مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الأتراك يئسوا من فساد السياسيين وتسلط العسكر
هويدي 19-12-2002

* كلما تدخل الجيش في الحياة السياسية والمدنية يأتي التصويت في أول انتخابات تالية في الاتجاه المعاكس
* مجموعة العمل الغربي مهمتها مراقبة ورصد تصرفات المجموعات ذات الميول الإسلامية.

* خلال شهر رمضان قرر طيب اردوغان ان يتناول وجبة الافطار مع واحدة من الاسر التي تعيش في أحد الأحياء الشعبية باسطنبول، ودون ترتيب أو اخطار طرق ومعه ثلاثة من المرافقين باب بيت وقع الاختيار عليه بطريقة عشوائية، وبعد أن أبلغوا الأسرة برغبتهم، لاحظوا انهم اصيبوا بصدمة عبرت عن نفسها من خلال الوجوم الذي ظهر على وجوه افرادها، ولم يكن ذلك بسبب المفاجأة التي لم يتوقعوها، ولكن لسبب آخر تماما، هو ان البيت لم يكن فيه شيء يؤكل، سوى بعض كسرات من الخبز، ولا شيء يشرب على الاطلاق، اذ باستثناء الماء، لم يكن لدى الاسرة شاي أو سكر، ولم ينقذ الموقف سوى الطعام والشراب الذي حمله مرافقو اردوغان معهم.
كانت مفاجأة اردوغان أكبر، ليس فقط لأنه كان طيلة أربع سنوات رئيسا لبلدية اسطنبول، التي هي اغنى مدينة في تركيا، ومن ثم فهو يعرفها جيدا، ولم يخطر على باله ان يكون الفقر فيها قد وصل الى ذلك الحضيض، ولكن ايضا لأنه ابن حي قاسم باشا بالمدينة الذي اختلط فيه البؤس بالتحلل، وحين كتب عليه ان يبيع المياه والسميط، كي يعين اسرته، قدر له ان يطوف بمختلف الأزقة والحارات، ولم يصادف يوما اناسا يقتاتون على فتات الخبز، ولا يجدون ما يرطبون به حلوقهم.
هذه الصورة نقلها الي واحد من الذين يرافقون زعيم حزب العدالة في مثل هذه الجولات المفاجئة التي يطرق فيها بيوت الناس ويتقصى بنفسه أحوالهم، وبعد الذي سمعته منه، وبعدما اتيح لي أن أناقش مع كثيرين في اسطنبول وانقرة الأوضاع الراهنة في البلاد، أدركت ان الحضيض الذي وقع عليه اردوغان في زيارته لذلك البيت، هو أقرب ما يكون الى الحضيض الذي وصلت اليه تركيا اقتصاديا وسياسيا، حين جاء اردوغان يطرق ابواب الحكومة والبرلمان .. كيف؟
* يأس هنا وقرف هناك
* قبل ان يتحدث الوافد الى أي أحد، وقبل ان يقع على التقارير والمعلومات المنشورة، فإنه يلحظ على الفور اثار الأزمة اذا ما سار في أي شارع رئيسي في اسطنبول أو انقرة، اذ لابد ان تلفت نظره أمور ثلاثة، أولها تدهور سعر الليرة التركية أمام الدولار، الذي كان يساوي 150 ألف ليرة قبل عامين، فإذا به يعادل مليوناً ونصف مليون ليرة مع اوائل الشهر الحالي «كان السعر مليونا و700 ألف ليرة، ولكنه انخفض بمعدل 200 ألف ليرة بعد ظهور نتائج الانتخابات». الأمر الثاني الذي يلاحظه المرء وهو يذرع الشارع التركي ان لافتات الاعلان عن البيع بالتقسيط (يكتبونها بالحروف اللاتينية «تاكسيت») تتراوح بين 6 و 12شهرا، أصبحت قاسما مشتركا بين واجهات اغلب المحلات التجارية، اذ الكل يريد ان يبيع بأي طريقة، من تاجر الفاكهة والبقالة الى صاحب معرض السيارات، والسبب هو الكساد وضيق ذات اليد، أما الأمر الثالث فهو كم عدد العاطلين المتكومين على الأرصفة، والسائرين على غير هدى في الشوارع، وهو ما يذكرك بجموع العاطلين في الجزائر الذين التصقت اجسامهم بحوائط البنايات، الذين اطلقت عليهم الصحف الفرنسية اسم «حيطيط».
فهمي قورو، أحد ابرز المحللين السياسين الاتراك والكاتب بصحيفة «يني شفق» لخص الموقف في عبارة قصيرة هي ان الاتراك اصيبوا باليأس من الاقتصاد وبالقرف من السياسة، لم لا وقد انهار سعر الليرة على النحو الذي رأيت، ووصلت نسبة التضخم الى 60%، واغلقت 420 ألف مؤسسة اقتصادية أبوابها، وخلال السنتين الاخيرتين فقط فصل مليوني عامل من وظائفهم، اما المصارف فقد تمت تصفية 17مصرفا منها، وهو ما أدى الى فقدان 25 ألف شخص لوظائفهم بين عشية وضحاها، غير عشرات الآلاف الذين قبلوا بالاستمرار في العمل بعد تخفيض رواتبهم.
احاديث نهب المال العام والاستيلاء على ملايين الدولارات عادية في المجالس والمنتديات، لكن احدى الهزات القوية التي ضربت الاقتصاد وقعت بعدما تناقلت الصحف انباء المشاحنات والمناكفات العلنية بين رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر ورئيس الوزراء السابق بولند اجاويد، خصوصا حين احتدمت المناقشات بين الرجلين في أحد اجتماعات مجلس الأمن القومي، وألقى الرئيس سيزر بنسخة من الدستور التركي في وجه رئيس الوزراء، وهو يتهمه بأنه يجهل نصوصه، وهي القضية التي ما إن تسربت وقائعها الى الصحف، حتى ادرك كبار رجال المال والاعمال ان السفينة على وشك الغرق، فما كان منهم الا أن هربوا الى الخارج خلال ساعات مليارات من الدولارات، الأمر الذي أدى الى انهيار قيمة العملة واصابة البورصة بالشلل، وحين وقع الانهيار فإن المصارف وجدت نفسها عاجزة عن سداد قروضها، وكان بعضها قد راكم الديون المشكوك في تحصيلها عبر تقديم قروض مدعومة لزبائن الاحزاب السياسية، الأمر الذي كانت له انعكاساته القاتلة، التي وجهت الى العمل المصرفي ضربة قاصمة، وقد قدرت الاوساط المالية الخسارات المسجلة التي نشأت عن ذلك الحال بحدود 35 مليون دولار، الأمر الذي أدى الى تصفية بعض البنوك كما سبقت الاشارة، بينما اضطر البعض الآخر لأن يضع نفسه تحت وصاية الدولة.
بسبب هذه الاجواء، لم ينج بيت في تركيا من اثار الهزات الاقتصادية العنيفة، التي احدثت شروخا عميقة في بنية المجتمع، وكان موظفو الحكومة ذوو الدخول الثابتة، وعموم الفقراء هم أكثر الفئات التي التهبت ظهورها من شدة وكثافة سياط الغلاء التي انهالت عليها من كل صوب.
* المافيا في قلب الشرطة
* لكن ذلك كله في كفة، وقصص الفساد الضارب الاطناب في الاحزاب، الذي انتقل بطبيعة الحال الى أجهزة الادارة في كفة أخرى، لقد شاهدنا في افلام سينمائية كثيرة قصص عصابات «المافيا» في تركيا، واذا كان الشائع ان تبالغ السينما في تصوير مشاهد الواقع، لأسباب تتعلق بالاثارة، الا ان الأمر كان على العكس تماما في الحالة التركية، حيث يعلم الجميع ان الواقع أكثر اثارة منه على شاشة السينما، يكفي ان تعلم مثلا ان واحدا من كل ثلاثة ضباط في الشرطة له علاقة ما بالمافيا هناك، والأمر ليس مقصورا على رجال الشرطة وحدهم، ولكن السياسيين الكبار كانوا سباقين في هذا المجال، وكانت هذه العلاقات قد صدمت الرأي العام حين تكشفت بعض جوانبها اثناء الانتخابات التي جرت في ربيع عام 1999، وذلك حين اعتقل في فرنسا أحد كبار رجال المافيا «علاء الدين تشافجي»، واثناء التحقيق معه أفشى الكثير من اسرار علاقات عصابات المافيا مع القيادات السياسية والأمنية، آنذاك ايضا ظهرت فضيحة احد كبار رجال الاعمال «قرقماز يغيت» وتبين ان له علاقات وثيقة بالمافيا وبرئيس الحكومة نفسه مسعود يلماظ، الذي سهل انتقال بعض مؤسسات القطاع العام، لاسيما المصرفية، الى القطاع الخارجي المرتبط بالمافيا، وازاء تتابع امثال تلك الفضائح اهتزت بشدة صورة الدولة لدى الرأى العام، الأمر الذي دعا بعض السياسيين الى رفع شعارات «الاستقامة» و»نظافة اليد» في الانتخالات التي اسفرت عن فوز زعيم حزب اليسار الديمقراطي، بولند اجاويد، برئاسة الحكومة.
* حتى المدعو أمن الدولة
* ولكثرة ما تنشره الصحف من اخبار فضائح السياسيين، وفي المقدمة منهم زعماء الاحزاب، فقد بات مستقرا لدى الرأي العام ان الطبقة السياسية كلها موصومة بالفساد بدرجة أو أخرى، يكفي ان يعلم الناس وهم يتابعون اخبار الفضائح، ان مجموع الأموال التي «أفرغت» من المصارف العامة المملكوة للدولة من جانب الاحزاب التي تعاقبت على الحكم، وصلت خلال عامين فقط الى 12مليار دولار، الأمر الذي يعني ان ازمة الثقة الهائلة التي وقعت بين المجتمع وبين السلطة ورموزها لم تأت من فراغ.
ومن مفارقات الاقدار ان المدعي العام لمحكمة أمن الدولة العليا في انقرة نوح ماتايكسر، الذي ظل طوال السنوات الأخيرة يلاحق القيادات السياسية والادارية بدعاوى الفساد، ضبط هو ذاته في قضية فساد اخلاقي مشينة اذ تم تصويره في أوضاع جنسية مخلة مع سيدة روسية، وقدم شريط الفيديو الذي سجل الفضحية الى المجلس الأعلى للقضاء، الذي أمر بالتحقيق مع الرجل، وحسبما نشرت صحيفة «جمهوريت» في 22/10، فإن نوح تنصل من الشريط وأكد ان خصومه من زعماء الاحزاب وكبار الموظفين الذين لاحقهم هم الذين لفقوه للانتقام منه، غير ان الشريط عرض على الخبراء الذين فحصوه وقاموا بتحليل مادته الفيلمية بدقة، ثانية بثانية، وقد أكدوا انه حقيقي واصيل وليس مزيفا، وازاء ذلك فإن المجلس الاعلى للقضاء قرر عزل الرجل من منصبه، وتوبيخه بشدة على سلوكه المشين، وقد لفت الانظار ان الرجل لم يفصل بسبب فعلته، ولكنه فقط عين في وظيفة أقل درجة من تلك التي كان يشغلها.
* المجتمع ضاق من وصاية العسكر
* واذا كان المجتمع التركي قد فقد ثقته بالسياسيين الذين ارتبطت صورتهم في الادراك العام بالفساد بكل صوره، فإنه ضاق ذرعا بممارسات العسكر الذين نصبوا من انفسهم أوصياء على المجتمع، وحكومة فوق الحكومة.
صحيح ان الجيش يحظى باحترام كبير لاسباب تتعلق بدوره في تحرير الاناضول واعادة توحيد تركيا عام 1942، حتى انه يوصف في ادبيات كثيرة بانه «ضمير المجتمع»، الا ان الممارسات التي صدرت عن قيادته في السنوات الأخيرة حولته الى اداة ضغط اشاعت التذمر في أوساط قطاعات عريضة في المجتمع، والانقلاب الأبيض الذي قاده العسكر اعضاء مجلس الأمن القومي ضد الحكومة في 28 فبراير (شباط) عام 1997، لا يزال ماثلا في اذهان الناس، وكان المجلس قد اصدر قرارا من 18بندا استهدفت محاصرة الظاهرة الاسلامية وتقليص التعليم الديني، الأمر الذي ادى الى الصدام مع الحكومة التي كان يرأسها آنذاك نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاه الاسلامي ثم انتهى باستقالة الحكومة.
اقترنت حملة 28 فبراير بمجموعة من التصريحات التي اطلقها رئيس الاركان آنذاك حسين كيفريك، التي آذت مشاعر المتدينين، حيث اعتبر الظاهرة الاسلامية هي «الخطر الأول» الذي يهدد تركيا، متقدما في ذلك على الخطر الكردي الانفصالي، وتوعد الاسلاميين انذاك بما اسماه «حرب الألف عام». وهي الدعوة التي رددها رئيس الاركان الحالي حلمي اوزوك، الذي خلفت الجنرال كيفريك في منصبه، حين اعلن في نهاية اغسطس (آب) الماضي ان الحرب على «الرجعية» ستظل مستمرة بنفس العزم والتصميم.
لم يتوقف جهد مجلس الأمن القومي عند ذلك الحد، وانما ظل قادته من العسكر يلاحقون اربكان حتى حلوا حزبه وسجنوه وحرموه من حقوقه السياسية، ولاحقوا اردوغان الذي كان يرأس بلدية اسطنبول، حيث قدموه للمحاكمة بتهمة اثارة الفتنة لمجرد انه ردد بيتا للشعر في احدى المناسبات «في قصيدة معممة على التلاميذ في كتب المطالعة. الفها الأب الروحي للقومية التركية والأتاتورك، ضياء غول البسام»، وبسبب هذه «الجريمة» عزل اردوغان من منصبه وحكم عليه بالسجن لمدة أربعة اشهر، والحرمان من الحقوق السياسية، وبعد أن اسس اردوغان حزبه «العدالة والتنمية»، فإن العسكر لاحقوه بالاتهامات محاولين تشويه صورته لدى الرأي العام، اذ شبهته ابواقهم بهتلر، قائلة انه ـ مثل الزعيم النازي ـ يسعى الى سوق يستخدم الديمقراطية للانقضاض عليها واقامة حكم على الطريقة النازية.
مثل هذه الممارسات وغيرها كثير، ولا ننسى حكاية النائبة مروى قاوقجي التي عوقبت باسقاط العضوية والتجريد من الجنسية لأنها دخلت الى قاعة البرلمان وهي مرتدية الحجاب، استفزت الرأي العام، حيث ازداد الناس تعاطفنا مع «الضحايا» الذين اراد العسكر اغتيالهم ادبيا ومعنويا، فعاقبوا العسكر بالتصويت لصالح حزب العدالة، مثلما عاقبوا الاحزاب السياسية التقليدية بالاعراض عنها، والتصويت لصالح حزب اردوغان.
* وصاية مجلس الأمن القومي
* وهي ظاهرة جديرة بالرصد نبهني اليها الدكتور أكمل الدين احسان اوغلو مدير مركز الابحاث للتاريخ والفنون باسطنبول، الذي قال انه كلما تدخل الجيش في الحياة السياسية والمدنية، جاء تصويت المجتمع في أول انتخابات تالية في الاتجاه المعاكس له، حدث ذلك في اعقاب أول انقلاب قام به الجيش في عام .61 فقد صوت المجتمع في انتخابات عام 65 لصالح الخطر الذي انقض عليه الجيش، وهو حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل، وريث الحزب الديمقراطي الذي استهدفه الانقلاب واعدم زعيمه عدنان مندريس.
وحين تدخل الجيش ووجه انذارا بالاستقالة في عام 71 الى سليمان ديميريل زعيم حزب العدالة، فإن ذلك لم يقض على نفوذ الحزب وانما ظل حاضرا مع حزب الشعب وزعيمه بولند اجاويد الى ان قام الجيش بانقلاب آخر في عام 1980، اسفر عن حل الاحزاب وسجن زعمائها وحرمانهم من العمل السياسي، لكن في أول انتخابات لاحقة تمت بعد عودة الاحزاب والحياة السياسية، صوت الناس لحزب ليبرالي جديد «الوطن الأم» اسسه طورغوت اوزال، أحد أهم القادة الذين تركوا بصمات قوية على مسيرة تركيا الحديثة، وظل الحزب في السلطة خلال الفترة من 83 الى عام .91 التدخل الرابع حدث في عام 97 من خلال قرارات 28 فبراير التي سبقت الاشارة اليها، وهو الذي رد عليه المجتمع بالتصويت لصالح الطرف المتضرر الذي يعد الطيب اردوغان رمزا له.
لقد بدأ تقنين دور العسكر في الحياة السياسية من خلال استحداث كيان جديد جرى النص عليه في الدستور الذي صدر عقب انقلاب 1960، وكان ذلك الكيان هو «مجلس الأمن القومي» الذي ضم في البداية كل القوات المسلحة فقط، وتحددت مهمته في «بحث وجهات النظر الاساسية وضمان التنسيق في القرارات المتعلقة بالأمن القومي»، غير انه في اعقاب انقلاب عام 1980اعيد تشكيل المجلس بحيث يضم الى جانب القادة العسكريين الخمسة خمسة آخرين من المدنيين في المقدمة منهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وأصبح من حق المجلس ان يصدر «توصيات» للحكومة في مختلف الشؤون العامة، ولأن العسكر هم أصحاب القرار واليد العليا، فإن «التوصيات» أصبحت بمثابة تعليمات أو اوامر، لذلك فإنه لم يحدث ان امتنعت أي حكومة تركية عن تنفيذ تلك التوصيات، وحين تقاعست حكومة اربكان بعض الشيء في عام 1997، لم يكن امامها سوى ان تستقيل.
أثناء الزيارة التي قمت بها، فإنه حين كانت المناقشات تتطرق لموضوع مجلس الأمن القومي ودوره، وجدت المسؤولين الاتراك الذين لقيتهم يقولون ان عدد المدنيين بالمجلس زاد على خمسة اشخاص وبذلك أصبحوا أكثر من العسكريين، لكنني لم أجد في ذلك دلالة مهمة، لأن العبرة ليست بالعدد، وانما بالقوة التي يستند اليها كل طرف، وفي هذه الزاوية فإن كفة العسكر تظل الأقوى، بامتياز، وقد كان المفكر الليبرالي التركي محمد آلفان مصيبا تماما حين كتب ذات مرة يقول: انه في بلد توجد فيه مؤسسات مثل مجلس الأمن القومي والأمانة العامة له، فإن وجود البرلمان يصبح عديم الجدوى.
* الإسلاميون في القوائم السوداء
* ظهر عنصر جديد في الأفق ابتداء من عام 97، اذ ازاء تولي زعيم حزب اسلامي رئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ الجمهورية، وفي ظل اعلان رئيس الاركان ان الاسلاميين هم «الخطر الأول» الذي يهدد البلاد، وتوعده بأن الجيش مستعد للتصدي لذلك الخطر، حتى اذا اقتضى منه ذلك أن يخوض حربا مدتها ألف عام، كان الجديد هو ظهور جهاز تابع لمجلس الأمن القومي عرف باسم «مجموعة العمل الغربي»، وهذه المجموعة مهمتها استخبارية بالدرجة الأولى، ووظيفتها مراقبة ورصد تصرفات سلوك المجموعات والمؤسسات والشركات والافراد ذوي الميول الاسلامية، وذلك تمهيدا لمحاصرتهم واجتثات وجودهم قدر الامكان.
كبار الضباط الذين استصدروا قرارات 28 فبراير هم الذين انشأوا ذلك الجهاز، لكي يكمل ويواصل المهمة التي بدأوها، وبسبب طبيعته الاستخبارية فإن المعلومات المتعلقة بنشاطاته شحيحة الى حد كبير، حيث يفترض انها محاطة بالسرية والكتمان، ذلك فضلا عن ان الشائعات كثيرة حوله، حتى انني سمعت من أحد الصحافيين قوله: ان ذلك الجهاز له صلة بحلف «الناتو»، ولأن تركيا عضو في الحلف، وقاعدة مهمة له، ولأنها مرشحة للدخول في عضوية الاتحاد الاوروبي، فإن الحلف أصبح فيما يبدو شديد الاهتمام بمراقبة التوجهات الاسلامية فيها، حتى يطمئن الى استقرار «علمانيتها» على نحو يؤمن مصالح الحلف، ويساعد على تأهيل تركيا للانضمام الى الاتحاد الاوروبي.
مجموعة العمل الغربي هذه ليست معنية بأمن الدولة في مجموعة، فتلك مهمة أجهزة أخرى، لكن كل ما يشغلها هو مراقبة السلوك الاسلامي على وجه التحديد، في المجتمع وليس داخل القوات المسلحة، حتى «تطهر» صفوفها من الأشخاص ذوي الميول الدينية أولا بأول، حيث لا مكان في جيش العلمانية الكمالية لمن حاز في مكتبه مسبحة أو سجادة صلاة، أو انتظم في اداء صلاة الجمعة، أو من اقترفت زوجته «الجرم المشهود» وظهرت على الملأ محجبة.
ولأن المجموعة تنشط في الحياة المدنية فإنها تتبع وتراقب الشخصيات السياسية والاكاديميين والكتاب ورجال الاعمال والتجار، فتدرج اسماءهم في قوائم سوداء، ثم تجمع كل ما يتيسر جمعه ضدهم من معلومات وقرائن، لاتخاذ ما يلزم من اجراءات ضدهم في الوقت المناسب. أما الاجراءات فهي تتراوح بين التقديم الى المحاكمة أو الفصل من الوظيفة أو المقاطعة الاقتصادية، وبمقتضى سياسة المقاطعة فإن اجهزة الدولة والجيش على رأسها صدرت لها تعليمات بوقف التعامل مع أي شركة أو مؤسسة يشتبه في أن لها علاقة بأي عمل أو نشاط اسلامي.
* أصبحوا أكثر حذرا
* صحيح ان الموقف اختلف بصورة نسبية الآن، لأن مجلس الأمن القومي كان في موقف اقوى بكثير خلال ربع القرن المنصرم، بسبب وجود حكومات ائتلافية لا تتمتع بتأييد شعبي كبير ناهيك من ان عناصرها كانت محرجة بحكم شبهات ضلوعها في الفساد المستشري، لكن الأمر اختلف هذه المرة، لأن الحكومة التي شكلها حزب العدالة تتمتع بأغلبية معتبرة في البرلمان، وتتمتع بتأييد شعبي كبير، ثم انها ليست ملطخة الأيدي كسابقاتها. وتلك اسباب تفيد في حركة قادة العسكر، وتجعلهم أقل جرأة على فرض الوصاية واصدار التعليمات للحكومة، لأن مثل ذلك التدخل سيعد اعتراضا على اداء حكومة حازت ثقة الشعب وأغلبية الأصوات فيه، ومن ثم سيغدو تحديا لارادة الشعب، وهو وضع يتجنب قادة العسكر دائما من أن ينجروا اليه. لا أقصد بذلك ان دور قادة العسكر انتهى في ظل الحكومة الراهنة، فهذا غير صحيح، لكنني أعني انهم أصبحوا أكثر حذرا في تصرفاتهم، أو ينبغي ان يكونوا كذلك، ذلك ان مختلف الشواهد تدل على انهم باقون في الصورة، وتدخلهم في الشأن العام لا يزال مستمرا.
وقد حرصوا على اثبات حضورهم في ظل الوضع المستجد، حيث قام رئيس الاركان ومعه قادة اسلحة الجيش بزيارة الزعماء الجدد فاجتمعوا برئيس حزب العدالة الطيب اردوغان بعد اعلان فوز حزبه، رغم انهم بذلوا جهدا كبيرا لحصار حزبه واغتياله ادبيا، كما اجتمعوا مع رئيس الوزراء عبدالله جول ورئيس البرلمان بولند ارينج، وسجلوا في أول اجتماع لمجلس الأمن القومي «عقد في 29/11» بعد تشكيل الحكومة تأييدهم للقيود المفروضة على ارتداء الحجاب.
بسبب تلك الخلفيات كلها فإن المجتمع التركي الذي عانى من فساد السياسيين وتسلط العسكريين بعث الى الجميع برسالة تحد في انتخابات الثالث من شهر نوفمبر الماضي فقد ألقى بالاحزاب التقليدية وقادتها خارج الحلبة ـ خارج الحكومة والبرلمان ـ وثبت في السلطة اولئك الذين حاربهم العسكر وحرصوا على اقصائهم من الحياة السياسية، حيث منحت الاغلبية ثقتها لحزب العدالة الذي كان قد طالب المدعي العام للجمهورية باغلاقه ـ بايعاز من العسكر ـ قبل عشرة ايام فقط من موعد الانتخابات، وبدأ نظر الدعوى قبل يومين من التصويت، لتنفير الناخبين وفضهم من حول الحزب.
والأمر كذلك، فإني لا اتردد في القول ان ما حدث في تركيا في الانتخابات هو بكل المقاييس انتفاضة شعبية سلمية، اشهرت اعتراضا قويا في وجه النخبة التقليدية، من مدنيين وعسكر، ووضعت الجمهورية على مشارف عهد جديد بقيادة حزب العدالة والتنمية، الذي يرمز اليه بالحرفين الأولين: ايه كيه، وهي مصادفة لا تخلو من دلالة ان يكون الرمز له معناه في اللغة التركية، حيث يشير الى ما هو أبيض أو ناصع.
ما هي سمات العهد الجديد واحتمالاته؟ ذلك كله في علم الغيب بطبيعة الحال، لكن ثمة قدرا معلوما نستطيع ان نسلط عليه بعض الضوء.
أضافة تعليق