إعجاز القرآن الكريم بين الإمام السيوطي والعلماء دراسة نقدية ومقارنة
أ . د . عبد السلام الهراس
هذا عنوان رسالة دكتوراه لأخي الداعية الموفق الدكتور محمد بن موسى الشريف. وهي رسالة من أنفس الرسائل العلمية التي قرأتها، مع أن الرجل ربان كبير يقود أضخم الطائرات المدنية، ولكنه من النوع الذي يستثمر فراغه وفضل عقله في ميدان العلم والدعوة إلى الله، وقد وفقه الله في ذلك كثيراً، وألقى سبحانه في قلوب سامعيه وقُراء كتبه وكتاباته محبة وإعجاباً. والمهم هنا هو رسالته تلك التي تُعد نموذجاً للرسائل العلمية الجادة، في وقت نشاهد فيه تدنياً مخيفاً في ميدان البحث العلمي، ولا سيما في الدراسات الإسلامية والشرعية والأدبية، وأنا أتحدث عن جامعات أعرفها، كانت رسائل الماجستير فيها تمثل مستويات راقية، ويحضر مناقشاتها جمهور كبير من الأساتذة والطلبة، أما اليوم فالمستوى قد تراجع كثيراً، ولا يحضر مناقشاتها إلا القليل، والكثير من هذا القليل مُستدعى!! قرأت الرسالة المذكورة من أولها إلى آخرها، واستفدت منها كثيراً، وقد أهمني فيها موضوعات تناولها الباحث المتمكن، منها: دراسته لمسألة من صميم معترك الأقران، وهي قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} (طه: 63). يقول في الصفحة (319)، ومن هذه المسائل التي أوردها الإمام السيوطي يرحمه الله: أولاً: قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} في قراءة من شدَّد النون من قوله تعالى: «إنّ» وأبقى «هذان» على الرفع فلم ينصبها، ومما قاله السيوطي في المسألة: «.. وقالت عائشة: هذا مما لحن فيه كاتب المصحف، وقد أكثروا من الكلام في هذه الآية، وألفوا فيها تآليف»، وإيراده قوله عائشة هذا دون تفنيد أو مناقشة زلة علمية من إمام كبير مثل السيوطي يرحمه الله. وبسط الدكتور موسى الشريف القول في هذا الموضوع، ابتداء من صفحة (547)إلى (565)، حيث يقول في الختام: «وبهذا ينتهي الكلام على هذه المسألة، وإن طال الحديث عنها ففيه خير وفائدة وتوجيه لهذه المسألة الخطيرة، المشكلة في ظاهرها، وبالله التوفيق». وهذا القول الأخير من المؤلف الموفق هو من توفيق الله، فهذه المسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والدرس، وسنبين في هذه العجالة أن القضية ليست مشكلة أبداً، وإنما كانت تحتاج إلى خطوة أوسع في البحث في ميدان الشعر العربي، وكذلك النحو. وملخص ما جاء في هذه الصفحات: إن الإمام السيوطي قد جاء كلامه كثير الاقتضاب والإيجاز في الموضوع، وأورد قراءات أخرى، إن هذين لساحران - إن هذين لساحران، وإن بمعنى: نعم أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن.. وقيل: إن لغة بني الحارث بن كعب لا تُعمل «إنّ». وقد بذل الباحث جهداً مشكوراً في حل ما رأي أنه مشكل، وأورد أقوال كبار علمائنا الأجلاء، وأصحاب الإعجاز والأئمة المجتهدين وكبار النحاة، وانتهى بقوله المذكور آنفاً. الحقيقة أننا أمام قراءة متواترة صحيحة وسليمة، إذن فأين المشكل؟ يجب أن نعترف أن المشكل الحقيقي هو في إهمال دراسة شعر العرب وكلامهم، بل والتنبه إلى بعض الأساليب القرآنية العظيمة. لقد هداني الله إلى حل هذا اللغز بسهولة ويسر، ذلك أني تذكرت مناقشة جرت بيني وبين المستشرق الفرنسي الصديق «أندريه رومان» أستاذ اللغة العربية في جامعة «ليون» عند زيارته لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بـ«ظهر المهراز» بمدينة «فاس» (المغرب) في الثمانينيات، وكان الموضوع حول ظواهر لغوية ونحوية، فقال: إنه رصد تعبيرات في العربية، ولا سيما في الشعر ظاهرها خطأ وحقيقتها أنها تنطوي على لفتة بلاغية رائعة، وذكر مثالاً واحداً من الشعر القديم، واعتذر أنه لا يحفظ الشواهد التي سجلها، والرجل متخصص في «المبرد»، ولكنه عالم في العربية ومعجب بها، ويعتبرها علمياً أنها أعظم لغة في العالم على الإطلاق، وأنها خالدة خلود القرآن الكريم، وأن عيبها أن قومها لا يتكلمون بها، بل يتكلمون بلهجات عامية مختلفة. فلما قرأت هذه الرسالة الضخمة وقفت عند دراسة هذه الآية الكريمة {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ}، وتذكرت محادثاتنا أنا والدكتور «رومان»، فتوجهت للعروض وبخاصة لموضوع «الإقواء»، وقد وعدني بعض طلابي القدماء الذين لهم باع في العربية والنقد والعروض بتزويدي بدراسة في هذا الموضوع، لكن حتى الآن لم يصلني منهم شيء، فاكتفيت بإشارة مهمة إلى الموضوع من علامة العربية الأكبر الدكتور عبدالله الطيب يرحمه الله. يقول في كتابه النفيس: «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» 1/35: «كل الشعراء الأوائل يتحاشون الإقواء بالفتح بالكلية مع أحرف الروي المكسورة أو المضمومة، كما كانوا يتحاشون الإقواء بالكسر أو الضم مع حرف الروي المفتوح.. إلا أنهم كثيراً ما كانوا يأتون بالقوافي المكسورة مع المضمومة، والعكس بالعكس، وهذا ما وقع للنابغة في داليته: من آل ميَّة رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً وبذلك نبأنا الغراب الأسودُ فالنابغة قاضي الشعراء في الجاهلية لجأ إلى الإقواء، مما يدل على أنه ليس عيباً في الشعر كما أصبح عند الشعراء من بعدُ، مما يدل أن هناك نكتة بلاغية ولفتة فنية قوية؛ لأن مفارقة الحبيبة أمر مزلزل وفظيع جدير بالعويل والاستنجاد، وتكذيب البوارح المشؤومة، والغراب الأسود رمز الشؤم في الجاهلية. يقول الدكتور عبدالله الطيب يرحمه الله: «ويظهر أن الأذواق الجاهلية كانت تقبل هذا.. «ولم يعلل ذلك ولم يقل بأن الإقواء عيب، إذ قد صار عيباً بعد عصر الجاهلية والكبار في صدر الإسلام، فلما جاء عصر التقعيد وتدوينه جعلوا الإقواء هذا عيباً من عيوب القافية، فتحاشاه الشعراء بعد ذلك، فإن فعلوه فإنهم كانوا يقفون كثيراً بالسكون في القوافي المطلقة فيقوون مزودْ والأسودْ. وقد فكرت بالمناسبة في قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} فتراءى لي أن القرآن الكريم يسير على سنن العربية في أصالتها بما في ذلك الشعر، ومن المعتقد الإيماني أن الله سبحانه وتعالى كما قال في كتابه العزيز: {الرَّحًمّنٍ (1) عّلَّمّ پًقٍرًآنّ (2) خّلّقّ الإنسّانّ (3) عّلَّمّهٍ پًبّيّانّ (4)} (الرحمن). لذلك فإن وراء هذا التعبير ملحظاً بلاغياً، ذلك أنه لما كان قول فرعون وملئه في موسى وأخيه المأمورين من الله أن يذهبا إلى فرعون ويقولا له قولاً ليناً معززاً بآيات خصهما الله بها، بأنهما ساحران بعدما تلقفت عصا موسى ما صنع سحرة فرعون، الذين تيقنوا أنها آية الرسالة وليست سحراً، فوقعوا ساجدين لله، وتحدوا فرعون الذي هددهم بأشد قتل - لما كان هذا القول باطلاً لا ينال من موسى وأخيه عليهما السلام وقع إبطال عمل «إن» فيما بعدها، فهي هنا لا تعمل عملها في مواقع أخرى مشابهة، تشبيهاً لبطلان هذا القول الخاطئ المعاند؛ لأن الأمر يتعلق بنبيين كريمين صادقين، فإبطال عمل هذه الأداة لفت قوي للأنظار ببيان صدقهما، مع بقاء لفظ الإشارة إليهما مرفوعاً، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى المقام الرفيع للنبيين الكريمين، رغم أنف «إن» المؤكدة للفكرة الفرعونية التي كان نصيبها الاطّراح والإسقاط، انعكاساً لقول فرعون وملئه. ولا أخفي أنني سررت أيما سرور بحل ما ظُنَّ أنه مشكل؛ إذ لم يكن عندي بمشكل، وإنما رأيت أن المشكلة هي فينا نحن، أي في ميدان الدارسين لأسلوب القرآن الكريم وللتعبيرات العربية المعاصرة للقرآن وما قبل نزول القرآن. وعرضت ما توصلت إليه على بعض من أعرف مستواهم العلمي في فن بلاغة القرآن والشعر العربي، فطرب لذلك واعتبره فتحاً مبيناً، كما عرضت ذلك على بعض المستويات المختلفة، ومن هذه المستويات طالب حباه الله ذكاء متفوقاً في علم الأصول والمقاصد الشرعية، وقد توسمت فيه أن سيكون عالماً متميزاً إذا أكرمه الله بالتقوى وبصيانة حرمة العلم، فطرب أيما طرب، فلما جاءني على عادته بعد أسبوع زف إليَّ بشرى أنه اطلع على نفس الفكرة تقريباً في كتاب «الموافقات»، فداخلني نوع من الريب، فطلبت منه أن يُحضر إليَّ النص موثقاً، فجاءني به وبالكتاب زاده الله فتحاً وتقوى، وها هو هذا النص: يقول الشاطبي في باب «ما هو من ملح العلم لا من صُلْبه»: ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ «وهو المقَّري الجد» أن أبا العباس بن البنّاء(1) سئل فقيل له: لِمَ لَمْ تعمل «إن» في «هذان» من قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} (طه: 63)؟ فقال في الجواب: «لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول»، فقال السائل: يا سيدي، وما وجه الارتباط بين عمل «إن» وقول الكفار في النبيين؟ فقال له المجيب: «يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكّها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق؟» (الموافقات للإمام الشاطبي 1/64 تحقيق: د. عبدالله دراز، المكتبة التوفيقية، المقدمة التاسعة: باب ما هو من ملح العلم)(2). فقلت للطالب بعد أن شكرته وأثنيت على اهتمامه بالعلم: إن ابن البنّاء المراكشي العددي الشهير قدّم لتلميذه «نوارة»، وأوصاه بألا يحاول حكّها فتفقد رونقها، أما أنا بحمد الله فقدمت وردة لا تفقد عبيرها إذا ما حككتها: إن التعبير ذاك أسلوب عربي أصيل كما رأينا في العروض في باب الإقواء، وفي القرآن الكريم أساليب رائعة تفسر بمثل ذلك، لذلك قال تعالى: {قٍل لَّئٌنٌ جًتّمّعّتٌ الإنسٍ $ّالًجٌنٍَ عّلّى» أّن يّأًتٍوا بٌمٌثًلٌ هّذّا پًقٍرًآنٌ لا يّأًتٍونّ بٌمٌثًلٌهٌ $ّلّوً كّانّ بّعًضٍهٍمً لٌبّعًضُ ظّهٌيرْا >88 الهامشان (1) ابن البنّاء: هو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي (ت 721هـ)، انظر عنه: «الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام» 2/202 - 210 بقراءة وتعليق المؤرخ والكاتب الكبير: الأستاذ عبدالوهاب ابن منصور يرحمه الله (توفي في سنة 1430هـ)، و«الدرر الكامنة». وله تآليف كثيرة في الحساب والفلك والمنطق. (2) وقد وردت هذه الإفادات الشاطبية في كتابه الإفادات والإنشادات، ص 110، رقم الإفادة 1، تحقيق: د. محمد أبو الأجفان يرحمه الله، مؤسسة الرسالة، طبعة بيروت.
*المجتمع
أ . د . عبد السلام الهراس
هذا عنوان رسالة دكتوراه لأخي الداعية الموفق الدكتور محمد بن موسى الشريف. وهي رسالة من أنفس الرسائل العلمية التي قرأتها، مع أن الرجل ربان كبير يقود أضخم الطائرات المدنية، ولكنه من النوع الذي يستثمر فراغه وفضل عقله في ميدان العلم والدعوة إلى الله، وقد وفقه الله في ذلك كثيراً، وألقى سبحانه في قلوب سامعيه وقُراء كتبه وكتاباته محبة وإعجاباً. والمهم هنا هو رسالته تلك التي تُعد نموذجاً للرسائل العلمية الجادة، في وقت نشاهد فيه تدنياً مخيفاً في ميدان البحث العلمي، ولا سيما في الدراسات الإسلامية والشرعية والأدبية، وأنا أتحدث عن جامعات أعرفها، كانت رسائل الماجستير فيها تمثل مستويات راقية، ويحضر مناقشاتها جمهور كبير من الأساتذة والطلبة، أما اليوم فالمستوى قد تراجع كثيراً، ولا يحضر مناقشاتها إلا القليل، والكثير من هذا القليل مُستدعى!! قرأت الرسالة المذكورة من أولها إلى آخرها، واستفدت منها كثيراً، وقد أهمني فيها موضوعات تناولها الباحث المتمكن، منها: دراسته لمسألة من صميم معترك الأقران، وهي قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} (طه: 63). يقول في الصفحة (319)، ومن هذه المسائل التي أوردها الإمام السيوطي يرحمه الله: أولاً: قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} في قراءة من شدَّد النون من قوله تعالى: «إنّ» وأبقى «هذان» على الرفع فلم ينصبها، ومما قاله السيوطي في المسألة: «.. وقالت عائشة: هذا مما لحن فيه كاتب المصحف، وقد أكثروا من الكلام في هذه الآية، وألفوا فيها تآليف»، وإيراده قوله عائشة هذا دون تفنيد أو مناقشة زلة علمية من إمام كبير مثل السيوطي يرحمه الله. وبسط الدكتور موسى الشريف القول في هذا الموضوع، ابتداء من صفحة (547)إلى (565)، حيث يقول في الختام: «وبهذا ينتهي الكلام على هذه المسألة، وإن طال الحديث عنها ففيه خير وفائدة وتوجيه لهذه المسألة الخطيرة، المشكلة في ظاهرها، وبالله التوفيق». وهذا القول الأخير من المؤلف الموفق هو من توفيق الله، فهذه المسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والدرس، وسنبين في هذه العجالة أن القضية ليست مشكلة أبداً، وإنما كانت تحتاج إلى خطوة أوسع في البحث في ميدان الشعر العربي، وكذلك النحو. وملخص ما جاء في هذه الصفحات: إن الإمام السيوطي قد جاء كلامه كثير الاقتضاب والإيجاز في الموضوع، وأورد قراءات أخرى، إن هذين لساحران - إن هذين لساحران، وإن بمعنى: نعم أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن.. وقيل: إن لغة بني الحارث بن كعب لا تُعمل «إنّ». وقد بذل الباحث جهداً مشكوراً في حل ما رأي أنه مشكل، وأورد أقوال كبار علمائنا الأجلاء، وأصحاب الإعجاز والأئمة المجتهدين وكبار النحاة، وانتهى بقوله المذكور آنفاً. الحقيقة أننا أمام قراءة متواترة صحيحة وسليمة، إذن فأين المشكل؟ يجب أن نعترف أن المشكل الحقيقي هو في إهمال دراسة شعر العرب وكلامهم، بل والتنبه إلى بعض الأساليب القرآنية العظيمة. لقد هداني الله إلى حل هذا اللغز بسهولة ويسر، ذلك أني تذكرت مناقشة جرت بيني وبين المستشرق الفرنسي الصديق «أندريه رومان» أستاذ اللغة العربية في جامعة «ليون» عند زيارته لقسم اللغة العربية بكلية الآداب بـ«ظهر المهراز» بمدينة «فاس» (المغرب) في الثمانينيات، وكان الموضوع حول ظواهر لغوية ونحوية، فقال: إنه رصد تعبيرات في العربية، ولا سيما في الشعر ظاهرها خطأ وحقيقتها أنها تنطوي على لفتة بلاغية رائعة، وذكر مثالاً واحداً من الشعر القديم، واعتذر أنه لا يحفظ الشواهد التي سجلها، والرجل متخصص في «المبرد»، ولكنه عالم في العربية ومعجب بها، ويعتبرها علمياً أنها أعظم لغة في العالم على الإطلاق، وأنها خالدة خلود القرآن الكريم، وأن عيبها أن قومها لا يتكلمون بها، بل يتكلمون بلهجات عامية مختلفة. فلما قرأت هذه الرسالة الضخمة وقفت عند دراسة هذه الآية الكريمة {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ}، وتذكرت محادثاتنا أنا والدكتور «رومان»، فتوجهت للعروض وبخاصة لموضوع «الإقواء»، وقد وعدني بعض طلابي القدماء الذين لهم باع في العربية والنقد والعروض بتزويدي بدراسة في هذا الموضوع، لكن حتى الآن لم يصلني منهم شيء، فاكتفيت بإشارة مهمة إلى الموضوع من علامة العربية الأكبر الدكتور عبدالله الطيب يرحمه الله. يقول في كتابه النفيس: «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» 1/35: «كل الشعراء الأوائل يتحاشون الإقواء بالفتح بالكلية مع أحرف الروي المكسورة أو المضمومة، كما كانوا يتحاشون الإقواء بالكسر أو الضم مع حرف الروي المفتوح.. إلا أنهم كثيراً ما كانوا يأتون بالقوافي المكسورة مع المضمومة، والعكس بالعكس، وهذا ما وقع للنابغة في داليته: من آل ميَّة رائح أو مغتدي عجلان ذا زاد وغير مزود زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً وبذلك نبأنا الغراب الأسودُ فالنابغة قاضي الشعراء في الجاهلية لجأ إلى الإقواء، مما يدل على أنه ليس عيباً في الشعر كما أصبح عند الشعراء من بعدُ، مما يدل أن هناك نكتة بلاغية ولفتة فنية قوية؛ لأن مفارقة الحبيبة أمر مزلزل وفظيع جدير بالعويل والاستنجاد، وتكذيب البوارح المشؤومة، والغراب الأسود رمز الشؤم في الجاهلية. يقول الدكتور عبدالله الطيب يرحمه الله: «ويظهر أن الأذواق الجاهلية كانت تقبل هذا.. «ولم يعلل ذلك ولم يقل بأن الإقواء عيب، إذ قد صار عيباً بعد عصر الجاهلية والكبار في صدر الإسلام، فلما جاء عصر التقعيد وتدوينه جعلوا الإقواء هذا عيباً من عيوب القافية، فتحاشاه الشعراء بعد ذلك، فإن فعلوه فإنهم كانوا يقفون كثيراً بالسكون في القوافي المطلقة فيقوون مزودْ والأسودْ. وقد فكرت بالمناسبة في قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} فتراءى لي أن القرآن الكريم يسير على سنن العربية في أصالتها بما في ذلك الشعر، ومن المعتقد الإيماني أن الله سبحانه وتعالى كما قال في كتابه العزيز: {الرَّحًمّنٍ (1) عّلَّمّ پًقٍرًآنّ (2) خّلّقّ الإنسّانّ (3) عّلَّمّهٍ پًبّيّانّ (4)} (الرحمن). لذلك فإن وراء هذا التعبير ملحظاً بلاغياً، ذلك أنه لما كان قول فرعون وملئه في موسى وأخيه المأمورين من الله أن يذهبا إلى فرعون ويقولا له قولاً ليناً معززاً بآيات خصهما الله بها، بأنهما ساحران بعدما تلقفت عصا موسى ما صنع سحرة فرعون، الذين تيقنوا أنها آية الرسالة وليست سحراً، فوقعوا ساجدين لله، وتحدوا فرعون الذي هددهم بأشد قتل - لما كان هذا القول باطلاً لا ينال من موسى وأخيه عليهما السلام وقع إبطال عمل «إن» فيما بعدها، فهي هنا لا تعمل عملها في مواقع أخرى مشابهة، تشبيهاً لبطلان هذا القول الخاطئ المعاند؛ لأن الأمر يتعلق بنبيين كريمين صادقين، فإبطال عمل هذه الأداة لفت قوي للأنظار ببيان صدقهما، مع بقاء لفظ الإشارة إليهما مرفوعاً، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى المقام الرفيع للنبيين الكريمين، رغم أنف «إن» المؤكدة للفكرة الفرعونية التي كان نصيبها الاطّراح والإسقاط، انعكاساً لقول فرعون وملئه. ولا أخفي أنني سررت أيما سرور بحل ما ظُنَّ أنه مشكل؛ إذ لم يكن عندي بمشكل، وإنما رأيت أن المشكلة هي فينا نحن، أي في ميدان الدارسين لأسلوب القرآن الكريم وللتعبيرات العربية المعاصرة للقرآن وما قبل نزول القرآن. وعرضت ما توصلت إليه على بعض من أعرف مستواهم العلمي في فن بلاغة القرآن والشعر العربي، فطرب لذلك واعتبره فتحاً مبيناً، كما عرضت ذلك على بعض المستويات المختلفة، ومن هذه المستويات طالب حباه الله ذكاء متفوقاً في علم الأصول والمقاصد الشرعية، وقد توسمت فيه أن سيكون عالماً متميزاً إذا أكرمه الله بالتقوى وبصيانة حرمة العلم، فطرب أيما طرب، فلما جاءني على عادته بعد أسبوع زف إليَّ بشرى أنه اطلع على نفس الفكرة تقريباً في كتاب «الموافقات»، فداخلني نوع من الريب، فطلبت منه أن يُحضر إليَّ النص موثقاً، فجاءني به وبالكتاب زاده الله فتحاً وتقوى، وها هو هذا النص: يقول الشاطبي في باب «ما هو من ملح العلم لا من صُلْبه»: ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ «وهو المقَّري الجد» أن أبا العباس بن البنّاء(1) سئل فقيل له: لِمَ لَمْ تعمل «إن» في «هذان» من قوله تعالى: {إنً هّذّانٌ لّسّاحٌرّانٌ} (طه: 63)؟ فقال في الجواب: «لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول»، فقال السائل: يا سيدي، وما وجه الارتباط بين عمل «إن» وقول الكفار في النبيين؟ فقال له المجيب: «يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها، فأنت تريد أن تحكّها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق؟» (الموافقات للإمام الشاطبي 1/64 تحقيق: د. عبدالله دراز، المكتبة التوفيقية، المقدمة التاسعة: باب ما هو من ملح العلم)(2). فقلت للطالب بعد أن شكرته وأثنيت على اهتمامه بالعلم: إن ابن البنّاء المراكشي العددي الشهير قدّم لتلميذه «نوارة»، وأوصاه بألا يحاول حكّها فتفقد رونقها، أما أنا بحمد الله فقدمت وردة لا تفقد عبيرها إذا ما حككتها: إن التعبير ذاك أسلوب عربي أصيل كما رأينا في العروض في باب الإقواء، وفي القرآن الكريم أساليب رائعة تفسر بمثل ذلك، لذلك قال تعالى: {قٍل لَّئٌنٌ جًتّمّعّتٌ الإنسٍ $ّالًجٌنٍَ عّلّى» أّن يّأًتٍوا بٌمٌثًلٌ هّذّا پًقٍرًآنٌ لا يّأًتٍونّ بٌمٌثًلٌهٌ $ّلّوً كّانّ بّعًضٍهٍمً لٌبّعًضُ ظّهٌيرْا >88 الهامشان (1) ابن البنّاء: هو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي (ت 721هـ)، انظر عنه: «الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام» 2/202 - 210 بقراءة وتعليق المؤرخ والكاتب الكبير: الأستاذ عبدالوهاب ابن منصور يرحمه الله (توفي في سنة 1430هـ)، و«الدرر الكامنة». وله تآليف كثيرة في الحساب والفلك والمنطق. (2) وقد وردت هذه الإفادات الشاطبية في كتابه الإفادات والإنشادات، ص 110، رقم الإفادة 1، تحقيق: د. محمد أبو الأجفان يرحمه الله، مؤسسة الرسالة، طبعة بيروت.
*المجتمع