مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
توقعات مداراة الفشل الأمريكي
هويدي 22-4-2002

في باكستان يستطيع المرء أن يشهد عن قرب المأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة في أفغانستان، الذي يتمثل في الثمن الباهظ الذي تتكلفه قواتها من جراء البقاء هناك، والثمن الباهظ الذي يمكن أن تؤوله اذا ما هي غادرت المكان. لتوي عائد من اسلام أباد، وما من أحد لقيته هناك، باكستاني أو دبلوماسي، أجنبي، الا ووجدته يتطرق في حديثه الى وضع الأمريكيين في كابول، وكيف انهم لا يستطيعون الاستمرار ولا يستطيعون المغادرة حتى قال لي أحد الباكستانيين ان وضع الأمريكيين هناك هو بالضبط مثل الرجل الذي بلع «الموسى»، اذا أخرجه من حلقه أدماه واذا تركه أدماه عشرات القصص يسمعها المرء في العاصمة الباكستانية عن الحاصل في أفغانستان، بعضها يتعلق بالصراعات الحاصلة داخل قيادات قوات «التحالف» القابضة على السلطة، والبعض الآخر ينصب على المشكلات التي لم تحل بين الطاجيك والبشتون، أو بين الاثنين والأوزبك. وهذه القصص ما برحت وكالات الأنباء تتناقل أخبارها، وأحدثها ما نشر عن الاشتباك بين قوات مظفر الدين الذي يمثل الجنرال محمد فهيم وزير الدفاع، وقوات غلام روحاني نانجالي الموالي لرئيس الحكومة حميد كارزاي، وذلك غير الاشتباكات التي جرت في السابق بين قوات وزير الدفاع الجنرال فهيم ونائبه الأوزبكي عبد الرشيد دوستم. وهناك اشتباكات أخرى في ولاية تمروز بين قوات موالية لحاكم ولاية قندهار الموالي للأمريكيين جول اغا، وحاكم ولاية هيرات الجنرال اسماعيل خان، القريب من ايران مثل هذه الاشتباكات التي يسقط فيها عشرات القتلى يومياً لم تتوقف في غرب أفغانستان وجنوبها بوجه أخص. تضاف اليها اشتباكات أخرى بين عناصر مجهولة الهوية ـ يقال انها منسوبة الى تنظيم القاعدة أو جماعة طالبان ـ وبين القوات الدولية، وفي المقدمة منها القوات الأمريكية والبريطانية. ومثل هذه الأخبار الأخيرة محاطة بدرجات تتفاوت بين التعتيم والتكتم. بوجه أخص فإن الخسائر التي تصيب القوات الأمريكية ـ وهي يومية تقريباً ـ لا تتم الاشارة اليها إلا نادراً. الأمر الذي يعني انها محاطة بتكتم شديد. وهذا أمر مفهوم، اذ من الطبيعي ان تحرص قيادة العمليات الأمريكية على حجب تلك المعلومات عن الرأي العام الأمريكي بوجه أخص، لأن الحقيقة لو عرفت فيها لأدت الى انفضاح حقيقة الحملة الأمريكية، ومدى الفشل الذي منيت به الى الآن، الأمر الذي لا بد أن يعكس أثره سلباً على شعبية الرئيس بوش، ويبدد من الهالة الكبيرة التي أضفاها الاعلام الأمريكي على الانجاز الذي تدعي امريكا أنه تم في أفغانستان.
بعد أن يستمع المرء إلى ما يتردد في العاصمة الباكستانية في دوائر المعنيين بالشأن السياسي والدبلوماسي، يقتنع بأن «الانجاز» الذي تحقق لا يكاد يتجاوز الانتقام الذي أوقعه الأمريكيون بالشعب الأفغاني عن طريق تكثيف قصف القرى والتجمعات السكانية، واسقاط حكومة طالبان. فيما عدا ذلك فالاستقرار لم يعد الى أفغانستان، لأن الاشتباكات التي أشرت إليها ـ وهي قليل من كثير ـ حدثت في وجود القوات الدولية وطائرات «بي ـ 52» التي تزرع السماء الأفغانية طيلة الوقت، ولك أن تتصور ما يمكن أن يحدث لو أن تلك القوات غادرت أفغانستان أو لو أن تلك الطائرات العملاقة اختفت من سماء البلاد.
الى جانب ذلك، فزعيم القاعدة أسامة بن لادن، وزعيم طالبان الملا محمد عمر، لا يزال كل منهما مطلق السراح، ليس هذا فحسب، وانما تتواتر الأخبار مشيرة الى أن كلاً منهما يحاول تجميع صفوفه، بل انتقل من الدفاع الى الهجوم في داخل أفغانستان. الأمر الذي يعني أن «الخطر» الأساسي الذي من أجله شنت الحملة واسعة النطاق من بدايتها، لا يزال قائماً.
تلك حقيقة تتكتمها وسائل الاعلام الأمريكية. وتحرص على أن تزين «الانتصار» في أفغانستان بمختلف التقارير التي تحدثت عن عودة الفتيات الى الدراسة بالمدارس، وتراجع أعداد من النسوة عن ارتداء الحجاب، وانتشار أشرطة الموسيقى والغناء ومحلات التجميل وما إلى ذلك من الأمور التي لم يخطر على بال أحد أن يعتبرها من أهداف الحملة العسكرية التي بدأت في السابع من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى جانب الفشل الذي منيت به الأهداف الأساسية للحملة، فان ما يمكن أن يزيد الطين بلة هو تسرب أخبار الخسائر بين الجنود والضباط الأمريكيين وهي الخسائر التي لا يعرف حجمها بالضبط، ولست أشك أن ذلك الحجم لن يعرف قبل أن يقدر للقوات الأمريكية ان تخرج من أفغانستان، الأمر الذي لا يلوح في الأجل المنظور. مع ذلك فالأخبار القادمة من أفغانستان الى اسلام أباد تشير الى هجوم استهدف أكثر من مرة مواقع تلك القوات، وصل إلى حد مهاجمة أهم قاعدة عسكرية لها في مطار «بجرام»، اضافة الى ذلك فعمليات اعتراض عربات القوات الأمريكية تحدث باستمرار، ويذكر انه في واحدة من تلك العمليات حوصر 18 جندياً أمريكياً، قتلوا جميعاً. هناك معلومات أخرى ان أمريكيين وقعوا في الأسر، وأقرانا لهم أبيدوا في كمائن نصبت لهم، وآخرين قتلوا أثناء التدريب.
بوجه عام لا يكاد يمر أسبوع من دون أن يقع اشتباك أو أكثر مع القوات الدولية والأمريكية، الأمر الذي يوقع بين رجالها خسائر بدرجات مختلفة. وبطبيعة الحال فان الطرف الآخر لا يفلت من الخسارة، ولكن لأن ظهورهم إلى الحائط كما يقال، فان ما يصيبهم يظل أهون بكثير مما يصيب الأمريكيين واقرانهم البريطانيين والكنديين.
ولأن موسم الربيع وبشائر الصيف هي التي يذوب فيها الجليد، وتتوافر ظروف أفضل للمقاومة، فمما لا شك فيه أن الفترة المقبلة سوف تشهد تصعيداً في الاشتباكات، الأمر الذي يمكن أن يسبب ازعاجاً أكبر للأمريكيين. ورغم أن هناك فروقاً عدة بين ظروف الاحتلال السوفيتي في الثمانينيات والوجود الدولي الأمريكي في الوقت الراهن، إلا أن مايجمع بينهما أنهما وقعا في الشتاء. السوفييت جاءوا في آخر أكتوبر عام 82، والأمريكان جاءوا في السابع من الشهر ذاته في العام الماضي. والمقاومة الأفغانية للاحتلال السوفيتي حدثت في الربيع الثاني مباشرة. وهي ذاتها متوقعة مع الأمريكان مع حلول ربيع العام الحالي. والأخبار التي تنشرها الصحف هذه الأيام عن تجمع عناصر القاعدة وطالبان وظهورهم في مناطق عديدة بجنوب أفغانستان وشرقها ترجح ذلك الاحتمال.
اذا قلبنا صفحة الفشل الأمريكي في أفغانستان، وحولنا البصر الى ما يجري في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط، فسنجد أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط حققت فشلاً ذريعاً موازياً، على الأقل من وجهة النظر العربية. فقد بدت الادارة الأمريكية عاجزة عن كبح جماح رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون. وسواء كانت عاجزة حقاً أم غير راغبة أو غير جادة، فالقدر المتيقن ان الرئيس بوش لم يستطع أن يوقف استمرار شارون في احتلال مدن الضفة الغربية. وحين طالبه بالانسحاب «الفوري» من المناطق التي احتلها، فان شارون لم يأبه له وواصل اجتياحه. وحين ارسل مبعوثه الجنرال زيني فان حكومة اسرائيل أبقته في تل أبيب، ولم تسمح له بلقاء ثان مع عرفات. وحين جاء وزير خارجيته كولن باول متلكئاً الى المنطقة، فانه فشل في الحصول على أي وعد من شارون، الذي استمر في قصف المدن الفلسطينية في وجوده، ولم يحاول حتى مجاملته وتمكينه من الادعاء بأنه حقق تقدماً من أي نوع في مهمته. من ثم فانه لم يخفف لا من الحصار ولا من القصف أثناء الزيارة، بل أن باول خلال الأيام السبعة التي قضاها في المنطقة تحول الى نقل الرسائل والتحذيرات الاسرائيلية الى كل من لبنان وسوريا. وفي كل مرة التقى فيها شارون كان يخرج الى العلن متبنياً ومكرراً المطالب الاسرائيلية، الأمر الذي بدت فيه الولايات المتحدة وكأنها بلا سياسة ولا موقف من أي نوع، وكأن هذه الدولة العظمى بكل قوتها وهيلمانها تحولت الى مجرد بوق لاسرائيل. وفي اللقاء الأخير مع الرئيس عرفات (في 17/4) لم يفعل باول شيئاً أكثر من أنه نقل تهديدات وتحذيرات صريحة للطرف الفلسطيني بشأن المطلوبين الذين تزعم اسرائيل انهم مسؤولون عن قتل وزير السياحة الاسرائيلي السابق رحبعام زئيفي، وموجودون مع الرئيس الفلسطيني في محبسه.
لقد خسرت الادارة الأمريكية موقعها كوسيط في العملية السلمية، بل ان موقفها ساء في افشال المراهنة على الحل السلمي نفسه. كما أنها خسرت كل أصدقائها في المنطقة العربية، حيث لم يعد بوسع أي «صديق» أن يدافع عن الموقف الأمريكي أو حتى يحترمه. وبهذا السلوك الذي بدا فيه الانقياد الأمريكي كاملاً للسياسة الاسرائيلية، فان قضية فلسطين عادت الى أسوأ مما كانت عليه قبل عشر سنوات، على الأقل من حيث أنه في عام تسعين كان هناك «أمل» في امكانية التوصل الى حل سلمي أما في الوقت الراهن فحتى هذا الأمل تبدد ولم يعد له وجود، بل حل مكانه شعور عميق بالكراهية وفقدان الثقة في الأداء الاسرائيلي.
حين يطالع المرء هذا المشهد، ويرى الفشل الأمريكي على الساحة الأفغانية، ثم يراه مخيماً على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط، يخطر على باله ان اخفاء معالم ذلك الفشل لن يستمر طويلاً، حيث لا يستبعد أن ينكشف المستور في أفغانستان، وأن تفتضح جرائم شارون في الضفة، وقد بدأت المنظمات الاغاثية ووسائل الاعلام الأوروبية تتحدث عن بشاعاتها. حين يحدث ذلك فان أقوى احتمال يخطر على البال ان تسارع الادارة الأمريكية الى قصف العراق لكي تطمس معالم الفشل، وتحقق انجازاً تنشده، وتسعى إلى توظيفه سواء في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في شهر نوفمبر تشرين الثاني القادم أو لصالح احتمالات تجديد رئاسة الرئيس بوش لفترة ثانيه. لكن ذلك الاحتمال بدوره ليس مضموناً، لأن العراق ليس افغانستان ولا الضفة الغربية، الأمر الذي يعني أن مغامرة الرئيس الأمريكي قد تصبح حلقة ثالثة في مسلسل الفشل تفتح الطريق لحريق كبير وفوضى لا حدود لها في الشرق الأوسط.
أضافة تعليق