هويدي 19-3-2001
مسألة «الأصنام» بحاجة إلى تحرير، بعدما أصبح حديثها على كل لسان، وخاض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، حتى التبس الأمر على كثيرين، فلم يُعرف الحق من الباطل، ولا الحلال من الحرام، أو الحسن من القبيح.
وأسجل ابتداء أننا نستدرج إلى مناقشة أمور لا تمثل أية أولوية في مشكلاتنا وهمومنا، الأمر الذي يصرفنا عن الانشغال بما هو فاعل ومصيري في حياتنا، فيستهلك طاقاتنا وربما أوقع بيننا وفرق صفوفنا، الأمر الذي يقدم إلى أعداء الأمة والمتربصين بها هدية ثمينة، تحقق لهم ما يتمنونه لنا من فرقة وتشتت وذهول عما يدبرون. ولعل النموذج الدال على ذلك أنه بينما نحن مستغرقون في الجدل حول التماثيل والأصنام فان اسرائيل تواصل في هدوء خنق الفلسطينيين وإحكام الحصار حولهم. وبلغ بهم الاستهتار حداً دفع جندياً في الجيش النظامي إلى القاء قنبلة في فناء مدرسة تعج بالأطفال في الخليل. مثل هذه الجرائم تحدث كل يوم في حقنا ولا تحرك فينا شيئاً لأننا لاهون، ومشغولون بأمور أخرى ثانوية بينها حكاية التماثيل والأصنام، وهل تهدم أو لا تهدم. ولا أعرف بأي وجه سنلقى الله، وماذا سنقول يوم نحاسب عن جهدنا في ما بذلناه، ووقتنا في ما ضيعناه، وماذا سنقول حين نسأل عن إدماننا الانشغال بما لا ينفع، والقتال في غير معركة، وتفضيل النظر إلى الخلف ومخاصمة النظر إلى الأمام.
لقد فرضت مسألة التماثيل نفسها علينا من حيث لا نحتسب، وورط ذلك البعض في مواقف وتأويلات أحدثت التباسات بغير حد. فشوشت العقول بأكثر مما أنارت الطريق، وضيقت بأكثر مما وسَّعت، ومن ثم فانها أضرت بأكثر مما نفعت.
سأتحدث هنا عن نموذجين للالتباس أوقعا كثيرين في الغلط، الأول هو ذلك الخلط بين الأصنام والتماثيل، واعتبار كل تمثال صنماً، وكل صنم ضلالة، والباقي معروف. وحقيقة الأمر أن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك. والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين، أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل الرشيد.
دليلي على ذلك أستخلصه من القرآن ذاته، ففي سورة «الأنبياء»، التي تحدثت عن قوم ابراهيم الذين اتخذوا التماثيل أصناماً عبدوها من دون الله، كان الرفض حاسماً والضلال ثابتاً وتسفيه القوم لا شك فيه. أكثر من ذلك فان الله سبحانه وتعالى أراد لنبيه ابراهيم أن يحطم هذه التماثيل، فقال على لسانه: «وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم، لعلهم إليه يرجعون».
وما صنعه النبي ابراهيم مع التماثيل المعبودة، هو ما صنعه محمد صلى الله عليه وسلم، عندما طهر الجزيرة العربية من كل أثر لها، وأذن في الناس يومئذ وهو يحطمها قائلاً: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
في سورة «سبأ» حديث عن التماثيل اتخذ منحى آخر، فقد أشار إليها الخطاب القرآني في معرض تعداد نعم الله سبحانه على نبيه سليمان عليه السلام. فهو سخر له الريح، وأتاح له عيناً تفيض بالنحاس المذاب (القطْر)، وسخر له الجن تصنع له بعضاً من زينة الحياة الدنيا وجمالها، بيوتاً عالية (محاريب) وحفراً كبيرة (جفان)، وقدوراً راسيات. ... وأيضاً «تماثيل» من زجاج ونحاس ورخام، تصور الأحياء، بل وتصور الأنبياء والعلماء، كما يقول المفسرون (القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ جـ4).
في هذا الصدد يقول القرآن ما نصه: «ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر. وأسلنا له عين القطر. ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات. اعملوا آل داود شكراً، وقليل من عبادي الشكور».
التماثيل هنا، حين انتفت مظنة عبادتها، اعتبرت من نعم الله على الانسان. وعاملها وصانعها انما يعملها باذن ربه، وعلى الذين أنعم الله عليهم بهذه النعمة مقابلتها بالشكر لله وحده. وأحد مظاهره اكتشاف ما فيها من جمال، على حد تعبير الدكتور محمد عمارة.
وهو يحرر الموقف القرآني في كتابه «الاسلام والفنون الجميلة» يقرر: ان الموقف من التماثيل ليس واحداً، وليس عاماً، وليس مطلقاً. فحيثما تكون سبيلاً للشرك بالله ـ شركاً جلياً أو خفياً ـ فهي حرام وتحطيمها واجب. أما عندما تنتفي مظنة عبادتها وتعظيمها والشرك بواسطتها، فهي عندئذ من نعم الله التي للانسان، إذ يقصد إليها، وأن يتخذ منها سبيلاً لترقية حسه وتجميل حياته، وتزكية القيم الطيبة وتخليدها.
إذا صح ذلك، وما دام قد أورده القرآن فهو صحيح لا ريب، فلماذا إذن التخليط والتبسيط، ووصف كل تمثال بأنه صنم، ومن ثم اثارة المسلمين وتحريضهم ضد كل عمل فني منحوت، لا يرى فيه أهل زماننا سوى أنه منتج ثقافي وعمل جمالي، الأمر الذي لا شأن له بالتعظيم أو التقديس.
الالتباس الثاني يتعلق بمسألة هدم الأصنام، وتعميمها قياساً على ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، حين حطموا ما فيها من أصنام، كانت رمزاً للشرك في ما قبل الاسلام.
وهذا الذي حدث أحسبه حكماً خاصاً بالجزيرة العربية، لا ينطبق على غيرها من ديار الاسلام. إذ مفهوم معه أن يطهر مهبط الوحي ومعقل الدين من الأوثان، كما أنه مفهوم نداء الرسول عليه الصلاة والسلام أنه «لا يجتمع دينان في الجزيرة العربية»، خصوصاً في ظل تعدد مؤامرات اليهود ودسائسهم. لكن تعميم الحكم على كل بلاد المسلمين ليس له ما يبرره. ولا أعرف أن الصحابة دعوا إليه أو أيدوه بأي صورة.
لما فتحت بلاد فارس ووجد المسلمون ديانات لم يسمعوا بها ولم يعرفوها من قبل، مثل عبدة النار، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لمن حوله من صحابة رسول الله: نحن نعرف اليهود والنصارى، فهل عندكم سند عن الرسول. عندئذ رد عليه عبد الرحمن بن عوف قائلاً: سمعت رسول الله يقول: سنوا فيهم سنة أهل الكتاب، أي عاملوهم كما يعامل أهل الذمة. ومنذ ذلك الحين تُرِك الآخرون في البلاد المفتوحة ومعبوداتهم، وطبقت عليهم عهود الأمان والذمة، فلم تحطم تماثيل أو أصنام في أي بلد مفتوح، ولم يحرم عبدة الشمس أو النار من ممارسة طقوسهم. وفي نفس الوقت فإن ذلك لم ينل شيئاً من عقائد المسلمين، منذ ذلك الحين وإلى الآن.
لم يهدم المسلمون الأوائل، شيئاً من معبودات غير المسلمين خارج الجزيرة العربية، رغم أن فيهم خلفاء راشدين وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين هم الأكثر فهماً وأشد غيرة على الاسلام من غيرهم، وما كان لهم أن يقفوا هذا الموقف إلا لادراكهم أن هدم الأصنام المعبودة مقصور على الجزيرة العربية دون غيرها.
بسبب من ذلك، فلعلي أقول بأن زعم البعض أن المسلمين مطالبون بهدم الأصنام المعبودة حيثما وجدت، لا أساس له من الشرع أو التاريخ. وحين قرر علماء أفغانستان هدم التماثيل البوذية بحجة أن بعض البوذيين يأتون إليها ويتعبدون أمامها، فانهم وقعوا في محظور الخلط الذي نحذر منه بين ما هو خاص بالجزيرة العربية وما هو عام وشامل لكل بلاد المسلمين.
لا نعرف أن الراشدين من حكام المسلمين منعوا أصحاب أي ملة من التعبد بالوسيلة المعتمدة لديهم، وهم يتمتعون بالمواطنة في الدولة الاسلامية. بل ان هذا المنع ـ إذا تم ـ فإنه يعد من قبيل الاكراه في الدين المنهي عنه شرعاً. ولسنا هنا بحاجة لأن نستعيد النصوص القرآنية التي نبهت في أكثر من موضع إلى أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه أرادهم مختلفين لحكمة ليست خافية. وينبغي احترام الاختلاف، أياً كان مداه، طالما أن الآخرين لم يعتدوا على المسلمين أو يفتنوهم في دينهم، وقبلوا بأن يعيشوا معهم في أمان وسلام. وفي هذه الحالة فالبر بهم واجب طبقاً للنص القرآني الذي يقول: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبرَّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». هدم معبودات الآخرين ليس من البر أو القسط في شيء، وفضلاً عن أنه من قبيل الاكراه في الدين، كما ذكرت تواً، فإنه أيضاً يتعارض مع نهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لا نريد أن يزايد بعضنا في الغيرة أو الفهم على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا نريد أن نتعامل مع الاسلام كأنه نزل أمس فقط ونفرض وصاية مفتعلة على عقائد الناس. وينبغي ألا ننسى أن وجود التماثيل أو الأصنام في أي بلد، حتى تلك البلدان التي يعيش فيها المسلمون كأقلية مستضعفة، لم يفتن المسلمون في دينهم ولا هم تحولوا عنه. وحين تحول بعضهم عن الاسلام في بعض الأقطار، فانهم جنحوا إلى ذلك ليس افتتاناً بالأصنام والتماثيل، ولكن لأنهم عانوا من الجهل والفقر والبؤس. وهذه هي الجبهة الحقيقية التي ينبغي أن يقاتل عليها من أراد أن يقاتل دفاعاً عن الاسلام والمسلمين. أما افتعال معارك وهمية مع طواحين الهواء، فذلك مظهر آخر من مظاهر البؤس الفكري والثقافي، بل من مظاهر الجهل بالدين والدنيا معاً.
أيها السادة، اتقوا الله في دينكم ودنياكم، وكفاكم حرباً ضد الطواحين، وليتكم تقلبون صفحة الأصنام والثرثرة المفتعلة بشأنها، لتلتفتوا إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فيبني ولا يهدم، ويضيء فلا يعتم أو يظلم.
مسألة «الأصنام» بحاجة إلى تحرير، بعدما أصبح حديثها على كل لسان، وخاض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، حتى التبس الأمر على كثيرين، فلم يُعرف الحق من الباطل، ولا الحلال من الحرام، أو الحسن من القبيح.
وأسجل ابتداء أننا نستدرج إلى مناقشة أمور لا تمثل أية أولوية في مشكلاتنا وهمومنا، الأمر الذي يصرفنا عن الانشغال بما هو فاعل ومصيري في حياتنا، فيستهلك طاقاتنا وربما أوقع بيننا وفرق صفوفنا، الأمر الذي يقدم إلى أعداء الأمة والمتربصين بها هدية ثمينة، تحقق لهم ما يتمنونه لنا من فرقة وتشتت وذهول عما يدبرون. ولعل النموذج الدال على ذلك أنه بينما نحن مستغرقون في الجدل حول التماثيل والأصنام فان اسرائيل تواصل في هدوء خنق الفلسطينيين وإحكام الحصار حولهم. وبلغ بهم الاستهتار حداً دفع جندياً في الجيش النظامي إلى القاء قنبلة في فناء مدرسة تعج بالأطفال في الخليل. مثل هذه الجرائم تحدث كل يوم في حقنا ولا تحرك فينا شيئاً لأننا لاهون، ومشغولون بأمور أخرى ثانوية بينها حكاية التماثيل والأصنام، وهل تهدم أو لا تهدم. ولا أعرف بأي وجه سنلقى الله، وماذا سنقول يوم نحاسب عن جهدنا في ما بذلناه، ووقتنا في ما ضيعناه، وماذا سنقول حين نسأل عن إدماننا الانشغال بما لا ينفع، والقتال في غير معركة، وتفضيل النظر إلى الخلف ومخاصمة النظر إلى الأمام.
لقد فرضت مسألة التماثيل نفسها علينا من حيث لا نحتسب، وورط ذلك البعض في مواقف وتأويلات أحدثت التباسات بغير حد. فشوشت العقول بأكثر مما أنارت الطريق، وضيقت بأكثر مما وسَّعت، ومن ثم فانها أضرت بأكثر مما نفعت.
سأتحدث هنا عن نموذجين للالتباس أوقعا كثيرين في الغلط، الأول هو ذلك الخلط بين الأصنام والتماثيل، واعتبار كل تمثال صنماً، وكل صنم ضلالة، والباقي معروف. وحقيقة الأمر أن من التماثيل ما يعد أصناماً وما لا يعد كذلك. والأولى هي التي تعبد من دون الله ومن ثم فتحريمها مقطوع به على المسلمين، أما التماثيل التي لا تعبد فوصفها بأنها أصنام فيه افتئات ينبغي أن يتنزه عنه العقل الرشيد.
دليلي على ذلك أستخلصه من القرآن ذاته، ففي سورة «الأنبياء»، التي تحدثت عن قوم ابراهيم الذين اتخذوا التماثيل أصناماً عبدوها من دون الله، كان الرفض حاسماً والضلال ثابتاً وتسفيه القوم لا شك فيه. أكثر من ذلك فان الله سبحانه وتعالى أراد لنبيه ابراهيم أن يحطم هذه التماثيل، فقال على لسانه: «وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم، لعلهم إليه يرجعون».
وما صنعه النبي ابراهيم مع التماثيل المعبودة، هو ما صنعه محمد صلى الله عليه وسلم، عندما طهر الجزيرة العربية من كل أثر لها، وأذن في الناس يومئذ وهو يحطمها قائلاً: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
في سورة «سبأ» حديث عن التماثيل اتخذ منحى آخر، فقد أشار إليها الخطاب القرآني في معرض تعداد نعم الله سبحانه على نبيه سليمان عليه السلام. فهو سخر له الريح، وأتاح له عيناً تفيض بالنحاس المذاب (القطْر)، وسخر له الجن تصنع له بعضاً من زينة الحياة الدنيا وجمالها، بيوتاً عالية (محاريب) وحفراً كبيرة (جفان)، وقدوراً راسيات. ... وأيضاً «تماثيل» من زجاج ونحاس ورخام، تصور الأحياء، بل وتصور الأنبياء والعلماء، كما يقول المفسرون (القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ جـ4).
في هذا الصدد يقول القرآن ما نصه: «ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر. وأسلنا له عين القطر. ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب، وقدور راسيات. اعملوا آل داود شكراً، وقليل من عبادي الشكور».
التماثيل هنا، حين انتفت مظنة عبادتها، اعتبرت من نعم الله على الانسان. وعاملها وصانعها انما يعملها باذن ربه، وعلى الذين أنعم الله عليهم بهذه النعمة مقابلتها بالشكر لله وحده. وأحد مظاهره اكتشاف ما فيها من جمال، على حد تعبير الدكتور محمد عمارة.
وهو يحرر الموقف القرآني في كتابه «الاسلام والفنون الجميلة» يقرر: ان الموقف من التماثيل ليس واحداً، وليس عاماً، وليس مطلقاً. فحيثما تكون سبيلاً للشرك بالله ـ شركاً جلياً أو خفياً ـ فهي حرام وتحطيمها واجب. أما عندما تنتفي مظنة عبادتها وتعظيمها والشرك بواسطتها، فهي عندئذ من نعم الله التي للانسان، إذ يقصد إليها، وأن يتخذ منها سبيلاً لترقية حسه وتجميل حياته، وتزكية القيم الطيبة وتخليدها.
إذا صح ذلك، وما دام قد أورده القرآن فهو صحيح لا ريب، فلماذا إذن التخليط والتبسيط، ووصف كل تمثال بأنه صنم، ومن ثم اثارة المسلمين وتحريضهم ضد كل عمل فني منحوت، لا يرى فيه أهل زماننا سوى أنه منتج ثقافي وعمل جمالي، الأمر الذي لا شأن له بالتعظيم أو التقديس.
الالتباس الثاني يتعلق بمسألة هدم الأصنام، وتعميمها قياساً على ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، حين حطموا ما فيها من أصنام، كانت رمزاً للشرك في ما قبل الاسلام.
وهذا الذي حدث أحسبه حكماً خاصاً بالجزيرة العربية، لا ينطبق على غيرها من ديار الاسلام. إذ مفهوم معه أن يطهر مهبط الوحي ومعقل الدين من الأوثان، كما أنه مفهوم نداء الرسول عليه الصلاة والسلام أنه «لا يجتمع دينان في الجزيرة العربية»، خصوصاً في ظل تعدد مؤامرات اليهود ودسائسهم. لكن تعميم الحكم على كل بلاد المسلمين ليس له ما يبرره. ولا أعرف أن الصحابة دعوا إليه أو أيدوه بأي صورة.
لما فتحت بلاد فارس ووجد المسلمون ديانات لم يسمعوا بها ولم يعرفوها من قبل، مثل عبدة النار، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لمن حوله من صحابة رسول الله: نحن نعرف اليهود والنصارى، فهل عندكم سند عن الرسول. عندئذ رد عليه عبد الرحمن بن عوف قائلاً: سمعت رسول الله يقول: سنوا فيهم سنة أهل الكتاب، أي عاملوهم كما يعامل أهل الذمة. ومنذ ذلك الحين تُرِك الآخرون في البلاد المفتوحة ومعبوداتهم، وطبقت عليهم عهود الأمان والذمة، فلم تحطم تماثيل أو أصنام في أي بلد مفتوح، ولم يحرم عبدة الشمس أو النار من ممارسة طقوسهم. وفي نفس الوقت فإن ذلك لم ينل شيئاً من عقائد المسلمين، منذ ذلك الحين وإلى الآن.
لم يهدم المسلمون الأوائل، شيئاً من معبودات غير المسلمين خارج الجزيرة العربية، رغم أن فيهم خلفاء راشدين وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين هم الأكثر فهماً وأشد غيرة على الاسلام من غيرهم، وما كان لهم أن يقفوا هذا الموقف إلا لادراكهم أن هدم الأصنام المعبودة مقصور على الجزيرة العربية دون غيرها.
بسبب من ذلك، فلعلي أقول بأن زعم البعض أن المسلمين مطالبون بهدم الأصنام المعبودة حيثما وجدت، لا أساس له من الشرع أو التاريخ. وحين قرر علماء أفغانستان هدم التماثيل البوذية بحجة أن بعض البوذيين يأتون إليها ويتعبدون أمامها، فانهم وقعوا في محظور الخلط الذي نحذر منه بين ما هو خاص بالجزيرة العربية وما هو عام وشامل لكل بلاد المسلمين.
لا نعرف أن الراشدين من حكام المسلمين منعوا أصحاب أي ملة من التعبد بالوسيلة المعتمدة لديهم، وهم يتمتعون بالمواطنة في الدولة الاسلامية. بل ان هذا المنع ـ إذا تم ـ فإنه يعد من قبيل الاكراه في الدين المنهي عنه شرعاً. ولسنا هنا بحاجة لأن نستعيد النصوص القرآنية التي نبهت في أكثر من موضع إلى أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه أرادهم مختلفين لحكمة ليست خافية. وينبغي احترام الاختلاف، أياً كان مداه، طالما أن الآخرين لم يعتدوا على المسلمين أو يفتنوهم في دينهم، وقبلوا بأن يعيشوا معهم في أمان وسلام. وفي هذه الحالة فالبر بهم واجب طبقاً للنص القرآني الذي يقول: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبرَّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». هدم معبودات الآخرين ليس من البر أو القسط في شيء، وفضلاً عن أنه من قبيل الاكراه في الدين، كما ذكرت تواً، فإنه أيضاً يتعارض مع نهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لا نريد أن يزايد بعضنا في الغيرة أو الفهم على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا نريد أن نتعامل مع الاسلام كأنه نزل أمس فقط ونفرض وصاية مفتعلة على عقائد الناس. وينبغي ألا ننسى أن وجود التماثيل أو الأصنام في أي بلد، حتى تلك البلدان التي يعيش فيها المسلمون كأقلية مستضعفة، لم يفتن المسلمون في دينهم ولا هم تحولوا عنه. وحين تحول بعضهم عن الاسلام في بعض الأقطار، فانهم جنحوا إلى ذلك ليس افتتاناً بالأصنام والتماثيل، ولكن لأنهم عانوا من الجهل والفقر والبؤس. وهذه هي الجبهة الحقيقية التي ينبغي أن يقاتل عليها من أراد أن يقاتل دفاعاً عن الاسلام والمسلمين. أما افتعال معارك وهمية مع طواحين الهواء، فذلك مظهر آخر من مظاهر البؤس الفكري والثقافي، بل من مظاهر الجهل بالدين والدنيا معاً.
أيها السادة، اتقوا الله في دينكم ودنياكم، وكفاكم حرباً ضد الطواحين، وليتكم تقلبون صفحة الأصنام والثرثرة المفتعلة بشأنها، لتلتفتوا إلى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، فيبني ولا يهدم، ويضيء فلا يعتم أو يظلم.