مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
انتعاش الإسلام الجهادي رد فعل طبيعي على الاحتلال الأميركي
هويدي 18-4-2003

لا أعرف كم عدد المرات التي سئلت فيها خلال الأسبوع الماضي عن التأثيرات المحتملة للحرب على الحالة الاسلامية وخطابها. لكن أزعم بأنها كانت بكثرة لافتة للنظر. واعترف بأنني لم أبدأ بالتفكير في تلك التأثيرات المفترضة إلا بعد ما تواترت الأسئلة بصددها، وهو ما أنكرته علي نفسي لأول وهلة، حين أدركت أن كثيرين من غير المنسوبين إلى الحالة الاسلامية اهتموا بالأمر، في حين لم يخطر على بالي أن أفكر فيه، وأنا المحسوب على تلك الحالة. واذ حاولت أن أفسر هذا «التقاعس» من جانبي وجدت أن الاعصار يهدد الأمة بكل أطيافها ومكوناتها، وهو ما شغلني طول الوقت وشغل آخرين بطبيعة الحال، الأمر الذي لم أجد معه مبرراً لاقتطاع فئة بذاتها كالاسلاميين، واخراجها من النسيج العام، ثم تسليط الضوء على مصيرها دون غيرها. وقد كان هذا هو موقفي منذ بداية الأزمة. وربما هناك من يتذكر أنني عبرت عن هذا المعنى، حين سجلت في مقالة نشرتها «الشرق الأوسط» اعتراضي على عقد المؤتمر الذي ناقش في طهران مستقبل الشيعة في العراق، وقلت آنذاك انه ليس من المناسب والعراق كله معرض للغرق والاحتلال، ان يترك مستقبل الوطن وينشغل البعض ببحث مستقبل الشيعة دون غيرهم.
ولعلي في المقام الذي نحن بصدده أردد المقولة ذاتها للسبب ذاته، ذلك انه بعد أن وقع المحظور وأصبح العراق تحت الاحتلال، فان السؤال المنطقي في هذه الحالة هو: ماذا ستفعل القوى العراقية والعرب والمسلمون جميعاً، وكيف سيتصرفون ازاء هذا المأزق التاريخي. واذ أراحني ذلك التفسير بصورة نسبية، وأزاح عن كاهلي الشعور بالذنب، إلا أنني حين وصلت إلى تلك النقطة قلت: حسناً، اذا كان الهم يمثل تحدياً لمختلف القوى الوطنية والسياسية، فكيف ستكون ردود أفعال تلك القوى، وهل ستختلف من فريق إلى آخر تبعاً لاختلاف الخصوصية الفكرية لكل منهم. وهو ما قادني إلى نفس النقطة التي أثارها المتسائلون عن رد فعل الحالة الاسلامية، حتى وجدت في تساؤلهم قدراً من الوجاهة وحافزاً على البحث والتحري.
ونحن نحاول التفكير من هذه الزاوية، يجدر بنا أن ننتبه إلى عدة أمور هي:
* ان مصطلح الخطاب الاسلامي فضفاض إلى درجة يصعب ضبطها، والتعميم فيه ظالم إلى حد كبير، حيث لا توجد في بلادنا جهة تمثل الناشطين الاسلاميين، ولا يوجد ممثل شرعي وحيد لهم. من ثم فالموقف الذي تعبر عنه حركة أو جماعة اسلامية بذاتها قد يتناقض مع موقف جماعة أخرى، في حين أن كلاً منهما ينتسب إلى الخطاب الاسلامي.
* يزيد من صعوبة الأمر أن خرائط واقعنا السياسي لا تتوافر لها الشفافية الكافية، لأسباب أحسبها مفهومة. وهو ما لا يوفر لنا امكانية رؤية توجهات وتمايزات فصائل الحالة الاسلامية، خصوصاً في المجتمعات التي تصادر أنشطة التنظيمات السياسية الاسلامية. لذلك فإن من يتصدى لرصد معالم الخطاب الاسلامي في بلد ما، قد يفاجأ بظهور فئات أو ارتفاع أصوات في الساحة الاسلامية قادمة من الشق المعتم في الصورة، ومعبرة عن رؤية لم تكن في الحسبان أو متخذة موقفاً لا يخطر على البال، وهو الأمر الذي يمكن أن يقلب الصورة رأساً على عقب. لذلك فاننا حين نغامر بالتقييم أو رصد الاحتمالات، لا نستطيع القطع بأن ما نقوم به ينطلق من ادراك كاف لتوجهات الحالة الاسلامية، وانما غاية ما هناك أنه يتناول القدر الذي ظهر من الأصوات أو المواقف المعبرة عن تلك الحالة.
* لا يخلو الأمر من مغامرة على صعيد آخر. لأننا نتحدث عن معركة لم تنته بعد، رغم أننا عرفنا الطرف الذي انتصر في جولتها الأولى، لكننا لا نستطيع أن نتأكد من الآن بأن المستقبل لن يخلو من مفاجآت قد تؤثر في المشهد خلال الجولات الأخرى. ونموذج أفغانستان ليس بعيداً عنا، فقد أسقط الأميركيون حقاً حكومة طالبان ونظامها، لكن الأمر لم يستقر هناك حتى الآن رغم مضي أكثر من ستة عشر شهراً على «تحرير» أفغانستان.
* الملاحظة الرابعة أن الخطاب الاسلامي لا يتحرك في فراغ. كما أنه ليس قادماً من المريخ، وانما الناشطون الاسلاميون جزء من نسيج المجتمع، يؤثرون فيه كما أنهم يتأثرون به. ومن الناحية التاريخية فمن الثابت أنه في مواجهة الاستعمار والاحتلال فإن الخطاب الاسلامي يصبح أكثر التحاماً بالخطاب الوطني بشكل عام. ومن الثابت أن الحركة الوطنية في العالم العربي خرجت من العباءة الاسلامية. وحتى الربع الأول من القرن الماضي ـ بدايات ظهور الحركة القومية في العالم العربي ـ لم يكن معروفا هذا الفصل المبتدع بين الحركة الاسلامية والحركة الوطنية، وهو ما رأيناه في المهدية والسنوسية وفي ثورة العشرين بالعراق وانتفاضة جمعية العلماء في الجزائر. ولا ينسى أحد أن حركة مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر في آخر القرن الثامن عشر خرجت من الأزهر، وأن ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الفرنسيين كانتا بقيادة علمائه. وحتى مع ظهور القوى الليبرالية والعلمانية في العالم العربي، فإن هذا الخلاف الفكري كان يذوب ويتراجع دوره تماماً حين يلوح خطر يهدد المجتمع بأسره. وهو الحاصل الآن في فلسطين على سبيل المثال، حيث وقفت حركة حماس والجهاد الاسلامي، في خندق واحد مع الجبهة الشعبية وكتائب الأقصى التابعة لمنظمة فتح، في مواجهة العدوان الاسرائيلي. كما أن جسامة التحديات التي واجهت ولا تزال، الأمة العربية خلال السنوات الأخيرة، هي التي استدعت ترتيب اللقاء بين القوميين والاسلاميين في اطار المؤتمر القومي الاسلامي، الذي اتخذ من بيروت مقراً له.
واذا جاز لي أن أحدد عناصر المشهد المؤثرة في الخطاب الاسلامي، واصدائه المفترضة، فانني أوجزها في النقاط التالية:
* نحن بصدد احتلال لبلد عربي مسلم، وذلك وحده كاف لكي يستفز ويستنفر الوجدان العربي فضلاً عن المشاعر الاسلامية. واذا أضفنا إلى ذلك أن البلد له مكانته الخاصة بين الشيعة الاثني عشرية، وبه بعض المقدسات الشيعية ومن بينها مرقد الامام علي، فإن ذلك يرفع من درجة الاستفزاز والاستنفار بين جماهير الشيعة في مختلف أنحاء العالم.
* وإذا كان العراق له وضعه الخاص في العالم الاسلامي، فإن الاحتلال الأميركي له طبيعته الخاصة أيضاً. ذلك أنه جاء حاملاً معه نفراً من العراقيين «المتعاونين» مع الاستخبارات الأميركية، والمؤيدين للتطبيع مع اسرائيل. وهو ما يمثل اهانة بكل المقاييس للشعور الوطني والعربي في بلد بكبرياء العراق وبعمق حس أهله القومي. ومعروف أن التطبيع يعد من أهداف الحملة العسكرية الأميركية، التي اعتبروها خطوة باتجاه ما سمي باعادة رسم خرائط المنطقة. وهو ما يستهدف ليس فقط تحقيق المصالح الأميركية والاسرائيلية، وانما أيضاً اعادة تشكيل العقل العربي، وهو ما يفترض أن يتم من خلال التحكم في وسائل الاعلام ومناهج التعليم، التي يراد لها أن تضعف الادراك المقاوم والجهادي لدى المسلمين، وتبقي على الشعوب العربية في اطار النموذج الغربي، وتحديداً في «بيت الطاعة» الأميركي.
* من الطبيعي والأمر كذلك أن تستنفر القوى الوطنية العراقية كلها، والاسلاميون ضمناً بطبيعة الحال. ومن المتوقع أن يستصحب ذلك انتعاش لخطاب ودور تيار الاسلام الجهادي (بالمعنى القتالي). إذ أن ذلك الانتعاش بمختلف تجلياته، بما في ذلك العمليات الاستشهادية، بمثابة الاستجابة الطبيعية لحالة الاحتلال العسكري، ولا غرابة في أن يحدث ذلك على مستوى العالم العربي والاسلامي، متجاوزاً حدود العراق. وقد شاهدنا نموذجاً مصغراً لما نتحدث عنه في بداية الغزو حينما توافد المتطوعون العرب والمسلمون على العراق من أقطار عدة. وهو ذاته ما حدث في البوسنة وشيشينيا وأفغانستان وغيرها.
* لن يخلو الأمر من عناصر قد تجدها فرصة لاعلانها مواجهة بين المسلمين والحملة «الصليبية والصهيونية»، وسوف يجدون في دعوتهم تلك ذرائع وجيهة يستندون إليها، منها مثلاً تورط الرئيس بوش في الاشارة إلى الحرب الصليبية في وقت سابق. ومنها أن بعض المتعصبين والغلاة المؤثرين في السياسة الأميركية لهم موقفهم المعادي للاسلام والمسلمين. ومنها كذلك أنها بالفعل حملة لصالح الصهيونية، والفائز الأول فيها هو اسرائيل، التي يتحدث البعض فيها الآن عن تمدد نفوذهم إلى الفرات، وعن محور اسرائيل ـ الأردن ـ العراق، وعن خلل موازين بالمنطقة بالدرجة التي تمكن اسرائيل من فرض شروطها على الفلسطينيين، واغلاق ملف القضية، مع تركيع المنطقة العربية كلها.
* لا يستطيع أحد أن يتجاهل دور المرجعية الشيعية في النجف، ولها موقفها التقليدي الرافض للعدوان والاحتلال. وقد لاحظنا أن أهم فصيلين شيعيين بالعراق (المجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب الدعوة) رفضا حضور مؤتمر المعارضة في الناصرية، كما أن المرجع الشيعي الأعلى في النجف، آية الله السيد علي السيستاني، أعلن رفضه للاحتلال وقرر الاحتجاب. وهو تعبير احتجاجي مسكون بالرفض والغضب يلجأ إليه بعض مراجع الشيعة أحياناً. ومن الذين مارسوا ذلك الاحتجاب في السابق احتجاجاً على سلوك وتصرفات الرئيس السابق صدام حسين، المرجعان الكبيران السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، رحمهما الله.
وليس خافياً في هذا السياق أن تشجع ايران ـ الدولة والمرجعية الدينية ـ ذلك الموقف المقاوم للاحتلال، لأن ايران يهمها كثيراً ازعاج المحتلين الأميركيين في العراق، لأن من شأن ذلك أن يخفف الضغط الأميركي عليها، بعدما أصبح الأميركيون يحيطون بها من كل صوب.
* ثمة من يرى أن العالم العربي سيواجه فترة من القلاقل خلال المرحلة المقبلة، بسبب غضب الجماهير ونقمتها على ما جرى، خصوصاً ما بدا من عجز عربي عن المساهمة في انقاذ العراق وتعزيز صموده، أو من تعاون بعض الأنظمة العربية مع الغزاة. وبسبب غياب الأجواء الديمقراطية التي تسمح سواء بامتصاص الغضب أو بمحاولة تصريفه بشكل سلمي ومشروع ومن ثم اتجاه أغلبية القمع إلى التعامل مع الغضب أمنياً (قمعياً، أدق) وليس سياسياً. بسبب هذه العوامل مجتمعة فإن احتمال العنف والفوضى لا يكون مستبعداً. وفي هذه الحالة فإن الغضب الشعبي الذي بدأ أصلاً ضد الحملة الأميركية، قد يتحول إلى سخط على الأنظمة العربية ذاتها، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لما هو أسوأ. وإذا ما حدث ذلك ـ لا قدر الله ـ فليس من المستبعد أن تظهر في وسائل الاعلام العربية أخبار عن مجموعات مقدمة إلى المحاكم العسكرية في بعض العواصم، تتضمن اشارات إلى «العائدين من بغداد» أو البصرة أو الموصل، على غرار ما جرى مع العائدين من أفغانستان ومن البوسنة أو الشيشان.
وأكرر أن ذلك كله يمكن أن يتغير، وتظهر في الأفق أصداء جديدة تماماً، اذا ظهرت أية مفاجآت في الحرب، وهو الاحتمال الذي سيظل وارداً طالما أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، وأن باب المقاومة ظل مفتوحاً من أجل التحرر من حملة «التحرير»!
أضافة تعليق