مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
لي ذراع أميركي لمصر لأسباب غير التي أعلنتها واشنطن!
هويدي 19-8-2002

القرار الاميركي المفاجئ بحجب المساعدات الاضافية عن مصر يحتاج الى إعادة قراءة وتحليل، في حجمه ودوافعه ومراميه، ذلك انها المرة الأولى التي تتخذ فيها الولايات المتحدة اجراء من ذلك القبيل مع دولة تصنف سياسيا على انها دولة «صديقة»، تعول الولايات المتحدة الكثير على دورها في المنطقة، فضلا عن ان ثمة نشاطا قويا في العلاقات والمصالح يصعب التضحية به تحت أي ظرف.
فالقرار من حيث المبدأ لا يمس جوهر المساعدات المالية الاميركية السنوية لمصر، التي تقدر بمليارين و300 مليون دولار، لكنه يتحدث عن تلك الاضافية التي تتجاوز تلك الحدود، والتي تطلبها مصر أحيانا لمواجهة ضرورات طارئة (قالت الواشنطن بوست ان مصر كانت قد طلبت 130 مليون دولار مؤخرا، وقد شملها قرار الحجب الأخير).
ولان القرار لا يمس جوهر المساعدات، التي يفترض انها ستستمر كما هي، فالأهمية السياسية له تتجاوز أهميته الاقتصادية، ان شئت فقل انه يتضمن رسالة سياسية كان يمكن ابلاغها الى القاهرة بوسائل دبلوماسية أخرى، كما يحدث في حالات كثيرة، حيث ما كان أيسر ان يقوم بذلك السفير الاميركي في القاهرة، أو أن يستدعي السفير المصري في واشنطن لإبلاغه بمضمون الرسالة، ولكن ذلك لم يحدث، وإنما عمدت الادارة الاميركية الى اعلانها على الملأ، على نحو يفهم منه قصد الاحراج ولي الذراع.
في تبرير ذلك الاجراء، قالت الواشنطن بوست، وأيدتها في ذلك مصادر البيت الأبيض، انه اتخذ احتجاجا على حكم القضاء المصري بسجن الدكتور سعد الدين ابراهيم سبع سنوات، بعد ادانته بتهم التلاعب والاحتيال والتزوير، التي ثبتت بحق مركز «ابن خلدون» الذي كان يرأسه، وهو حكم ادانه الاميركيون منذ لحظة صدوره، حيث أعربت السفارة الاميركية في القاهرة في بيان أصدرته عن «خيبة أملها» من جراء صدوره بحق الرجل الذي يحمل الجنسية الاميركية الى جانب جنسيته المصرية.
لم تقتنع الحكومة الاميركية بالأسباب الواردة في الحكم، واعتبرت ان ادانة الدكتور ابراهيم لها دوافعها السياسية، وانه سجن لأنه من الناشطين المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الانسان في مصر، ومن ثم فانها ذهبت الى وصف الحكم بحسبانه عدواناً على الحريات العامة وانتهاكاً لحقوق الانسان.
غير ان هناك ملاحظات عدة على هذا التقييم هي:
* ان الحكم على الدكتور ابراهيم ليس نهائيا، فلا لاتزال هناك فرصة للطعن فيه أمام محكمة النقض، التي قد تؤيده وقد تخففه أو تلغيه، الأمر الذي يعني ان الموقف الاميركي اتسم بالعجلة، وقد يشكك في ان الدافع الى اعلان ذلك الموقف ليس موضوع الدكتور ابراهيم وحده.
* ان الاجراء الاميركي يتعذر اعتباره احتجاجا على انتهاك حقوق الانسان في مصر، لان واشنطن ربطت قرار وقف المساعدات الاضافية بقضية الحكم على الدكتور سعد الدين ابراهيم، الأمر الذي يعني ان التراجع عن الحكم (لا أعرف كيف وربما بإلغائه بقرار من محكمة النقض اذا وجدت لبراءة الرجل مسوغاً)، من شأنه ان يسقط مبرر القرار، وبالتالي يفتح الباب لامكانية تقديم المساعدات الاضافية الى مصر، وهذا الربط بين تعليق تقديم المساعدات وبين الحكم على الدكتور ابراهيم، وتجاهل كل الاحكام الجائرة التي صدرت ضد سياسيين آخرين، يفقد الموقف الاميركي مصداقيته.
نعم لا يستطيع المرء أن يقبل مبدأ تدخل جهة أجنبية في الشأن الداخلي لمصر أو لأي دولة أخرى عربية أو غير عربية، وان كنا نفهم ان تبدي بعض المنظمات المعنية أو الدول بعض الملاحظات على حالة حقوق الانسان في دول أخرى، ولا نفهم ان تمارس تلك الدول انتهاكات حقوق الانسان على أراضيها، بينما تنتقد الآخرين.
والأمر كذلك فانني ازعم ان الولايات المتحدة، خصوصا بعد 11 سبتمبر، فقدت شرعيتها أصلا في التصدي للدفاع عن حقوق الانسان، ثم انها في موقفها من مصر لم تكن مدفوعة بالغيرة على تلك الحقوق، لان غضبها كان لأسباب أخرى، ربما كان سجن الدكتور ابراهيم احدها، وهي في ذلك كانت غاضبة لشخص الرجل بأكثر من غضبها لانتهاك حقوق الانسان، والدليل على ذلك ان الولايات المتحدة سكتت بل شجعت المحاكمات الاستثنائية التي جرت لمدنيين أمام محاكم عسكرية طيلة السنوات الأخيرة، وأصدرت أكبر عدد من أحكام الاعدام والسجن المؤبد في تاريخ القضاء المصري، وشاءت المقادير ان يتزامن الحكم على الدكتور ابراهيم مع صدور أحكام قاسية بالسجن على 16 واحدا من ناشطي جماعة الاخوان المسلمين بينهم سبعة من حملة شهادة الدكتوراه، والى جانب هؤلاء، فهناك 200 شخص من الناشطين الاسلاميين الآخرين ينتظرون دورهم أمام المحاكم العسكرية، ومع ذلك فان البيان الأميركي أشار الى الأول وحده، ولم يأت على ذكر الآخرين، الذين وقع عليهم ظلم مماثل ـ ان لم يكن أكبر ـ لذلك الذي وقع على الدكتور ابراهيم.
لا نريد أن نفتح ملف الانتهاكات الاميركية لحقوق الانسان على أرضها، أو سكوتها على انتهاك حقوق الانسان في فلسطين، علما بأن الولايات المتحدة هي التي شجعت السلطة الفلسطينية على اجراء المحاكمات الاستثنائية، وعلى اعتقال ناشطي المقاومة بغير تهمة، وهي التي عقدت أخيرا اتفاقا مع ممثلي السلطة الفلسطينية لتشكيل مجموعات لمكافحة الإرهاب (المقصود ملاحقة الفدائيين وضرب المقاومة)، يفترض ان تعمل خارج القانون.
لا نريد التفصيل في ذلك، وإنما نكتفي بالتذكير السريع به، لكننا ننبه أيضا ـ بالمناسبة ـ الى ان الادارة الاميركية هي من أكثر الدول مساندة للانظمة الاستبدادية التي تصادر فيها الحريات وتنتهك حقوق الانسان، لن نتحدث عن العالم العربي تجنبا للحرج المفهوم، وإنما بوسعنا أن نقول الكثير عن جمهوريات آسيا الوسطى التي تحالفت معها الولايات المتحدة في حملتها ضد أفغانستان ـ سابقا ولاحقا ـ وهي تعلم انها من نماذج الأنظمة الموغلة في الاستبداد التي ادانتها وفضحت جرائمها تقارير منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية.
قلت ان واشنطن أرادت ان تبعث الى القاهرة بما يمكن أن نسميه «رسالة لي ذراع»، وان غضبها لم يكن غيرة على حقوق الانسان والحريات المدنية في مصر، وإنما كان الغضب لشخص الدكتور سعد الدين ابراهيم أو تذرعا بقضيته اذا أردنا أن نحسن الظن، وأضيف هنا ان قضية الدكتور لوحدها لا تبرر الاجراء الذي اتخذ ولا الطريقة التي اتبعت لاعلانه، وإنما هناك أمور أخرى مرشحة لان تكون من أسباب التصرف الاميركي على ذلك النحو، وأعود في هذا الصدد لثلاثة أسباب هي:
* معارضة مصر للاصرار الاميركي على ازاحة الرئيس عرفات، وتحذيرها من ان هذه الخطوة لها سلبيات كثيرة تهدد بفوضى وفتنة كبيرة في الأرض المحتلة، وليست هناك مصلحة في الاقدام عليها.
* معارضة مصر لفكرة ضرب العراق واسقاط نظامه بالقوة المسلحة، وهي المعارضة التي تلتقي عليها أغلب الدول العربية، الأمر الذي يسبب حرجا لادارة الرئيس بوش التي ما برحت تلح على القيام بتلك المغامرة، حيث تبدو فيها الحسابات الانتخابية الداخلية أقوى تأثيراً من الحسابات السياسية الخارجية، ناهيك عن ان المصلحة الاسرائيلية فيها أكبر من المصلحة الاميركية ذاتها.
* تحفظ مصر على اتفاق «ماشاكوس» بالسودان، الذي انتقدته القاهرة ولعبت الولايات المتحدة دوراً رئيسياً في إبرامه باعتبار انه قد يؤدي أو يمهد لانفصال جنوب السودان واقامة دولة مستقلة فيه، وهو ما تعارضه مصر بشدة، وترى فيه خطراً يهدد حصتها من مياه نهر النيل، ومن ثم تعتبره تهديداً لأمنها القومي، يفرض عليها التصدي له بكل ما تملك من قوة.
هذه هي الأسباب الثلاثة التي ازعم انها أسهمت في اتخاذ قرار لي الذراع المصرية، الى جانب قضية الدكتور سعد الدين ابراهيم، ودفعت واشنطن لتقرير ذلك الاعلان المفاجئ.
بقيت بعد ذلك نقطتا ضعف في الموقف المصري، الأولى ان ما حدث هو جزء من الثمن الذي تدفعه القاهرة نتيجة لسياسة اعتمادها على المعونات الاقتصادية الخارجية، الأمر الذي حول تلك المعونات الى ورقة ضغط يلوح بها باستمرار للتأثير على القرار المصري، صحيح ان مصر لا تتلقى معونات مجانية، لكنها تقدم لقاء ذلك مقابلا وخدمات أخرى للولايات المتحدة، لكن واشنطن تظل تتصرف دائما من الموقف الأقوى، لاعتقادها بأن ما تقدمه لها مصر يمكن أن تقدمه دول أخرى، كله أو بعضه، ولكن ما تقدمه واشنطن للقاهرة لن تقدمه أي دولة أخرى، ولذلك فهي الأشد حاجة الى الولايات المتحدة.
نقطة الضعف الأخرى تتمثل في ان مصر في ردها على واشنطن احتجت بأن الحكم على الدكتور ابراهيم صدر من خلال القضاء المصري، ويجب ألا تتدخل الولايات المتحدة في أحكام ذلك القضاء، كما ان الدولة المصرية لا تمارس مثل ذلك التدخل، وهي حجة ليست قوية تماماً لان إحدى الشكاوى التي تتردد في مصر ان الحكومة لا تحترم أحكام القضاء، كما ان ثمة قضايا عديدة تصدر فيها الأحكام بناء على اعتبارات سياسة بأكثر من صدورها استناداً الى نص القانون أو روحه.
رغم ذلك كله فأزعم أن الأزمة بين القاهرة وواشنطن ليست مرشحة للتصعيد، بسبب ما ذكرته قبلا من تشابك المصالح وتداخلها على نحو يجعل من خصامهما مغامرة خطرة يحرص كل بلد على تجنبه، حتى اشعار آخر على الأقل.
أضافة تعليق