هويدي 22-1-2001
تستحق المناقشة والمراجعة تلك الفكرة التي يروج لها البعض هذه الأيام، الداعية الى حث المسلمين على زيارة المسجد الأقصى باعداد كبيرة لافشال المخططات الصهيونية المرسومة لها، ولا أعرف الى أي مدى نجحت محاولة تسويق الفكرة عربياً، لكن الذي أعلمه ان نائب السفير الفلسطيني في القاهرة اقنع بها شيخ الأزهر والمسؤولين عن وزارة الأوقاف، ثم تبنتها الجهات المسؤولة عن النشاط الاسلامي الحكومي بمصر (المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية). وبعد ان رددها المسؤولون عن تلك الجهات في أكثر من مناسبة عامة، الأمر الذي أخرجها الى العلن، فان الدعوة أصبحت محل لغط في أوساط المثقفين المعنيين، الذين انقسموا بين مؤيد لها وداع إليها، وبين معارض لها ومتشكك في أهدافها ومقاصدها.
كثيرة هي الأفكار التي تطرح بين الحين والآخر في صدد التعامل مع مختلف مظاهر وعناصر الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وبعض هذه الأفكار لا تستحق المناقشة لتفاهتها، ولكن الدعوة التي نحن بصددها يتعذر تجاهلها، ليس فقط لما فيها من جاذبية، ولكن لان المنابر الاسلامية الرسمية في مصر أصبحت تدعو إليها، حتى اصبح شيخ الأزهر ووزير الأوقاف على رأس اولئك الداعين.
لست واثقاً تماماً من الأسباب التي دعت الى طرح الفكرة في الوقت الراهن، والانتفاضة مستمرة بدرجة أو أخرى، والدم الفلسطيني يسيل كل يوم، والقمع الاسرائيلي مستمر على وتيرته الوحشية، لكني سأفترض حسن النية فيمن طرحها، وأذهب الى ان زيارة شارون للمسجد الأقصى، التي اثارت غضب الجماهير الفلسطينية، واشعلت الفتيل في شحنة الغضب الفلسطيني المتراكم والمكتوم، الأمر الذي فجر الانتفاضة التي عرفت باسم «انتفاضة الأقصى»، هذه الملابسات هي التي فرضت استدعاء ملف القدس وحركت دعوة الجماهير الاسلامية الى انقاذ المسجد الأقصى.
الذين روجوا للفكرة ودافعوا عنها استندوا الى حجج ثلاث هي:
* ان من شأن تكثيف الزيارات الى المسجد الأقصى ان يثبت الحضور الاسلامي في المدينة، التي يسعى الاسرائيليون الى تهويدها.
* ان الزيارات المفترضة سوف تكسر طوق العزلة الذي تريد اسرائيل ان تفرضها على القدس، لكي تستفرد بها، بعد ان تقطع الوشائج التي تربطها بالعالم العربي والاسلامي.
* ان وجود اعداد كبيرة من المسلمين في المدينة من شأنه ان يحدث رواجاً تجارياً فيها، ينعش الأوضاع الاقتصادية التي يعاني العرب من ترديها، الأمر الذي يمكنهم من الصمود ومقاومة ضغوط الهجرة أو غوايات بيع الأملاك التي يغريهم الاسرائيليون بها.
لأول وهلة تكتسب هذه الحجج وجاهة متفاوتة الدرجة، لكني لست واثقاً تماماً من أنها تشكل أسبابا مقنعة للمواطن العربي العادي لكي يقدم على زيارة المسجد الاقصى، بل لعلي أذهب الى ان تلك الحجج تفقد وجاهتها اذا ما نظرنا الى المسألة من زاوية الاضرار والخسائر التي يمكن ان تترتب على فتح ذلك الباب، ذلك ان فتح هذا الباب من شأنه ان يرتب النتائج التالية:
* تجاهل عملية الاحتلال التي هي الجريمة الأساسية، حيث قد يسود الاعتقاد بأنه ما دام المسلمون يذهبون للصلاة في المسجد الأقصى، فان حضورهم هذا فيه الكفاية، وهو حد قد يرضي البعض على نحو يؤدي في النهاية الى غض الطرف عن جوهر المشكلة وأساسها.
* تكريس الفكرة التي تروج لها اسرائيل زاعمة بأن القدس مغلقة سياسياً ومفتوحة دينياً، إذ ان توافد الاعداد الكبيرة من المسلمين القاصدة بيت المقدس يعطي انطباعاً لدى العالم الخارجي بأن الأمر استقر في المدينة المقدسة، وان اسرائيل «المتسامحة» لم تقصر في حق جماهير المؤمنين، حتى فتحت لهم أبواب المسجد الأقصى على مصاريعها، ومن ثم فلم يعد لهم ما يطالبون به أكثر من ذلك.
* ثمة احتمال قوي لان تتحول حكاية زيارة المسجد الأقصى الى ذريعة يحتمي بها البعض لتوسيع نطاق التطبيع مع اسرائيل، واذا كان هناك من يذهبون الى الحج والعمرة قاصدين التجارة مع الزيارة، فليس هناك ما يحول دون تكرار المشهد ذاته مع المسجد الأقصى، والذين يتصورون ان الزيارة ستحدث رواجاً في أحوال العرب الاقتصادية بالقدس، سيكتشفون لاحقاً ان المسألة تحولت الى جسر لنقل البضائع الاسرائيلية وتسريبها الى مختلف أنحاء العالم العربي والاسلامي، الأمر الذي سيسهم في انعاش الاقتصاد الاسرائيلي، والتوسع في تسريب السلع الاسرائيلية الى أسواقنا.
* في الوقت ذاته فان اقبال المسلمين على زيارة المسجد الاقصى لن يغير شيئاً من طبيعة الاحتلال ولن يغير من تمسك اسرائيل بالسيادة على الحرم الشريف، ولن يوقف شيئاً من التطلعات الاستيطانية التي تسعى إليها اسرائيل.
* من شأن فتح باب زيارة المسجد الأقصى، التي يفترض انها لن تتم إلا بعد الحصول على تأشيرة دخول من الاسرائيليين، ان يجعل من التعامل معهم شيئاً عادياً، ينتهي بإزالة الحاجز النفسي القائم الآن، الذي يعتبر مثل ذلك التعامل نوعاً من «الاثم» المحرم اجتماعياً وسياسياً.
اللافت للنظر في الموضوع ان رابطة علماء فلسطين أصدرت بياناً عارضت فيه دعوة المسلمين والعرب لزيارة المسجد الاقصى والصلاة فيه، واعتبرت ذلك نوعاً من التطبيع الذي يسلم بشرعية الاحتلال الاسرائيلي، ثم ان هذه الدعوة من شأنها ان تفتح الأبواب لمن يريد الوصول الى تل أبيب ومن يريد التعاون مع الصهاينة من شبكة العملاء، في الوقت ذاته فان هناك فتوى في هذا الصدد اصدرها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، تبنت ذات الموقف الرافض، طالما ظل تحت الاحتلال الاسرائيلي، وقال الشيخ القرضاوي فيها ان الامتناع عن الزيارة في هذه الظروف هو نوع من مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني.
واذا كان هذا هو رأي علماء الشرع فربما جاز لنا ان نتساءل: لماذا استجاب شيخ الأزهر ووزير الاوقاف والمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية في مصر لدعوة رجال السياسة من ممثلي السلطة الفلسطينية، بينما اعرضوا عن رأي رابطة علماء فلسطين؟
السؤال يخطر على بال المرء لأول وهلة، لكنه لا يجد له اجابة أو تفسيراً سوى ان تلك الرموز الدينية، التي هي جزء من المؤسسة السياسية في مصر، اعتمدت كلام أهل السياسة الفلسطينيين واستصوبته، وهذا الانطباع أكده كلام شيخ الأزهر، الذي نشرته «الشرق الاوسط» في 1/17 الحالي، والذي قال فيه ما نصه: ان نائب السفير الفلسطيني في القاهرة قال في كلمة ألقاها (في حضور شيخ الأزهر) ادركوا المسلمين في القدس ليصلوا في المسجد الأقصى. ونادى بادراك المسلمين هناك بالشراء من بضائعهم وانقاذهم من الفقر. وقد اعتبرت كلمته هذه بمثابة نداء فلسطيني لأمة المسلمين لمساندة الأقصى، وبالطبع وافقته وأيدته.
وحين قيل لشيخ الأزهر ان بعض علماء المسلمين أفتوا بمعارضة زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال، كان رده ان لكل رأيه، وان صلاة المسلم في المسجد الأقصى تعد دعماً مهماً للفلسطينيين.
سواء كان ذلك الموقف ينطلق من الاقتناع أو من الاستجابة للريح السياسية، فالشاهد انه يصب في المسار الذي ندعو الى مراجعة دعائمه وأسانيده، التي ازعم انها لا تخدم جوهر القضية الفلسطينية أو المصالح العليا للشعب الفلسطيني، بلها تصب في صالح الدولة العبرية. وفضلا عن الحجج التي سبقت الاشارة إليها، فإنني ازعم ان القدس بوجه أخص هي قضية اسلامية وعربية، فوق كونها فلسطينية، واذهب الى ان العرب والمسلمين اذا ارادوا فعلا ان يثبتوا حضورهم في القدس، وهذا هدف مهم، فلذلك الحضور مظاهر اخرى أكثر فاعلية، منها على سبيل المثال ان الجامعة العربية كان لها مكتب في القدس الى عام 67، ولو أعيد فتحه هناك لكانت له القيمة الرمزية المنشودة. منها أيضاً ان المقدسيين ليسوا ممثلين في المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، الأمر الذي يعني التسليم ضمناً بتنحية ملف القدس وفصله عن القضية، ومن المفارقات ذات الدلالة في هذا الصدد ان فيصل الحسيني المسؤول الفلسطيني عن ملف القدس مقطوع الصلة بالمفاوضات التي يفترض ان القدس أحد عناصرها، ومستبعد منها! على صعيد آخر، ليس مفهوماً هذا الصمت من جانب عمان إزاء موضوع القدس، الذي كان أحد الاهتمامات التي لم تغب عن موقف الاردن في وجود الملك حسين رحمه الله، وهو الذي اعتبر ان للأسرة الهاشمية مسؤوليتها التاريخية عن المسجد الأقصى بوجه أخص، أكثر من أي شيء آخر في القضية الفلسطينية.
واذا ما سلمنا جدلا بجدوى وأهمية ذهاب المسلمين للزيارة والصلاة في المسجد الأقصى، فلماذا لا توجه الدعوة الى الفلسطينيين المقيمين بالخارج، وقد فرضت الظروف عليهم ان يعيشوا جنباً الى جنب مع الاسرائيليين، حيث فلسطين بلدهم وأرضهم في نهاية المطاف، ولن يلومهم أحد اذا ما اضطروا الى ذلك النوع من «التطبيع»، ومن هؤلاء الفلسطينيين حوالي مليونين في المملكة الاردنية وحدها.
من ناحية أخرى، فلست أخفي قلقاً إزاء التركيز على المسجد الأقصى واختزال القضية الفلسطينية في الكيلومتر المربع الذي يحتله الحرم الشريف، الأمر الذي يدعونا الى معاودة التذكير بأن المسجد هو رمز للقضية، وهو جزء محوري منها، لكنه ليس كل القضية، وقد بات معلوماً للكافة ان اسرائيل تساوم على الأقصى لاسقاط حق اللاجئين في العودة، وهو ما تبدى بوضوح في المقترحات الأخيرة التي قدمها الرئيس كلينتون (هل نقول السابق؟) التي قيل لنا انها قدمت للفلسطينيين «تنازلات» لم يكونوا يحلمون بها، من أهمها بسط سيادتهم على المسجد الأقصى، دون الحائط الغربي وفي رواية أخرى حائط البراق (المبكى)، مع استمرار الحفريات تحت سطح الأرض بعد اتفاق الجانبين، ومن هذه «التنازلات» أيضاً اقتسام القدس الشرقية بين العرب والاسرائيليين، أما المقابل لذلك فهو كثير، وفي المقدمة منه اسقاط حق اللاجئين في العودة، والاقرار بإنهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
ان التمسك بالقدس وبحق اللاجئين في العودة هو الموقف الصحيح والشريف، الذي يتعين على كل فلسطيني أو عربي ان يلتزم به، ومقايضة القدس في أحسن شروطها وأفضلها بالتنازل عن حق العودة، ينبغي ان تكون مرفوضة من الأساس، لان اي مكان مهما كانت قداسته لا ينبغي أن يُقدَّم على حق خمسة ملايين من البشر في العودة الى ديارهم، ولا يقبل عقل أو شرع ان يحكم بالنفي أو الإبادة على هذه الملايين الخمسة، في مقابل استرداد المسجد الأقصى أو حتى مدينة القدس بأكملها.
وأرجو ألا أكون متجاوزاً اذا قلت انني لو خيرت بين السيادة على القدس بكاملها (وليس المسجد الأقصى وحده) وبين عودة اللاجئين، لاخترت العودة، لان انقاذ تلك الملايين الخمسة من مصير الافناء والإبادة مقدم على أي مقدس آخر، ولان القدس أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، وللمسجد الأقصى رب يحميه، والله أعلم.
تستحق المناقشة والمراجعة تلك الفكرة التي يروج لها البعض هذه الأيام، الداعية الى حث المسلمين على زيارة المسجد الأقصى باعداد كبيرة لافشال المخططات الصهيونية المرسومة لها، ولا أعرف الى أي مدى نجحت محاولة تسويق الفكرة عربياً، لكن الذي أعلمه ان نائب السفير الفلسطيني في القاهرة اقنع بها شيخ الأزهر والمسؤولين عن وزارة الأوقاف، ثم تبنتها الجهات المسؤولة عن النشاط الاسلامي الحكومي بمصر (المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية). وبعد ان رددها المسؤولون عن تلك الجهات في أكثر من مناسبة عامة، الأمر الذي أخرجها الى العلن، فان الدعوة أصبحت محل لغط في أوساط المثقفين المعنيين، الذين انقسموا بين مؤيد لها وداع إليها، وبين معارض لها ومتشكك في أهدافها ومقاصدها.
كثيرة هي الأفكار التي تطرح بين الحين والآخر في صدد التعامل مع مختلف مظاهر وعناصر الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وبعض هذه الأفكار لا تستحق المناقشة لتفاهتها، ولكن الدعوة التي نحن بصددها يتعذر تجاهلها، ليس فقط لما فيها من جاذبية، ولكن لان المنابر الاسلامية الرسمية في مصر أصبحت تدعو إليها، حتى اصبح شيخ الأزهر ووزير الأوقاف على رأس اولئك الداعين.
لست واثقاً تماماً من الأسباب التي دعت الى طرح الفكرة في الوقت الراهن، والانتفاضة مستمرة بدرجة أو أخرى، والدم الفلسطيني يسيل كل يوم، والقمع الاسرائيلي مستمر على وتيرته الوحشية، لكني سأفترض حسن النية فيمن طرحها، وأذهب الى ان زيارة شارون للمسجد الأقصى، التي اثارت غضب الجماهير الفلسطينية، واشعلت الفتيل في شحنة الغضب الفلسطيني المتراكم والمكتوم، الأمر الذي فجر الانتفاضة التي عرفت باسم «انتفاضة الأقصى»، هذه الملابسات هي التي فرضت استدعاء ملف القدس وحركت دعوة الجماهير الاسلامية الى انقاذ المسجد الأقصى.
الذين روجوا للفكرة ودافعوا عنها استندوا الى حجج ثلاث هي:
* ان من شأن تكثيف الزيارات الى المسجد الأقصى ان يثبت الحضور الاسلامي في المدينة، التي يسعى الاسرائيليون الى تهويدها.
* ان الزيارات المفترضة سوف تكسر طوق العزلة الذي تريد اسرائيل ان تفرضها على القدس، لكي تستفرد بها، بعد ان تقطع الوشائج التي تربطها بالعالم العربي والاسلامي.
* ان وجود اعداد كبيرة من المسلمين في المدينة من شأنه ان يحدث رواجاً تجارياً فيها، ينعش الأوضاع الاقتصادية التي يعاني العرب من ترديها، الأمر الذي يمكنهم من الصمود ومقاومة ضغوط الهجرة أو غوايات بيع الأملاك التي يغريهم الاسرائيليون بها.
لأول وهلة تكتسب هذه الحجج وجاهة متفاوتة الدرجة، لكني لست واثقاً تماماً من أنها تشكل أسبابا مقنعة للمواطن العربي العادي لكي يقدم على زيارة المسجد الاقصى، بل لعلي أذهب الى ان تلك الحجج تفقد وجاهتها اذا ما نظرنا الى المسألة من زاوية الاضرار والخسائر التي يمكن ان تترتب على فتح ذلك الباب، ذلك ان فتح هذا الباب من شأنه ان يرتب النتائج التالية:
* تجاهل عملية الاحتلال التي هي الجريمة الأساسية، حيث قد يسود الاعتقاد بأنه ما دام المسلمون يذهبون للصلاة في المسجد الأقصى، فان حضورهم هذا فيه الكفاية، وهو حد قد يرضي البعض على نحو يؤدي في النهاية الى غض الطرف عن جوهر المشكلة وأساسها.
* تكريس الفكرة التي تروج لها اسرائيل زاعمة بأن القدس مغلقة سياسياً ومفتوحة دينياً، إذ ان توافد الاعداد الكبيرة من المسلمين القاصدة بيت المقدس يعطي انطباعاً لدى العالم الخارجي بأن الأمر استقر في المدينة المقدسة، وان اسرائيل «المتسامحة» لم تقصر في حق جماهير المؤمنين، حتى فتحت لهم أبواب المسجد الأقصى على مصاريعها، ومن ثم فلم يعد لهم ما يطالبون به أكثر من ذلك.
* ثمة احتمال قوي لان تتحول حكاية زيارة المسجد الأقصى الى ذريعة يحتمي بها البعض لتوسيع نطاق التطبيع مع اسرائيل، واذا كان هناك من يذهبون الى الحج والعمرة قاصدين التجارة مع الزيارة، فليس هناك ما يحول دون تكرار المشهد ذاته مع المسجد الأقصى، والذين يتصورون ان الزيارة ستحدث رواجاً في أحوال العرب الاقتصادية بالقدس، سيكتشفون لاحقاً ان المسألة تحولت الى جسر لنقل البضائع الاسرائيلية وتسريبها الى مختلف أنحاء العالم العربي والاسلامي، الأمر الذي سيسهم في انعاش الاقتصاد الاسرائيلي، والتوسع في تسريب السلع الاسرائيلية الى أسواقنا.
* في الوقت ذاته فان اقبال المسلمين على زيارة المسجد الاقصى لن يغير شيئاً من طبيعة الاحتلال ولن يغير من تمسك اسرائيل بالسيادة على الحرم الشريف، ولن يوقف شيئاً من التطلعات الاستيطانية التي تسعى إليها اسرائيل.
* من شأن فتح باب زيارة المسجد الأقصى، التي يفترض انها لن تتم إلا بعد الحصول على تأشيرة دخول من الاسرائيليين، ان يجعل من التعامل معهم شيئاً عادياً، ينتهي بإزالة الحاجز النفسي القائم الآن، الذي يعتبر مثل ذلك التعامل نوعاً من «الاثم» المحرم اجتماعياً وسياسياً.
اللافت للنظر في الموضوع ان رابطة علماء فلسطين أصدرت بياناً عارضت فيه دعوة المسلمين والعرب لزيارة المسجد الاقصى والصلاة فيه، واعتبرت ذلك نوعاً من التطبيع الذي يسلم بشرعية الاحتلال الاسرائيلي، ثم ان هذه الدعوة من شأنها ان تفتح الأبواب لمن يريد الوصول الى تل أبيب ومن يريد التعاون مع الصهاينة من شبكة العملاء، في الوقت ذاته فان هناك فتوى في هذا الصدد اصدرها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، تبنت ذات الموقف الرافض، طالما ظل تحت الاحتلال الاسرائيلي، وقال الشيخ القرضاوي فيها ان الامتناع عن الزيارة في هذه الظروف هو نوع من مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني.
واذا كان هذا هو رأي علماء الشرع فربما جاز لنا ان نتساءل: لماذا استجاب شيخ الأزهر ووزير الاوقاف والمجلس الأعلى للشؤون الاسلامية في مصر لدعوة رجال السياسة من ممثلي السلطة الفلسطينية، بينما اعرضوا عن رأي رابطة علماء فلسطين؟
السؤال يخطر على بال المرء لأول وهلة، لكنه لا يجد له اجابة أو تفسيراً سوى ان تلك الرموز الدينية، التي هي جزء من المؤسسة السياسية في مصر، اعتمدت كلام أهل السياسة الفلسطينيين واستصوبته، وهذا الانطباع أكده كلام شيخ الأزهر، الذي نشرته «الشرق الاوسط» في 1/17 الحالي، والذي قال فيه ما نصه: ان نائب السفير الفلسطيني في القاهرة قال في كلمة ألقاها (في حضور شيخ الأزهر) ادركوا المسلمين في القدس ليصلوا في المسجد الأقصى. ونادى بادراك المسلمين هناك بالشراء من بضائعهم وانقاذهم من الفقر. وقد اعتبرت كلمته هذه بمثابة نداء فلسطيني لأمة المسلمين لمساندة الأقصى، وبالطبع وافقته وأيدته.
وحين قيل لشيخ الأزهر ان بعض علماء المسلمين أفتوا بمعارضة زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال، كان رده ان لكل رأيه، وان صلاة المسلم في المسجد الأقصى تعد دعماً مهماً للفلسطينيين.
سواء كان ذلك الموقف ينطلق من الاقتناع أو من الاستجابة للريح السياسية، فالشاهد انه يصب في المسار الذي ندعو الى مراجعة دعائمه وأسانيده، التي ازعم انها لا تخدم جوهر القضية الفلسطينية أو المصالح العليا للشعب الفلسطيني، بلها تصب في صالح الدولة العبرية. وفضلا عن الحجج التي سبقت الاشارة إليها، فإنني ازعم ان القدس بوجه أخص هي قضية اسلامية وعربية، فوق كونها فلسطينية، واذهب الى ان العرب والمسلمين اذا ارادوا فعلا ان يثبتوا حضورهم في القدس، وهذا هدف مهم، فلذلك الحضور مظاهر اخرى أكثر فاعلية، منها على سبيل المثال ان الجامعة العربية كان لها مكتب في القدس الى عام 67، ولو أعيد فتحه هناك لكانت له القيمة الرمزية المنشودة. منها أيضاً ان المقدسيين ليسوا ممثلين في المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، الأمر الذي يعني التسليم ضمناً بتنحية ملف القدس وفصله عن القضية، ومن المفارقات ذات الدلالة في هذا الصدد ان فيصل الحسيني المسؤول الفلسطيني عن ملف القدس مقطوع الصلة بالمفاوضات التي يفترض ان القدس أحد عناصرها، ومستبعد منها! على صعيد آخر، ليس مفهوماً هذا الصمت من جانب عمان إزاء موضوع القدس، الذي كان أحد الاهتمامات التي لم تغب عن موقف الاردن في وجود الملك حسين رحمه الله، وهو الذي اعتبر ان للأسرة الهاشمية مسؤوليتها التاريخية عن المسجد الأقصى بوجه أخص، أكثر من أي شيء آخر في القضية الفلسطينية.
واذا ما سلمنا جدلا بجدوى وأهمية ذهاب المسلمين للزيارة والصلاة في المسجد الأقصى، فلماذا لا توجه الدعوة الى الفلسطينيين المقيمين بالخارج، وقد فرضت الظروف عليهم ان يعيشوا جنباً الى جنب مع الاسرائيليين، حيث فلسطين بلدهم وأرضهم في نهاية المطاف، ولن يلومهم أحد اذا ما اضطروا الى ذلك النوع من «التطبيع»، ومن هؤلاء الفلسطينيين حوالي مليونين في المملكة الاردنية وحدها.
من ناحية أخرى، فلست أخفي قلقاً إزاء التركيز على المسجد الأقصى واختزال القضية الفلسطينية في الكيلومتر المربع الذي يحتله الحرم الشريف، الأمر الذي يدعونا الى معاودة التذكير بأن المسجد هو رمز للقضية، وهو جزء محوري منها، لكنه ليس كل القضية، وقد بات معلوماً للكافة ان اسرائيل تساوم على الأقصى لاسقاط حق اللاجئين في العودة، وهو ما تبدى بوضوح في المقترحات الأخيرة التي قدمها الرئيس كلينتون (هل نقول السابق؟) التي قيل لنا انها قدمت للفلسطينيين «تنازلات» لم يكونوا يحلمون بها، من أهمها بسط سيادتهم على المسجد الأقصى، دون الحائط الغربي وفي رواية أخرى حائط البراق (المبكى)، مع استمرار الحفريات تحت سطح الأرض بعد اتفاق الجانبين، ومن هذه «التنازلات» أيضاً اقتسام القدس الشرقية بين العرب والاسرائيليين، أما المقابل لذلك فهو كثير، وفي المقدمة منه اسقاط حق اللاجئين في العودة، والاقرار بإنهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
ان التمسك بالقدس وبحق اللاجئين في العودة هو الموقف الصحيح والشريف، الذي يتعين على كل فلسطيني أو عربي ان يلتزم به، ومقايضة القدس في أحسن شروطها وأفضلها بالتنازل عن حق العودة، ينبغي ان تكون مرفوضة من الأساس، لان اي مكان مهما كانت قداسته لا ينبغي أن يُقدَّم على حق خمسة ملايين من البشر في العودة الى ديارهم، ولا يقبل عقل أو شرع ان يحكم بالنفي أو الإبادة على هذه الملايين الخمسة، في مقابل استرداد المسجد الأقصى أو حتى مدينة القدس بأكملها.
وأرجو ألا أكون متجاوزاً اذا قلت انني لو خيرت بين السيادة على القدس بكاملها (وليس المسجد الأقصى وحده) وبين عودة اللاجئين، لاخترت العودة، لان انقاذ تلك الملايين الخمسة من مصير الافناء والإبادة مقدم على أي مقدس آخر، ولان القدس أمانة في أعناق المسلمين جميعاً، وللمسجد الأقصى رب يحميه، والله أعلم.