مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ملاحظات على تصاعد المد الإسلامي في الانتخابات الأخيرة
هويدي 18-11-2002

في حين تستمر الأصداء قوية لفوز حزب العدالة والتنمية التركي بالأغلبية في الانتخابات داخل تركيا وخارجها، تجيء وفاة المرشد العام الخامس للاخوان المسلمين في مصر الاستاذ مصطفى مشهور، لتسلط الضوء على ملف الحركة الاسلامية الأم في العالم الاسلامي، مثيرة في الوقت ذاته عديدا من الأسئلة حول مسيرة الجماعة ومستقبلها، فضلا عن مجمل مؤشرات المشهد الاسلامي الراهن.
* لأول وهلة يوحي المشهد بأن المد الاسلامي في صعود لافت للنظر، مكذبا الشائعات التي روج لها نفر من الكتاب الصحفيين والباحثين الاكاديميين، ممن راحوا يتصايحون شامتين بعد 11 سبتمبر (ايلول)، مبشرين أنفسهم ومن لف لفهم بأن الموجة الاسلامية قد انكسرت، وان الانحسار بدأ، وعلى الجميع من ثم ان يعدوا أنفسهم للدخول فيما أسموه «مرحلة ما بعد الأصولية» (الباحث الفرنسي جيل كيبل أصدر كتابا يروج للبشارة بعنوان «موت الأصولية»).
* الملاحظة الثانية ان ثمة اقبالا متزايدا من الجماعات الاسلامية للمشاركة في العملية الديمقراطية، الأمر الذي حول دعاة مقاطعة الانتخابات أو المخاصمين للديمقراطية الى أقلية يتقلص دورها وحضورها حينا بعد حين، ولسنا نبالغ اذا قلنا ان ممارسات العنف والإرهاب وما أسفرت عنه من خسائر فادحة أصابت العباد ولم تسلم من آثارها البلاد، أحدثت صدمة لدى المحيط الاسلامي بعامة، نبهت قطاعات عريضة منه الى خطورة التطرف وضرورة بذل جهد حثيث لتوسيع قاعدة الاعتدال.
ان شئت الدقة فقل ان بروز التطرف قوبل بمقاومة شديدة داخل التيار الاسلامي ذاته، تمثلت في مزيد من الانخراط في الأنشطة المدنية والممارسات الديمقراطية، كما تمثل ذلك في الجهد الكبير الذي بذله الباحثون الاسلاميون لتنظير وتأصيل المصالحة مع الديمقراطية والملفات العالقة المتصلة بالحريات وحقوق الانسان ومشاركة المرأة في العمل العام، ومن أسف ان ممارسات التطرف حظيت بأكبر قدر من الاضواء في أجهزة الاعلام، أما جهود الدفاع عن الاعتدال والمشاركة السلمية فلم تحظ بأي اهتمام، لأسباب عدة يطول شرحها، وأكثرها يفتقد البراءة.
* الملاحظة الثالثة ان أهم عامل ساعد على ظهور الأحزاب الاسلامية في الأفق السياسي هو توافر قدر متفاوت من الشفافية في الانتخابات التي أجريت، الأمر الذي يعني ان غياب تلك الأحزاب أو الجماعات الاسلامية عن المسرح السياسي في بعض الأقطار لا يعني انها غير موجودة، ولكنه يعني بالدرجة الأولى ان الغائب الحقيقي هو الديمقراطية، لكنه مؤشر أيضا على المصالحة بين الديمقراطية والاسلام، لاننا خبرنا حالات وتجارب عدة، بعضها قائم تحت أبصارنا الآن، تلح فيها بعض الجماعات الاسلامية على المشاركة في العملية الديمقراطية، ولكن الأبواب توصد في وجوهها استنادا الى ذرائع عدة، وأحيانا بلا ذرائع على الاطلاق.
* الملاحظة الرابعة ان الجماهير لم تعد تنطلي عليها حملات التعبئة والتحريض التي تهم كل الناشطين بأن نظام طالبان هو النموذج الذي يراد فرضه على الناس، أو أن «الجزأرة» -بمعنى استحضار النموذج الجزائري ـ ستحل بكل بلد يصل فيه الاسلاميون الى السلطة، لقد جرى الترويج لتلك المقولات في المغرب وفي تركيا، وجندت وسائل الاعلام المعبرة عن التعصب والتطرف العلمانيين لتحذير الناس من الاسلاميين، إلا ان ذلك لم يحقق المراد منه، وجاءت النتائج كما هو معروف.
* الملاحظة الخامسة ان الأحزاب الاسلامية التي حققت فوزا كبيرا في الانتخابات لم تبلغ ما بلغته فقط لانها اسلامية وتعبر بدرجة أو أخرى عن قيمة تمس وترا حساسا في المجتمع، ولكن أيضا لانها خاطبت المجتمعات بلغة مختلفة بصورة نسبية عن الخطاب الاسلامي التقليدي، فمن ناحية وضعت تلك الأحزاب هموم المجتمعات على رأس أولوياتها، ولذلك وجدنا تلك الأحزاب تتنبى قضايا البطالة والفساد الاداري والتدهور الاقتصادي، وغير ذلك من الأمور وثيقة الصلة بالحياة اليومية للجماهير، الأمر الذي يعبر عن نضج في الخطاب السياسي حوله من التجريد الى الواقع ومن المطلق الى النسبي.
من ناحية ثانية ان تلك الأحزاب لم تتبن في خطابها الحدود القصوى (تطبيق الشريعة مثلا)، وحسبما سمعت منهم في المغرب مثلا فانهم اعتبروا ان ثمة أهدافا مرحلية يجب انجازها أولا على صعيد الاصلاح والتنمية وحل مشاكل الجماهير، وذلك الانجاز اذا ما تم فانه يعد بمثابة خطى على طريق بلوغ الهدف النهائي، وهو الهدف الذي قد يتحقق بعد أجل طويل، كما انه قد يتحقق على أيدي جيل آخر.
وكان من آيات النضج السياسي ان حزب التنمية والعدالة بالمغرب كانت له أهدافه الانتخابية المتواضعة التي سعى الى تحقيقها، فمن البداية أعلنوا انهم لن يرشحوا ممثليهم في كل الدوائر الانتخابية، اكتفوا بترشيحهم في ثلثي الدوائر الانتخابية فقط، ثم انهم أعلنوا انهم لا يطمعون في الحصول على أكثر من 18 أو 20 بالمائة من الأصوات، وكان ذلك تصرفا حكيما، أريد به طمأنة الجميع في المغرب، خصوصا الطبقة السياسية، الى انهم لا يسعون الى الاكتساح، ولا الى الامساك بالسلطة، وإنما هم لا يتطلعون لأكثر من المشاركة في الحياة السياسية.
* الملاحظة السادسة متصلة بسابقتها، وهي اننا لم نر في تلك الانتخابات شعارات من قبيل شعار «الاسلام هو الحل»، الذي ظلت بعض الجماعات الاسلامية تحرص على اشهاره في كل معركة انتخابية، من باب تحديد الهوية، غير انه بعد الالتباسات العديدة التي أحاطت بالشعار الفضفاض، وأدت الى تشويهه وسوء فهمه، فإن الأحزاب الاسلامية كفت عن التلويح به، ويبدو أن تخفيف لهجة الخطاب على ذلك النحو هيأ فرصة أوسع للوصول الى قطاعات من تلك التي تأثرت بحملات التعبئة المضادة، وساورتها الشكوك والمخاوف إزاء تلك الأحزاب.
* الملاحظة السابعة تخص الحالة التركية التي تحقق فيها أكبر قدر من الاجماع حول حزب العدالة والتنمية، وتتمثل في ان الحزب ادرك انه يتحرك في ظل نظام يعتبر العلمانية دينا، ومن ثم فانه قرر ان يتعامل مع الحقيقة السياسية كما هي، فعبر قادته عن احترامهم للعلمانية والتزامهم بقواعدها، ومن ثم فتح الحزب أبوابه وقدم بين مرشحيه شخصيات تمثل الاعتدال العلماني، الذي يجمعه أكثر من عامل مشترك مع الاعتدال الاسلامي، وفي الأجواء التركية لقيت تلك الصيغة قبولا وجاذبية، الأمر الذي شجع كثيرين على التصويت لصالح الحزب.
على صعيد آخر، فإن نجاح تجربة الطيب اردوغان زعيم الحزب، حين كان رئيس بلدية اسطنبول، أضافت الى رصيده الجماهيري بعدا خاصا، كان له دوره في الاحتشاد للتصويت لصالحه.
* الملاحظة الثامنة والأخيرة هي اننا نلحظ الصعود واضحا في حظوظ العديد من الأحزاب الاسلامية بالعالم العربي والاسلامي، بينما تعاني حركة الاخوان المسلمين في مصر، التي هي بمثابة الأم لأغلب تلك الأحزاب والحركات، من شيخوخة جمدت الى حد كبير نشاطها، فضلا عن تواضع اسهامها في الحياة السياسية بالبلاد، فبعد ان توفي في الاسبوع الفائت مرشدها الخامس الاستاذ مصطفى مشهور، عن 83 عاما، من المرجح ان يتولى القيادة نائبه والقائم بأعماله المستشار مأمون الهضيبي الذي يبلغ من العمر 81 عاما، واذا استعرضنا قادة الجماعة منذ عام 54 وحتى الآن، فسنجد انهم جميعا كانوا فوق الثمانين، الأمر الذي جعل مصير الجماعة معلقا بشريحة القادة التاريخيين، وهو أمر لا غرابة فيه، لأنه منذ حظر الجماعة في عام 54 لم يتح لها ان تجدد شبابها أو تستعيد حيويتها طيلة حوالي نصف قرن، ولذلك كان من الطبيعي ان يبقى كل شيء فيها كما هو عليه، وان تحرص القيادة على الاكتفاء بدور الاحتشاد والتنظيم لضمان بقاء الجسم والحفاظ على الكيان ووحدة الصف، وقياداتها طيلة تلك الفترة كانت تنتخب في الأغلب على نطاق ضيق للغاية، وعلى أساس من اعتبارات كبر السن أحيانا، أو السبق في الدعوة والابتلاء في أحيان أخرى، حيث لا تتيح الاجواء التعديل على معايير أخرى.
ان شئت الدقة فقل انه ليس جمودا فحسب، ولكنه تجميد أيضا، ربما سمح للجسم لأن ينمو في الحجم بصورة نسبية، ولكنه لم يوفر للجماعة فرصة ادارة الحوار لا بين صفوفها، ولا بينها وبين المجتمع، وباستثناء الرسائل الثلاث التي أصدرتها الجماعة قبل سبع سنوات، حول موقفها من الديمقراطية والمرأة والأقليات، فإننا لا نكاد نرى لها نتاجا فكريا يذكر، يعكس تطورا فى الرؤية أو اجتهادا في النظر العام، صحيح ان الحظر يبدو وكأنه أعفاها من ذلك، إلا انه من الصحيح ايضا انها استسلمت لذلك الوضع، على نحو جعلها تعطي الأولوية للتنظيم ولا توجه عناية كافية للاجتهاد أو التنظير.
لم يحتمل البعض استمرار الوضع على ذلك النحو، فخرجوا لكي يتحركوا في مجال أرحب، أعني بذلك مجموعة «الوسط» التي لم يتح لها ان تمارس العمل السياسي، فاقتصرت على أداء دور ثقافي في إطار «جمعية مصر للثقافة والحوار» التي يرأسها الدكتور محمد سليم العوا، وثمة معلومات ترددت بشأن حوار يجري الآن داخل جماعة الاخوان ذاتها بين دعاة التطوير والاصلاح وبين التيار المحافظ الراغب في استمرار الأوضاع تجنبا لاحتمالات المساس بوحدة الجماعة في ظروف الحظر المفروض عليها.
المشكلة الجوهرية في كل ذلك ان الوضع الراهن للجماعة لا يتيح لها تطوير خطابها ولا اثراء خبرتها وحوارها مع المجتمع، في حين ان الجماعات والأحزاب الأخرى توفرت لها ظروف مواتية مكنتها من انجاز المهمة والتقدم في مسيرتها السياسية، وهو وضع لو استمر من الممكن من ان يؤدي الى تخلف الجماعة الأم عن غيرها، وهو ما يترتب عليه رسم خريطة جديدة للعمل الاسلامي تلعب فيه الاطراف دورا أكبر يفوق دور المركز.
أضافة تعليق