مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
لشارون يد في قتل زئيفي!
هويدي 22-10-2001

حادث قتل رحبعام زئيفي وزير السياحة الاسرائيلي، وأحد أشهر رموز التطرف والارهاب، بالغ الأهمية والدلالة من ناحيتين، أولاً لأن الرجل له وزنه في داخل اسرائيل، وله تاريخه الطويل الذي يصنفه ضمن مؤسس الدولة العبرية، وثانياً لأن المنظمة التي تبنت العملية هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
هذه هي المرة الأولى في تاريخ اسرائيل التي يتم فيها اغتيال وزير بأيد فلسطينية داخل القدس، وفي أحد فنادقها الكبرى. لذلك فلا غرابة في أن شبَّه شارون الحادث بالهجوم على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر (أيلول). وحين سألني أحد الصحافيين الأميركيين عن رأيي في ذلك، قلت انني لا أرى وجهاً للشبه بين الحادثين إلا في عنصري المفاجأة والجرأة اللذين اتسم بهما التنفيذ، ثم في الفشل الأمني الذريع الذي كشف عنه كل منهما. في ما خلا ذلك فالفرق كبير بين الحادثين، لأن ما وقع في الولايات المتحدة كان جريمة راح ضحيتها آلاف الأبرياء. بينما الذي حدث في القدس يدخل ضمن تجليات مقاومة الاحتلال ورموزه، ورحبعام زئيفي تجسيد للاثنين بامتياز، ناهيك من أنه أحد أشهر دعاة طرد الفلسطينيين في ما سماه «الترانسفير الارادي». ثم لا ينسى أن الدور طال الرجل بعدما قتلت اسرائيل حوالي 60 ناشطاً فلسطينياً من رموز وقيادات المقاومة الاسلامية والوطنية، الأمر الذي يعني أن اغتياله يعد جولة في الصراع الممتد بين شعب فلسطين وغاصبي أرضه، الذين يصرون على اغتيال حلمه في الاستقلال وحقه في الحياة الكريمة.
لقد أفاضت مختلف الصحف في ذكر سيرة رحبعام زئيفي وسجله، منذ دوره في حرب النكبة الفلسطينية، التي شارك فيها بحسبانه من عناصر عصابة «البلماح» ـ الكتائب الماحقة ـ التي أسهمت في قتل وترويع وتهجير الفلسطينيين، عام 48 إلى أن صار قائداً للمنطقة الوسطى (الضفة الغربية) في أوائل السبعينات، وقدم استقالته بعد حرب رمضان (عام 73)، ثم أسس في عام 88 حركة «موليدت» ـ وطننا ـ اليمينية المتطرفة التي تمسكت بفكرة اسرائيل الكبرى، وناصرت المستوطنين، ودعت بالحاح إلى «تنظيف أرض اسرائيل من العرب»! ـ ومواقفه تلك قربت كثيراً بينه وبين رئيس الوزراء ارييل شارون، حتى ربطت بين الرجلين صداقة حميمة، أهلت رحبعام لأن يصبح أحد أعضاء المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية.
لن أتوقف عند سجل الرجل وتاريخه بأكثر من ذلك، حيث تعنيني في هذا المقام .. واقعة قيام الجبهة الشعبية بعملية الاغتيال، واعلانها ذلك في بيان تناقلته وكالات الأنباء، لأن اقدام عناصر الجبهة على هذه العملية الكبيرة له دلالته المهمة، التي ينبغي ألا تغيب عن البال. ذلك أن المتابعين للشأن الفلسطيني يعرفون جيداً أن الجبهة الشعبية كانت إلى أوائل السبعينات في طليعة منظمات المقاومة، وعرف عنها وقتذاك دورها في خطف الطائرات، إلى جانب العمليات ذات النوعية الخاصة التي كانت تقوم بها على الأرض. وفي كتاب الباحث الفلسطيني محمد خالد الأزعر «المقاومة في قطاع غزة ـ 61/85» احصائية لافتة للنظر في هذا الصدد، حول عمليات المقاومة التي تمت في الأشهر الستة الأولى لعام 1970. فقد ذكر أنها بلغت 253 عملية، موزعة كالتالي: 139 عملية %55 قامت بها قوات التحرير الشعبية، وهي امتداد لجيش التحرير الذي تأسس بمعرفة أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير ـ 59 عملية قامت بها قوات العاصفة (فتح) بنسبة %23 ـ 54 عملية قامت بها الجبهة الشعبية بنسبة %22.
كانت الجبهة الشعبية التي تشكلت بعد هزيمة يونيو (حزيران) 67، من ائتلاف ضم عدة فصائل قومية وماركسية متماسكة في ذلك الوقت، غير أن الانشقاقات عرفت طريقها إلى تنظيمها، الذي انفرط لاحقاً، وخرجت منه جماعات عدة، واحدة رأسها أحمد جبريل، والثانية قادها نايف حواتمه، والثالثة رأسها وديع حداد... وهكذا. وكان طبيعياً أن تتراجع قوتها بعد ذلك الانفراط، الأمر الذي أضعف من أدائها رغم أن الجبهة ظلت كياناً قائماً، وكذلك المجموعات الأخرى التي انشقت عنها.
كاد وجود الجبهة يتوارى في الثمانينات بعد ظهور حركة حماس ثم الجهاد الاسلامي، إلى جانب تنظيم فتح، لكنها لم تختف من الساحة، وربما كان العامل الأساسي في استمرارها لا يرجع إلى دورها في المقاومة، بقدر ما يرجع إلى وجود الدكتور جورج حبش على رأسها، وهو شخصية توفيقية تحظى باحترام كبير، وبعد مرض الدكتور حبش واعتذاره عن عدم استطاعته الاستمرار في قيادة الحركة، تم انتخاب أبو علي مصطفى أميناً عاماً، وهو مناضل له بدوره رصيد كبير من الاحترام في الساحة الفلسطينية. وحينما استشعر الأمين العام الجديد أن تركز الثقل الفلسطيني انتقل إلى الداخل، بعد قيام السلطة الفلسطينية، فانه قرر أن يلحق بالمناضلين على مسرح العمليات، فترك مقره في دمشق، واستقر به المقام في رام الله.
لا ينكر تأثير انهيار الاتحاد السوفيتي السلبي على آداء الجبهة الشعبية وغيرها من فصائل اليسار الفلسطيني، وهو الذي كان دائم الدعم لها. فضلاً عن أن موسكو وغيرها من عواصم «الكتلة الشرقية» كانت ساحات مفتوحة لأنشطتهم وخطابهم. وبانتهاء تلك المرحلة في بداية التسعينات، فان هامش حركة تلك الفصائل ضاق، وحضورها على المسرح السياسي تقلص إلى حد كبير. في انتفاضة 87 والانتفاضة الثانية في عام ألفين، كان حضور الجبهة الشعبية متواضعاً نسبياً، ومشاركتها في ساحة المواجهة محدودة. وربما جاز لنا أن نقول إن حضورها السياسي كان أقوى من حضورها العسكري، اذا قورن بحضور منظمات أخرى مثل فتح وحماس والجهاد الاسلامي.
لم تنس حكومة اسرائيل وأجهزتها حساباتها القديمة مع أبو علي مصطفى، في سنوات الستينات وأوائل السبعينات، وفي وجود رئيس وزراء مثل شارون تحول القتل معه إلى سياسة معلنة للدولة (بعد أن ظل يمارس في السر ومن دون اعلان منذ قيام الدولة العبرية)، مارسته اسرائيل من خلال العملاء تارة وعن طريق القصف أو القنص المباشر في أحيان أخرى.
ولم تكن عمليات الاغتيال مقصورة على القادة العسكريين والميدانيين، ولكنها طالت قادة سياسيين أيضاً. وكان أبو علي مصطفى هدفاً مدرجاً على القائمة الاسرائيلية، فتم اغتياله في مكتبه بمدينة رام الله في السابع والعشرين من شهر أغسطس (آب) الماضي، بصاروخ أطلقته عليه احدى طائرات أباتشي الأميركية.
أحدث القتل صدمة كبيرة في الأوساط الفلسطينية. والأهم من ذلك أنه استنفر طاقة الغضب الكامن داخل صفوف الجبهة الشعبية، التي قررت الانتقام لمقتل زعيمها، وأدركت أن رموزها مستهدفة من قبل الاسرائيليين. من ثم فان كوادر الجبهة نشطت مرة أخرى، وأعادت تجميع صفوفها وحشد طاقاتها، وظلت طيلة الثمانين يوماً الماضية تخطط للرد واختارت زئيفي هدفاً لها، فراقبته لبعض الوقت، ثم قامت بتصفيته حين وجدت الفرصة مواتية.
في شريط «فيديو» مصور تعهدت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى تصفية ثلاثة رؤوس اسرائيلية مقابل رأس زعيمها المغدور. وقال ثلاثة من الشبان الملثمين ان اغتيال زئيفي خطوة أولى على طريق اغتيال رموز الكيان الصهيوني الارهابيين. ونقلت الصحف على لسان الناطق باسم الجبهة الشعبية قوله ان الاسرائيليين هم الذين رفعوا مستوى القتال ليطال الشخصيات السياسية، باغتيالهم أبو علي مصطفى.
لا نعرف ما الذي سيخبؤه القدر، وما إذا كانت قيادات الجبهة الشعبية ستفي بما وعدت أم لا، كما أننا لانعرف شكل ومدى الرد الاسرائيلي. لكن الذي نعرفه جيداً أن اسرائيل باغتيالها للشهيد أبو علي مصطفى هزت بشدة تنظيم الجبهة الشعبية، وضخت في عروقه مزيداً من الدماء بمثل ماشحنت وعبأت شباب الجبهة، الذين قرروا الخروج عن سكوتهم، والانتقام على النحو الذي تم.
ماهو جدير بالملاحظة في هذا الصدد أن اسرائيل حين صعدت من عنفها، استدعت إلى ساحة العنف العناصر الفلسطينية التي أصابها الوهن، حتى أصبحت تشارك في المقاومة بشكل رمزي وعلى استحياء. بكلام آخر فان اسرائيل حين اغتالت أبو علي مصطفى ألقت مزيداً من الزيت على الحريق المشتعل، الأمر الذي أدى إلى توسيع نطاقه وبلوغه ما بلغه في الأسبوع الماضي. من هذه الزاوية فان اسرائيل خدمت المقاومة من حيث لاتحتسب ، من حيث انها أعادت الحياة إلى بعض عناصرها الساكنة أو اليائسة، حتى لا أستبعد أن تعود الجبهة الشعبية إلى المواجهة مرة أخرى، من خلال مسلسل للعمليات الجريئة التي عرفت بها خصوصاً اذا اتخذت اجراءات انتقامية ضدها، بسبب اقدامها على قتل رحبعام زئيفي، اذ انها ستجد نفسها في هذه الحالة مضطرة للرد أيضاً، الأمر الذي قد يرشح الجبهة الشعبية لكي تصبح طرفاً أكثر فاعلية في المقاومة خلال الأشهر القادمة.
إذا ماتحقق ذلك، فان «الفضل» في استدعاء الجبهة من الهامش إلى قلب ساحة المقاومة سيكون للسياسة الشارونية القمعية بالدرجة الأولى، التي غذت المقاومة الفلسطينية بمزيد من الدماء والوقود، وجعلت من المقاومة المسلحة خياراً لا بد منه لمختلف الفصائل، صغيرها مع كبيرها.
لا أعرف إلى أي مدى يرصد الذين يتحدثون عن «العنف» في الشرق الأوسط، دور اسرائيل في استمراره وتصعيد وتيرته وتوسيع نطاقه. لكن حين قرأت تصريحات مستشارة الأمن القومي بالبيت الأبيض بعد الحادث، واشارتها إلى «الارهاب الفلسطيني»، أدركت أن البعض في واشنطن لا يزال مصراً على ألا يتلقى الرسالة الصحيحة.
نعم. لقد أقدمت الجبهة الشعبية على قتل رحبعام زئيفي، لكن ذلك لا ينفي مسؤولية شارون في التحريض على الحادث.
أضافة تعليق