د.نوال العيد
في مجلس علمي حافل اجتمع فيه نخبة من المتخصصات في الفقه الإسلامي لنقاش مسائلَ علميةٍ فقهية تتعلق بشهر رمضان المبارك، كمسألة دخول الشهر عن طريق الحساب الفلكي أو الرؤية البصرية، وأدلةِ كل فريق وترجيحاتهٍ،وكتقديمِ كفارة الصيام للمريض والكبير على دخول الشهر، وهل رؤيةُ الهلال في بلد تلزمُ أهلَ البلاد الأخرى بالصيام، إلى غير ذلك من المسائل الفقهية، لم تلفت المسائلُ العلميةُ المختلفُ فيها نظري بقدر مالفته ماوقع من التعصبٍ الفقهي العجيب للبعض لرأيه، ومحاولةِ تسفيه الآراءٍ الأخرى وتأثيم الآخذين بها، مع ورود النص النبوي بأجرين للمجتهد المصيب وأجٍر للمجتهد المخطئ، فليت شعري كيف تُجُريء على تأثيم من أخبر رسولُ الله بأجره، وانتهت كلُ مسألة إلى تراشق التهم، خذ على سبيل المثل المسألة الأولى التي كانت حول ثبوتِ دخولِ الشهر بالحساب أم بالرؤية،القائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد ردوا النصَ الشرعي، وساروا على منهاجِ أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوصَ ولا يرعون حرمتها، وربما عظم بعضهم هذا الخلاف ، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً ، بل هو خلاف منهجي ، وما الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره ! !
والقائلون بالقول الثاني:يرون إخوانهم قد جمدوا في فهم دلالةِ النص، فمقصود الشارع أن يتثبت الناسٌ من دخول الشهر، فإذا استطاعوا معرفة دخوله بأي طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع، والحساب الذي ردَّه المتقدمون من أهل العلم كابن تيمية وغيرِه هو الحسابُ الظني الذي يكثر فيه خطأ الحسابيين واختلافُهم فيما بينهم، أما الحسابُ في هذا العصر فقد تغيرت آلياته وتطورت أدواته، وأصبحت نسبةُ الخطأ فيه قليلة جداً، والشرع لا يأتي بما يخالف العقل. وعلى هذا المثل قس بقية الأمثلة،لقد كنت أرقب المجلس وسؤال يدور في ذهني هل نحن بحاجة إلى مدارسة المسائل الفقهية قبل أن نتقن ونتخلقَ بآداب الخلاف، ونمهرَ في فهمِ أخلاقيات الفقهاء والعلماء .
رحم الله السيوطي حين قال:’’ اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمةُ كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سرٌ لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟....إلى أن قال: فعرف بذلك أن اختلاف المذاهبِ في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة’’ وكثيرا مايردد شيخ الإسلام في فتاواه:’’ إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة’’ فعلام تقلب رحمة الله إلى عذاب، وتصير النعمة والفضيلة جمرة يكتوي بها من اختار مذهبا يراه الأقرب للصواب، إن أ ول آداب الاختلاف أن يفقه جمهورُ الناس أن الاختلاف إذا لم يكن في الأصول، ولم ينشأ عن تعصب وهوى بل كان في فروع الدين عن حجة وبرهان فإنه رحمةٌ من رب العالمين، وتوسعة ٌعلى المسلمين، لا يستوجب هجرً المخالف ولا قطيعته، ولشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كلام دال على روح فقيه في رسالته لأهل البحرين حين اختلفوا هل يرى الكافر ربه في الآخرة، فقال:’’ والذى أوجب هذا أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلافٍ بينكم حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف فى رؤيةٍ الكفار ربهم، وما كنا نظن أن الأمر يبلغُ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر في ذلك خفيف، وليست هذه المسألةُ فيما علمت مما يوجب المهاجرةُ والمقاطعة فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهُم أهلُ سنة وإتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما اختلف الصحابةُ ـ رضى الله عنهم ـ والناسُ بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه و سلم ربه في الدنيا وقالوا فيها كلماتٍ غليظة كقول أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنهاـ من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجرا ولا تقاطعا، وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواما من أهل السنة في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان أحمدٌ وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة إلى مسائل نظير هذه كثيرة.
ومن ذلك أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارا يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم فإن مثلً هذا مما يكرهه الله ورسوله،وقال يونس الصدفي : ما رأيت أعقلَ من الشافعي ؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ، ثم قال: ( يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا ، وإن لم نتفق في مسألة)
إن مانراه اليوم في مجالسنا ونسمعه في إذاعاتنا ونقرأه في منتدياتنا من تراشق للتهم وتضليل للمسلمين وتفسيق لمن اختار مذهبا بناء على دليل لاهوى أو تعصب لهو انعكاس لما يكون بين العلماء والدعاة والمختصين إذ أنهم قدواتٌ لمن يقلدونهم، فمتى سترى الأبحاث الفقهية للنوازل الشرعية النور بلغة يفهمها الجميع، وهل سنعي أن اختيار الرأي الفقهي ديانة ينافيها الخصومة والقطيعة بعده.
الدكتورة نوال العيد
[email protected]
*لجينيات
في مجلس علمي حافل اجتمع فيه نخبة من المتخصصات في الفقه الإسلامي لنقاش مسائلَ علميةٍ فقهية تتعلق بشهر رمضان المبارك، كمسألة دخول الشهر عن طريق الحساب الفلكي أو الرؤية البصرية، وأدلةِ كل فريق وترجيحاتهٍ،وكتقديمِ كفارة الصيام للمريض والكبير على دخول الشهر، وهل رؤيةُ الهلال في بلد تلزمُ أهلَ البلاد الأخرى بالصيام، إلى غير ذلك من المسائل الفقهية، لم تلفت المسائلُ العلميةُ المختلفُ فيها نظري بقدر مالفته ماوقع من التعصبٍ الفقهي العجيب للبعض لرأيه، ومحاولةِ تسفيه الآراءٍ الأخرى وتأثيم الآخذين بها، مع ورود النص النبوي بأجرين للمجتهد المصيب وأجٍر للمجتهد المخطئ، فليت شعري كيف تُجُريء على تأثيم من أخبر رسولُ الله بأجره، وانتهت كلُ مسألة إلى تراشق التهم، خذ على سبيل المثل المسألة الأولى التي كانت حول ثبوتِ دخولِ الشهر بالحساب أم بالرؤية،القائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد ردوا النصَ الشرعي، وساروا على منهاجِ أهل الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظمون النصوصَ ولا يرعون حرمتها، وربما عظم بعضهم هذا الخلاف ، وزعم أنه ليس خلافاً فقهياً ، بل هو خلاف منهجي ، وما الخلاف في هذه المسألة إلا أثر من آثاره ! !
والقائلون بالقول الثاني:يرون إخوانهم قد جمدوا في فهم دلالةِ النص، فمقصود الشارع أن يتثبت الناسٌ من دخول الشهر، فإذا استطاعوا معرفة دخوله بأي طريقة علمية صحيحة فثمَّ مقصود الشارع، والحساب الذي ردَّه المتقدمون من أهل العلم كابن تيمية وغيرِه هو الحسابُ الظني الذي يكثر فيه خطأ الحسابيين واختلافُهم فيما بينهم، أما الحسابُ في هذا العصر فقد تغيرت آلياته وتطورت أدواته، وأصبحت نسبةُ الخطأ فيه قليلة جداً، والشرع لا يأتي بما يخالف العقل. وعلى هذا المثل قس بقية الأمثلة،لقد كنت أرقب المجلس وسؤال يدور في ذهني هل نحن بحاجة إلى مدارسة المسائل الفقهية قبل أن نتقن ونتخلقَ بآداب الخلاف، ونمهرَ في فهمِ أخلاقيات الفقهاء والعلماء .
رحم الله السيوطي حين قال:’’ اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمةُ كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سرٌ لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟....إلى أن قال: فعرف بذلك أن اختلاف المذاهبِ في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة’’ وكثيرا مايردد شيخ الإسلام في فتاواه:’’ إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة’’ فعلام تقلب رحمة الله إلى عذاب، وتصير النعمة والفضيلة جمرة يكتوي بها من اختار مذهبا يراه الأقرب للصواب، إن أ ول آداب الاختلاف أن يفقه جمهورُ الناس أن الاختلاف إذا لم يكن في الأصول، ولم ينشأ عن تعصب وهوى بل كان في فروع الدين عن حجة وبرهان فإنه رحمةٌ من رب العالمين، وتوسعة ٌعلى المسلمين، لا يستوجب هجرً المخالف ولا قطيعته، ولشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كلام دال على روح فقيه في رسالته لأهل البحرين حين اختلفوا هل يرى الكافر ربه في الآخرة، فقال:’’ والذى أوجب هذا أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلافٍ بينكم حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف فى رؤيةٍ الكفار ربهم، وما كنا نظن أن الأمر يبلغُ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر في ذلك خفيف، وليست هذه المسألةُ فيما علمت مما يوجب المهاجرةُ والمقاطعة فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهُم أهلُ سنة وإتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا كما اختلف الصحابةُ ـ رضى الله عنهم ـ والناسُ بعدهم في رؤية النبي صلى الله عليه و سلم ربه في الدنيا وقالوا فيها كلماتٍ غليظة كقول أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنهاـ من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجرا ولا تقاطعا، وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواما من أهل السنة في مسألة الشهادة للعشرة بالجنة حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات وكان أحمدٌ وغيره يرون الشهادة ولم يهجروا من امتنع من الشهادة إلى مسائل نظير هذه كثيرة.
ومن ذلك أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارا يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم فإن مثلً هذا مما يكرهه الله ورسوله،وقال يونس الصدفي : ما رأيت أعقلَ من الشافعي ؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ، ثم قال: ( يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا ، وإن لم نتفق في مسألة)
إن مانراه اليوم في مجالسنا ونسمعه في إذاعاتنا ونقرأه في منتدياتنا من تراشق للتهم وتضليل للمسلمين وتفسيق لمن اختار مذهبا بناء على دليل لاهوى أو تعصب لهو انعكاس لما يكون بين العلماء والدعاة والمختصين إذ أنهم قدواتٌ لمن يقلدونهم، فمتى سترى الأبحاث الفقهية للنوازل الشرعية النور بلغة يفهمها الجميع، وهل سنعي أن اختيار الرأي الفقهي ديانة ينافيها الخصومة والقطيعة بعده.
الدكتورة نوال العيد
[email protected]
*لجينيات