هويدي 21-12-2002
أصبح بولند ارينج واحدا من أشهر الشخصيات السياسية في تركيا بسبب حجاب زوجته، إذ رغم انه رئيس البرلمان، إلا ان وسائل الاعلام لم تسلط عليه أضواءها إلا عندما اصطحب زوجته المحجبة الى مطار أنقرة، لكي يودع رئيس الجمهورية وزوجته، في سفرهما الى براغ لحضور قمة حلف الاطلسي، وكان عليه أن يذهب، لأن الدستور ينص على أن رئيس البرلمان يتولى مهام رئيس الجمهورية في غيابه، إلا ان ظهور زوجته بالحجاب في مراسم وداع الرئيس سيزر صدم الأبواق العلمانية التي اعتبرت الأمر بمثابة اختراق غير مسبوق لقواعد البروتوكول التي تستبعد حجاب السيدات من أي محفل رسمي، فما بالك به اذا كان وداع رئيس الجمهورية. ومنذ تصدرت صور الوداع والحجاب الصفحات الأولى لصحف اليوم التالي، واللغط لم يتوقف حول مخاطر حدوث ذلك الاختراق، ومدى اتفاقه أو انتهاكه للتقاليد والأعراف الكمالية، وكيفية تجنب تكرار «الخطأ» مرة أخرى.
* رسالة عتاب من العسكر
* بسرعة صنف بولند ارينج في مربع الأصوليين والمتشددين، الذين يهدد وجودهم مبادئ العلمانية والديمقراطية التركية، وحتى يفوت رئيس الجمهورية عليه فرصة الظهور مع زوجته المحجبة مرة أخرى في وداع رسمي، فإنه تعمد في رحلة لاحقة له الى ألمانيا ألا يصطحب معه زوجته، حتى لا «يفعلها» رئيس البرلمان ويأتي بزوجته بدوره، وتتكرر الضجة التي أثارها أركان المؤسسة العلمانية.
يوم ذهبت للقاء بولند كان قد استقبل في الصباح رئيس أركان الجيش وقادة أسلحته المختلفة، الذين كانوا قد زاروا قبله رئيس الوزراء وأمضوا معه نصف ساعة، لكنهم حينما جاءوا الى مكتبه لم يمكثوا أكثر من ثلاث دقائق، ثم غادروا المكتب في هدوء، حتى قبل أن يلتقط المصورون الذين تزاحموا أمام المكتب صور اللقاء، وفسر اختصار الزيارة على ذلك النحو بأنه رسالة عتاب واحتجاج على ظهور زوجته بحجابها في وداع رئيس الجمهورية، حيث المعروف ان قادة العسكر الذين يعتبرون أنفسهم حراس العلمانية الكمالية، هم أشد الفئات خصومة لفكرة الحجاب، ولغيره من مظاهر الالتزام الديني في الأماكن العامة والرسمية، وقد شددوا على ذلك في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد تشكيل الوزارة، وهو الذي عقد مساء ذات اليوم الذي تمت فيه زيارات المجاملة للقيادات السياسية الجديدة.
* سوء نية في مسألة الحجاب
* سألته عن ملابسات ما جرى في يوم وداع الرئيس سيزر، فابتسم قائلا: ان الأمر كان أبسط بكثير مما صورته وهولت فيه وسائل الاعلام، إذ لم يكن الأمر متعمدا بأي حال، فقد اتصلت بمدير البروتوكول في رئاسة الجمهورية وسألته عما اذا كان عليّ أن أصطحب معي زوجتي أثناء وداع الرئيس فرد بالإيجاب، ولأنني لا أشك في انه يعلم بأمر حجابها، فقد تصورت ان الأمر يمكن ان يؤخذ ببساطة ويمر في هدوء، وقد ازددت اطمئنانا حين التقيت الرئيس وقرينته وتصافحنا، ولم يظهر عليه أي ضيق أو تبرم، ولكن الاثارة الاعلامية والضجيج الذي حدث بعد نشر صور الوداع في الصحف حركا موجات التوتر والعصبية، وتحولت الحبة الى قبة للأسف الشديد.
* هل تعتقد ان في الأمر سوء نية من جانب أجهزة الاعلام؟
ـ لا أشك في ذلك بالنسبة لبعضهم، وليس سرا ان هناك متعصبين ومهيجين يتمنون الصيد في الماء العكر، وقد أزعجتهم كثيرا نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، ولذلك فانهم لن يكلوا من محاولات الاثارة والوقيعة وتأليب الرأي العام.
* لو نمى الى علمك ان اصطحاب الزوجة الى مراسم الوداع كان سيحدث الضجة التي وقعت، هل كنت تفكر في الذهاب منفردا؟
ـ كنت سأفكر في ذلك بشكل جاد، تجنبا للمشاكل، لان بلادنا لديها مشاكل حياتية ومصيرية أكبر بكثير من مسألة الحجاب، والذين يريدون اشغال الناس بهذه القضية يحاولون استدراجنا الى معارك جانبية وهامشية، وصرف انتباهنا عن مشكلات المجتمع ومعاناته الحقيقية.
* هل هي مصادفة ان الـ13 نائبة اللاتي يمثلن حزب العدالة ليس بينهن واحدة محجبة؟
ـ ليست مصادفة بطبيعة الحال، ولكن ذلك كان مقصودا لتفويت الفرصة على الذين يريدون أن يفرضوا قضية الحجاب على رأس «الأجندة»، خصوصا اننا لنا خبرة سابقة في الموضوع استوعبنا درسها (يقصد تجربة السيدة مروة قاوا تجي التي انتخبت عن حزب الرفاه عام 1999، ودخلت لكي تحلف اليمين وهي محجبة، ولكن ذلك أحدث ضجة كبيرة انتهت باسقاط العضوية والجنسية عنها، بحجة انها كانت تحمل الجنسية الاميركية دون اذن، وكان السيد بولند آنذاك رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الفضيلة الذي ورث حزب الرفاه.
* 70% يؤيدون رفع الحظر
* لقد وعد حزب العدالة والتنمية الناخبين بأنه سيعمل على رفع الحظر عن الحجاب في دوائر الحكومة والجامعات؟
ـ لست الآن في مقام الحديث باسم الحزب، لان رئيس البرلمان تنقطع علاقته بحزبه بعد انتخابه، لكن الذي فهمته من ذلك الوعد أمرين، أحدهما انه لا يحتل أولوية في برنامج الحزب، وانما تتقدمه أمور أخرى أكثر أهمية للمجتمع، والثاني ان تلك الخطوة تأتي ضمن تأكيد ضمانات الحريات العامة، والحرية الدينية بينها بطبيعة الحال.
* لم أفهم لماذا العسكر مشغولون بالحجاب بالدرجة الأولى؟
ـ 70 في المائة من الشعب التركي يؤيدون رفع الحظر عن الحجاب، طبقا لقياسات الرأي العام التي جرت، ومع ذلك هناك لائحة منعت الحجاب في الدوائر الرسمية، ثم جرى التوسع في الحظر حتى شمل الجامعات أيضا، والموضوع عرض على المحاكم التي قررت انه ليس في الدستور ما يمنع النساء من ارتداء الحجاب، وكل ما هو موجود في مسألة الزي يتعلق بالرجال وحدهم، علما بأن أم كمال اتاتورك زبيدة هانم وزوجته لطيفة هانم كانتا محجبتين.
* هل هناك احتجاج بقوانين الثورة وتقاليد العلمانية؟
ـ ليس في قوانين الثورة شيء يخص حجاب المرأة، أما تقاليد العلمانية فالذي أفهمه ان النظام العلماني كما هو واضح في الدستور التركي يكفل حرية العقيدة والعبادة، ولكن البعض يؤمنون بعلمانية لا دينية تناصب مظاهر التدين العداء، وهؤلاء يريدون أن يفرضوا آراءهم على تركيا التي تصل نسبة المسلمين فيها الى 98 في المائة وهذا غير مقبول بمعايير العقل والمنطق والديمقراطية وحقوق الانسان.
* بماذا تفسر اتهامك بالأصولية والتشدد؟
ـ (ضاحكا) هذه مسألة محيرة، لم استطع ان افهمها الى الآن، لكن كل ما اعرفه انني رجل ملتزم بديني وغير مستعد للتفريط فيه أو المساومة عليه، شأني في ذلك شأن ملايين الاتراك الذين لا يريد البعض ان يسمع صوتهم أو يحترم قيمهم، في الوقت ذاته فانني اؤمن بأن الاسلام مكون أساسي لثقافة هذا المجتمع لا يمكن تجاهل أهميته.
* المعارضة لن تنتقل للشارع
* هل تعتقد ان في تركيا أزمة هوية؟
ـ لدينا مشكلتان جوهريتان: الهوية والثقة، ذلك ان هناك محاولات مستمرة لمسخ هوية الشعب التركي، وهذه مسألة خطرة للغاية، كما ان خبرات المجتمع مع الطبقة السياسية افقدت ثقة الناس في تلك الطبقة، وبالتالي اتسعت الهوة بين السلطة والمجتمع، واذا نجحنا في المرحلة الراهنة في ان نعالج هاتين الثغرتين، فاننا سنقدم خدمة تاريخية جليلة لبلدنا وللمستقبل.
* في ظل الاغلبية التي يتمتع بها حزب العدالة في البرلمان، فان المعارضة لن تكون فعالة، ولن تستطيع ان توقف شيئا لحكومة الحزب، هل تتوقع ان تنشط المعارضة خارج البرلمان، في الشارع أو عبر وسائل الاعلام مثلا؟
ـ لا أظن ذلك ولا أتمناه، وحوارات البرلمان لا تتم داخل صندوق مغلق، وإنما تعرض تفاصيلها يوميا على الرأي العام الذي يفترض انه لن يكون معزولا عن القضايا والملفات التي تناقش، والنواب في البرلمان يفترض انهم يمثلون الشارع ويعبرون عن صوته، ذلك انهم نواب عن الشعب أساسا وليسوا نوابا عن الحزب فحسب.
* في ظل وجود أغلبية للحزب في البرلمان، فان الرقابة على الحكومة ـ التي هي حكومة الحزب ـ قد تصبح عديمة الجدوى، لانها ضامنة للأغلبية في كل الأحوال؟
ـ لا نريد أن نلغي دور المعارضة داخل البرلمان، ولا دور الرأي العام الذي يتابع ما يجري، وقد صوت الناس للحزب وأتوا بهذه الحكومة أملا في اصلاح ما فسد في البلاد، واذا لم تكن عند حسن ظنهم فانهم سوف ينصرفون عنها ويعاقبونها في الانتخابات القادمة، ونحن بحاجة الى حكومة قوية لكي تنهض بمسؤولياتها وتفي بما وعدت، وأحسب ان الحكومة الراهنة مؤهلة لذلك، على عكس الحكومات الائتلافية السابقة التي كانت مرشحة للسقوط في أي وقت.
* في ظل نتائج الانتخابات الأخيرة، التي اخرجت كل الاحزاب من البرلمان باستثناء حزبين فقط، هل تتوقع ان تعاد صياغة الحياة الحزبية في تركيا، بحيث تقتصر على حزبين كبيرين، أحدهما يمثل اليمين والآخر يمثل اليسار؟
ـ المصطلحات تحتاج الى ضبط ومراجعة، واليسار بصيغته التقليدية هزم من الناحيتين التاريخية والسياسية، ولا ننسى ان النتائج احدثت تحولا كبيرا في الخارطة السياسية التركية، ففي بلدنا 50 حزبا، اشترك في الانتخابات منها 18 حزبا فقط، ونجح حزبان وعجزت الأخرى عن استيفاء النصاب والدخول الى البرلمان، ولا استبعد ان يصبح الحزبان ركيزة الحياة السياسية لبعض الوقت، وذلك يتوقف على أداء الحكومة ومدى التزامها بتنفيذ ما وعدت به، وللعلم فان تجربة الجمهورية التركية بدأت بنظام الحزبين، الذي يبدو اننا نتجه إليه.
* مشكلة أردوغان وحلها
* ألا ترى ان هناك أكثر من مشكلة في الادارة السياسية للبلاد، إحداها ان رئيس الوزراء ليس هو رئيس الوزراء الحقيقي، وان رئيس حزب العدالة يتحرك في الخارج باعتباره رئيسا للوزراء، بينما للداخل رئيس وزراء آخر، هل البرلمان هو الذي سيحل هذا الازدواج؟
ـ نحن بإزاء وضع استثنائي فرضته ظروف استثنائية، وهناك خيارات متعددة في ذلك، البرلمان شريك في بعضها (المتعلق باجراء تعديل في الدستور)، لكن هناك حلولا أخرى، وكلها تحت الدراسة (حل الاشكال بعد ذلك حين اسقطت عضوية أحد النواب الأمر الذي سيتيح للسيد اردوغان ترشيح نفسه مكانه، الأمر الذي سيمكنه من شغل المنصب بعد نجاحه).
* هل المهام التي يقوم بها اردوغان لها صفة قانونية أو دستورية؟
ـ الأصل ان رئيس حزب الاغلبية هو الذي يتولى رئاسة الوزارة، من ثم فان ما يمارسه من مهام خصوصا زياراته الخارجية مقبول من الناحية السياسية، أما الوضع القانوني فالبحث جار لعلاجه لتجاوز صعوبة الحظر القانوني الذي يمنعه من تولي منصبه.
* نشر ان حزب العدالة والتنمية يعتزم اجراء تعديل على 36 مادة في الدستور؟
ـ هذا صحيح، وكل التعديلات المراد اجراؤها متعلقة أساسا بموضوع الحريات العامة، ومن الضروري انجازها لمصلحة الديمقراطية في تركيا أولا، لتأهيلها للانضمام الى الاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
* مارأيك فيما يقال عن عسكرة الديمقراطية في تركيا؟
ـ لم أفهم السؤال.
* اقصد ان الديمقراطية التركية مقيدة برغبات العسكر، الناس تنتخب برلمانا وتأتي بحزب لكي يتولى الحكومة، ولكن العسكر يفرضون آراءهم على الجميع بعد ذلك؟
ـ (متنهدا) رأيي الرسمي ان مجلس الأمن القومي منصوص عليه في الدستور، ويفترض انه يمارس صلاحياته في الحدود المرسومة له دستوريا، وان كانت النصوص الدستورية من الاتساع بحيث تحتمل اجتهادات وتأويلات كثيرة، وفي الوضع الراهن فان المجلس يضم خمسة من العسكريين مقابل خمسة من المدنيين، ولكن تم الاتفاق على زيادة عدد المدنيين لتكون كفتهم أرجح عند التصويت.
* المسألة ليست بالعدد فقط، لان القوة التي يتمتع بها أي طرف يمكن ان ترجح كفته حتى وان قل عدد المنسوبين إليه؟
ـ لو كنت مكاني ماذا تفعل؟
* على الأقل أقول رأيي بصراحة.
ـ أتمنى أن أكون مكانك لكي أتكلم بحرية.
* 13عضوا مطلوبون للعدالة
* هل تعتقد ان دور العسكر في السياسة يساعدها على استيفاء الشكل الديمقراطي الذي يمكن تركيا من الانضمام الى الاتحاد الاوروبي؟
ـ رغم أهمية الانضمام الى الاتحاد الاوروبي إلا ان اقامة ديمقراطية حقيقية في البلاد هو مطلب شعبي نريد ان نفي باستحقاقاته التي وعدنا بها، وموقفي من دور العسكر له شقان، أولهما ان الجيش في تركيا وطني ويحظى باحترام كبير، والثاني ان هناك وضعا دستوريا قنن هذا الدور، الأمر الذي يفرض علينا احترامه، وكرجل قانون (محام منذ ثلاثين عاما) أجدني ملزما أكثر بالقبول بما يقرره الدستور، واذا لم أكن مقتنعا به فثمة أسلوب قانوني يمكن اتباعه لتصويب ما يحتاج الى تصويب، أو لتحقيق التطوير المنشود، وأحسب ان دور مجلس الأمن القومي من بين الأمور التي ينبغي ان تراجع في المستقبل، وليست هناك عجلة في ذلك، لان أمامنا مسؤوليات أخرى عاجلة.
* ما هي القضايا التي تعتقد انها تحتل أولوية البرلمان والحكومة؟
ـ قلت ان استعادة ثقة الشعب في السياسة وفي النظام واستعادته هويته مسألة بالغة الأهمية، ولدينا الآن المشكلة الاقتصادية وقضية الحريات العامة، ذلك في الداخل. على الصعيد الخارجي فان ملف الانضمام الى الاتحاد الاوروبي لا يزال مفتوحا، وفي كل ذلك فنحن نحتاج الى بعض الوقت لكي ننجز ما نتطلع إليه، ولا ننسى ان عمر البرلمان قصير، فهو انتخب يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني).
* كما ان البرلمان السابق كان يضم 75 عضوا مطلوبون للعدالة، وحالت الحصانة التي تمتعوا بها دون محاكمتهم، فهناك 13 عضوا في البرلمان الحالي؟
ـ هذه مجرد دعاوى مرفوعة، والبعض منها يدخل في إطار المكائد السياسية، ولكن اذا صدر بحق أي عضو حكم قضائي فان الأمر ينبغي ان يؤخذ على محمل الجد، وهناك اجراءات لائحية وقانونية تحدد كيفية التعامل مع هذه الحالة.
* أخيرا، هل تعتقد ان الحكومة الحالية يمكن ان تواجه مأزقا كذلك الذي أدى الى الاصطدام مع العسكر واستقالة الاستاذ نجم الدين اربكان؟
ـ لا وجه للمقارنة بين التجربتين، والتجربة الحالية مرشحة للاستقرار والاستمرار بأكثر من أي حكومة أخرى شهدتها تركيا منذ ربع قرن.
أصبح بولند ارينج واحدا من أشهر الشخصيات السياسية في تركيا بسبب حجاب زوجته، إذ رغم انه رئيس البرلمان، إلا ان وسائل الاعلام لم تسلط عليه أضواءها إلا عندما اصطحب زوجته المحجبة الى مطار أنقرة، لكي يودع رئيس الجمهورية وزوجته، في سفرهما الى براغ لحضور قمة حلف الاطلسي، وكان عليه أن يذهب، لأن الدستور ينص على أن رئيس البرلمان يتولى مهام رئيس الجمهورية في غيابه، إلا ان ظهور زوجته بالحجاب في مراسم وداع الرئيس سيزر صدم الأبواق العلمانية التي اعتبرت الأمر بمثابة اختراق غير مسبوق لقواعد البروتوكول التي تستبعد حجاب السيدات من أي محفل رسمي، فما بالك به اذا كان وداع رئيس الجمهورية. ومنذ تصدرت صور الوداع والحجاب الصفحات الأولى لصحف اليوم التالي، واللغط لم يتوقف حول مخاطر حدوث ذلك الاختراق، ومدى اتفاقه أو انتهاكه للتقاليد والأعراف الكمالية، وكيفية تجنب تكرار «الخطأ» مرة أخرى.
* رسالة عتاب من العسكر
* بسرعة صنف بولند ارينج في مربع الأصوليين والمتشددين، الذين يهدد وجودهم مبادئ العلمانية والديمقراطية التركية، وحتى يفوت رئيس الجمهورية عليه فرصة الظهور مع زوجته المحجبة مرة أخرى في وداع رسمي، فإنه تعمد في رحلة لاحقة له الى ألمانيا ألا يصطحب معه زوجته، حتى لا «يفعلها» رئيس البرلمان ويأتي بزوجته بدوره، وتتكرر الضجة التي أثارها أركان المؤسسة العلمانية.
يوم ذهبت للقاء بولند كان قد استقبل في الصباح رئيس أركان الجيش وقادة أسلحته المختلفة، الذين كانوا قد زاروا قبله رئيس الوزراء وأمضوا معه نصف ساعة، لكنهم حينما جاءوا الى مكتبه لم يمكثوا أكثر من ثلاث دقائق، ثم غادروا المكتب في هدوء، حتى قبل أن يلتقط المصورون الذين تزاحموا أمام المكتب صور اللقاء، وفسر اختصار الزيارة على ذلك النحو بأنه رسالة عتاب واحتجاج على ظهور زوجته بحجابها في وداع رئيس الجمهورية، حيث المعروف ان قادة العسكر الذين يعتبرون أنفسهم حراس العلمانية الكمالية، هم أشد الفئات خصومة لفكرة الحجاب، ولغيره من مظاهر الالتزام الديني في الأماكن العامة والرسمية، وقد شددوا على ذلك في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي بعد تشكيل الوزارة، وهو الذي عقد مساء ذات اليوم الذي تمت فيه زيارات المجاملة للقيادات السياسية الجديدة.
* سوء نية في مسألة الحجاب
* سألته عن ملابسات ما جرى في يوم وداع الرئيس سيزر، فابتسم قائلا: ان الأمر كان أبسط بكثير مما صورته وهولت فيه وسائل الاعلام، إذ لم يكن الأمر متعمدا بأي حال، فقد اتصلت بمدير البروتوكول في رئاسة الجمهورية وسألته عما اذا كان عليّ أن أصطحب معي زوجتي أثناء وداع الرئيس فرد بالإيجاب، ولأنني لا أشك في انه يعلم بأمر حجابها، فقد تصورت ان الأمر يمكن ان يؤخذ ببساطة ويمر في هدوء، وقد ازددت اطمئنانا حين التقيت الرئيس وقرينته وتصافحنا، ولم يظهر عليه أي ضيق أو تبرم، ولكن الاثارة الاعلامية والضجيج الذي حدث بعد نشر صور الوداع في الصحف حركا موجات التوتر والعصبية، وتحولت الحبة الى قبة للأسف الشديد.
* هل تعتقد ان في الأمر سوء نية من جانب أجهزة الاعلام؟
ـ لا أشك في ذلك بالنسبة لبعضهم، وليس سرا ان هناك متعصبين ومهيجين يتمنون الصيد في الماء العكر، وقد أزعجتهم كثيرا نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، ولذلك فانهم لن يكلوا من محاولات الاثارة والوقيعة وتأليب الرأي العام.
* لو نمى الى علمك ان اصطحاب الزوجة الى مراسم الوداع كان سيحدث الضجة التي وقعت، هل كنت تفكر في الذهاب منفردا؟
ـ كنت سأفكر في ذلك بشكل جاد، تجنبا للمشاكل، لان بلادنا لديها مشاكل حياتية ومصيرية أكبر بكثير من مسألة الحجاب، والذين يريدون اشغال الناس بهذه القضية يحاولون استدراجنا الى معارك جانبية وهامشية، وصرف انتباهنا عن مشكلات المجتمع ومعاناته الحقيقية.
* هل هي مصادفة ان الـ13 نائبة اللاتي يمثلن حزب العدالة ليس بينهن واحدة محجبة؟
ـ ليست مصادفة بطبيعة الحال، ولكن ذلك كان مقصودا لتفويت الفرصة على الذين يريدون أن يفرضوا قضية الحجاب على رأس «الأجندة»، خصوصا اننا لنا خبرة سابقة في الموضوع استوعبنا درسها (يقصد تجربة السيدة مروة قاوا تجي التي انتخبت عن حزب الرفاه عام 1999، ودخلت لكي تحلف اليمين وهي محجبة، ولكن ذلك أحدث ضجة كبيرة انتهت باسقاط العضوية والجنسية عنها، بحجة انها كانت تحمل الجنسية الاميركية دون اذن، وكان السيد بولند آنذاك رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الفضيلة الذي ورث حزب الرفاه.
* 70% يؤيدون رفع الحظر
* لقد وعد حزب العدالة والتنمية الناخبين بأنه سيعمل على رفع الحظر عن الحجاب في دوائر الحكومة والجامعات؟
ـ لست الآن في مقام الحديث باسم الحزب، لان رئيس البرلمان تنقطع علاقته بحزبه بعد انتخابه، لكن الذي فهمته من ذلك الوعد أمرين، أحدهما انه لا يحتل أولوية في برنامج الحزب، وانما تتقدمه أمور أخرى أكثر أهمية للمجتمع، والثاني ان تلك الخطوة تأتي ضمن تأكيد ضمانات الحريات العامة، والحرية الدينية بينها بطبيعة الحال.
* لم أفهم لماذا العسكر مشغولون بالحجاب بالدرجة الأولى؟
ـ 70 في المائة من الشعب التركي يؤيدون رفع الحظر عن الحجاب، طبقا لقياسات الرأي العام التي جرت، ومع ذلك هناك لائحة منعت الحجاب في الدوائر الرسمية، ثم جرى التوسع في الحظر حتى شمل الجامعات أيضا، والموضوع عرض على المحاكم التي قررت انه ليس في الدستور ما يمنع النساء من ارتداء الحجاب، وكل ما هو موجود في مسألة الزي يتعلق بالرجال وحدهم، علما بأن أم كمال اتاتورك زبيدة هانم وزوجته لطيفة هانم كانتا محجبتين.
* هل هناك احتجاج بقوانين الثورة وتقاليد العلمانية؟
ـ ليس في قوانين الثورة شيء يخص حجاب المرأة، أما تقاليد العلمانية فالذي أفهمه ان النظام العلماني كما هو واضح في الدستور التركي يكفل حرية العقيدة والعبادة، ولكن البعض يؤمنون بعلمانية لا دينية تناصب مظاهر التدين العداء، وهؤلاء يريدون أن يفرضوا آراءهم على تركيا التي تصل نسبة المسلمين فيها الى 98 في المائة وهذا غير مقبول بمعايير العقل والمنطق والديمقراطية وحقوق الانسان.
* بماذا تفسر اتهامك بالأصولية والتشدد؟
ـ (ضاحكا) هذه مسألة محيرة، لم استطع ان افهمها الى الآن، لكن كل ما اعرفه انني رجل ملتزم بديني وغير مستعد للتفريط فيه أو المساومة عليه، شأني في ذلك شأن ملايين الاتراك الذين لا يريد البعض ان يسمع صوتهم أو يحترم قيمهم، في الوقت ذاته فانني اؤمن بأن الاسلام مكون أساسي لثقافة هذا المجتمع لا يمكن تجاهل أهميته.
* المعارضة لن تنتقل للشارع
* هل تعتقد ان في تركيا أزمة هوية؟
ـ لدينا مشكلتان جوهريتان: الهوية والثقة، ذلك ان هناك محاولات مستمرة لمسخ هوية الشعب التركي، وهذه مسألة خطرة للغاية، كما ان خبرات المجتمع مع الطبقة السياسية افقدت ثقة الناس في تلك الطبقة، وبالتالي اتسعت الهوة بين السلطة والمجتمع، واذا نجحنا في المرحلة الراهنة في ان نعالج هاتين الثغرتين، فاننا سنقدم خدمة تاريخية جليلة لبلدنا وللمستقبل.
* في ظل الاغلبية التي يتمتع بها حزب العدالة في البرلمان، فان المعارضة لن تكون فعالة، ولن تستطيع ان توقف شيئا لحكومة الحزب، هل تتوقع ان تنشط المعارضة خارج البرلمان، في الشارع أو عبر وسائل الاعلام مثلا؟
ـ لا أظن ذلك ولا أتمناه، وحوارات البرلمان لا تتم داخل صندوق مغلق، وإنما تعرض تفاصيلها يوميا على الرأي العام الذي يفترض انه لن يكون معزولا عن القضايا والملفات التي تناقش، والنواب في البرلمان يفترض انهم يمثلون الشارع ويعبرون عن صوته، ذلك انهم نواب عن الشعب أساسا وليسوا نوابا عن الحزب فحسب.
* في ظل وجود أغلبية للحزب في البرلمان، فان الرقابة على الحكومة ـ التي هي حكومة الحزب ـ قد تصبح عديمة الجدوى، لانها ضامنة للأغلبية في كل الأحوال؟
ـ لا نريد أن نلغي دور المعارضة داخل البرلمان، ولا دور الرأي العام الذي يتابع ما يجري، وقد صوت الناس للحزب وأتوا بهذه الحكومة أملا في اصلاح ما فسد في البلاد، واذا لم تكن عند حسن ظنهم فانهم سوف ينصرفون عنها ويعاقبونها في الانتخابات القادمة، ونحن بحاجة الى حكومة قوية لكي تنهض بمسؤولياتها وتفي بما وعدت، وأحسب ان الحكومة الراهنة مؤهلة لذلك، على عكس الحكومات الائتلافية السابقة التي كانت مرشحة للسقوط في أي وقت.
* في ظل نتائج الانتخابات الأخيرة، التي اخرجت كل الاحزاب من البرلمان باستثناء حزبين فقط، هل تتوقع ان تعاد صياغة الحياة الحزبية في تركيا، بحيث تقتصر على حزبين كبيرين، أحدهما يمثل اليمين والآخر يمثل اليسار؟
ـ المصطلحات تحتاج الى ضبط ومراجعة، واليسار بصيغته التقليدية هزم من الناحيتين التاريخية والسياسية، ولا ننسى ان النتائج احدثت تحولا كبيرا في الخارطة السياسية التركية، ففي بلدنا 50 حزبا، اشترك في الانتخابات منها 18 حزبا فقط، ونجح حزبان وعجزت الأخرى عن استيفاء النصاب والدخول الى البرلمان، ولا استبعد ان يصبح الحزبان ركيزة الحياة السياسية لبعض الوقت، وذلك يتوقف على أداء الحكومة ومدى التزامها بتنفيذ ما وعدت به، وللعلم فان تجربة الجمهورية التركية بدأت بنظام الحزبين، الذي يبدو اننا نتجه إليه.
* مشكلة أردوغان وحلها
* ألا ترى ان هناك أكثر من مشكلة في الادارة السياسية للبلاد، إحداها ان رئيس الوزراء ليس هو رئيس الوزراء الحقيقي، وان رئيس حزب العدالة يتحرك في الخارج باعتباره رئيسا للوزراء، بينما للداخل رئيس وزراء آخر، هل البرلمان هو الذي سيحل هذا الازدواج؟
ـ نحن بإزاء وضع استثنائي فرضته ظروف استثنائية، وهناك خيارات متعددة في ذلك، البرلمان شريك في بعضها (المتعلق باجراء تعديل في الدستور)، لكن هناك حلولا أخرى، وكلها تحت الدراسة (حل الاشكال بعد ذلك حين اسقطت عضوية أحد النواب الأمر الذي سيتيح للسيد اردوغان ترشيح نفسه مكانه، الأمر الذي سيمكنه من شغل المنصب بعد نجاحه).
* هل المهام التي يقوم بها اردوغان لها صفة قانونية أو دستورية؟
ـ الأصل ان رئيس حزب الاغلبية هو الذي يتولى رئاسة الوزارة، من ثم فان ما يمارسه من مهام خصوصا زياراته الخارجية مقبول من الناحية السياسية، أما الوضع القانوني فالبحث جار لعلاجه لتجاوز صعوبة الحظر القانوني الذي يمنعه من تولي منصبه.
* نشر ان حزب العدالة والتنمية يعتزم اجراء تعديل على 36 مادة في الدستور؟
ـ هذا صحيح، وكل التعديلات المراد اجراؤها متعلقة أساسا بموضوع الحريات العامة، ومن الضروري انجازها لمصلحة الديمقراطية في تركيا أولا، لتأهيلها للانضمام الى الاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
* مارأيك فيما يقال عن عسكرة الديمقراطية في تركيا؟
ـ لم أفهم السؤال.
* اقصد ان الديمقراطية التركية مقيدة برغبات العسكر، الناس تنتخب برلمانا وتأتي بحزب لكي يتولى الحكومة، ولكن العسكر يفرضون آراءهم على الجميع بعد ذلك؟
ـ (متنهدا) رأيي الرسمي ان مجلس الأمن القومي منصوص عليه في الدستور، ويفترض انه يمارس صلاحياته في الحدود المرسومة له دستوريا، وان كانت النصوص الدستورية من الاتساع بحيث تحتمل اجتهادات وتأويلات كثيرة، وفي الوضع الراهن فان المجلس يضم خمسة من العسكريين مقابل خمسة من المدنيين، ولكن تم الاتفاق على زيادة عدد المدنيين لتكون كفتهم أرجح عند التصويت.
* المسألة ليست بالعدد فقط، لان القوة التي يتمتع بها أي طرف يمكن ان ترجح كفته حتى وان قل عدد المنسوبين إليه؟
ـ لو كنت مكاني ماذا تفعل؟
* على الأقل أقول رأيي بصراحة.
ـ أتمنى أن أكون مكانك لكي أتكلم بحرية.
* 13عضوا مطلوبون للعدالة
* هل تعتقد ان دور العسكر في السياسة يساعدها على استيفاء الشكل الديمقراطي الذي يمكن تركيا من الانضمام الى الاتحاد الاوروبي؟
ـ رغم أهمية الانضمام الى الاتحاد الاوروبي إلا ان اقامة ديمقراطية حقيقية في البلاد هو مطلب شعبي نريد ان نفي باستحقاقاته التي وعدنا بها، وموقفي من دور العسكر له شقان، أولهما ان الجيش في تركيا وطني ويحظى باحترام كبير، والثاني ان هناك وضعا دستوريا قنن هذا الدور، الأمر الذي يفرض علينا احترامه، وكرجل قانون (محام منذ ثلاثين عاما) أجدني ملزما أكثر بالقبول بما يقرره الدستور، واذا لم أكن مقتنعا به فثمة أسلوب قانوني يمكن اتباعه لتصويب ما يحتاج الى تصويب، أو لتحقيق التطوير المنشود، وأحسب ان دور مجلس الأمن القومي من بين الأمور التي ينبغي ان تراجع في المستقبل، وليست هناك عجلة في ذلك، لان أمامنا مسؤوليات أخرى عاجلة.
* ما هي القضايا التي تعتقد انها تحتل أولوية البرلمان والحكومة؟
ـ قلت ان استعادة ثقة الشعب في السياسة وفي النظام واستعادته هويته مسألة بالغة الأهمية، ولدينا الآن المشكلة الاقتصادية وقضية الحريات العامة، ذلك في الداخل. على الصعيد الخارجي فان ملف الانضمام الى الاتحاد الاوروبي لا يزال مفتوحا، وفي كل ذلك فنحن نحتاج الى بعض الوقت لكي ننجز ما نتطلع إليه، ولا ننسى ان عمر البرلمان قصير، فهو انتخب يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني).
* كما ان البرلمان السابق كان يضم 75 عضوا مطلوبون للعدالة، وحالت الحصانة التي تمتعوا بها دون محاكمتهم، فهناك 13 عضوا في البرلمان الحالي؟
ـ هذه مجرد دعاوى مرفوعة، والبعض منها يدخل في إطار المكائد السياسية، ولكن اذا صدر بحق أي عضو حكم قضائي فان الأمر ينبغي ان يؤخذ على محمل الجد، وهناك اجراءات لائحية وقانونية تحدد كيفية التعامل مع هذه الحالة.
* أخيرا، هل تعتقد ان الحكومة الحالية يمكن ان تواجه مأزقا كذلك الذي أدى الى الاصطدام مع العسكر واستقالة الاستاذ نجم الدين اربكان؟
ـ لا وجه للمقارنة بين التجربتين، والتجربة الحالية مرشحة للاستقرار والاستمرار بأكثر من أي حكومة أخرى شهدتها تركيا منذ ربع قرن.