د. عبد الحميد الحسامي
لا تغفل الخطابات النسوية في التراث العربي البعدَ التربويَّ وإسهام المرأة في هذا المضمار ومن الخطابات المجسدة لهذا البعد ’’ وصية بعض نساء الأعراب لابنها وقد أراد سفراً ( ) قال أبان بن تغلب وكان عابداً من عباد البصرة : شهدت أعرابية توصي ولداً لها يريد سفراً وهي تقول فإذا هي تقول: أي بُنيَّ اجلس أمنحك وصيتي وبالله توفيقك فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك. قال أبان فوقفت مستمعاً لكلامها مستحسناً لوصيتها ،وهي تقول :أي بني إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين، وإياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام وقلما اعتورت السهام غرضًا إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته وإياك والجود بدينك والبخل بمالك ، وإذا هززت فاهزز كريمًا يلن لهزتك ، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها .. ومثل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه ، فإن المرء لا يرى عيب نفسه ، ومن كانت مودته بِشْرَهُ وخالف ذلك منه فعله كان صديقه منه على مثل الريح في تصرفها .
ثم أمسكت . فدنوتُ منها ، فقلت : بالله يا أعرابية ألا زدته في الوصية ، فقالت: أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقي ؟ قال : نعم ، قالت : والغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ريطتها وسربا لها .’’
وتعد هذه الوصية بمثابة دستور تربوي أخلاقي ينبئ عن عمق ثقافة هذه المرأة ، واستيعابها لمهمتها التربوية فهي، تمنح فلذة كبدها خلاصة تجربة، تعينه على أمر سفره، وتحفظ لـه توازن شخصية وتكاملها بأسلوب بياني مؤثرٍ رفيع ، ونلحظ أن المرأة تركز على منظومة من الأخلاق تمثل في مجملها أخلاق الاجتماع الإنساني بشقيها : أخلاق التحلية ، وأخلاق التخلية ( فالنميمة والتعرض لعيوب الناس و البخل بالمال و الجود بالدين وسؤال الآخرين) هي أخلاق ينبغي له التخلي عنها ، و(الحلم والسخاء و مطابقة الفعل للقول) ... هي أخلاق كريمة تزين شخصيته وينبغي لـه التحلي بها ... ونلحظ أن المرأة لا تلقي وصاياها دون اكتراث إنما تهيئ المناخ النفسي، وتختار الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه وهي تمنحه وصيتها، فالوصية منحة ’’والنصح أغلى ما يباع ويوهب ’’:أي بني أجلس أمنحك وصيتي وبالله توفيقك’’ فالنصيحة والتوفيق ركيزتا الفلاح، ثم تبين أهمية الوصية وخطرها ومكانتها في العملية التربوية؛ لأنها تمثل خلاصة تجربة حياتية مديدة ومعاشرة للحياة ’’ فإن الوصية أجدى عليك من بعض عقلك ’’ ولم تستفتح وصاياها إلا بعد أن نادته بصيغة ’’ أي بني ’’ التي توحي بالقرب ، وتشعر بالعطف، وتحمل ابنها على حسن التلقي والإصغاء . وكل هذه أساليب تربوية تسهم في تحقيق عملية التأثير في سلوك المتلقي وتنم عن تسنم هذه المرأة لمرتبة عليا من حسن التقدير والتوجيه والتربية .. مما جعل ’’ أبان’’ يلقي السمع وهو شهيد، يحثها على الاستمرار، ويستزيدها من الوصية ’’ ألا زدت في الوصية ؟ ’’ .