هويدي 21-1-2002
كل الدلائل تشير الى ان افغانستان في مشهدها الأخير يراد لها ان تصبح شأنا غربيا، وان العرب والمسلمين مرحب باقصائهم من المسألة. كان ذلك واضحا بشدة في مؤتمر بون، الذي تم فيه الاتفاق على تسليم السلطة الى الحكومة الجديدة، واشتركت فيها 21 دولة ـ بينها كوريا الجنوبية ـ كمراقبين، ولم تكن بينها دولة عربية واحدة، حدث ذلك أيضا في اعلان الأمم المتحدة عن الدول التي ستشارك في اعمار افغانستان، الذي حدد بالاسم 15 دولة غاب عنها ايضا العرب والمسلمون (المانيا تولت رئاسة تلك المجموعة). ليس للعرب وجود ايضا في المؤتمر الدولي الذي سيعقد في طوكيو اليوم لذات الغرض، حيث لم توجه الدعوة الى أي دولة عربية.
اثرت هذه الملاحظة في ندوة طهران التي شاركت فيها، وقلت ان العرب دعوا الى مائدة الدم في افغانستان، ولكنهم لم يدعوا الى مائدة السلم، وانه حين كانت افغانستان بحاجة الى من يؤازرها ابان الاحتلال السوفياتي، كان العرب هناك في الصف الأول من المقاتلين الذين ضحى ألوف منهم بحياتهم، ورووا أرض افغانستان بدمائهم، كما كانوا في الصف الأول من العاملين في مجال الاغاثة. وقد بارك الجميع ذلك الموقف، وشجعوهم عليه، لكن الذين باركوا تلك الجهود في السابق، اداروا ظهورهم للعرب والمسلمين، حين طرحت للبحث عملية اعمار افغانستان، وهو موقف يتعذر افتراض البراءة في تفسيره، ولا يمكن اعتباره من قبيل السهو أو الخطأ.
ايدني البعض فيما قلت، وذهب اخرون الى ان الاطراف التي دعيت للمشاركة في الاعمار روعي فيها ان تكون من غير الدول التي اتصلت بالمرحلة السابقة، وهي مقولة رددت عليها بأن النظام السابق لم تعترف به سوى دولتين عربيتين فقط. وكان الاعتراف محدودا، ولاعتبارات عملية بحتة، ثم سحب ذلك الاعتراف في وقت لاحق، فضلا عن ذلك فإن موضوع بن لادن ومنظمة القاعدة لا ينبغي ان يحسب على الدول بأي حال، وقد رأى الجميع ان من بين اعضاء القاعدة مواطنين من عدة دول غربية، في المقدمة منها الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا.
علقت احدى المشاركات بسؤال لم استطع الاجابة عنه هو: اذا كان العرب لم يدعوا، فلماذا استسلموا وسكتوا، ولماذا لم يذهبوا ويفرضوا انفسهم على الجميع، وهم الذين قدموا الكثير لافغانستان، من شبابهم وأموالهم؟
كانت المتحدثة هي البارونة نيكلون نائبة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، وهي شخصية انجليزية بارزة وتتمتع باحترام وذكاء شديدين، وقد ختمت كلامها بنظرة ذات مغزى فهمت منها ما لم تقله في تعليقها، وأدركت انها تريد ان تقول: لماذا لم يفعل العرب كما فعل الايرانيون؟
ملاحظتها بشقيها مهمة، ذلك ان أكثر الدول العربية استشعرت حرجا غير مبرر ـ رغم كل ما قدمته ـ ومن ثم نفضت ايديها بسرعة من الموضوع الافغاني درءا للشبهات فيما يبدو. حتى ان بعض السفارات العربية في طهران رفضت ان تتسلم مجموعات من عائلات ابنائها الذين قتلوا في افغانستان، وكانت 300 اسرة عربية قتل عائلوها أو ألقي القبض عليهم بواسطة الاميركيين، قد عبرت الحدود الى ايران، التي استقبلتهم وأوصلت كل مجموعة الى السفارات التي تمثل بلادها، ولكن بعض تلك السفارات تمنعت واعتذرت عن تقديم العون لهم.
ما حدث في ايران بخصوص اعمار افغانستان يستحق ان يروى، ذلك ان طهران لم تغب يوما عن المسرح الافغاني لأسباب استراتيجية مفهومة، أهمها ان لها حدودا مشتركة مع افغانستان بطول 850 كيلومترا البعض يرفعها الى .900 وقد ظلت مؤيدة للتحالف الشمالي، وداعمة له الى أبعد الحدود، حتى دخلت قواته الى كابول واسقطت نظام طالبان، كما ان دورها في اتمام الاتفاق بين ممثلي المجموعات الافغانية في مؤتمر بون، كان مشهودا حتى سمعت من أكثر من طرف انه لولا الجهود والضغوط التي مارستها ايران على ممثلي التحالف في المؤتمر، لما حقق مراده في ابرام الاتفاق.
رغم ذلك، فإن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة UNDP حين أعلن في أواخر الشهر الماضي قائمة الدول التي ستشارك في اعمار أفغانستان، فإن ايران لم تذكر، وقد فوجئت طهران بذلك، وقال متحدث باسم الخارجية الايرانية ان اسقاط اسم بلاده حدث على سبيل «السهو». ورغم ان ذلك لم يكن مقنعا، فإن احدا من مسؤولي برنامج التنمية لم يحاول ان يصوبه، وقد مضى اسبوعان على اعلان القائمة، وفسرت الدوائر الدبلوماسية في طهران ما جرى بحسبانه رسالة اميركية من قبيل «شد الاذن»، وتحجيم الدور الايراني في افغانستان التي يراد لها فيما يبدو ان تظل شأنا غربيا بوجه عام، واميركيا بوجه أخص.
رفضت ايران تسلم الرسالة وتصرفت وكأنها لم تكن، وبحسبانها شريكا اساسيا في تعمير افغانستان، فتم تخصيص مليار دولار من الموازنة بسرعة لهذا الغرض، وحدثت تحركات ثلاث لجان لدراسة ما يمكن ان تسهم به ايران في افغانستان ما بعد طالبان، وشكل مجلس الشورى لجنة لذات الغرض، وحدثت تحركات كثيرة على مستوى الدولة توحي بأن الملف الافغاني أصبح يحتل أولوية خاصة في برنامج الحكومة، وانه اذا كانت باكستان ظلت صاحبة اليد العليا في افغانستان خلال المرحلة الطالبانية، فان ايران تتطلع لأن تقدم بذات الدور في المرحلة الراهنة.
في هذا السياق دعت ايران الى ندوة «الاعمار والتنمية في افغانستان» ـ بالفارسية توسعة ونوسازي افغانستان ـ في السادس من الشهر الحالي (كانون الثاني) ورغم انها كانت ليوم واحد من التاسعة صباحا الى السادسة مساء، الا انها دعت اليها وفدا افغانيا من ثمانية اشخاص، يتقدمهم وزيرا التجارة والاشغال العامة ونائب وزير خارجية طاجيكستان، وممثلين عن البرلمان الاوروبي وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي، وباحثين من المانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان (حضوري كان بصفة شخصية وليست تمثيلية). أما الجانب الايراني فقد كان حاضرا بثلاثة وزراء وأربعة من نواب الوزراء، وعدد من الباحثين، فضلا عن ممثلي 50 شركة عاملة في القطاع الخاص، تتطلع الى القيام بدور في اعمار افغانستان.
كان واضحا ان الندوة هي بالدرجة الأولى تظاهرة أريد منها ان تقول لكل من يهمه الأمر ان ايران حاضرة ولن تغيب عن المسرح الافغاني، ولن يستطيع أحد ان يمنعها أو يحجب دورها، وكان واضحا من تمثيل المنظمات الدولية والغربية في الندوة ان ايران نجحت في فرض نفسها، ومن جانبها بادرت الى تصويب «السهو» الذي افترضته في اعلان برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، ولم تنتظر ان يتولى الطرف الآخر ذلك التصويب.
لك ان تتصور ما عرضه الافغان عن احتياجات بلدهم الذي عانى من الاقتتال وعدم الاستقرار طيلة 23 عاما، دمر فيها كل شيء، بما في ذلك طاقات البشر انفسهم، الأمر الذي يجعل من عبارة «اعادة البناء والتنمية» عنوانا مناسبا تماما للمقام، لأن البلد بالفعل بحاجة الى اعادة بناء شاملة لكل التشوهات التي اصابته على كل صعيد. ولست في صدد استعراض ما أصاب البلد من دمار، فذلك معروف للجميع، واستعادته تحصيل للحاصل، ولكن مناسبة الندوة تهمني الآن من زاوية أخرى، تتركز حول دور العرب والمسلمين في مرحلة ما بعد طالبان.
اسجل أولا وباختصار ملاحظتين حول ندوة طهران، الأولى ان الوفد الافغاني المشارك فيها بدا وكأنه يمثل الطاجيك وبعض الشيعة على وجه الخصوص، حيث لم ألحظ فيه تمثيلا يذكر للبشتون، الذين يمثلون الكتلة السكانية الأكبر في افغانستان (45%) ـ وهو ما يشير الى العلاقة الوثيقة التي ما زالت مستمرة بين ايران وبين عناصر التحالف الشمالي، الذي هو تحالف اقليات بالدرجة الأولى. الملاحظة الثانية ان الحضور العربي والاسلامي ـ باستثناء ايران ـ كان شبه معدوم، ولولا ظهور أحد الدبلوماسيين السعوديين في منتصف النهار، لقلت ان العرب غابوا تماما. بالمقابل فإن الحضور الهندي كان قويا نسبيا، اذ منذ لحظة الافتتاح كان أحد الدبلوماسيين الهنود يتابع الحوار، لافتا النظر بعمامة «السيخ» فوق رأسه. وعند منتصف النهار حضر السفير الهندي لدى طهران بعمامة مماثلة، كما كان هناك اثنان من الباحثين الهنود ـ من الوزن الثقيل ـ قدما من دلهي لحضور الندوة، أما الحضور الباكستاني فقد كان متواضعا للغاية، حيث لم يمثلها سوى أحد موظفي وزارة الخارجية، وكان ذلك التواضع دالا على فتور العلاقة بين طهران واسلام آباد، بسبب رجحان كفة الأولى في افغانستان.
ملاحظة ثالثة اذا حاولنا ان نفكر في مساهمة العرب والمسلمين في اعمار افغانستان، ينبغي ان نلاحظ ثلاثة أمور، الأول ان اسرائيل تحاول الآن جاهدة ان تشترك في عملية الاعمار، ملوحة برصيد خبرتها في الزراعة. ويكون مخجلا ومهينا أن تحضر اسرائيل هناك بينما يغيب كل العرب والمسلمين.
الأمر الثاني ان عدم دعوة العرب الى المشاركة في الاعمار لا يعني ان الباب اغلق دونهم، وما فعلته ايران دالا على ذلك، وكذلك المسعى الاسرائيلي الذي اشرت اليه توا، ثم ان الامارات العربية قدمت مبادرة طيبة في هذا الصدد، على الصعيد الاغاثي، كانت محل ترحيب ولم يمنعها أحد.
الأمر الثالث ان الادعاء بأن النظام الجديد والنخب الافغانية أصبحت لديها حساسية ضد العرب من بقايا التجربة السابقة، هذا الادعاء ينبغي الا يسلم به على اطلاقه، لأن حساسية بعض العناصر الافغانية ليست ضد كل العرب، وانما محصورة في الفئات التي تتبنى موقفا فكريا وتروج لتعاليم تنتقص من التقاليد الدينية لدى الافغان، وهم الاحناف المتعصبون، والمشكلات التي وقعت بين الافغان وجماعات السلفيين خلال سنوات الجهاد، تتراكم في خلفية تلك الحساسية.
اذا حاول العرب والمسلمون ان يسهموا بدور في الاعمار ـ ويجب ان يحاولوا ـ فسيكون مهينا لهم لا ريب ان يقتصر دورهم على مجرد التمويل عن بعد، بينما يستبعدون من أي اسهام آخر، وأحسب انهم يستطيعون ان يقوموا بدور جليل في المجالين الثقافي والاغاثي، واذا لاحظنا ان مشكلة طالبان وهم في السلطة كانت ثقافية بالدرجة الأولى، باعتبار ان ما طبقوه هو ما تعلموه، فبوسعنا ان نقول ان مهمة تخريج اجيال جديدة تفهم الاسلام على نحو أكثر اعتدالا واستنارة لن يستطيع ان ينهض بها الألمان واليابانيون والاميركان، ذلك ان مؤسسة كالازهر اقدر على ان تتصدى لتلك المسؤولية، سواء عن طريق التوسع في تقديم المنح الدراسية، التي تقدم الآن بالفعل ولكن على نطاق ضيق أو عن طريق انشاء فروع له في افغانستان، أو عن طريق المساهمة في وضع مناهج الثقافة الاسلامية ، ولست أشك في أن الجامعة الاسلامية في اسلام اباد اذا وفرت لها الامكانيات اللازمة، يمكن ان تؤدي ذلك الدور، خصوصا انها ثمرة جهد عربي واسلامي مشترك، وقربها الجغرافي يهيئها لذلك.
في المجال الاغاثي، لا يستطيع احد ان يتجاهل حقيقة ان المؤسسات الاسلامية اكتسبت خبرة واسعة في كل ما يتعلق به، على نحو يمكنها من أن تقوم بدور ناجح وفعال، في رعاية الضعفاء من المعوقين والايتام والارامل وضحايا الجفاف، وهم بالملايين. وليس هناك ما يحول دون ان تضم تلك المؤسسات جهودها الى جهود منظمات دولية أخرى، أو تعمل تحت اشرافها، وسيكون معيبا ومهينا أيضا ان تترك مهمة الاغاثة للمنظمات الغربية وحدها، وأكثرها لها اهداف تبشيرية غير خافية.
انني ألح على ذلك الحضور لسبب آخر ينضاف الى ما قد يخطر على بال كثيرين من اسباب سياسية أو استراتيجية أو عاطفية، ذلك انني أتمنى أن يشارك العرب والمسلمون في ذلك الجهد بحسبانه نوعا من الجهاد الشرعي الذي يستهدف البناء والاعمار، لكي تترسخ لدى الشباب المتدين قيمة جهاد البناء الغائبة عن اذهانهم. (في ايران وزارة بهذا الاسم تتولى تنمية المناطق الريفية). ومن ناحية ثانية لكي يدرك الذين اساءوا الظن بالاسلام ان الجهاد ليس قتالا فقط، لكنه ايضا تنمية وبناء واعمار ودعوة مفتوحة لبذل غاية الجهد لأجل النهوض بالمجتمع واعلاء شأنه.
كل الدلائل تشير الى ان افغانستان في مشهدها الأخير يراد لها ان تصبح شأنا غربيا، وان العرب والمسلمين مرحب باقصائهم من المسألة. كان ذلك واضحا بشدة في مؤتمر بون، الذي تم فيه الاتفاق على تسليم السلطة الى الحكومة الجديدة، واشتركت فيها 21 دولة ـ بينها كوريا الجنوبية ـ كمراقبين، ولم تكن بينها دولة عربية واحدة، حدث ذلك أيضا في اعلان الأمم المتحدة عن الدول التي ستشارك في اعمار افغانستان، الذي حدد بالاسم 15 دولة غاب عنها ايضا العرب والمسلمون (المانيا تولت رئاسة تلك المجموعة). ليس للعرب وجود ايضا في المؤتمر الدولي الذي سيعقد في طوكيو اليوم لذات الغرض، حيث لم توجه الدعوة الى أي دولة عربية.
اثرت هذه الملاحظة في ندوة طهران التي شاركت فيها، وقلت ان العرب دعوا الى مائدة الدم في افغانستان، ولكنهم لم يدعوا الى مائدة السلم، وانه حين كانت افغانستان بحاجة الى من يؤازرها ابان الاحتلال السوفياتي، كان العرب هناك في الصف الأول من المقاتلين الذين ضحى ألوف منهم بحياتهم، ورووا أرض افغانستان بدمائهم، كما كانوا في الصف الأول من العاملين في مجال الاغاثة. وقد بارك الجميع ذلك الموقف، وشجعوهم عليه، لكن الذين باركوا تلك الجهود في السابق، اداروا ظهورهم للعرب والمسلمين، حين طرحت للبحث عملية اعمار افغانستان، وهو موقف يتعذر افتراض البراءة في تفسيره، ولا يمكن اعتباره من قبيل السهو أو الخطأ.
ايدني البعض فيما قلت، وذهب اخرون الى ان الاطراف التي دعيت للمشاركة في الاعمار روعي فيها ان تكون من غير الدول التي اتصلت بالمرحلة السابقة، وهي مقولة رددت عليها بأن النظام السابق لم تعترف به سوى دولتين عربيتين فقط. وكان الاعتراف محدودا، ولاعتبارات عملية بحتة، ثم سحب ذلك الاعتراف في وقت لاحق، فضلا عن ذلك فإن موضوع بن لادن ومنظمة القاعدة لا ينبغي ان يحسب على الدول بأي حال، وقد رأى الجميع ان من بين اعضاء القاعدة مواطنين من عدة دول غربية، في المقدمة منها الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا.
علقت احدى المشاركات بسؤال لم استطع الاجابة عنه هو: اذا كان العرب لم يدعوا، فلماذا استسلموا وسكتوا، ولماذا لم يذهبوا ويفرضوا انفسهم على الجميع، وهم الذين قدموا الكثير لافغانستان، من شبابهم وأموالهم؟
كانت المتحدثة هي البارونة نيكلون نائبة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، وهي شخصية انجليزية بارزة وتتمتع باحترام وذكاء شديدين، وقد ختمت كلامها بنظرة ذات مغزى فهمت منها ما لم تقله في تعليقها، وأدركت انها تريد ان تقول: لماذا لم يفعل العرب كما فعل الايرانيون؟
ملاحظتها بشقيها مهمة، ذلك ان أكثر الدول العربية استشعرت حرجا غير مبرر ـ رغم كل ما قدمته ـ ومن ثم نفضت ايديها بسرعة من الموضوع الافغاني درءا للشبهات فيما يبدو. حتى ان بعض السفارات العربية في طهران رفضت ان تتسلم مجموعات من عائلات ابنائها الذين قتلوا في افغانستان، وكانت 300 اسرة عربية قتل عائلوها أو ألقي القبض عليهم بواسطة الاميركيين، قد عبرت الحدود الى ايران، التي استقبلتهم وأوصلت كل مجموعة الى السفارات التي تمثل بلادها، ولكن بعض تلك السفارات تمنعت واعتذرت عن تقديم العون لهم.
ما حدث في ايران بخصوص اعمار افغانستان يستحق ان يروى، ذلك ان طهران لم تغب يوما عن المسرح الافغاني لأسباب استراتيجية مفهومة، أهمها ان لها حدودا مشتركة مع افغانستان بطول 850 كيلومترا البعض يرفعها الى .900 وقد ظلت مؤيدة للتحالف الشمالي، وداعمة له الى أبعد الحدود، حتى دخلت قواته الى كابول واسقطت نظام طالبان، كما ان دورها في اتمام الاتفاق بين ممثلي المجموعات الافغانية في مؤتمر بون، كان مشهودا حتى سمعت من أكثر من طرف انه لولا الجهود والضغوط التي مارستها ايران على ممثلي التحالف في المؤتمر، لما حقق مراده في ابرام الاتفاق.
رغم ذلك، فإن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة UNDP حين أعلن في أواخر الشهر الماضي قائمة الدول التي ستشارك في اعمار أفغانستان، فإن ايران لم تذكر، وقد فوجئت طهران بذلك، وقال متحدث باسم الخارجية الايرانية ان اسقاط اسم بلاده حدث على سبيل «السهو». ورغم ان ذلك لم يكن مقنعا، فإن احدا من مسؤولي برنامج التنمية لم يحاول ان يصوبه، وقد مضى اسبوعان على اعلان القائمة، وفسرت الدوائر الدبلوماسية في طهران ما جرى بحسبانه رسالة اميركية من قبيل «شد الاذن»، وتحجيم الدور الايراني في افغانستان التي يراد لها فيما يبدو ان تظل شأنا غربيا بوجه عام، واميركيا بوجه أخص.
رفضت ايران تسلم الرسالة وتصرفت وكأنها لم تكن، وبحسبانها شريكا اساسيا في تعمير افغانستان، فتم تخصيص مليار دولار من الموازنة بسرعة لهذا الغرض، وحدثت تحركات ثلاث لجان لدراسة ما يمكن ان تسهم به ايران في افغانستان ما بعد طالبان، وشكل مجلس الشورى لجنة لذات الغرض، وحدثت تحركات كثيرة على مستوى الدولة توحي بأن الملف الافغاني أصبح يحتل أولوية خاصة في برنامج الحكومة، وانه اذا كانت باكستان ظلت صاحبة اليد العليا في افغانستان خلال المرحلة الطالبانية، فان ايران تتطلع لأن تقدم بذات الدور في المرحلة الراهنة.
في هذا السياق دعت ايران الى ندوة «الاعمار والتنمية في افغانستان» ـ بالفارسية توسعة ونوسازي افغانستان ـ في السادس من الشهر الحالي (كانون الثاني) ورغم انها كانت ليوم واحد من التاسعة صباحا الى السادسة مساء، الا انها دعت اليها وفدا افغانيا من ثمانية اشخاص، يتقدمهم وزيرا التجارة والاشغال العامة ونائب وزير خارجية طاجيكستان، وممثلين عن البرلمان الاوروبي وبرنامج التنمية التابع للأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي، وباحثين من المانيا وفرنسا والصين والهند وباكستان (حضوري كان بصفة شخصية وليست تمثيلية). أما الجانب الايراني فقد كان حاضرا بثلاثة وزراء وأربعة من نواب الوزراء، وعدد من الباحثين، فضلا عن ممثلي 50 شركة عاملة في القطاع الخاص، تتطلع الى القيام بدور في اعمار افغانستان.
كان واضحا ان الندوة هي بالدرجة الأولى تظاهرة أريد منها ان تقول لكل من يهمه الأمر ان ايران حاضرة ولن تغيب عن المسرح الافغاني، ولن يستطيع أحد ان يمنعها أو يحجب دورها، وكان واضحا من تمثيل المنظمات الدولية والغربية في الندوة ان ايران نجحت في فرض نفسها، ومن جانبها بادرت الى تصويب «السهو» الذي افترضته في اعلان برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، ولم تنتظر ان يتولى الطرف الآخر ذلك التصويب.
لك ان تتصور ما عرضه الافغان عن احتياجات بلدهم الذي عانى من الاقتتال وعدم الاستقرار طيلة 23 عاما، دمر فيها كل شيء، بما في ذلك طاقات البشر انفسهم، الأمر الذي يجعل من عبارة «اعادة البناء والتنمية» عنوانا مناسبا تماما للمقام، لأن البلد بالفعل بحاجة الى اعادة بناء شاملة لكل التشوهات التي اصابته على كل صعيد. ولست في صدد استعراض ما أصاب البلد من دمار، فذلك معروف للجميع، واستعادته تحصيل للحاصل، ولكن مناسبة الندوة تهمني الآن من زاوية أخرى، تتركز حول دور العرب والمسلمين في مرحلة ما بعد طالبان.
اسجل أولا وباختصار ملاحظتين حول ندوة طهران، الأولى ان الوفد الافغاني المشارك فيها بدا وكأنه يمثل الطاجيك وبعض الشيعة على وجه الخصوص، حيث لم ألحظ فيه تمثيلا يذكر للبشتون، الذين يمثلون الكتلة السكانية الأكبر في افغانستان (45%) ـ وهو ما يشير الى العلاقة الوثيقة التي ما زالت مستمرة بين ايران وبين عناصر التحالف الشمالي، الذي هو تحالف اقليات بالدرجة الأولى. الملاحظة الثانية ان الحضور العربي والاسلامي ـ باستثناء ايران ـ كان شبه معدوم، ولولا ظهور أحد الدبلوماسيين السعوديين في منتصف النهار، لقلت ان العرب غابوا تماما. بالمقابل فإن الحضور الهندي كان قويا نسبيا، اذ منذ لحظة الافتتاح كان أحد الدبلوماسيين الهنود يتابع الحوار، لافتا النظر بعمامة «السيخ» فوق رأسه. وعند منتصف النهار حضر السفير الهندي لدى طهران بعمامة مماثلة، كما كان هناك اثنان من الباحثين الهنود ـ من الوزن الثقيل ـ قدما من دلهي لحضور الندوة، أما الحضور الباكستاني فقد كان متواضعا للغاية، حيث لم يمثلها سوى أحد موظفي وزارة الخارجية، وكان ذلك التواضع دالا على فتور العلاقة بين طهران واسلام آباد، بسبب رجحان كفة الأولى في افغانستان.
ملاحظة ثالثة اذا حاولنا ان نفكر في مساهمة العرب والمسلمين في اعمار افغانستان، ينبغي ان نلاحظ ثلاثة أمور، الأول ان اسرائيل تحاول الآن جاهدة ان تشترك في عملية الاعمار، ملوحة برصيد خبرتها في الزراعة. ويكون مخجلا ومهينا أن تحضر اسرائيل هناك بينما يغيب كل العرب والمسلمين.
الأمر الثاني ان عدم دعوة العرب الى المشاركة في الاعمار لا يعني ان الباب اغلق دونهم، وما فعلته ايران دالا على ذلك، وكذلك المسعى الاسرائيلي الذي اشرت اليه توا، ثم ان الامارات العربية قدمت مبادرة طيبة في هذا الصدد، على الصعيد الاغاثي، كانت محل ترحيب ولم يمنعها أحد.
الأمر الثالث ان الادعاء بأن النظام الجديد والنخب الافغانية أصبحت لديها حساسية ضد العرب من بقايا التجربة السابقة، هذا الادعاء ينبغي الا يسلم به على اطلاقه، لأن حساسية بعض العناصر الافغانية ليست ضد كل العرب، وانما محصورة في الفئات التي تتبنى موقفا فكريا وتروج لتعاليم تنتقص من التقاليد الدينية لدى الافغان، وهم الاحناف المتعصبون، والمشكلات التي وقعت بين الافغان وجماعات السلفيين خلال سنوات الجهاد، تتراكم في خلفية تلك الحساسية.
اذا حاول العرب والمسلمون ان يسهموا بدور في الاعمار ـ ويجب ان يحاولوا ـ فسيكون مهينا لهم لا ريب ان يقتصر دورهم على مجرد التمويل عن بعد، بينما يستبعدون من أي اسهام آخر، وأحسب انهم يستطيعون ان يقوموا بدور جليل في المجالين الثقافي والاغاثي، واذا لاحظنا ان مشكلة طالبان وهم في السلطة كانت ثقافية بالدرجة الأولى، باعتبار ان ما طبقوه هو ما تعلموه، فبوسعنا ان نقول ان مهمة تخريج اجيال جديدة تفهم الاسلام على نحو أكثر اعتدالا واستنارة لن يستطيع ان ينهض بها الألمان واليابانيون والاميركان، ذلك ان مؤسسة كالازهر اقدر على ان تتصدى لتلك المسؤولية، سواء عن طريق التوسع في تقديم المنح الدراسية، التي تقدم الآن بالفعل ولكن على نطاق ضيق أو عن طريق انشاء فروع له في افغانستان، أو عن طريق المساهمة في وضع مناهج الثقافة الاسلامية ، ولست أشك في أن الجامعة الاسلامية في اسلام اباد اذا وفرت لها الامكانيات اللازمة، يمكن ان تؤدي ذلك الدور، خصوصا انها ثمرة جهد عربي واسلامي مشترك، وقربها الجغرافي يهيئها لذلك.
في المجال الاغاثي، لا يستطيع احد ان يتجاهل حقيقة ان المؤسسات الاسلامية اكتسبت خبرة واسعة في كل ما يتعلق به، على نحو يمكنها من أن تقوم بدور ناجح وفعال، في رعاية الضعفاء من المعوقين والايتام والارامل وضحايا الجفاف، وهم بالملايين. وليس هناك ما يحول دون ان تضم تلك المؤسسات جهودها الى جهود منظمات دولية أخرى، أو تعمل تحت اشرافها، وسيكون معيبا ومهينا أيضا ان تترك مهمة الاغاثة للمنظمات الغربية وحدها، وأكثرها لها اهداف تبشيرية غير خافية.
انني ألح على ذلك الحضور لسبب آخر ينضاف الى ما قد يخطر على بال كثيرين من اسباب سياسية أو استراتيجية أو عاطفية، ذلك انني أتمنى أن يشارك العرب والمسلمون في ذلك الجهد بحسبانه نوعا من الجهاد الشرعي الذي يستهدف البناء والاعمار، لكي تترسخ لدى الشباب المتدين قيمة جهاد البناء الغائبة عن اذهانهم. (في ايران وزارة بهذا الاسم تتولى تنمية المناطق الريفية). ومن ناحية ثانية لكي يدرك الذين اساءوا الظن بالاسلام ان الجهاد ليس قتالا فقط، لكنه ايضا تنمية وبناء واعمار ودعوة مفتوحة لبذل غاية الجهد لأجل النهوض بالمجتمع واعلاء شأنه.