمين بشأن الإصلاح بين الأنموذج الإسلامي الكامل والأنموذج الإسلامي الممكن، قد تصل بهؤلاء - كنتيجة طبيعية - إلى درجة اليأس والإحباط تارة، أو إلى تخطي السنن الكونية والشرعية تارة أخرى، في حين أن هذه المسافة لم تغب يوما ما عن مجريات السيرة النبوية بكافة تفاصيلها وأحداثها، ولم تغب أيضا عن سير المصلحين العظماء على مدِّ التاريخ.
وأعني بالأنموذج الإسلامي الكامل: فهم النص الشرعي كما هو، بعيدا عن أي مؤثرات من خارجه، في حين أن الأنموذج الممكن هو تنزيل مفهوم النص بما يلائم الواقع ويصلحه، وقد يقتضي ذلك التخلي عن بعض مفاهيم النص في سبيل تحقيق أعلى المصلحتين أو درء أعلى المفسدتين، وهو ما يسمّيه علماء الأصول بتحقيق المناط.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (28/67-68) إلى المسافة الفاصلة بين الكمال والإمكان في سياق حديثه عن أحكام الولايات الشرعية، حين قال : (يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ اسْتَعَانَ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَظُلْمٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ، وَالْوَاجِبُ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَقْدُورِ...وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَامِلٌ، فَيَفْعَلُ خَيْر الْخَيْرَيْنِ وَيَدْفَعُ شَرّ الشَّرَّيْنِ...وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ وَكِلَاهُمَا كَافِرٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ...وَكَذَلِكَ يُوسُفُ كَانَ نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ، وَفَعَلَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْخَيْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ).
هذه المسافة الفاصلة قد تقترب أحيانا إلى درجة التّماس بين الممكن والكامل وقد تبتعد في أكثر الأحيان، وفي الحديث الصحيح: ((اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ، إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ))، وإن نجاح أي دعوة صحيحة مرتهن بوعي هذه الحقيقة.
ولقد أعطانا القرآن الكريم دروساً متكررة حيال هذه الحقيقة، فالخمر مثلا لم يحرم جملة واحدة مع أنه رجس منذ اللحظة الأولى إلى اللحظة التي نزل فيها التحريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فما الذي تغيّر إذن؟ بطبيعة الحال مادة الخمر هي هي لم تتغير، إنما الذي تغير واقع الناس آنذاك، وهذا تحديدا ما نعنيه بالمسافة الفاصلة بين الأنموذج الكامل والأنموذج الممكن، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها – تأكيدا لهذا المعنى – أنها قالت : ((إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ – أي القرآن الكريم - سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ، نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا)).
طالما أن هناك فرق بين الممكن والكامل، فيا تُرى ما المطلوب منا تحقيقه، وهل هناك موازنة يجب أن نتوخاها عند رسم مشاريعنا الإصلاحية؟ غني عن الذكر أننا في مثل هذه الحال - كغيرها من الأحوال الأخرى الكثيرة - بين طرفين ووسط؛ فالطرف الأول من غلبت عليه حالة الأنموذج الممكن (الواقعي)، ونسي أو كاد أن ينسى التطلُّع إلى الأنموذج الكامل، إلى أن تلاشى الفرق تدريجيا بين الأنموذجين الكامل والممكن في نهاية المطاف، فغدت الملامح الفكرية لهذا الاتجاه تجعل من الأنموذج الممكن نموذجا كاملا، وترتّب على ذلك غياب الوعي بالممكن؛ تبعاً لغياب الوعي بالأنموذج الكامل.
أما الطرف الآخر فقد عاش في عالم المثال، ولم يعد قادرا على إبصار الواقع الذي بين يديه بتحدياته وظروفه المختلفة، فلم يَسْلم من إحدى خطيئتين: إما اليأس والقنوط، ومن ثَمََّ اعتزال الناس والخلود في عالم المثل والأحلام، وإما تخطي السنن الكونية والشرعية، وجَلْبِ الويلات تلو الويلات التي قد لا تنتهي إلا بانتهاء أجله المحتوم، وكم مريد للإصلاح لا يحسنه.
وكما ترى فإن الفشل في هذين الاتجاهين يعود إلى غياب الوعي بالمسافة الفاصلة بين الكمال والإمكان، فالأولون جعلوا من الممكن كاملا، والآخرون جعلوا من الكامل ممكنا في حين أن الحق بين هذين الاتجاهين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
ولبيان ذلك، يجب في أول الأمر تحديد الأنموذج الكامل بآلياته وطرقه المعتبرة، ومن ثمَّ النظر في الواقع للوصول إلى صيغة توفيقية بين النص والواقع بحسب الآليات والطرق المعتبرة أيضا، وبهذا نكون قد رسمنا الخطوة الأولى في هذا الطريق، وهي تحديد المسافة بين النص والواقع (الكامل والممكن).
وهذه الخطوة تحديدا لا ينبغي تخطيها إلا بعد أن يتنادى لها الراسخون من أهل العلم الشرعي وأهل الدراية بالواقع على حد سواء؛ إذ هي الخطوة الأهم والأصعب من بين الخطوات الأخرى في هذا الطريق، ثم لم يبق لنا بعد ذلك سوى أن نخطو خطوتين إلى الأمام: الأولى تفعيل الصيغة التوفيقية بين النص والواقع؛ امتثالا لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
وفي بعض الأحوال قد تُمثّل الصيغة التوفيقية صورة من صور التّماس (التطابق) بين الكمال والإمكان، إما على وجه جزئي وهو الأكثر، أو على وجه كامل على هيئة ما تحقق في مجتمع المدينة إبان العهد النبوي، بيد أن هذه الصيغة التوفيقية في الأغلب إنما تعكس المسافة بين النص والواقع، وحينئذ فلا مناص من تفعيل الممكن وتأجيل الأنموذج الكامل إلى أن يصير ممكناً.
وأما الخطوة الأخيرة، فهي الاقتراب من الكمال شيئا فشيئا بحسب الاستطاعة، وقد تكون هذه الخطوة في أحيان كثيرة قابعة في الوجدان لا تجد لها طريقا إلى النور، وحسبك بجهاد القلب في مثل هذه الظروف، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، فإن من جملة مقاصد الشريعة مدافعة الباطل سواء بإزالته (وهو الكمال إن كان مقدورا عليه)، أو تقليله (وهو الممكن إن لم يكن مقدورا على الكمال)، أو حتى تعطيل تمدُّدِه (وهو من أدنى درجات الممكن وذلك أضعف الأيمان).
فالشريعة قامت على جلب المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))، وقال: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)).
بقي أن أشير إلى أن درجات تغيير المنكر مراتب – كما هو مقرر - أعلاها التغيير باليد ثم اللسان ثم القلب، وحيث إن هذه المراتب الثلاثة مشروطة بالاستطاعة، ولا يُتَصوَّر أن يقع القسر والإكراه على القلب، فإنه - والحال هذه - لا يعذر من الإنكار البتة، غير أن هذه المراتب قد تختلف في الترتيب؛ تبعا لاختلافها في مناط التكليف (الاستطاعة الشرعية) (حيث يتم تحصيل أعلى المصلحتين ودفع أعلى المفسدتين)، ومن طَرَدَ الترتيب السابق فقد ناقض النص قبل مناقضته لواقعه الذي يعيش فيه، فقد يصل الإنكار باللسان إلى الرتبة الأولى حين تكون الاستطاعة الشرعية في صفه، وكذلك الحال في التغيير بالقلب.
وبالتالي، فنحن بحاجة ماسة إلى تفعيل مبدأ الاستطاعة الشرعية في كافة مشاريعنا الإصلاحية، ويبدو الأمر واضحا حين نمعن النظر في واقع التجارب الإسلامية على الصعيدين السياسي والدعوي على حد سواء، فهناك نماذج إسلامية حية اهتدت إلى هذه الحقيقة فنجحت، ولا تزال نجاحاتها تكبر يوما بعد يوم، في حين أن هناك نماذج إسلامية أخرى ما زالت عالقة في دائرة الفشل، وستظل كذلك إلى أن تعي هذه الحقيقة.
خلاصة القول إن المطلوب منا شرعا هو ما يقع في دائرة الممكن، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، بشرط أن تظل دائرة الكمال بمثابة (البوصلة) التي نتجه إليها دوماً.
*العصر