هويدي 22-7-2002
يرشح مصطلح «الطرد» لكي يكون أحد عناوين السلوك الاسرائيلي في المرحلة الراهنة، بحيث ينضم الى عناوين أخرى قرأناها في أداء الأسابيع الأخيرة، من أبرزها «التدمير» و«السحق» و«القهر». فبعد طرد مندوب منظمة التحرير من مكتبه في واشنطن، قدم مشروع الى مجلس مدينة نيويورك يدعو الى اغلاق مكتب المندوب الفلسطيني نهائياً. وبعد طرد ألوف العرب من قراهم في الحملة الأخيرة، وابعاد بعض الناشطين في الضفة الى أوروبا وإلى غزة، قررت الحكومة الاسرائيلية سن قانون يقضي بطرد العرب من العيش في البلدات والتعاونيات اليهودية، وطرد رئيس جامعة القدس الدكتور سري نسيبه من مكتبه، بعد اغلاق مكاتب الجامعة. وقرر البرلمان الاسرائيلي (الكنيست) طرد النواب العرب المنتخبين وتجريدهم من الحصانة الدبلوماسية. وأعلن معهد في جامعة حيفا أجرى استطلاعين أن 61% من الاسرائيليين يؤيدون طرد المواطنين العرب (فلسطينيو 48) بالاقناع (!) - كما قرر 64% أن وجود أولئك العرب يعد خطراً على أمن الدولة. وقال 55% ان التدهور الاقتصادي في البلاد راجع الى أن العرب (أخذوا كل عمل اليهود).
أحدث حلقة في هذا المسلسل تمثلت في تلك الفتوى التي أصدرها 21 رجل دين يهودياً، يحرمون فيها تشغيل عمال عرب أو اجراء أي محادثة مع العرب، بل ويدعون الى مقاطعة التجار اليهود الذين يتعاملون مع العرب. وحسب «الشرق الأوسط» (عدد 7/11) فان الفتوى صدرت في القدس وجرى تعميمها على اليهود في اسرائيل، وكذلك في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ونقلت عن الحاخام يسرائيل روزين أحد الموقعين عليها قوله انه يعرف (يهودا جيدين) كثيرين بدأوا ينفذون هذه التوصية:
(مثلاً في المستوطنة التي أسكنها، فقد تم فصل ثلاثة عمال عرب وأحزنني ذلك كثيراً، لأنني أعرف أبو موسى وأبو خالد فهما يعملان لدينا منذ 12 سنة، وهما مخلصان ويتمتعان بالأمانة. ولكن ما العمل فلسنا نحن السبب في طردهما واذا كان لديهما اعتراض، فليذهبا الى رؤسائهما).
أضاف روزين ان تلك الفتوى صدرت في أعقاب أحداث الانتفاضة والعمليات (الانتحارية) التي يقوم بها فلسطينيو 67 ، وكذلك رداً على انجرار العرب في اسرائيل (فلسطينيو 48) وراءهم والتعاطف معهم ضد دولة اسرائيل (لذلك قررنا حماية أنفسنا ودولتنا بواسطة هذا العقاب الذي نعرف انه سيكون شديداً عليهم، فلا تعامل تجارياً مع العرب، لا نحن نشتري منهم ولا هم يشترون منا، ولا علاقات عمل، فلا نحن نعمل عندهم ولا يشتغلون عندنا، ولا محادثة، اذ لا تتفاوض حكومتنا معهم ولا ندير نحن معهم أي حوار. واذا خرج أي يهودي عن هذه القاعدة فاننا نعاقبه هو الآخر بالمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية).
أدري أن المشروع الصهيوني هو بالأساس مشروع طرد، وان دولة اسرائيل ذاتها ما كان لها ان تقوم أصلاً إلا بعد طرد سكان فلسطين من بيوتهم وأرضهم. وهذه التجليات الأخيرة ليست سوى تطبيقات عملية للفكرة الأصلية، ذلك ان الذي يعمد الى طرد شعب بأكمله من أرضه لا يستكثر عليه أو يستغرب منه تحريم تشغيل بعض أبناء ذلك الشعب أو اجراء أي حوار معهم. غير أن ما لفت نظري في هذه الاجراءات الأخيرة أمران : الأول مدى الجرأة والصلافة التي اتسمت بهما حيث لم تكتف اسرائيل بكل ما فعلته مع الشعب الفلسطيني وبحقه طيلة نصف قرن على الأقل، وانما لجأت الى ملاحقتهم على ذلك النحو الذي يجسد الاستعلاء والعنصرية، والانتهاك الواضح لأعراف ومبادئ حقوق الانسان . وفيما تتلاحق تلك الممارسات ، فان اسرائيل تذهب الى أبعد من ذلك في الجرأة، حيث تتباهى بأنها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ليس ذلك فحسب، وانما نجد الرئيس الأمريكي والأبواق الدعائية في الولايات المتحدة يرددون ذلك الادعاء ويسوقونه، ولا يرون في هذا الذي يجري أمام الملأ غضاضة، ولا يرون فيه تعارضا مع الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان!.
الأمر الثاني ان عملية الطرد أخذت بعدا دينياً، وهو لا يقل خطورة، لأن (الأغيار) لا مكان لهم في أرض اسرائيل حسب المفاهيم التوراتية، التي تذهب الى أن أولئك الأغيار تجب ابادتهم، وليس مجرد ابعادهم ، وهو ما نصت عليه احدى آيات سفر «التثنية» على نحو صريح لا يحتمل أي لبس.
لا أجد غرابة في هذه الممارسات، وليس مجرد حدوثها هو ما دعاني الى التطرق للموضوع، لكن تلاحقها في الآونة الأخيرة أثار عندي ملاحظات وتساؤلات حول الموقف العربي ورد الفعل المفترض في هذه الحالة.
لا أعرف ابتداء ما اذا كان هناك ما يمكن ان يسمى بالموقف العربي الذي يعول عليه ام لا، لأن ثمة شواهد تدل على أن في شأن العلاقة مع اسرائيل هناك مواقف متعددة ، وليس هناك موقف واحد، فالدول التي وقعت اتفاقات أو معاهدات مع اسرائيل لها موقف ، والتي لم توقع أمثال تلك المعاهدات لها موقف آخر، وهناك دول أخرى تقف في المنزلة بين المنزلتين، فهي لم توقع اتفاقات أو معاهدات من الناحية الرسمية والدبلوماسية، لكن لها، رغم ذلك علاقات مع اسرائيل تجارية وغير تجارية وهذه الدول الأخيرة لها موقف ثالث يتسم بالغموض والمراوغة.
هذا التباين في المواقف ينعكس بقوة على القرارات العربية المتعلقة بامكانية مقاطعة اسرائيل سياسياً أو اقتصادياً حيث تتحرى كل دولة ارتباطاتها ومصالحها الخاصة وحساباتها، خصوصاً تأثير تلك المقاطعة المنشودة على علاقاتها بالولايات المتحدة وهي الدولة التي ما برحت تضغط (هل نقول تأمر؟!) لالغاء فكرة مقاطعة اسرائيل من أساسها. وربما كان غياب بعض الدول العربية (مقاطعة ان شئت الدقة) عن اجتماعات مكتب مقاطعة اسرائيل دليلاً على ذلك التذبذب ، الذي يعلي من شأن المصالح القطرية الخاصة، ويقدمها على المصلحة القومية في استخدام المقاطعة كسلاح للضغط على اسرائيل.
يستحي المرء أن يذكر أنه بينما تواصل اسرائيل طرد الفلسطينيين بعد سحقهم واذلالهم واجتياح مدنهم وقراهم، وتدمير مقومات الحياة في مجتمعاتهم ، فان لاسرائيل سفراء لا يزالون يتحركون بهمة في بعض العواصم العربية، وبضائع مازالت موجودة في عدد غير قليل من المتاجر العربية، ومصالح أخرى جارية، بعضها مما يستخدم في قمع الفلسطينيين (تصدير النفط مثلاً) بل وهناك سياح اسرائيليون يتجولون في عدة دول مشرقية ومغربية وهو مشهد يثير لدى المراقب سؤالاً كبيراً هو: بعد كل الذي فعلته اسرائيل، ما هو إذاً الاجراء الذي يضطر الدول العربية الى تقرير مقاطعتها، وهل لا بد أن تقصف اسرائيل كل عاصمة عربية لكي تتحقق تلك المقاطعة؟
لاحظ أننا لا نتحدث عن اعلان الحرب ولا عن القاء اسرائيل في البحر ولا حتى عن دعم المقاومة الفلسطينية للاحتلال. لا نتحدث عن فعل ايجابي تلجأ اليه الدول العربية، وانما نتحدث عن شيء سلبي تماماً ، هو مجرد الامتناع عن تشجيع اسرائيل على مواصلة اكتساح الفلسطينيين واذلالهم. وهو أضعف ايمان، عند أهل الايمان بطبيعة الحال.
اذا هبطنا بسقف المطالب والخطاب ، وأجلنا الحديث عن ذلك الموقف السلبي المتمثل في المقاطعة الكلية، وأخذنا نموذجاً واحداً من تلك الحالات التي أشرنا اليها، وهو المتمثل في الاتجاه الى طرد العرب من البلديات الاسرائيلية وفتوى تحريم تشغيل العرب في اسرائيل، فمن واجبنا ان نسأل ما هو الرد العربي المفترض على ذلك؟
اذا قال قائل ان العرب في فلسطين ما كان لهم ان يعيشوا في البلديات أو التعاونيات الاسرائيلية، أو يعملوا في أي عمل يتصل بالاسرائيليين. فسوف أوافقه تماماً. باعتبار ذلك ما ينبغي أن يكون. لكن متطلبات الواقع وضروراته تفرض على بعض الفلسطينيين ان يتصرفوا على ذلك النحو. ولا تنس ان الجوع كافر، وفي امثالنا الشعبية ان المرء قد يقبل بالمر ويحتمله حتى لا يعرض نفسه لما هو أشد مرارة. كما أن قواعد أصول الفقه تجيز ان يقبل المرء بمفسده ادنى تجنباً لمفسدة أكبر. والحاصل في فلسطين ان خيارات الناس لم تعد بين جيد ورديء ولكنها صارت بين تعيس واتعس.
في هذه الجزئية أرجو أن نكف عن توجيه اللوم الى فقراء الفلسطينيين الذين يعانون من شظف العيش منذ امد بعيد ويتعرضون لحملة تجويع شرسة وشريرة، وعلينا ان نكون صرحاء في أن الذي يستحق اللوم هو الظروف التي وضعتهم في ذلك الموقف، بحيث ضاقت خياراتهم على ذلك النحو. ثم علينا ان نتسلح بالشجاعة ونحن نجيب على السؤال : ماذا على العرب أن يفعلوا في مواجهة هذا الموقف؟
ان اسرائيل تحاربهم وتجوعهم، وتريد أن تحيل حياتهم جحيماً، حتى يفقدوا أي أمل في الحاضر والمستقبل ويتركوا أرضهم وديارهم ، وبوسع العرب لا ريب أن يفوتوا على اسرائيل تلك الفرصة، وان يعيدوا الى الفلسطينيين ثقتهم في أمتهم، فضلاً عن حاضرهم ومستقبلهم. بوسع العرب أن يفتحوا أبواب بلادهم أمام العمالة الفلسطينية، وان يتفقوا في ما بينهم على حصص كل دولة خصوصاً الدول التي تعتمد على العمالة الآسيوية، وتعرضت أخيراً لغزو العمالة الصينية الأرخص في الأجور.
لقد قال لي أحد الفلسطينيين قبل أيام ان الحصار المفروض عليهم في الضفة وغزة ليس من جانب الاسرائيليين وحدهم، ولكنه من جانب العرب أيضاً، الذين أغلق بعضهم أسواق العمالة في وجوههم، حتى أصبحوا مخيرين بين الموت جوعاً حيث هم ، وبين الاشتغال في المشروعات الاسرائيلية، أو الهجرة والاستيطان في بعض الدول الغربية التي تبدي استعداداً لاستقبالهم، رغم أن هذه الفرصة تضيق شيئاً فشيئاً الآن. أما اذا توفرت لهم أعمال في الدول العربية فانهم سيغادرون بلادهم حقاً، لكنهم لن يهاجروا وانما ستبقى اسرهم وامتداداتهم وصلاتهم بأهلهم وديارهم وأرضهم.
ان الرد على فتوى تحريم تشغيل العرب في اسرائيل لا يكون الا بفتوى اخرى تحمل العرب مسؤولية تشغيلهم في بلادهم العربية لكن هذه الفتوى الأخيرة لا يكفي ان تصدر عن مراجعنا الفقهية، وانما يجب أن تصدر عن أهل السياسة بالدرجة الأولى والله أعلم.
يرشح مصطلح «الطرد» لكي يكون أحد عناوين السلوك الاسرائيلي في المرحلة الراهنة، بحيث ينضم الى عناوين أخرى قرأناها في أداء الأسابيع الأخيرة، من أبرزها «التدمير» و«السحق» و«القهر». فبعد طرد مندوب منظمة التحرير من مكتبه في واشنطن، قدم مشروع الى مجلس مدينة نيويورك يدعو الى اغلاق مكتب المندوب الفلسطيني نهائياً. وبعد طرد ألوف العرب من قراهم في الحملة الأخيرة، وابعاد بعض الناشطين في الضفة الى أوروبا وإلى غزة، قررت الحكومة الاسرائيلية سن قانون يقضي بطرد العرب من العيش في البلدات والتعاونيات اليهودية، وطرد رئيس جامعة القدس الدكتور سري نسيبه من مكتبه، بعد اغلاق مكاتب الجامعة. وقرر البرلمان الاسرائيلي (الكنيست) طرد النواب العرب المنتخبين وتجريدهم من الحصانة الدبلوماسية. وأعلن معهد في جامعة حيفا أجرى استطلاعين أن 61% من الاسرائيليين يؤيدون طرد المواطنين العرب (فلسطينيو 48) بالاقناع (!) - كما قرر 64% أن وجود أولئك العرب يعد خطراً على أمن الدولة. وقال 55% ان التدهور الاقتصادي في البلاد راجع الى أن العرب (أخذوا كل عمل اليهود).
أحدث حلقة في هذا المسلسل تمثلت في تلك الفتوى التي أصدرها 21 رجل دين يهودياً، يحرمون فيها تشغيل عمال عرب أو اجراء أي محادثة مع العرب، بل ويدعون الى مقاطعة التجار اليهود الذين يتعاملون مع العرب. وحسب «الشرق الأوسط» (عدد 7/11) فان الفتوى صدرت في القدس وجرى تعميمها على اليهود في اسرائيل، وكذلك في المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ونقلت عن الحاخام يسرائيل روزين أحد الموقعين عليها قوله انه يعرف (يهودا جيدين) كثيرين بدأوا ينفذون هذه التوصية:
(مثلاً في المستوطنة التي أسكنها، فقد تم فصل ثلاثة عمال عرب وأحزنني ذلك كثيراً، لأنني أعرف أبو موسى وأبو خالد فهما يعملان لدينا منذ 12 سنة، وهما مخلصان ويتمتعان بالأمانة. ولكن ما العمل فلسنا نحن السبب في طردهما واذا كان لديهما اعتراض، فليذهبا الى رؤسائهما).
أضاف روزين ان تلك الفتوى صدرت في أعقاب أحداث الانتفاضة والعمليات (الانتحارية) التي يقوم بها فلسطينيو 67 ، وكذلك رداً على انجرار العرب في اسرائيل (فلسطينيو 48) وراءهم والتعاطف معهم ضد دولة اسرائيل (لذلك قررنا حماية أنفسنا ودولتنا بواسطة هذا العقاب الذي نعرف انه سيكون شديداً عليهم، فلا تعامل تجارياً مع العرب، لا نحن نشتري منهم ولا هم يشترون منا، ولا علاقات عمل، فلا نحن نعمل عندهم ولا يشتغلون عندنا، ولا محادثة، اذ لا تتفاوض حكومتنا معهم ولا ندير نحن معهم أي حوار. واذا خرج أي يهودي عن هذه القاعدة فاننا نعاقبه هو الآخر بالمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية).
أدري أن المشروع الصهيوني هو بالأساس مشروع طرد، وان دولة اسرائيل ذاتها ما كان لها ان تقوم أصلاً إلا بعد طرد سكان فلسطين من بيوتهم وأرضهم. وهذه التجليات الأخيرة ليست سوى تطبيقات عملية للفكرة الأصلية، ذلك ان الذي يعمد الى طرد شعب بأكمله من أرضه لا يستكثر عليه أو يستغرب منه تحريم تشغيل بعض أبناء ذلك الشعب أو اجراء أي حوار معهم. غير أن ما لفت نظري في هذه الاجراءات الأخيرة أمران : الأول مدى الجرأة والصلافة التي اتسمت بهما حيث لم تكتف اسرائيل بكل ما فعلته مع الشعب الفلسطيني وبحقه طيلة نصف قرن على الأقل، وانما لجأت الى ملاحقتهم على ذلك النحو الذي يجسد الاستعلاء والعنصرية، والانتهاك الواضح لأعراف ومبادئ حقوق الانسان . وفيما تتلاحق تلك الممارسات ، فان اسرائيل تذهب الى أبعد من ذلك في الجرأة، حيث تتباهى بأنها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. ليس ذلك فحسب، وانما نجد الرئيس الأمريكي والأبواق الدعائية في الولايات المتحدة يرددون ذلك الادعاء ويسوقونه، ولا يرون في هذا الذي يجري أمام الملأ غضاضة، ولا يرون فيه تعارضا مع الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان!.
الأمر الثاني ان عملية الطرد أخذت بعدا دينياً، وهو لا يقل خطورة، لأن (الأغيار) لا مكان لهم في أرض اسرائيل حسب المفاهيم التوراتية، التي تذهب الى أن أولئك الأغيار تجب ابادتهم، وليس مجرد ابعادهم ، وهو ما نصت عليه احدى آيات سفر «التثنية» على نحو صريح لا يحتمل أي لبس.
لا أجد غرابة في هذه الممارسات، وليس مجرد حدوثها هو ما دعاني الى التطرق للموضوع، لكن تلاحقها في الآونة الأخيرة أثار عندي ملاحظات وتساؤلات حول الموقف العربي ورد الفعل المفترض في هذه الحالة.
لا أعرف ابتداء ما اذا كان هناك ما يمكن ان يسمى بالموقف العربي الذي يعول عليه ام لا، لأن ثمة شواهد تدل على أن في شأن العلاقة مع اسرائيل هناك مواقف متعددة ، وليس هناك موقف واحد، فالدول التي وقعت اتفاقات أو معاهدات مع اسرائيل لها موقف ، والتي لم توقع أمثال تلك المعاهدات لها موقف آخر، وهناك دول أخرى تقف في المنزلة بين المنزلتين، فهي لم توقع اتفاقات أو معاهدات من الناحية الرسمية والدبلوماسية، لكن لها، رغم ذلك علاقات مع اسرائيل تجارية وغير تجارية وهذه الدول الأخيرة لها موقف ثالث يتسم بالغموض والمراوغة.
هذا التباين في المواقف ينعكس بقوة على القرارات العربية المتعلقة بامكانية مقاطعة اسرائيل سياسياً أو اقتصادياً حيث تتحرى كل دولة ارتباطاتها ومصالحها الخاصة وحساباتها، خصوصاً تأثير تلك المقاطعة المنشودة على علاقاتها بالولايات المتحدة وهي الدولة التي ما برحت تضغط (هل نقول تأمر؟!) لالغاء فكرة مقاطعة اسرائيل من أساسها. وربما كان غياب بعض الدول العربية (مقاطعة ان شئت الدقة) عن اجتماعات مكتب مقاطعة اسرائيل دليلاً على ذلك التذبذب ، الذي يعلي من شأن المصالح القطرية الخاصة، ويقدمها على المصلحة القومية في استخدام المقاطعة كسلاح للضغط على اسرائيل.
يستحي المرء أن يذكر أنه بينما تواصل اسرائيل طرد الفلسطينيين بعد سحقهم واذلالهم واجتياح مدنهم وقراهم، وتدمير مقومات الحياة في مجتمعاتهم ، فان لاسرائيل سفراء لا يزالون يتحركون بهمة في بعض العواصم العربية، وبضائع مازالت موجودة في عدد غير قليل من المتاجر العربية، ومصالح أخرى جارية، بعضها مما يستخدم في قمع الفلسطينيين (تصدير النفط مثلاً) بل وهناك سياح اسرائيليون يتجولون في عدة دول مشرقية ومغربية وهو مشهد يثير لدى المراقب سؤالاً كبيراً هو: بعد كل الذي فعلته اسرائيل، ما هو إذاً الاجراء الذي يضطر الدول العربية الى تقرير مقاطعتها، وهل لا بد أن تقصف اسرائيل كل عاصمة عربية لكي تتحقق تلك المقاطعة؟
لاحظ أننا لا نتحدث عن اعلان الحرب ولا عن القاء اسرائيل في البحر ولا حتى عن دعم المقاومة الفلسطينية للاحتلال. لا نتحدث عن فعل ايجابي تلجأ اليه الدول العربية، وانما نتحدث عن شيء سلبي تماماً ، هو مجرد الامتناع عن تشجيع اسرائيل على مواصلة اكتساح الفلسطينيين واذلالهم. وهو أضعف ايمان، عند أهل الايمان بطبيعة الحال.
اذا هبطنا بسقف المطالب والخطاب ، وأجلنا الحديث عن ذلك الموقف السلبي المتمثل في المقاطعة الكلية، وأخذنا نموذجاً واحداً من تلك الحالات التي أشرنا اليها، وهو المتمثل في الاتجاه الى طرد العرب من البلديات الاسرائيلية وفتوى تحريم تشغيل العرب في اسرائيل، فمن واجبنا ان نسأل ما هو الرد العربي المفترض على ذلك؟
اذا قال قائل ان العرب في فلسطين ما كان لهم ان يعيشوا في البلديات أو التعاونيات الاسرائيلية، أو يعملوا في أي عمل يتصل بالاسرائيليين. فسوف أوافقه تماماً. باعتبار ذلك ما ينبغي أن يكون. لكن متطلبات الواقع وضروراته تفرض على بعض الفلسطينيين ان يتصرفوا على ذلك النحو. ولا تنس ان الجوع كافر، وفي امثالنا الشعبية ان المرء قد يقبل بالمر ويحتمله حتى لا يعرض نفسه لما هو أشد مرارة. كما أن قواعد أصول الفقه تجيز ان يقبل المرء بمفسده ادنى تجنباً لمفسدة أكبر. والحاصل في فلسطين ان خيارات الناس لم تعد بين جيد ورديء ولكنها صارت بين تعيس واتعس.
في هذه الجزئية أرجو أن نكف عن توجيه اللوم الى فقراء الفلسطينيين الذين يعانون من شظف العيش منذ امد بعيد ويتعرضون لحملة تجويع شرسة وشريرة، وعلينا ان نكون صرحاء في أن الذي يستحق اللوم هو الظروف التي وضعتهم في ذلك الموقف، بحيث ضاقت خياراتهم على ذلك النحو. ثم علينا ان نتسلح بالشجاعة ونحن نجيب على السؤال : ماذا على العرب أن يفعلوا في مواجهة هذا الموقف؟
ان اسرائيل تحاربهم وتجوعهم، وتريد أن تحيل حياتهم جحيماً، حتى يفقدوا أي أمل في الحاضر والمستقبل ويتركوا أرضهم وديارهم ، وبوسع العرب لا ريب أن يفوتوا على اسرائيل تلك الفرصة، وان يعيدوا الى الفلسطينيين ثقتهم في أمتهم، فضلاً عن حاضرهم ومستقبلهم. بوسع العرب أن يفتحوا أبواب بلادهم أمام العمالة الفلسطينية، وان يتفقوا في ما بينهم على حصص كل دولة خصوصاً الدول التي تعتمد على العمالة الآسيوية، وتعرضت أخيراً لغزو العمالة الصينية الأرخص في الأجور.
لقد قال لي أحد الفلسطينيين قبل أيام ان الحصار المفروض عليهم في الضفة وغزة ليس من جانب الاسرائيليين وحدهم، ولكنه من جانب العرب أيضاً، الذين أغلق بعضهم أسواق العمالة في وجوههم، حتى أصبحوا مخيرين بين الموت جوعاً حيث هم ، وبين الاشتغال في المشروعات الاسرائيلية، أو الهجرة والاستيطان في بعض الدول الغربية التي تبدي استعداداً لاستقبالهم، رغم أن هذه الفرصة تضيق شيئاً فشيئاً الآن. أما اذا توفرت لهم أعمال في الدول العربية فانهم سيغادرون بلادهم حقاً، لكنهم لن يهاجروا وانما ستبقى اسرهم وامتداداتهم وصلاتهم بأهلهم وديارهم وأرضهم.
ان الرد على فتوى تحريم تشغيل العرب في اسرائيل لا يكون الا بفتوى اخرى تحمل العرب مسؤولية تشغيلهم في بلادهم العربية لكن هذه الفتوى الأخيرة لا يكفي ان تصدر عن مراجعنا الفقهية، وانما يجب أن تصدر عن أهل السياسة بالدرجة الأولى والله أعلم.