مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
في غياب الصوت العربي.. صار الفلسطينيون جناة والإسرائيليون ضحايا!
هويدي 20-11-2000

في غمرة فرحتنا بالانتفاضة وانشدادنا لأحداثها، فاتنا ان نحاول نقل حقائقها ودوافعها الى العالم الخارجي، وفي غياب صوتنا اقتنصت اسرائيل الفرصة ونجحت الى حد كبير في قلب الصورة وخداع الكثيرين في اوروبا والولايات المتحدة وكندا، حتى اقنعتهم بأن العرب هم الجناة والأشرار، وان الاسرائيليين هم الضحايا! لقد تلقيت خلال الأسابيع الماضية رسائل عدة من أصدقاء اميركيين يكنون الاحترام للعرب ويؤيدون القضية الفلسطينية، عبرت عن معنى واحد تقريباً، لخصه أحدهم في قوله: ان محبتنا للعرب لا تمنعنا من التعبير والاحتجاج على قتل الجنديين الاسرائيليين في «رام الله»، وإلقاء جثتيهما من النافذة، فذلك عمل لا انساني، لا مفر من تجريمه، هكذا من دون أي ذكر أو اشارة لمقتل أكثر من 200 فلسطيني! استوقفتني أيضاً رسالة بعث بها صديق كندي من أصل عربي سألني فيها: هل صحيح ان ايهود باراك (رئيس وزراء اسرائيل) قدم تنازلات غير مسبوقة للفلسطينيين، ولكنهم رفضوها، الأمر الذي أدى الى افشال محادثات السلام وانفجار العنف في وقت لاحق، واذا كان ذلك صحيحاً فما هي حقيقة تلك التنازلات التي قالت عنها إحدى الصحف الكندية ان الفلسطينيين لم يكونوا يحلمون بأن تصدر عن زعيم اسرائيلي يوماً ما؟
مما قرأت أيضاً في هذا السياق ان اسرائيل تعيد تصدير حادث مقتل الطفل محمد الدرة، الذي كان يحتمي مع أبيه من رصاص الجنود الاسرائيليين، وانها استهدفت من ذلك تبرئة جنودها، وإلصاق تهمة القتل بالفلسطينيين أنفسهم، وقد استقدمت لهذا الغرض فريقاً اميركياً لاحكام اخراج الفيلم (الكذبة)، تمهيداً لعرضه على الجمهور الاميركي.
ولانها أدركت ان نشر صور قتل محمد الدرة قد فضح السلوك الاسرائيلي وكشف ما حاولت ستره منذ عام 1948 من ممارسات وحشية تدخل بامتياز في عداد جرائم الحرب، فقد لجأت اسرائيل أيضاً الى توزيع صور لأحد المستوطنين وبجواره طفل صغير، والاثنان يتعرضان للرشق بالحجارة، ويحتميان منها، حتى تستقر تلك الصورة في الأذهان كمعادل يوازي صور محمد الدرة وأبيه، أو على الأقل يوحي بأن الطرفين يتعرضان للرشق والقصف على قدم المساواة.
ما يهمني في هاتين القضيتين ان اسرائيل تسعى دائماً الى مخاطبة الرأي العام الغربي، محاولة كسبه الى صفها، وتضليله عن حقيقة ممارساتها في الأراضي المحتلة، يساعدها على ذلك لا ريب ان أغلب المنابر الاعلامية الغربية موالية لها، خصوصاً في الولايات المتحدة، كما يشجعها على المضي في ذلك ان الصوت العربي والاسلامي غائب تماماً عن الساحة، الأمر الذي يغريها بأن تقول ما تريد، وان تغالط كيفما شاءت، وهي مطمئنة الى ان أحداً لن يرد ولن يراجع، ولن يكشف زيف ما يقال.
ولئن كانت وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت قد استخدمت في وصف المسجد الأقصى اسم «جبل الهيكل»، فذلك يدل على المدى الذي بلغته عملية صهينة العقل والخطاب في الولايات المتحدة، واذا كانت وزيرة الخارجية قد استسلمت لعملية غسيل الأفكار الى هذه الدرجة، فلنا ان نتصور الذي جرى للناس العاديين هناك، حيث من الطبيعي ان يكون استعدادهم للتأثر بعملية الصهينة أكبر وأعمق.
في تحرير عملية «الصهينة» تلك كتب الدكتور ادوارد سعيد، الأكاديمي البارز ذو الأصل الفلسطيني، ثلاث مقالات في الآونة الأخيرة، عرض فيها، من واقع معايشته للواقع الاميركي المدى الذي بلغته عملية تضليل الرأي العام في الولايات المتحدة، واخضاعه تماماً لوجهة النظر الاسرائيلية، ووصف عملية غسيل الأفكار التي تعرض لها الشعب الاميركي بأنه بمثابة «انتصار شبه كامل للصهيونية الاميركية»، للمرة الأولى منذ عودة الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة الى البروز أواخر الستينات، وعلى حد تعبيره، فقد تحولت اسرائيل خلال الصدامات الأخيرة، على صعيد الخطابين السياسي والاعلامي، الى ضحية، الى درجة انه على رغم مقتل 140 فلسطينياً وجرح خمسة آلاف منهم (العدد زاد الآن حيث وصل عدد القتلى الى 217 والجرحى تجاوز عددهم سبعة آلاف بينهم 2000 من المعوقين)، رغم ذلك فان ما يسمى «العنف الفلسطيني» هو الذي يُحمّلُ المسؤولية، ومن ثم فانه يدان باعتبار انه جاء ليعرقل عملية التقدم الهادىء الذي كانت تحرزه عملية السلام.
ذهبت حملة التضليل الى حد اقناع الرأي العام الاميركي بأن «اسرائيل محاطة ببرابرة يهاجمونها بالحجارة، وان الصواريخ والدبابات تستعمل لحماية الاسرائيليين من العنف، ودرء تلك القوة المخيفة التي يمثلها الفلسطينيون، كما ان مطالبات بيل كلينتون التي ترددها اولبرايت، وتدعو الفلسطينيين الى «التراجع»، توحي بقوة بأن الفلسطينيين هم الذين اغتصبوا أرض اسرائيل وليس العكس! النتيجة ان حملة التضليل التي يشارك فيها عدد من كبار المعلقين الاميركيين، لم تكتف باقناع الناس بأن ما يدور في الأرض المحتلة هو بمثابة هجوم من الفلسطينيين على اسرائيل، وانما عملت على الايحاء للرأي العام بأن الفلسطينيين هم أناس مجردون من الانسانية، وأقرب الى الوحوش التي تريد ان تنقض على الاسرائيليين السالمين!، بل ان التقارير تبالغ في تقدير معاناة اليهود، فيما تخفف من معاناة العرب ومشاعرهم أو تحذفها كلياً، عدا شعور الغضب بالطبع، وبكل أشكاله وأنواعه، الذي يبقي العاطفة الفلسطينية الوحيدة والجوهرية، وهو منظور يفسر العنف، ويطلقه كظاهرة قائمة بذاتها، بما يسمح بتصوير اسرائيل مجتمعاً يمثل الصلاح والديمقراطية، لكنه محاط دوماً بالغضب والعنف.
لا يذكر السيل الاعلامي شيئاً عن مصادرة أراضي الفلسطينيين أو هدم بيوتهم، ولا يشير بكلمة الى الاحتلال، ويسقط تماماً صور جنازات الشهداء الفلسطينيين التي لم تتوقف طيلة الشهر ونصف الشهر الماضيين، والقتلى يجهلون ولا تذكر هوياتهم، الأمر الذي يضلل المواطن العادي ويظن ان عدد القتلى متقارب على الجانبين، وقد استثمر باراك ذلك التجهيل مؤخراً، واعلن حين قتل اربعة اسرائيليين قبل أيام ان الجيش سوف يرد وينتقم من «الإرهابيين» الفلسطينيين، واغفل من جانبه ـ كما اغفلت وسائل الاعلام الاميركية ـ ان الاسرائيليين الاربعة قتلوا بعدما سقط في ساحة المواجهة مائتا فلسطيني وجرح سبعة آلاف منهم.
فصّل الدكتور ادوارد سعيد في عرض نماذج التضليل والخداع التي تعرض لها الرأي العام الاميركي، وقامت الصحافة بالدور الرئيسي في هذه المهمة القذرة، واعتبر ان ذلك وضع لا سابق له في تاريخ الصحافة الاميركية، وانه انعكاس مباشر لعقلية صهيونية تجعل من اسرائيل المقياس المطلوب للسلوك الانساني.
رغم ان تلك جريمة بالمعيار الاخلاقي والمهني والتاريخي، إلا اننا لا نستطيع ان نتوجه باللوم الى الاسرائيليين الذين طوعوا الاعلام لصالحهم، وجندوه لتزيين وسائلهم ومقاصدهم الشريرة في فلسطين، ولئن كان مهماً ومفيداً العمل على كشف ما تمارسه الأبواق الصهيونية من تضليل وتشويه، إلا ان الأكثر أهمية وفائدة ان ندعو الى تحرك ايجابي ـ عربي واسلامي ـ لتقديم الحقائق الى الرأي العام، دون تزوير أو تدليس.
ان المرء لا يستطيع ان يخفي دهشته إزاء غياب الصوت العربي والاسلامي عن الساحات الغربية، على النحو الذي سمح للأبواق الاسرائيلية بالاستفراد بتلك الساحات ومكنها من النجاح في تضليل الرأي العام الغربي، في حين ان الحقائق القائمة على الأرض تفضح العدوان الاسرائيلي بصورة دامغة، واي جهد يبذل في توصيل تلك الحقائق بأمانة الى الرأي العام في تلك الدول، كفيل بأن يلحق هزيمة تعري الأضاليل الاسرائيلية، وتعزل اسرائيل وتحاصرها كما لم يحدث من قبل.
ان بعض الدول العربية تقيم اسابيع دعائية في العواصم الغربية تتكلف ملايين الدولارات، واشك كثيراً في ان عائدها يمكن ان تكون له قيمة تذكر، وبعض هذا الذي ينفق ببذخ في تلك الاسابيع لو وجه للاعلام بما يجري على أرض فلسطين، لسد جانباً من الفراغ الذي نشكو منه ونعاني.
وهو أمر مدهش حقاً ان القمتين العربية والاسلامية فاتهما الانتباه الى أهمية مخاطبة الرأي العام الغربي وتبصيره بحقيقة ما يجري على أرض فلسطين، ولقد تمنيت ان تقرر أي منهما تشكيل وفود دبلوماسية واعلامية، تعرف كيف تخاطب الغربيين بعقليتهم ولغتهم، وتزودهم بالحقائق والوثائق والصور، ثم تبعث بهم الى مختلف عواصم العالم المؤثرة في القرار الدولي، لكي يقدموا الحقائق الى الرأي العام في تلك العواصم من خلال المنابر المتاحة.
تمنيت ان تمكن تلك الوفود من التنبيه الى خطأ الزعم بأن ما يجري في فلسطين هو مجرد عنف متبادل، والتأكيد ان المشكلة هي في الاحتلال الذي ولد العنف وأشعل جذوته، وان ما يجري ليس انتفاضة ضد السلام، ولكنها ضد تزييف السلام واقامته على الظلم والقهر، وان الفلسطينيين ومؤيديهم في العالم العربي والاسلامي يريدون سلاماً حقيقياً يقوم على العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويرفع الغبن والمذلة عن الفلسطينيين.
تمنيت أن يعرف الرأي العام الغربي حقيقة ما سمي بتنازلات باراك، وكيف انها أكذوبة وخديعة كبرى، لا تلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية العادلة. كما تمنيت ان توضح حقيقة الدوافع الفلسطينية الى الاستشهاد، وكيف ان ذلك لا يتم حباً في الموت، ولكن تعلقاً بالحياة الكريمة، ورفضاً للمذلة والمهانة.
ان القائمة طويلة، والأضاليل والأكاذيب الاسرائيلية تكاد تفوق الحصر، واذا لم نستطع أن نردها ونكشف حقيقتها كلها، فلا أقل من أن نتصدى لأهمها، ولا نترك الساحة فارغة لتمددها، الذي لا يستطيع ان يصمد أمام أي جهد يعمد الى تبيان الحقيقة وكشف ما لحق بها من زيف.. فهل من مبادر؟
أضافة تعليق