مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
حين لايرضى الهمّ بنا!
هويدي 18-3-2002

يستفزنا السيد توماس فريدمان بكتاباته المسكونة بالتغليط والتحيز الصارخ لاسرائيل. وازعم أنني لست الوحيد الذي يخرج من متابعة مقالاته، التي أصبحت تنشرها «الشرق الأوسط»، بمشاعر يغلب عليها الاستياء والغضب. ليس فقط لما يبديه من آراء تنم عن تحيزه وقلة معرفته بالواقع العربي وادراكه المشوَّه لكل ما يتصل بالاسلام، ولكن أيضاً لأنه عمد إلى استغفال القارئ، وافتراض الغباء الشديد فيه، وأكثر ما يكتبه يمكن أن يمر في الولايات المتحدة لأسباب مفهومة، يتعلق بعضها بطبيعة القارئ ويتصل أكثرها باتجاهات الريح هناك ومسار التعبئة الاعلامية المنحازة لاسرائيل والمتحاملة على العرب والمسلمين. وبطبيعة الحال فكلامه لا بد أن يكون مرحباً به للغاية في اسرائيل، لأنه بانتمائه اليهودي يحقق لاسرائيل ما تريده، وزيادة، في ثنايا مقالاته التي تنشرها له صحيفة «نيويورك تايمز».
اعترف بأنني ما قرأت له مقالاً إلا ووجدتني أضع خطوطاً وعلامات استفهام وتعجب تحت والى جوار العديد من أسطره وفقراته. وطويلاً قاومت التعليق على ما يكتب وتفنيد بعض الأفكار الخبيثة التي يسوقها في مقالاته. وبصعوبة شديدة منعت نفسي من التعقيب على ما ذكره في مقالاته التي تساءل فيها عن السبب في تقبل الاعلام العربي مقتل مئات من المسلمين على يد الهندوس، بطريقة تختلف تماماً عن استقباله مقتل دستة من المسلمين في حرب يقتل فيها المسلمون أيضاً. وعلى تعبيره فانه عندما يقتل الهندوس المسلمين فليست هناك قضية، وحينما يسحق الرئيس صدام حسين شعبه فليست هناك قصة، ولكن حين يقتل الاسرائيليون بعض المسلمين تتفجر ينابيع الغضب.
استفزني هذا الكلام الذي يظهر المسلمين وكأنهم يكنون عداء للاسرائيليين بغير سبب، ولوجه الله، خصوصاً أنه لفت الانتباه الى أنهم يقبلون من غيرهم ما لا يقبلونه منهم. ولا أظنه يجهل ان ثمة مشكلة حقيقية بين العرب جميعاً ـ المسلمين منهم والمسيحيين ـ وبين اسرائيل، ناتجة عن الجريمة التاريخية الكبرى التي ارتكبها الصهاينة بحق فلسطين والفلسطينيين. ولا أحسبه الا متعمداً تجاهل تلك الحقيقة المحورية، وقاصداً طمسها. ولا أظنه يجهل ان الصراع الطائفي بين الهندوس والمسلمين يجري داخل دولتهم الواحدة، التي يتمتعون فيها بالمواطنة المشتركة، وهو صراع تريد الدولة الهندية أن تحول دون تدهوره، بينما الصراع في فلسطين يمضي ضد شعب يناضل في مواجهة ارهاب الدولة ذاتها. أعني أن الخصوم في الحالة الهندية أفراد متساوون، بينما هم في الحالة الفلسطينية دولة بجيشها وترسانة أسلحتها، وسجلها الاجرامي الملطخ بالدم.
لم أشأ آنذاك أن أحاور الصحفي الامريكي في ما ذكره، وانبه إلى التدليس في كلامه، مرجحاً أن القارئ العربي العادي سوف يلحظ ما لاحظته. لكن أشرت إلى هذه الخلفية ليس فقط لأنني أردت البوح ببعض ما في نفسي ازاء ما يكتب، ولكن أيضاً لكي أمهد لشيء آخر يتعلق بالرد على ما كتبه فريدمان الاسبوع الماضي حول الأفكار التي طرحها الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي، وتم تداولها باعتبارها «مبادرة» لحل الصراع العربي ـ الاسرائيلي.
لقد عبر فريدمان عن «صدمته ودهشته» ازاء ما صرح به في القاهرة الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في أعقاب الاجتماع التمهيدي لمؤتمر وزراء الخارجية العرب حين قال انه: اذا انسحبت اسرائيل الى خطوط ما قبل عام 1967، وقامت دولة فلسطين وعاصمتها القدس، فان الجامعة العربية ستقدم لاسرائيل «سلاماً كاملاً».
هذا الكلام لم يعجب فريدمان، خصوصاً حكاية «السلام الكامل»، التي ذكر أنها «شرخت اذنه»، وقال ان الأمير عبد الله لم يتحدث عن «السلام الكامل»، وانما تحدث عن «التطبيع الكامل»، وثمة فرق بين العبارتين، ثم تساءل بعد ذلك: هل تراجع السعوديون عن مواقفهم؟ ودعا الى استيضاح الأمر للوقوف على حقيقة ما إذا كنا نتحدث عن تطبيع كامل أم سلام كامل؟
رغم أن الاختلاف بين المصطلحين هو في الدرجة فقط وليس في النوع، الا أن صاحبنا تمسك بأن يدفع العرب الحد الأقصى لاسرائيل، واعتبر أن الاستحقاق واجب الدفع في هذه الحالة ليس أقل من التطبيع الكامل. وهو أمر من الاستحالة بمكان من الناحية العملية، لأنه بعد مضي حوالي نصف قرن من الصراع الدموي المستمر، فانه يتعذر الانتقال دفعة واحدة من العداء إلى التطبيع الكامل.
توقف فريدمان عند هذه النقطة معتبراً أن الكلام عن السلام الكامل بمثابة تراجع عن المبادرة واجهاض لها، وان الذين يقفون وراء هذه المحاولة هم «المحافظون» الذين لا يريدون اقامة سلام مع اسرائيل (!).
مرة أخرى يعود الرجل لكي يستغفل القارئ، بزعمه أن «المحافظين» هم الذين يدعون الى «السلام الكامل» بينما «المعتدلون» هم الذين يتحدثون عن «التطبيع الكامل» ـ هل هناك عبث وتدليس أكثر من ذلك؟! لقد ذهب فريدمان في استغفاله للقارئ ـ واحسب أنه كان يخاطب القارئ الأمريكي بالدرجة الأولى ـ إلى القول بأن الذين يتحدثون عن السلام الكامل هم «تيار الرفض»، وأن هؤلاء اذا حققوا مرادهم وتمسكوا بهذه الصيغة فذلك يعني أن «ماضي العرب سيظل يدفن مستقبلهم تحت الرماد»! وهو يعرض فكرته قسم العالم العربي الى ثلاث دوائر. الأولى تضم تيار أسامة بن لادن الذي يرى أنه لا مكان لدولة يهودية أولأي «كفار» آخرين، خاصة الأمريكيين في العالم الاسلامي، وهؤلاء هم المتطرفون. الدائرة الثانية هم المحافظون الذين يريدون السلام دون التطبيع، على النحو الذي فعله الرئيس السادات، وهو السلام الذي لا يلزم باقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية أو سياحية. وقد وضع فريدمان سوريا في قلب هذا الموقف. الدائرة الثالثة، التي تضم العرب المعتدلين الذين يعتبرون التطبيع هو الطريق الوحيد لاقامة سلام شامل في المنطقة. وهو الموقف الذي تتبناه مصر والأردن، والذي استند اليه الأمير عبد الله في مبادرته.
حتى آخر سطر في مقاله، فان الرجل ظل مصراً على مطالبة العرب بتبني فكرة التطبيع الكامل، واعتبر أن الكلام عن السلام الشامل نوع من «تقزيم» المبادرة، ومن ثم فانه دعا إلى ضرورة التفصيل والتوسع في تحرير مصطلح التطبيع الكامل، معتبراً أن أي جهد يبذل خارج هذا النطاق فإنه يعد مضيعة للوقت، وقال انه بانتظار ذلك التفصيل الذي يحسم الأمر ويقطع الشك في أن المقصود هو التطبيع وليس السلام فقط.
أعطى فريدمان القارئ انطباعاً بأن الكرة في مرمى الطرف العربي، الذي يتعين عليه أن يحدد أن الثمن الذي سيدفعه هو التطبيع الكامل وليس السلام وحده. وهذه ذروة التدليس والاستغفال، لأنه لم يخطر على باله أن يسأل الحكومة الاسرائيلية عما اذا كانت تقبل أم لا بالانسحاب من كافة الأراضي التي احتلتها في عام 67، وباقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس. صحيح أنه تحدث عن انسحاب اسرائيلي من «الأراضي»، لكنه لم يشر بكلمة الى كل الأراضي التي تم احتلالها في عام 67، ولا إلى القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، لأنه يعلم سلفاً أن ذلك هو ما ترفضه حكومة شارون، وأية حكومة اسرائيلية أخرى. بمنطقه ذاك، فالعرب وحدهم عليهم أن يفصّلوا فيما سيقدمونه لاسرائيل، وأن يؤكدوا أنهم يقبلون سلفاً بكل أشكال التطبيع من الدبلوماسي والسياسي الى الثقافي والسياحي والاقتصادي، هكذا دون أن يفتح المسؤولون الاسرائيليون أفواههم بكلمة واحدة عما يعتزمون تقديمه من جانبهم.
صحيح ان الأمير عبد الله تحدث عن التطبيع الكامل، وأن الأمير سعود الفيصل أشار إلى السلام الكامل، إلا أن ذلك لا يعبر عن اختلاف في المواقف بقدر ما يعبر عن الالتزام بموقف واحد، مع الالتزام بسنة التدرج في بلوغ المراد منه. ذلك أن السلام الكامل اذا تحقق ونما نمواً طبيعياً فمن شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف الى التطبيع الكامل. ثم انه ضد العقل والمنطق وطبائع الأشياء أن يتم الانتقال من الكراهية المترسبة طيلة نصف قرن الى الحب بمختلف صوره وأوسع معانيه دفعة واحدة، دون المرور بمرحلة من الوفاق والتفاهم تزيل الثلوج وتبدد المرارات، وتقنع كل طرف بصدق نية الآخر.
غير أن توماس فريدمان يريد من العرب الدفع بالكامل ومقدماً، ولا يطالب اسرائيل بشيء، كأن العرب هم الذين بدأوا بالعدوان، واغتصبوا الأرض وشردوا أهلها ودمروا زراعاتها ومدنها وقراها، ولذلك عليهم أن يبادروا ويقطعوا على أنفسهم العهود والمواثيق بأنهم سيكفرون عن خطاياهم ويصححون أخطاءهم.
في البدء كان الاعتراف باسرائيل هو غاية المراد، وبعد أن دارت دورة الزمن جاءت فكرة اقامة سلام معها بعد الاعتراف، لكن الدنيا تغيرت ولم يعد السلام كافياً في النظر الاسرائيلي، وانما أصبح التطبيع الكامل هو المطلب ونقطة الابتداء.
لقد رضينا بالهم، لكن الهم مصر على ألا يرضى بنا.
أضافة تعليق