هويدي 21-3-2001
قصة ما جرى في قندهار (2 ـ 3)
* نعم.. أفغانستان هي أهم مصدر لزراعة الأفيون وتهريبه إلى العالم وهي مشكلة لم يحاول أحد مساعدتنا لحلها
* ليتكم تحدثون أمير المؤمنين عن أهمية التواصل مع الإعلام الدولي حتى لا تفترس أفغانستان
* لم نتوقع أن يكون صدى هدم التماثيل بهذا العنف ولم نناقش مسألة الأقليات الإسلامية في الأقطار الأخرى
* 1200 فتاة يدرسن الطب وفتح المساجد لتعليم البنات
* التلفزيون ليس قضية ملحة لان %95 من افغانستان بلا كهرباء
* 40 ألف أثر في افغانستان و«الاصنام» المهدمة لا تتجاوز %1
* تفاصيل الرسالة التي طلبوا منا نقلها الى أمير المؤمنين لا تتكرر فرصة من ذلك القبيل، ان تسهر الى منتصف الليل مع مجموعة من عناصر جماعة طالبان، وتطرح عليهم ما يعني لك من اسئلة وملاحظات، ثم تفاجأ بأنهم «أخذوا راحتهم» في الاجابة، الى الحد الذي يجعلهم يوجهون نقداًَ لبعض أوضاعهم، ويروون لك آخر نكتة على علمائهم!، لكن هذا ما حدث معنا في مساء اليوم الأول لوصولنا الى قندهار.
لم يتم اللقاء المفترض مع العلماء الافغان في قاعة مطار قندهار، لسبب جوهري هو انهم كانوا قادمين من كابول، والمسافة بين المدينتين تتراوح بين 450 و550 كيلو متراً، وفي الظروف العادية فان هذه المسألة يفترض ان يقطعها المسافر في حوالي اربع أو خمس ساعات، وقد قيل لنا ان الامطار التي هطلت عطلت وصول المجموعة في الوقت المناسب، لكني حين علمت انهم قادمون بالسيارات ادركت ان وصولهم على ا لغداء من رابع المستحيلات، حتى اذا كانوا قد خرجوا من هناك بعد صلاة الفجر، فقد كانت لي تجربة على هذا الطريق منذ سنتين، حين كنت في كابول وأردت الذهاب الى قندهار، فقيل لي ان الرحلة لا يمكن ان تقطع بالسيارة دفعة واحدة، وانما لا مفر من التوقف لالتقاط الأنفاس في منتصف الطريق، حيث مدينة «جلال اباد» ولأول وهلة دهشت للفكرة واستخففت بها، حيث لم اتصور ان المرء بحاجة لأن يستريح في منتصف رحلة من ذلك القبيل، لكني حين خبرت الطريق، وعانيت من الكم المهول من الحفر التي تعترض السير فيه، منذ كان المتقاتلون يتعمدون تخريب الطرق لمنع تقدم خصومهم عليها، وحين وصلت بعد مضي 14 ساعة الى منتصفه لكي «استريح» في جلال اباد، كنت عاجزاً عن أن أصلب عودي، ومصاباً بكدمات في الرأس من جراء ارتطامها بسقف السيارة بين الحين والآخر، حين ألم بي كل ذلك ادركت ان المسافر لا بد له ليس ان يتوقف في جلال اباد فحسب، وانما ينبغي ان ينصح أيضاً بالالتحاق بمصحة هناك لإزالة آثار العدوان المستمر على عموده الفقري وعضلات جسمه، واذا ما انضافت الامطار الى الحفر العديدة والعميقة فان الرحلة المعذبة تتحول الى مغامرة كبرى، ولان العلماء القادمين من كابول قدموا في تلك الاجواء، فقد كان يستحيل عليهم الوصول الى قندهار عند الظهر أو العصر، أو حتى العشاء، وهذا ما حدث.
حكاية العمامة السوداء تناولنا الغداء في قاعة المطار الذي كان عماده الأرز والدجاج، ولاحظت ان الاطباق والأكواب كانت لاتزال تحتفظ بالملصقات التي تشير الى اسم الشركة والدولة المنتجة، مما يعني انها اشتريت قبل الوصول مباشرة لانقاذ الموقف، ولانهم كانوا يرتدون أزياء متشابهة، القمصان الطويلة والسراويل الفضفاضة، فقد كان متعذراً التمييز بين المستقبلين وعمال الخدمة، الذين كانوا يحملون إلينا الطعام من وراء ساتر من القماش، فقط كانت عمامة الرأس هي التي تميز عناصر طالبان، بلونها الاسود الذي غدا شعاراً لهم، بينما المعروف ان العمامة البيضاء لا يرتديها سوى الذين بلغوا مرتبة معينة في التعليم الديني، فأكملوا ما يسمى بـ«المنهج المولوي» الذي يشتمل على مواد عديدة، في مقدمتها كتب الصحاح الستة للأحاديث النبوية (صحيح مسلم والبخاري والترمذي.. إلخ) حتى يمكننا القول إن عناصر «طالبان» الذين هم أصلا طلبة علم (الألف والنون مستخدمة للجمع هنا طبقاً لقواعد اللغة الفارسية، وعندنا في العربية ما زلنا نستخدم «كبير الياوران» وفي التاريخ العثماني المعاصر عرف مجلس «المبعوثات»)، هؤلاء حين تركوا التحصيل وتحولوا الى مجاهدين وحراس لنظامهم الاسلامي، اتخذوا العمامة السوداء شعاراً لهم، بينما تركوا العمامة البيضاء لغيرهم ممن واصلوا وأكملوا تعليمهم، ومعروف ان العمامة السوداء في ايران مقصورة على دارسي العلوم الشرعية من «السادة» الذين هم من سلالة الرسول، بينما البيضاء لمن عداهم من أهل العلم.
بعد الغداء تطلع مضيفونا الى ساعاتهم، وفي صوت واحد قال الملا عبد الجليل ومفتي محمد معصوم الذي قدموه لنا باعتباره رئيس علماء قندهار ان القادمين من كابول سيتأخرون في الغالب وان الامطار حالت دون وصولهم في الوقت المناسب، واقترحا كسباً للوقت ان نستريح في بيت الضيافة حتى تظهر بشائرهم في المساء.
الهاربون من جحيم الجفاف الطريق من المطار الى بيت الضيافة (15كم) كان بمثابة لوحة مستطيلة صورت افغانستان الراهنة، ميزته الوحيدة انه آمن، وتستطيع ان تقطعه دون ان تمر على حواجز أو تكون مضطراً لدفع اتاوات للجباة الواقفين عند كل حاجز، كما كان يحدث في السابق، ولعل هذا هو أهم انجاز حققته «طالبان» منذ توليها للسلطة في عام 96، والى الآن، في غير ذلك فلا تكاد تجد ميزة للطريق، وانما كل ما تراه يصب في خانة الخصم وليس الاضافة، فالشحوب في خلفية الصورة طول الوقت، الارض جرداء والاشجار جف عودها حتى تكاد تسمعها وهي تلفظ انفاسها الأخيرة، والهزال سمت للحيوانات التي تتسكع على جانبي الطريق، وبقايا مياه راكدة متجمعة هنا وهناك من اثر امطار قليلة سقطت قبل أيام، لا روت عطشاً ولا سقت زرعاً، وسيارات معطوبة هنا وهناك، ومبان مدمرة على مرمى البصر حولها قصف «الاخوة الاعداء» الى خرائب لا تسكنها سوى الحيوانات الضالة.
أثار انتباهي كم خيام الشعر المنصوبة على جانبي الطريق، ولما سألت عنها قيل لي ان الجفاف حين طرد الناس من قراهم فان عشرات الألوف منهم نزحوا الى مشارف المدن، يلتمسون عندها أسباب الحياة، وأضاف محدثي بصوت مسكون بالأسى، انه كما ان هناك لاجئين ونازحين في فلسطين، كذلك الافغان، اربعة ملايين منهم لجأوا الى الدول المجاورة (باكستان وايران بالدرجة الأولى) ونصفهم على الأقل نزحوا من قراهم التي خربها الجفاف الى مشارف المدن.
«بيوت الشعر» ليست وصفاً دقيقاً لتلك الخيام التي تعددت اشكالها متراوحة بين الاستطالة والاستدارة، لان الواقع دون ذلك بكثير، إذ هي في الحقيقة مجرد «ملاذات» شبيهة بالخيام استخدمت لستر الناس فيها كل الخامات المتاحة، من القماش المرقع الى أكياس البلاستيك الى ضلف الخشب وجذوع الاشجار، والمحظوظ من وجد جداراً من الطوب فأكمل بقية الاضلاع بما تيسر من خامات، وضمن له ذلك نجاة نسبية من لسعة البرد وكارثة المطر.
الاربعمائة طفل الذين كانوا يموتون يومياً في «هراة» خلال شهر فبراير (شباط) الماضي من سكان تلك الخيام، الذين لم يحتملوا قسوة البرد بعدما اجتاحت العواصف الثلجية ملاذاتهم الهشة والمتهالكة، ومن كتبت لهم الحياة لم يسلموا من الأمراض، التي لا يجدون لها علاجاً سوى التعاويذ والرقي، حتى غدا النازحون بين فريق قضى نحبه وآخر ينتظر! لك ان تتصور حال البشر ومنظرهم في هذه الظروف، بعد ان هدهم البرد وأعجزهم، ثم اقعدتهم البطالة وقلة الحيلة، فجلسوا على جانبي الطريق متكومين ومتلفعين بقماشات رثة غطت الرأس والجسم، لم تظهر منها سوى وجوه يائسة مغبرة وأعين زائغة تتابع المارة وتتطلع الى المجهول.
لا تعدم حافلات صغيرة مارة تكدس فيها البشر، أو بائع للخضراوات تخير تبة عالية نصب عليها بضاعته منتهزاً فرصة توقف الامطار، لكن مشهد باعة الاخشاب المرصوصة في أكوام عالية سيتكرر بصورة ملحوظة على طول الطريق، ولا غرابة في ذلك، فهذه الاخشاب هي مصدر التدفئة الوحيد المتاح للناس للتغلب على برد الشتاء.
لا يريدون انهاء القتال انعطفت بنا السيارات في طريق مهجور، كان مدخلا الى مقر الضيافة، الذي هيئ لنا بسرعة في ما بدا، من خبرة سابقة لم أكن متفائلا كثيراً بالمكان، لذلك فما توقعته وجدته، فقد كان عبارة عن بنايتين متواضعتين من طابق واحد، كل بناية بها ثلاث غرف للنوم ومكان للطعام وآخر للجلوس، كان نصيبي سرير من ذلك النوع الذي تنام عليه بعض الوقت، ثم تنهض لكي تستريح بقية الوقت ومع ذلك فربما كنت أفضل حالا من أصحابنا الشباب الذين ناموا على الأرض، ورغم ان دورة المياة كانت بغير اضاءة، إلا ان المياه الساخنة توفرت فيها (وهذا ترف عظيم)، أما بقية الحجرات فقد كانت الاضاءة فيها جيدة، الطعام كان مقبولا، وقد بذل مضيفونا جهداً واضحاً في اكرام الوفد، وتوفير أسباب الراحة لهم، في حدود ما هو متاح من امكانيات واستعدادات، وقد كان واضحاً ان الاطباق والأكواب والسكاكين والملاعق والشوك، كلها، كما حدث في خدمة المطار، اشتريت حديثاً، وعرفت طريقها الى الموائد لأول مرة في حضورنا.
خلد بعضنا الى الراحة، وقيل لنا ان وفد العلماء القادم من كابول سينضم إلينا في حدود صلاة المغرب، صلينا المغرب وانتظرنا، وبعد الاتصالات اللاسلكية التي أجراها مضيفونا تبين ان الوفد لم يصل الى قندهار، وانه لايزال يغالب الطريق ويحاول الوصول في وقت مناسب.
انضم إلينا في جلسة الانتظار المسائية ثلاثة من عناصر طالبان هم: الملا عبد الجليل نائب وزير الخارجية، وعبد الحي مطمئن المتحدث الرسمي باسم أمير المؤمنين ومسؤول الاعلام في قندهار، وعبد المتين أحد مستشاري قيادة الحركة ومفتي معصوم، من علماء قندهار، واذا اردنا ان نستفيد من وجودهم معنا ومن الوقت، فإننا حولنا جلسة الانتظار الى حلقة مناقشة للأوضاع العامة في افغانستان، مكنت كل واحد من الجالسين من ان يلقي بما عنده من اسئلة، وقد سهل علينا الحوار كثيراً ان احدهم ـ عبدالمتين ـ كان متمكناً من اللغة العربية بدرجة غير عادية، الأمر الذي أتاح لنا ان نسمع منه الكثير، وان نتابع ـ عبر ترجمته المسهبة- ردود الآخرين، الذين كانوا يفهمون العربية ولا يجيدون النطق بها.
كان مدخلنا الى المناقشة حديث عن الحصار الدولي المفروض على افغانستان، في هذه النقطة قالوا ان الهدف من الحصار واضح للكافة، وهو يتمثل في انهاك النظام «الاسلامي» الحاكم واضعافه، تمهيداً لاسقاطه، إذ من جراء ذلك الحصار فإن افغانستان تعاني الآن من نقص كبير في الوقود والمواد التموينية، اضافة الى انها معزولة عن العالم ومقطوعة الصلة به.
قال أحدنا: ألا يتعين على طالبان في مواجهة هذا الظرف ان تعمل على توحيد الجبهة الداخلية، والتفاهم مع المعارضة، لانهاء الحرب المعلقة، التي ما زالت مستمرة حتى الآن بين قوات احمد شاه مسعود وبين نظام طالبان.
قالوا: هذه المعارضة ليس لها موطئ قدم يذكر في افغانستان حيث لا يتجاوز ما تسيطر عليه 10في المائة من الأرض، والدول المجاورة حريصة على تقوية مسعود وتمكينه من تلك المساحة، ومعلوماتنا ان ذلك يكلفه خمسة ملايين دولار شهرياً، ولولا دعمها له لانتهى أمر التمرد هناك منذ زمان، والدول المؤيدة والداعمة لمسعود من مصلحتها ألا يتم أي اتفاق، لانها تريد انهاك النظام الاسلامي لاصلاح الوضع الداخلي، هم يريدون ان تنفق طالبان ما لديها من أموال على الحرب، ليس فقط لاشغالها ولكن أيضاً لاستنفاد مواردها، واضطرارها للاقتراض من الخارج، وافغانستان هي الدولة الوحيدة في العالم الآن التي ليست مدينة لأحد، واذا بدأنا في الاستدانة كما يرغبون، فسوف ينتهزون الفرصة لفرض شرطهم علينا.
* هل حقق التفاهم مع المعارضة أي تقدم؟
ـ محاولات التفاهم مستمرة شهرياً تقريباً، والمشكلة الحقيقية ليست مع رباني أو حكمتيار، فالتفاهم معهما ممكن، لكن المشكلة في احمد شاه مسعود، ومساعديه عبد الرحمن وعبد الله، ومن لف لفهما من القيادات الشيوعية التي تجمعت حول الرجل، واعلنوها حرباً استئصالية ضد طالبان وضد الاسلام في افغانستان، انهم الآن يتحدثون عن الديمقراطية وضرورة محاربة النظام الاصولي المهيمن على البلاد، والديمقراطية مرفوضة عندنا جملة وتفصيلا.
الديمقراطية فسق وفجور
* لماذا ترفضون الديمقراطية؟
ـ أولا هذه بضاعة غربية وثانياً انهم يريدون ان يفرضوا بها الشيوعيين وغيرهم من الملحدين والكفرة، وثالثاً لانها مدخل للفساد والتحلل وتهديم قيم الاسلام، وأنتم أدرى بما جرته على الغرب من فسق وفجور، ورابعاً لانها بذلك تصبح مصدراً لفتنة المسلمين في بلادنا وتهديد معتقداتهم وما قامت حركة طالبان إلا لدرء الفتنة التي عصفت بافغانستان.
ليس كل ما هو غربي شراً بالضرورة، فالساعات التي ترتدونها غربية الصنع، والكهرباء التي نستضيء بها اخترعها رجل غربي، وكذلك السيارات التي نركبها، ثم اننا ندافع عن ديمقراطية في اطار قيم الاسلام ومقاصده، فلا تحل حراماً ولا تحرم حلالا، ومن ثم فهي لا تقبل كل ما يقال عن تحلل أو فسق وفجور، هي اسلوب أو آلية في ادارة النظام السياسي، ولكل مجتمع ان يوظفها لتحقيق الاهداف التي يتطلع إليها، وينبغي ان نشهد بانها في أغلب المجتمعات الغربية كفلت للناس حق الاختيار والمشاركة وحق مساءلة الحكام، ومن هذه الزاوية فانها حققت نجاحاً كبيراً، واصبحت نموذجاً جديراً بالاحتذاء.
* اذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يكون الحديث عن الشورى وليس الديمقراطية؟
ـ المهم هو الاتفاق على القيم قبل التسميات، واذا كانت الأغلبية تستخدم كلمة الديمقراطية فلأنها صارت مصطلحاً دارجاً في الخطاب السياسي، ثم انه أصبح محملا بقيم إيجابية كثيرة من قبيل ما سبقت الاشارة إليه، فضلا عن انها تعد إحدى مراتب الشورى، ذلك اننا نفهم الشورى بحسبانها اشتراكاً لمجتمع المسلمين في تقرير كل ما يهم أمرهم (ضرب الدكتور الخياط لذلك مثلا بما يحدث في سويسرا حيث يستشار الناس في كل شأن عام يخصهم من خلال استفتاءات تجرى عدة مرات كل عام)، ولهذا فهي تعني ان يكون للناس «قول» في أحوالهم ومصائرهم، بينما الديمقراطية تعني ان يكون لهم «رأي» في اختيار من ينوب عنهم، كل عدة سنوات، وهذا الأخير يفترض فيه ان يمثل مجتمعه الصغير في مجلس يجمع ممثلي الأمة، واذا كان الهدف هو ان يكون للمجتمع قول على النحو الذي بيناه، فينبغي أن يكون لهم قبل ذلك رأي، ولذلك فاننا نعتبر الديمقراطية هدفاً مرحلياً بينما الشورى هدف نهائي.
تعليم البنات في المساجد
* ما تفسير قرار حرمان الفتيات من التعليم والنساء من العمل؟
ـ بالنسبة للعمل، فلا مفر من الاعتراف بأن العمل للرجال غير متاح، فما بالكم اذا اضفنا إليهم النساء، ثم ان نظامنا وعلماءنا ضد اختلاط الجنسين، ولا نستطيع ان نخصص للنساء أماكن يعملن فيها، ومسألة الاختلاط هي المشكلة التي أعاقت تعليم البنات في بلادنا، فنحن لسنا ضد تعليمهن، ولكن مواردنا عاجزة عن توفير مدارس خاصة بهن، ولا أحد يريد ان يعيننا على ذلك، وقد ناقش السفير البريطاني في اسلام اباد هذا الموضوع مع سفيرنا لدى باكستان، فقال له اخونا عبد السلام ضعيف ان دراسة الملف بينت اننا بحاجة الى 200 مليون دولار لانشاء مدارس خاصة للبنات، وان حكومة طالبان بمقدورها أن توفر مائة مليون دولار، ثم سأله عما اذا كان بمقدور بريطانيا أو المجموعة الأوروبية ان تدبر المبلغ المتبقي، فاستمع الرجل وذهب ولم يعد، وحين ناقشنا الموضوع مع غربيين آخرين، فان بعضهم اعترض على الزامنا البنات بارتداء الحجاب في المدارس، وحجم عن مساعدتنا بسبب ذلك، فقلنا لهم لماذا تؤيدون اذن الدول والهيئات التي تلزم الفتيات بخلع الحجاب، كما هو الحاصل في تركيا وفرنسا.
أضافوا: مع ذلك فمحاولاتنا مستمرة. وقبل حين اصدر أمير المؤمنين مرسوماً يقضي بتعليم البنات اللاتي في سن المرحلة الابتدائية بالمساجد، وجاري الآن تنفيذ هذه الخطوة، في الوقت ذاته فقد فتحنا معاهد للتمريض وساعدتنا منظمة الصحة العالمية على توفير دروس للطب للفتيات، ولدينا الآن 1200 فتاة يدرسن الطب، وفي قندهار وحدها 450 فتاة يواصلن تلك الدراسة.
* ماذا عن بقية الفروع وما وضع الجامعة الآن؟
ـ بسبب الامكانيات والأولويات، فالطب والتمريض يشكلان اولوية قصوى بدأنا بها، والجامعة متوقفة عن العمل، لان ليس لدينا موارد تكفي رواتب الاساتذة.
* لماذا يحرم التلفزيون رغم الفوائد الجليلة التي يمكن جنيها من وراء توظيفه في الاتجاه الصحيح؟
ـ القضية ليست مثارة عندنا الآن لسبب جوهري، هو ان 95 في المائة من بلادنا بلا كهرباء، مما يعد انه لو كان هناك ارسال تلفزيوني فلن يستقبله سوى 5 في المائة فقط من السكان، ومع ذلك فكل متطلبات وتجهيزات الارسال التلفزيوني محفوظة ومصانة كما هي، ولم يلحقها التخريب أو التدمير كما يشاع، غير ان هناك بعداً آخر لا يمكن تجاهله وهو ان علماءنا لا يجيزون التصوير، ويحتاج الأمر الى وقت لاقناعهم بجدواه وحدود الحلال فيه.
[ملحوظة: يبدو ان الموضوع لا يزال مطروحاً للمناقشة في بعض دوائرنا العربية، ومن المصادفات اننا بينما كنا نناقش المسألة في قندهار كان أحد العلماء السعوديين ـ الدكتور عبد الله الجبرين ـ يلقي محاضرة في الرياض عنوانها «التفعيل في حكم التصوير»، ومعروف ان احد كبار علماء الأزهر ـ الشيخ محمد بخيت المطيعي ـ حسم الأمر في رسالة أعدها قبل ستين عاماً كان عنوانها «الوافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي»].
* هل يعقل ان تكون امارة افغانستان الاسلامية هي أهم مصدر لزراعة وتهريب الأفيون في العالم؟
ـ هذه مشكلة حاولنا أن نحلها مرارا ولم يساعدنا أحد في ذلك، وطالما خاطبنا المنظمات الدولية في هذا الصدد وطلبنا منهم ان يساعدونا على توفير محاصيل بديلة تشجع الفقراء على التخلي عن زراعة المخدرات، لكن احداً لم يساعدنا، وقبل ثلاثة أشهر -في موسم بدء زراعة الافيون ـ أصدر أمير المؤمنين مرسوماً بمنع زراعة أي شجرة مهما كان الثمن، ورغم ان وقع القرار كان شديداً وصعباً على كثيرين، إلا أن الجميع التزموا به، في حدود ما نعلم، واذا كان هناك حشيش أو أفيون لا يزال يزرع، فان ذلك سيكون في حدود منطقة الـ10 في المائة التي يسيطر عليها احمد شاه مسعود، التي يدخل في نطاقها اقليم «بادخشان»، أهم معقل لزراعة المخدرات في افغانستان.
أضافوا: ان الدوائر الغربية المعنية بالأمر لا تريد ان تعترف لنا بفضل وقف زراعة الافيون، وأرجعوا ذلك الى الجفاف، لكنهم الآن يصمتون إزاء استمرار زراعته في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة.
الاصنام %1 من الآثار
* ما حكاية هدم التماثيل البوذية؟
ـ الضجة المثارة في العالم الآن مبالغ فيها الى حد كبير، ففي افغانستان طبقاً لما هو مسجل لدى اليونسكو 40 ألف أثر تاريخي، «الاصنام» لا تتجاوز 1 في المائة منها، والصغير منها أغلبه سرق وهرب الى الخارج اثناء الحروب، وهذه الاصنام سببت لنا ازعاجاً مستمراً منذ تولت «طالبان» السلطة في البلاد، فقد كان البوذيون يأتون الى بلادنا ويركعون ويتعبدون أمامها، خصوصاً صنم بامبان الكبير الذي يعتبرونه أكبر آلهتهم، وهو الذي وقفت الى جواره زوجته (الجزء الأسفل من جسمها الذي ظهرت فيه العورة هدم في بداية القرن الماضي بعدما استاءت من ذلك حين زارت المكان زوجة الأمير حبيب الله خان الذي حكم البلاد بين عامي 1901 و1919).
حين منع البوذيون من عبادة اصنامهم بدأوا يحتجون، ولاحظنا ان بعضاً منهم جاءوا الى متحف كابول وقام بعضهم بالسجود أمامها، وهو ما أثار استياء وحساسية علمائنا، وحينما شرعنا في ابعاد تلك الاصنام تجنباً لتكرار الموقف، وجدنا ان بعض الاذاعات العالمية (تحديدا الاذاعة البريطانية التي تبث باللغة البشتونية) أشاعت اننا اخفينا الاصنام تمهيداً لبيعها، وقد فكرنا في اعدامها وتهديمها سراً ودون اعلان، ولكننا وجدنا ان ذلك سيثبت بحقنا تهمة بيعها، ثم انتبهنا الى انها مسجلة لدى منظمة اليونسكو ولذلك لم يكن هناك سوى الاعلان عن التخلص منها، بعدما أكد العلماء ضرورة هدمها وحرمة استمرارها في دار الاسلام.
* حتى اذا افترضنا صحة الفتوى الخاصة بهدم التماثيل، فان الموازنة بين المصالح والمفاسد التي يمكن ان تترتب ضرورية قبل الشروع في تنفيذها، هل فكرتم في اثر ذلك على علاقتكم بالعالم الخارجي، وفي انعكاساته على الاقليات المسلمة التي تعيش في الاقطار المجاورة، الهندوسية والبوذية؟
ـ رغم اننا لم نر من العالم الخارجي إلا كل عداء وقهر، إلا اننا لم نتوقع ان يكون صدى الهدم بهذه الدرجة من العنف، ولم نناقش مسألة الأقليات الاسلامية في الأقطار التي تتحدثون عنها.
نظر أحدنا الى ساعته وقال ان الوقت يمر بسرعة، ولم يصل وفد العلماء، فرد احدهم قائلا: لا تتعجلوا، فعلماؤنا ليسوا في عجلة من أمرهم دائماً، والنكات المتداولة بين الافغان سجلت عليهم ذلك، ثم قال انتم لا تتصورون ان الناس عندنا يمزحون، لكني سأحكي لكم آخر نكتة سمعتها عنهم، يروى ان جماعة منهم خرجوا في رحلة بثيابهم البيضاء الناصعة، ومع احدهم كيس جمعوا فيه بعض حاجياتهم، وحدث ان تعثر صاحبنا هذا في مشيته فوقع الكيس في حفرة مليئة بالماء، الأمر الذي فوجئ به الجميع، فتحلقوا حول الحفرة حائرين لا يدرون ماذا يفعلون، ولانهم كانوا حريصين على نصاعة ثيابهم البيضاء، وخشوا عليها من الاتساخ، فانهم ظلوا يتابعون الكيس وهو يغطس في الماء ويقولون محسورين: لو ان هناك رجلا لاستنقذه! قولوا لأمير المؤمنين قهقه المتحدث بصوت عال، ثم شرح لنا النكتة قائلا ان الملالي المتحلقين من فرط حرصهم على نظافة ثيابهم وعدم اتساخها، نسوا انهم جميعاً رجال، وأي واحد منهم يستطيع أن ينهض بالمهمة المطلوبة.
شاركناه الضحك من باب المجاملة، لكن سكت لحظة ثم قال: هناك أشياء أحب ان تنقلوها الى أمير المؤمنين حين تلقوه، استغربنا الكلام فانصتنا مشدوهين، فاستطرد: سيكون مهماً أن يسمعها منكم، وان تضموا صوتكم الى أصواتنا فيها، لم يعطنا فرصة للسؤال وأضاف:
ليتكم تقولوا له ان الاسلام ليس افغانستان فقط، ولا هو الفقه الحنفي فقط، ثم ان المرجعية الاسلامية ليست مقصورة على المحكمة الشرعية العليا في كابول وحدها.
كان الكلام مفاجئاً فظل الصمت مخيماً على المكان، ومضى هو في الكلام قائلا: ليتكم تقترحون عليه ان يوسع دائرة التشاور مع علماء العالم الاسلامي، حتى يتحقق أكبر قدر من الفائدة، وتكون مسؤولية كل فعل منسوبة الى علماء المسلمين وليس على علماء المحكمة العليا وحدهم.
أضاف: ليتكم تحدثون أمير المؤمنين ايضاً في ضرورة تطوير مناهج التعليم، لان ذلك سيساعد كثيراً في تخريج أجيال مدركة لحقائق الدين والدنيا معاً، وليتكم تقترحون عليه ايضاً ان يستعين بخبرات العالم الاسلامي الوفيرة، ثم سألنا: هل تصدقون ان طلاب مدارسنا لايزالون يدرسون اللغة العربية من كتاب الملا جامي في النحو، الذي ألف قبل 600 سنة، وتلقن فيه قواعد العربية باللغة الفارسية؟
أخيراً قال: ليتكم تحدثون أمير المؤمنين ايضاً في ضرورة الاهتمام بالتواصل مع الاعلام في العالم، لان الاعلام عندنا ضعيف وفاشل، ولذلك افترسنا الآخرون وشوهوا صورتنا.
كانت الساعة قد شارفت على منتصف الليل فسكت صاحبنا عن الكلام المباح، وتمنى لنا ان يصل وفد علماء كابول في وقت مناسب في صبيحة الغد.
قصة ما جرى في قندهار (2 ـ 3)
* نعم.. أفغانستان هي أهم مصدر لزراعة الأفيون وتهريبه إلى العالم وهي مشكلة لم يحاول أحد مساعدتنا لحلها
* ليتكم تحدثون أمير المؤمنين عن أهمية التواصل مع الإعلام الدولي حتى لا تفترس أفغانستان
* لم نتوقع أن يكون صدى هدم التماثيل بهذا العنف ولم نناقش مسألة الأقليات الإسلامية في الأقطار الأخرى
* 1200 فتاة يدرسن الطب وفتح المساجد لتعليم البنات
* التلفزيون ليس قضية ملحة لان %95 من افغانستان بلا كهرباء
* 40 ألف أثر في افغانستان و«الاصنام» المهدمة لا تتجاوز %1
* تفاصيل الرسالة التي طلبوا منا نقلها الى أمير المؤمنين لا تتكرر فرصة من ذلك القبيل، ان تسهر الى منتصف الليل مع مجموعة من عناصر جماعة طالبان، وتطرح عليهم ما يعني لك من اسئلة وملاحظات، ثم تفاجأ بأنهم «أخذوا راحتهم» في الاجابة، الى الحد الذي يجعلهم يوجهون نقداًَ لبعض أوضاعهم، ويروون لك آخر نكتة على علمائهم!، لكن هذا ما حدث معنا في مساء اليوم الأول لوصولنا الى قندهار.
لم يتم اللقاء المفترض مع العلماء الافغان في قاعة مطار قندهار، لسبب جوهري هو انهم كانوا قادمين من كابول، والمسافة بين المدينتين تتراوح بين 450 و550 كيلو متراً، وفي الظروف العادية فان هذه المسألة يفترض ان يقطعها المسافر في حوالي اربع أو خمس ساعات، وقد قيل لنا ان الامطار التي هطلت عطلت وصول المجموعة في الوقت المناسب، لكني حين علمت انهم قادمون بالسيارات ادركت ان وصولهم على ا لغداء من رابع المستحيلات، حتى اذا كانوا قد خرجوا من هناك بعد صلاة الفجر، فقد كانت لي تجربة على هذا الطريق منذ سنتين، حين كنت في كابول وأردت الذهاب الى قندهار، فقيل لي ان الرحلة لا يمكن ان تقطع بالسيارة دفعة واحدة، وانما لا مفر من التوقف لالتقاط الأنفاس في منتصف الطريق، حيث مدينة «جلال اباد» ولأول وهلة دهشت للفكرة واستخففت بها، حيث لم اتصور ان المرء بحاجة لأن يستريح في منتصف رحلة من ذلك القبيل، لكني حين خبرت الطريق، وعانيت من الكم المهول من الحفر التي تعترض السير فيه، منذ كان المتقاتلون يتعمدون تخريب الطرق لمنع تقدم خصومهم عليها، وحين وصلت بعد مضي 14 ساعة الى منتصفه لكي «استريح» في جلال اباد، كنت عاجزاً عن أن أصلب عودي، ومصاباً بكدمات في الرأس من جراء ارتطامها بسقف السيارة بين الحين والآخر، حين ألم بي كل ذلك ادركت ان المسافر لا بد له ليس ان يتوقف في جلال اباد فحسب، وانما ينبغي ان ينصح أيضاً بالالتحاق بمصحة هناك لإزالة آثار العدوان المستمر على عموده الفقري وعضلات جسمه، واذا ما انضافت الامطار الى الحفر العديدة والعميقة فان الرحلة المعذبة تتحول الى مغامرة كبرى، ولان العلماء القادمين من كابول قدموا في تلك الاجواء، فقد كان يستحيل عليهم الوصول الى قندهار عند الظهر أو العصر، أو حتى العشاء، وهذا ما حدث.
حكاية العمامة السوداء تناولنا الغداء في قاعة المطار الذي كان عماده الأرز والدجاج، ولاحظت ان الاطباق والأكواب كانت لاتزال تحتفظ بالملصقات التي تشير الى اسم الشركة والدولة المنتجة، مما يعني انها اشتريت قبل الوصول مباشرة لانقاذ الموقف، ولانهم كانوا يرتدون أزياء متشابهة، القمصان الطويلة والسراويل الفضفاضة، فقد كان متعذراً التمييز بين المستقبلين وعمال الخدمة، الذين كانوا يحملون إلينا الطعام من وراء ساتر من القماش، فقط كانت عمامة الرأس هي التي تميز عناصر طالبان، بلونها الاسود الذي غدا شعاراً لهم، بينما المعروف ان العمامة البيضاء لا يرتديها سوى الذين بلغوا مرتبة معينة في التعليم الديني، فأكملوا ما يسمى بـ«المنهج المولوي» الذي يشتمل على مواد عديدة، في مقدمتها كتب الصحاح الستة للأحاديث النبوية (صحيح مسلم والبخاري والترمذي.. إلخ) حتى يمكننا القول إن عناصر «طالبان» الذين هم أصلا طلبة علم (الألف والنون مستخدمة للجمع هنا طبقاً لقواعد اللغة الفارسية، وعندنا في العربية ما زلنا نستخدم «كبير الياوران» وفي التاريخ العثماني المعاصر عرف مجلس «المبعوثات»)، هؤلاء حين تركوا التحصيل وتحولوا الى مجاهدين وحراس لنظامهم الاسلامي، اتخذوا العمامة السوداء شعاراً لهم، بينما تركوا العمامة البيضاء لغيرهم ممن واصلوا وأكملوا تعليمهم، ومعروف ان العمامة السوداء في ايران مقصورة على دارسي العلوم الشرعية من «السادة» الذين هم من سلالة الرسول، بينما البيضاء لمن عداهم من أهل العلم.
بعد الغداء تطلع مضيفونا الى ساعاتهم، وفي صوت واحد قال الملا عبد الجليل ومفتي محمد معصوم الذي قدموه لنا باعتباره رئيس علماء قندهار ان القادمين من كابول سيتأخرون في الغالب وان الامطار حالت دون وصولهم في الوقت المناسب، واقترحا كسباً للوقت ان نستريح في بيت الضيافة حتى تظهر بشائرهم في المساء.
الهاربون من جحيم الجفاف الطريق من المطار الى بيت الضيافة (15كم) كان بمثابة لوحة مستطيلة صورت افغانستان الراهنة، ميزته الوحيدة انه آمن، وتستطيع ان تقطعه دون ان تمر على حواجز أو تكون مضطراً لدفع اتاوات للجباة الواقفين عند كل حاجز، كما كان يحدث في السابق، ولعل هذا هو أهم انجاز حققته «طالبان» منذ توليها للسلطة في عام 96، والى الآن، في غير ذلك فلا تكاد تجد ميزة للطريق، وانما كل ما تراه يصب في خانة الخصم وليس الاضافة، فالشحوب في خلفية الصورة طول الوقت، الارض جرداء والاشجار جف عودها حتى تكاد تسمعها وهي تلفظ انفاسها الأخيرة، والهزال سمت للحيوانات التي تتسكع على جانبي الطريق، وبقايا مياه راكدة متجمعة هنا وهناك من اثر امطار قليلة سقطت قبل أيام، لا روت عطشاً ولا سقت زرعاً، وسيارات معطوبة هنا وهناك، ومبان مدمرة على مرمى البصر حولها قصف «الاخوة الاعداء» الى خرائب لا تسكنها سوى الحيوانات الضالة.
أثار انتباهي كم خيام الشعر المنصوبة على جانبي الطريق، ولما سألت عنها قيل لي ان الجفاف حين طرد الناس من قراهم فان عشرات الألوف منهم نزحوا الى مشارف المدن، يلتمسون عندها أسباب الحياة، وأضاف محدثي بصوت مسكون بالأسى، انه كما ان هناك لاجئين ونازحين في فلسطين، كذلك الافغان، اربعة ملايين منهم لجأوا الى الدول المجاورة (باكستان وايران بالدرجة الأولى) ونصفهم على الأقل نزحوا من قراهم التي خربها الجفاف الى مشارف المدن.
«بيوت الشعر» ليست وصفاً دقيقاً لتلك الخيام التي تعددت اشكالها متراوحة بين الاستطالة والاستدارة، لان الواقع دون ذلك بكثير، إذ هي في الحقيقة مجرد «ملاذات» شبيهة بالخيام استخدمت لستر الناس فيها كل الخامات المتاحة، من القماش المرقع الى أكياس البلاستيك الى ضلف الخشب وجذوع الاشجار، والمحظوظ من وجد جداراً من الطوب فأكمل بقية الاضلاع بما تيسر من خامات، وضمن له ذلك نجاة نسبية من لسعة البرد وكارثة المطر.
الاربعمائة طفل الذين كانوا يموتون يومياً في «هراة» خلال شهر فبراير (شباط) الماضي من سكان تلك الخيام، الذين لم يحتملوا قسوة البرد بعدما اجتاحت العواصف الثلجية ملاذاتهم الهشة والمتهالكة، ومن كتبت لهم الحياة لم يسلموا من الأمراض، التي لا يجدون لها علاجاً سوى التعاويذ والرقي، حتى غدا النازحون بين فريق قضى نحبه وآخر ينتظر! لك ان تتصور حال البشر ومنظرهم في هذه الظروف، بعد ان هدهم البرد وأعجزهم، ثم اقعدتهم البطالة وقلة الحيلة، فجلسوا على جانبي الطريق متكومين ومتلفعين بقماشات رثة غطت الرأس والجسم، لم تظهر منها سوى وجوه يائسة مغبرة وأعين زائغة تتابع المارة وتتطلع الى المجهول.
لا تعدم حافلات صغيرة مارة تكدس فيها البشر، أو بائع للخضراوات تخير تبة عالية نصب عليها بضاعته منتهزاً فرصة توقف الامطار، لكن مشهد باعة الاخشاب المرصوصة في أكوام عالية سيتكرر بصورة ملحوظة على طول الطريق، ولا غرابة في ذلك، فهذه الاخشاب هي مصدر التدفئة الوحيد المتاح للناس للتغلب على برد الشتاء.
لا يريدون انهاء القتال انعطفت بنا السيارات في طريق مهجور، كان مدخلا الى مقر الضيافة، الذي هيئ لنا بسرعة في ما بدا، من خبرة سابقة لم أكن متفائلا كثيراً بالمكان، لذلك فما توقعته وجدته، فقد كان عبارة عن بنايتين متواضعتين من طابق واحد، كل بناية بها ثلاث غرف للنوم ومكان للطعام وآخر للجلوس، كان نصيبي سرير من ذلك النوع الذي تنام عليه بعض الوقت، ثم تنهض لكي تستريح بقية الوقت ومع ذلك فربما كنت أفضل حالا من أصحابنا الشباب الذين ناموا على الأرض، ورغم ان دورة المياة كانت بغير اضاءة، إلا ان المياه الساخنة توفرت فيها (وهذا ترف عظيم)، أما بقية الحجرات فقد كانت الاضاءة فيها جيدة، الطعام كان مقبولا، وقد بذل مضيفونا جهداً واضحاً في اكرام الوفد، وتوفير أسباب الراحة لهم، في حدود ما هو متاح من امكانيات واستعدادات، وقد كان واضحاً ان الاطباق والأكواب والسكاكين والملاعق والشوك، كلها، كما حدث في خدمة المطار، اشتريت حديثاً، وعرفت طريقها الى الموائد لأول مرة في حضورنا.
خلد بعضنا الى الراحة، وقيل لنا ان وفد العلماء القادم من كابول سينضم إلينا في حدود صلاة المغرب، صلينا المغرب وانتظرنا، وبعد الاتصالات اللاسلكية التي أجراها مضيفونا تبين ان الوفد لم يصل الى قندهار، وانه لايزال يغالب الطريق ويحاول الوصول في وقت مناسب.
انضم إلينا في جلسة الانتظار المسائية ثلاثة من عناصر طالبان هم: الملا عبد الجليل نائب وزير الخارجية، وعبد الحي مطمئن المتحدث الرسمي باسم أمير المؤمنين ومسؤول الاعلام في قندهار، وعبد المتين أحد مستشاري قيادة الحركة ومفتي معصوم، من علماء قندهار، واذا اردنا ان نستفيد من وجودهم معنا ومن الوقت، فإننا حولنا جلسة الانتظار الى حلقة مناقشة للأوضاع العامة في افغانستان، مكنت كل واحد من الجالسين من ان يلقي بما عنده من اسئلة، وقد سهل علينا الحوار كثيراً ان احدهم ـ عبدالمتين ـ كان متمكناً من اللغة العربية بدرجة غير عادية، الأمر الذي أتاح لنا ان نسمع منه الكثير، وان نتابع ـ عبر ترجمته المسهبة- ردود الآخرين، الذين كانوا يفهمون العربية ولا يجيدون النطق بها.
كان مدخلنا الى المناقشة حديث عن الحصار الدولي المفروض على افغانستان، في هذه النقطة قالوا ان الهدف من الحصار واضح للكافة، وهو يتمثل في انهاك النظام «الاسلامي» الحاكم واضعافه، تمهيداً لاسقاطه، إذ من جراء ذلك الحصار فإن افغانستان تعاني الآن من نقص كبير في الوقود والمواد التموينية، اضافة الى انها معزولة عن العالم ومقطوعة الصلة به.
قال أحدنا: ألا يتعين على طالبان في مواجهة هذا الظرف ان تعمل على توحيد الجبهة الداخلية، والتفاهم مع المعارضة، لانهاء الحرب المعلقة، التي ما زالت مستمرة حتى الآن بين قوات احمد شاه مسعود وبين نظام طالبان.
قالوا: هذه المعارضة ليس لها موطئ قدم يذكر في افغانستان حيث لا يتجاوز ما تسيطر عليه 10في المائة من الأرض، والدول المجاورة حريصة على تقوية مسعود وتمكينه من تلك المساحة، ومعلوماتنا ان ذلك يكلفه خمسة ملايين دولار شهرياً، ولولا دعمها له لانتهى أمر التمرد هناك منذ زمان، والدول المؤيدة والداعمة لمسعود من مصلحتها ألا يتم أي اتفاق، لانها تريد انهاك النظام الاسلامي لاصلاح الوضع الداخلي، هم يريدون ان تنفق طالبان ما لديها من أموال على الحرب، ليس فقط لاشغالها ولكن أيضاً لاستنفاد مواردها، واضطرارها للاقتراض من الخارج، وافغانستان هي الدولة الوحيدة في العالم الآن التي ليست مدينة لأحد، واذا بدأنا في الاستدانة كما يرغبون، فسوف ينتهزون الفرصة لفرض شرطهم علينا.
* هل حقق التفاهم مع المعارضة أي تقدم؟
ـ محاولات التفاهم مستمرة شهرياً تقريباً، والمشكلة الحقيقية ليست مع رباني أو حكمتيار، فالتفاهم معهما ممكن، لكن المشكلة في احمد شاه مسعود، ومساعديه عبد الرحمن وعبد الله، ومن لف لفهما من القيادات الشيوعية التي تجمعت حول الرجل، واعلنوها حرباً استئصالية ضد طالبان وضد الاسلام في افغانستان، انهم الآن يتحدثون عن الديمقراطية وضرورة محاربة النظام الاصولي المهيمن على البلاد، والديمقراطية مرفوضة عندنا جملة وتفصيلا.
الديمقراطية فسق وفجور
* لماذا ترفضون الديمقراطية؟
ـ أولا هذه بضاعة غربية وثانياً انهم يريدون ان يفرضوا بها الشيوعيين وغيرهم من الملحدين والكفرة، وثالثاً لانها مدخل للفساد والتحلل وتهديم قيم الاسلام، وأنتم أدرى بما جرته على الغرب من فسق وفجور، ورابعاً لانها بذلك تصبح مصدراً لفتنة المسلمين في بلادنا وتهديد معتقداتهم وما قامت حركة طالبان إلا لدرء الفتنة التي عصفت بافغانستان.
ليس كل ما هو غربي شراً بالضرورة، فالساعات التي ترتدونها غربية الصنع، والكهرباء التي نستضيء بها اخترعها رجل غربي، وكذلك السيارات التي نركبها، ثم اننا ندافع عن ديمقراطية في اطار قيم الاسلام ومقاصده، فلا تحل حراماً ولا تحرم حلالا، ومن ثم فهي لا تقبل كل ما يقال عن تحلل أو فسق وفجور، هي اسلوب أو آلية في ادارة النظام السياسي، ولكل مجتمع ان يوظفها لتحقيق الاهداف التي يتطلع إليها، وينبغي ان نشهد بانها في أغلب المجتمعات الغربية كفلت للناس حق الاختيار والمشاركة وحق مساءلة الحكام، ومن هذه الزاوية فانها حققت نجاحاً كبيراً، واصبحت نموذجاً جديراً بالاحتذاء.
* اذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يكون الحديث عن الشورى وليس الديمقراطية؟
ـ المهم هو الاتفاق على القيم قبل التسميات، واذا كانت الأغلبية تستخدم كلمة الديمقراطية فلأنها صارت مصطلحاً دارجاً في الخطاب السياسي، ثم انه أصبح محملا بقيم إيجابية كثيرة من قبيل ما سبقت الاشارة إليه، فضلا عن انها تعد إحدى مراتب الشورى، ذلك اننا نفهم الشورى بحسبانها اشتراكاً لمجتمع المسلمين في تقرير كل ما يهم أمرهم (ضرب الدكتور الخياط لذلك مثلا بما يحدث في سويسرا حيث يستشار الناس في كل شأن عام يخصهم من خلال استفتاءات تجرى عدة مرات كل عام)، ولهذا فهي تعني ان يكون للناس «قول» في أحوالهم ومصائرهم، بينما الديمقراطية تعني ان يكون لهم «رأي» في اختيار من ينوب عنهم، كل عدة سنوات، وهذا الأخير يفترض فيه ان يمثل مجتمعه الصغير في مجلس يجمع ممثلي الأمة، واذا كان الهدف هو ان يكون للمجتمع قول على النحو الذي بيناه، فينبغي أن يكون لهم قبل ذلك رأي، ولذلك فاننا نعتبر الديمقراطية هدفاً مرحلياً بينما الشورى هدف نهائي.
تعليم البنات في المساجد
* ما تفسير قرار حرمان الفتيات من التعليم والنساء من العمل؟
ـ بالنسبة للعمل، فلا مفر من الاعتراف بأن العمل للرجال غير متاح، فما بالكم اذا اضفنا إليهم النساء، ثم ان نظامنا وعلماءنا ضد اختلاط الجنسين، ولا نستطيع ان نخصص للنساء أماكن يعملن فيها، ومسألة الاختلاط هي المشكلة التي أعاقت تعليم البنات في بلادنا، فنحن لسنا ضد تعليمهن، ولكن مواردنا عاجزة عن توفير مدارس خاصة بهن، ولا أحد يريد ان يعيننا على ذلك، وقد ناقش السفير البريطاني في اسلام اباد هذا الموضوع مع سفيرنا لدى باكستان، فقال له اخونا عبد السلام ضعيف ان دراسة الملف بينت اننا بحاجة الى 200 مليون دولار لانشاء مدارس خاصة للبنات، وان حكومة طالبان بمقدورها أن توفر مائة مليون دولار، ثم سأله عما اذا كان بمقدور بريطانيا أو المجموعة الأوروبية ان تدبر المبلغ المتبقي، فاستمع الرجل وذهب ولم يعد، وحين ناقشنا الموضوع مع غربيين آخرين، فان بعضهم اعترض على الزامنا البنات بارتداء الحجاب في المدارس، وحجم عن مساعدتنا بسبب ذلك، فقلنا لهم لماذا تؤيدون اذن الدول والهيئات التي تلزم الفتيات بخلع الحجاب، كما هو الحاصل في تركيا وفرنسا.
أضافوا: مع ذلك فمحاولاتنا مستمرة. وقبل حين اصدر أمير المؤمنين مرسوماً يقضي بتعليم البنات اللاتي في سن المرحلة الابتدائية بالمساجد، وجاري الآن تنفيذ هذه الخطوة، في الوقت ذاته فقد فتحنا معاهد للتمريض وساعدتنا منظمة الصحة العالمية على توفير دروس للطب للفتيات، ولدينا الآن 1200 فتاة يدرسن الطب، وفي قندهار وحدها 450 فتاة يواصلن تلك الدراسة.
* ماذا عن بقية الفروع وما وضع الجامعة الآن؟
ـ بسبب الامكانيات والأولويات، فالطب والتمريض يشكلان اولوية قصوى بدأنا بها، والجامعة متوقفة عن العمل، لان ليس لدينا موارد تكفي رواتب الاساتذة.
* لماذا يحرم التلفزيون رغم الفوائد الجليلة التي يمكن جنيها من وراء توظيفه في الاتجاه الصحيح؟
ـ القضية ليست مثارة عندنا الآن لسبب جوهري، هو ان 95 في المائة من بلادنا بلا كهرباء، مما يعد انه لو كان هناك ارسال تلفزيوني فلن يستقبله سوى 5 في المائة فقط من السكان، ومع ذلك فكل متطلبات وتجهيزات الارسال التلفزيوني محفوظة ومصانة كما هي، ولم يلحقها التخريب أو التدمير كما يشاع، غير ان هناك بعداً آخر لا يمكن تجاهله وهو ان علماءنا لا يجيزون التصوير، ويحتاج الأمر الى وقت لاقناعهم بجدواه وحدود الحلال فيه.
[ملحوظة: يبدو ان الموضوع لا يزال مطروحاً للمناقشة في بعض دوائرنا العربية، ومن المصادفات اننا بينما كنا نناقش المسألة في قندهار كان أحد العلماء السعوديين ـ الدكتور عبد الله الجبرين ـ يلقي محاضرة في الرياض عنوانها «التفعيل في حكم التصوير»، ومعروف ان احد كبار علماء الأزهر ـ الشيخ محمد بخيت المطيعي ـ حسم الأمر في رسالة أعدها قبل ستين عاماً كان عنوانها «الوافي في إباحة التصوير الفوتوغرافي»].
* هل يعقل ان تكون امارة افغانستان الاسلامية هي أهم مصدر لزراعة وتهريب الأفيون في العالم؟
ـ هذه مشكلة حاولنا أن نحلها مرارا ولم يساعدنا أحد في ذلك، وطالما خاطبنا المنظمات الدولية في هذا الصدد وطلبنا منهم ان يساعدونا على توفير محاصيل بديلة تشجع الفقراء على التخلي عن زراعة المخدرات، لكن احداً لم يساعدنا، وقبل ثلاثة أشهر -في موسم بدء زراعة الافيون ـ أصدر أمير المؤمنين مرسوماً بمنع زراعة أي شجرة مهما كان الثمن، ورغم ان وقع القرار كان شديداً وصعباً على كثيرين، إلا أن الجميع التزموا به، في حدود ما نعلم، واذا كان هناك حشيش أو أفيون لا يزال يزرع، فان ذلك سيكون في حدود منطقة الـ10 في المائة التي يسيطر عليها احمد شاه مسعود، التي يدخل في نطاقها اقليم «بادخشان»، أهم معقل لزراعة المخدرات في افغانستان.
أضافوا: ان الدوائر الغربية المعنية بالأمر لا تريد ان تعترف لنا بفضل وقف زراعة الافيون، وأرجعوا ذلك الى الجفاف، لكنهم الآن يصمتون إزاء استمرار زراعته في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة.
الاصنام %1 من الآثار
* ما حكاية هدم التماثيل البوذية؟
ـ الضجة المثارة في العالم الآن مبالغ فيها الى حد كبير، ففي افغانستان طبقاً لما هو مسجل لدى اليونسكو 40 ألف أثر تاريخي، «الاصنام» لا تتجاوز 1 في المائة منها، والصغير منها أغلبه سرق وهرب الى الخارج اثناء الحروب، وهذه الاصنام سببت لنا ازعاجاً مستمراً منذ تولت «طالبان» السلطة في البلاد، فقد كان البوذيون يأتون الى بلادنا ويركعون ويتعبدون أمامها، خصوصاً صنم بامبان الكبير الذي يعتبرونه أكبر آلهتهم، وهو الذي وقفت الى جواره زوجته (الجزء الأسفل من جسمها الذي ظهرت فيه العورة هدم في بداية القرن الماضي بعدما استاءت من ذلك حين زارت المكان زوجة الأمير حبيب الله خان الذي حكم البلاد بين عامي 1901 و1919).
حين منع البوذيون من عبادة اصنامهم بدأوا يحتجون، ولاحظنا ان بعضاً منهم جاءوا الى متحف كابول وقام بعضهم بالسجود أمامها، وهو ما أثار استياء وحساسية علمائنا، وحينما شرعنا في ابعاد تلك الاصنام تجنباً لتكرار الموقف، وجدنا ان بعض الاذاعات العالمية (تحديدا الاذاعة البريطانية التي تبث باللغة البشتونية) أشاعت اننا اخفينا الاصنام تمهيداً لبيعها، وقد فكرنا في اعدامها وتهديمها سراً ودون اعلان، ولكننا وجدنا ان ذلك سيثبت بحقنا تهمة بيعها، ثم انتبهنا الى انها مسجلة لدى منظمة اليونسكو ولذلك لم يكن هناك سوى الاعلان عن التخلص منها، بعدما أكد العلماء ضرورة هدمها وحرمة استمرارها في دار الاسلام.
* حتى اذا افترضنا صحة الفتوى الخاصة بهدم التماثيل، فان الموازنة بين المصالح والمفاسد التي يمكن ان تترتب ضرورية قبل الشروع في تنفيذها، هل فكرتم في اثر ذلك على علاقتكم بالعالم الخارجي، وفي انعكاساته على الاقليات المسلمة التي تعيش في الاقطار المجاورة، الهندوسية والبوذية؟
ـ رغم اننا لم نر من العالم الخارجي إلا كل عداء وقهر، إلا اننا لم نتوقع ان يكون صدى الهدم بهذه الدرجة من العنف، ولم نناقش مسألة الأقليات الاسلامية في الأقطار التي تتحدثون عنها.
نظر أحدنا الى ساعته وقال ان الوقت يمر بسرعة، ولم يصل وفد العلماء، فرد احدهم قائلا: لا تتعجلوا، فعلماؤنا ليسوا في عجلة من أمرهم دائماً، والنكات المتداولة بين الافغان سجلت عليهم ذلك، ثم قال انتم لا تتصورون ان الناس عندنا يمزحون، لكني سأحكي لكم آخر نكتة سمعتها عنهم، يروى ان جماعة منهم خرجوا في رحلة بثيابهم البيضاء الناصعة، ومع احدهم كيس جمعوا فيه بعض حاجياتهم، وحدث ان تعثر صاحبنا هذا في مشيته فوقع الكيس في حفرة مليئة بالماء، الأمر الذي فوجئ به الجميع، فتحلقوا حول الحفرة حائرين لا يدرون ماذا يفعلون، ولانهم كانوا حريصين على نصاعة ثيابهم البيضاء، وخشوا عليها من الاتساخ، فانهم ظلوا يتابعون الكيس وهو يغطس في الماء ويقولون محسورين: لو ان هناك رجلا لاستنقذه! قولوا لأمير المؤمنين قهقه المتحدث بصوت عال، ثم شرح لنا النكتة قائلا ان الملالي المتحلقين من فرط حرصهم على نظافة ثيابهم وعدم اتساخها، نسوا انهم جميعاً رجال، وأي واحد منهم يستطيع أن ينهض بالمهمة المطلوبة.
شاركناه الضحك من باب المجاملة، لكن سكت لحظة ثم قال: هناك أشياء أحب ان تنقلوها الى أمير المؤمنين حين تلقوه، استغربنا الكلام فانصتنا مشدوهين، فاستطرد: سيكون مهماً أن يسمعها منكم، وان تضموا صوتكم الى أصواتنا فيها، لم يعطنا فرصة للسؤال وأضاف:
ليتكم تقولوا له ان الاسلام ليس افغانستان فقط، ولا هو الفقه الحنفي فقط، ثم ان المرجعية الاسلامية ليست مقصورة على المحكمة الشرعية العليا في كابول وحدها.
كان الكلام مفاجئاً فظل الصمت مخيماً على المكان، ومضى هو في الكلام قائلا: ليتكم تقترحون عليه ان يوسع دائرة التشاور مع علماء العالم الاسلامي، حتى يتحقق أكبر قدر من الفائدة، وتكون مسؤولية كل فعل منسوبة الى علماء المسلمين وليس على علماء المحكمة العليا وحدهم.
أضاف: ليتكم تحدثون أمير المؤمنين ايضاً في ضرورة تطوير مناهج التعليم، لان ذلك سيساعد كثيراً في تخريج أجيال مدركة لحقائق الدين والدنيا معاً، وليتكم تقترحون عليه ايضاً ان يستعين بخبرات العالم الاسلامي الوفيرة، ثم سألنا: هل تصدقون ان طلاب مدارسنا لايزالون يدرسون اللغة العربية من كتاب الملا جامي في النحو، الذي ألف قبل 600 سنة، وتلقن فيه قواعد العربية باللغة الفارسية؟
أخيراً قال: ليتكم تحدثون أمير المؤمنين ايضاً في ضرورة الاهتمام بالتواصل مع الاعلام في العالم، لان الاعلام عندنا ضعيف وفاشل، ولذلك افترسنا الآخرون وشوهوا صورتنا.
كانت الساعة قد شارفت على منتصف الليل فسكت صاحبنا عن الكلام المباح، وتمنى لنا ان يصل وفد علماء كابول في وقت مناسب في صبيحة الغد.