مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
علال الفاسي المفكر السلفي والزعيم السياسي
علال الفاسي المفكر السلفي والزعيم السياسي

أحمد بابانا العلوي
تمهيد:

أود أن أشير في هذه اللمحة من فاتحة بحثي عن الزعيم الرائد العلامة علال الفاسي (1910-1974) رحمه الله، إلى نقطة سبق أن أثارها الأستاذ عبد الكريم غلاب في مقدمة كتابه ’’ملامح من شخصية علال الفاسي’’ حيث قال ’’ ليس من السهل أن يكتب كاتب عن علال الفاسي إلا إذا كان من الصبر. بحيث يستطيع أن يتتبع هذا الرجل في أفكاره، وتخطيطاته واتجاهاته السياسية والفكرية والاجتماعية(1) .

ومن الحق أنه ليس من السهل على أي كاتب أن يحيط بكل جوانب هذه الشخصية التاريخية الضخمة المؤثرة في مجتمعها وعصرها وليس من السهل كذلك الإلمام بجميع أبعاد هذا الرجل الفذ الذي يمثل نموذجا للنبوغ المغربي عبر العصور المتطاولة.

إن الكتابة عن الشخصيات التاريخية الوازنة والمؤثرة إنما يراد منها قياس غايات الناس ومقاديرهم من السمو والعظمة.

وإذا سلمنا بنظرية العلامة ابن خلدون بأن للظواهر التاريخية قوانين تضبطها وتوجهها، أي أن للتاريخ الإنساني وجهة تدل عليها العقبات، والعوائق، كما تدل عليها الدوافع والممهدات...

وتأسيسا على ذلك فإن دراسة سير العباقرة والعظماء من حيث أنها معالم قائمة تهدينا إلى تلك الوجهة من البداية إلى النهاية. مما يدل على أهمية البحث في تراجم عظماء الرجال...، ولاشك بأن المصلحين والعظماء الذين سبقوا عصرهم أهل لكل تعظيم واعتراف بالجميل.. ولا شك أيضا بأن كل إصلاح في شأن من شؤون الأمم لا ينال إلا بتصحيح مقاييس الحياة فيها وفي مقدمة ذلك تصحيح الأفكار والآداب والفنون.

كان علال الفاسي من الرواد المجددين على رؤوس المئات أنصب اهتمامه على تجديد النظم السياسية والاجتماعية والدينية التي خضعت لها أمته عصورا مديدة، من أجل تهيئتها للتحرر الكامل من الاستعمار لكي تستطيع ركوب قطار الرقي والتطور....

كان صاحب فكر شمولي، ينظر إلى جميع المسائل التي لها علاقة بقضية النهضة من منظور شمولي ’’تمثل فيه التحليلات السوسيولوجية المكانة الأولى’’ لأن الغرض الأساسي للمفكر الذي يعمل للنهضة في رأيه ينبغي أن يكون ’’توجيه الأنانية والفكر والشعور توجيها اجتماعي إنسانيا(2). وكان يرى ضرورة تنوير الرأي العام، وإصلاح ما فسد منه، وتحريره من مظاهر الجمود، والخرافة، والتقاليد الفاسدة(3) . وقد ربط الديمقراطية بالحرية ’’لأنه لا مسؤولية بدون حرية ولا حرية بغير تفكير’’ وكذلك بأصول أخلاقية لا يجوز التنصل منها (4) حتى لا نسقط في براثين عبادة القوة أو عبادة المال. وبالتالي فإن التحرر من كل سيطرة غير سيطرة الفكر المؤمن بالحرية هو الشرط الأساسي الذي به نستطيع أن نحرر الفكر العام من خرافات الماضي ومضللات العصر الحديث’’(5).

إلا أن الحرية الحقيقية كما يراها. ليست هي حرية ’’الاستواء: أو ’’التساوي’’ أي حرية الاختيار بين أطراف متعادلة القوة ا والمبررات، وإنما هي القدرة على اختيار الخير الأسمى بالذات (أي المثل الاعلى الذي يعبر عن الأفكار الصحيحة) (6).

هذه بعض المؤشرات التي من خلالها نسعى إلى تحديد بعض ملامح شخصية علال الفاسي. رائد الحركة الوطنية المغربية المفكر المناضل والعالم السلفي المجدد... كان إشعاعه قويا وتأثيره بارزا في تاريخ المغرب الحديث. كان علال الفاسي رجلا استثنائيا كزعيم، وقائد ومفكر وعالم ومناضل... قال عنه الملك الراحل الحسن الثاني: كان علال استاذا للأجيال التي تتلمذت على يديه في الوطنية والعلم. كان سلفيا بقدر ما كان مناضلا ومكافحا، أحب بلاده وبلاد العروبة والإسلام وناضل إلى أخر رمق في سبيلها، وكان يرفع اسم المغرب أينما كان وحيثما حل ’’(7).

إن التاريخ كما يرى ’’توماس كارلايل’’ صاحب كتاب الأبطال إنما هو تاريخ بطولة وأبطال تجري أحداثه على مسرح التاريخ..

ومن ثمة فإن الكلام عن عظماء الرجال وما أدوا من أدوار وأنجزوا من أعمال جسام يعد من المباحث العويصة لأن سير العظماء من صميم ولباب التاريخ.

ومن هذا المنطلق فإن دراستنا سوف ترتكز على بلورة وإبراز المقومات والخصائص التي شكلت الدور التاريخي لعلال الفاسي باعتباره أهم الوجوه التاريخية في المغرب المعاصر. فقد جمع في بوتقة واحدة الفكر والممارسة السياسية، فانصهرت في شخصيته التاريخية المميزة دور المفكر المنظم المربي، والزعيم السياسي الذي يساهم في تغيير الواقع ويقوم بإعادة تشكيله أو توجيهه ..

إذن هذا الحضور الواعي والفاعل في التاريخ هو الذي طبع المسار الفكري والسياسي لعلال الفاسي، وجعل منه بطلا من أبطال التاريخ.

في عصره وإذا كان الناس يتطلعون إلى الصورة التاريخية للبطولة من أجل الاقتداء والأسوة، فإننا سوف نهتم في بحثنا لبيان بعض مظاهر التجديد التي طبعت فكر الرجل وعمله..





1 ـ العصر وتحولاته

إن النظر في الصورة التي تبلورت بها الشخصية التاريخية واستوت،يقتضي الإلمام بالعوامل والمؤثرات التي أسهمت في تشكيل عصرها، وكذلك معرفة محيطها وأصولها ومحتدها الذي تفرعت عنه .

ـ كيف كان العصر الذي نشأ فيه علال الفاسي وتشكلت فيه مداركه. وتفتح وعيه وتحددت اختياراته ..

يمكن أن نقول أنه مع بداية القرن العشرين كان التمدد الاستعماري الأمبريالي الأوروبي قد بلغ أوجه ومداه مع استمرار أحكام قبضته وسيطرته على مختلف أقطار العالم. وكان المغرب طبعا داخلا ضمن مخططات الهيمنة الاستعمارية وخاصة الفرنسية التي احتلت الجزائر وتونس وبدأت في بسط سيطرتها وترسيخ نفوذها على أجزاء كبيرة من القارة السمراء وخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء المحاذية للمجال الجغرافي للمغرب والتي تعتبر عمقا ’’جيوسياسي’’ وثقافي واقتصادي واجتماعي لمختلف الدول التي تداولت على سدة الحكم في المغرب عبر العصور.

وبناء على علاقة الترابط والتشابك والتداخل بين المغرب وافريقيا جنوب الصحراء، فإن قادة الحملة الاستعمارية الفرنسية جعلوا من احتلال المغرب هدفا استراتيجيا لا يمكن أن يستتب لهم الأمر في إمبراطوريتهم الاستعمارية المترامية الأطراف من دون إحكام السيطرة على المغرب وفرض الحماية عليه وشل قدراته كدولة وتطلعاته كشعب له ثقافة وحضارة متجذرة ....

ـ كيف إذن كانت حالة المغرب ونخبته، أمام التحدي الاستعماري الذي يهدد الكيان الوطني والهوية الحضارية والثقافية و الدينية للبلاد.

إن الدقة الموضوعية في البحث عن أسباب تردي الأوضاع في المغرب، وفشل النخبة المخزنية في إيجاد الحلول اللازمة العميقة والعامة والمتفاقمة التي شهده المغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقد بدت مظاهرها جلية للعيان طافية على السطح مع بداية القرن العشرين.

إن أزمة المغرب في ذلك الحين المتمثلة في تردي الأحوال العامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كانت نتيجة العديد من التراكمات التي أدت إلى شلل الدولة وعجز نخبتها على مواجهة التحديات والمخاطر التي كانت تحيط بالبلاد من كل صوب..

يقول أحد شهود هذه المرحلة مولاي الطيب العلوي (1896-1964) بأنه في هذا العهد انحطت القيم الأخلاقية، وظهر التواكل..، الأمر الذي جعل الأفراد والجماعات لا تشعر بأي مسؤولية بسبب الجهل المخيم على النفوس، وعدم الاطلاع على ما يجرى عند الجيران بل في العالم .

تم يضيف أصبح المغرب عبارة عن مجتمع من الدراويش الذين لا يفكرون إلا في الرغيف..، ولم يقتصروا على العامة بل تعدوهم إلى أرباب الدولة من وزراء وولاة وقضاة وعلماء..، فأدى ذلك إلى استفحال أمر المشايخ الطرقية بحيث أصبحوا يؤثرون على السياسية العامة، وصاروا عرقلة في سبيل كل إصلاح يراد إدخاله بدعوى أنه مخالف للدين..

والحقيقة أن فرنسا وإسبانيا لم تمد أيدهما إلينا حتى صرنا جيفة قد مر على موتها زمن طويل، فتعدت رائحة نتنها حدود البلاد’’ (8).

والخلاصة أن المغرب كان يعيش في بداية القرن الماضي أزمة اقتصادية وسياسية وعسكرية ستؤدي مضاعفاتها إلى إقرار معاهدة الحماية في 20 مارس سنة 1912 أي بعد سنتين من ميلاد علال الفاسي ..

واجهت فرنسا مقاومة شرسة في جميع أنحاء المغرب وسطه إلى شرقه ومن غربه وجنوبه وكذلك في الصحراء.

في سنة 1914 سوف تشتعل الحرب العالمية بين الدول الأوربية .. هل تم انتهاز فرصة الحرب للتحرر من قيد الاستعمار الفرنسي، يرى علال الفاسي بأن العواطف في المغرب كانت تتأرجح بين الجهاد المقدس الذي أعلنه الخليفة العثماني، والذي يقضى بالثورة على الحلفاء والانضمام لألمانيا، ، وهو ما كان يتفق في حقيقة الأمر مع الرغبة التي تملأ نفوس المواطنين الذين لا ينتظرون غير سنوح الفرصة لانقضاض الكلي على المستعمر وإجلائه عن الوطن. ولكن الدعوة العثمانية لم تكن تجد المجال ما يتيح لها الاتصال بالشعب المغربي والحديث إليه إلا من بعيد.. بينما كانت دعاوة الفرنسيين تملأ الأرجاء بأنواع من الخطب والكتب والمصورات’’(9).

وكان ليوطي يرى أن الحرب ستطول، وأنه لابد من هجوم عنيف في المشرق العربي بمهاجمة الائتلاف الألماني التركي وضربه في نقطة ضعفه. لأن جعل الأتراك غير قادرين على الكفاح ذو أثر عظيم في الإسلام الإفريقي ’’(10).

لقد أسفرت الحرب العالمية الأولى عن تمزيق الإمبراطورية العثمانية وسقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 بفعل ذلك، إلا أن هذا السقوط سيحدث شروخا عميقة في الجسم الإسلامي. سياسية وفكرية، سيكون لها بالغ الأثر على الأجيال المتعاقبة في العالم الإسلامي.

ومن نتائج تمزيق الإمبراطورية العثمانية صدور وعد بلفور (وزير خارجية بريطانيا) سنة 1917 الذي يعد مقدمة لنكبة فلسطين التي تشبه في بعض وجوهها نكبة الأندلس وطرد المسلمين منها بعد سقوط غرناطة سنة 1492.



2 ـ الوطني الثائر

بدأ نجم علال الفاسي يلمع في سماء السياسة في أواخر العشرينات ... ثم أصبح أحد قادة كتلة العمل الوطني ومنذ مطلع الثلاثينيات وهو يتصدر زعامة الحركة الوطنية إلى أن توفي سنة 1974.

ـ الوطنية المغربية هي تقدمية في الدين والفكر والعلم والأدب، وهي إبداع في السياسة والاجتماع والريادة رسالة يتحمل مسؤوليتها القادة ...

والماهدون بطبيعتهم ثوريون في فكرهم وعملهم وممارستهم، يقومون دائما بتغيير الواقع الأسن الراكد والمتخلف، فهم عنه غير راضين ...

ثورتهم تنبع من فكرهم الخلاق، ونظرتهم التاريخية وتنبع أيضا من نظرتهم المستقبلية (21). وحلمهم الذي لا حد لآفاقه.

عاش علال الفاسي حياة متحركة، أكسبته شخصية ذات أبعاد متعددة (الوطني والمناضل والمفكر والعالم والكاتب والشاعر والخطيب) فهو من نماذج زعماء الثورات الكبرى الذين لا يناضلون من منطلق عاطفي أو فلسفي، لأن فكره الوطني شمولي، ولذلك كانت الوطنية هي مفتاح شخصيته (22). ولعل ما جعل وطنيته صلبة، أنه درس التاريخ، تاريخ المغرب وجغرافيته وموقعه الاستراتيجي.. فالوطنية عنده لا يحددها التاريخ وحده أو الأرض والإنسان، ولكنها مدينة لكل ذلك ولأكبر من ذلك وهو الإنسانية..

ويؤكد بأن الفكر الوطني ينبع من التحام النموذج النفسي بروح الأرض والتحامها بروح العصر.

لهذا فهو ينظر إلى المغرب العربي على أنه وطن للمغاربة وإلى الوطن العربي بأنه نموذج للوحدات الثقافية والحضارية والجغرافية

وإلى العالم الإسلامي على أنه وطن للمسلمين الذين توحدهم العقيدة ويمكن أن يتعاونوا من خلالها سياسيا واقتصاديا وثقافيا (23) وهو منظر ( النظرية عنده تسبق الفعل وهي أساسه) يدرس الموضوع ويتعمق فيه قبل أن يصدر فيه رأيا فيأخذ الطابع المذهبي والنظري.

كان يكره التقليد في العقيدة والممارسة الدينية والاجتماعية ويؤمن بالاجتهاد ويمارسه في تنظيره الفقهي.

يؤصل النظريات السياسية في البناء الديمقراطي وتحديث الدولة المغربية، وفي وحدة المغرب العربي والوحدة الإسلامية، كما يؤصل للنظريات الاجتماعية والاقتصادية من أجل تحرير المجتمع من كل مظاهر التخلف .(24).

إنما نتحراه من شخصية علال الفاسي الثرية التي تجمع في بوتقة واحدة عناصر الفكر والعلم والنضال السياسي هو أن تكون قوة حية تلهم الأجيال وتنير لها معالم الطريق وينبوع قوة روحانية تطوي عوارض الزمن فيما تفيض به من حياة إنسانية كريمة.

وقد اضطلع الرجل بأمانة العقيدة وأمانة الفكر، وأمانة الحق وأمانة الإخلاص للخلق والخالق، فهو إذن أولى أن يأتم به المقتدي من طلاب القدوة الحسنة الذين يتطلعون الى تجديدالفكر والعمل في كل مجال أو ميدان من ميادين الحياة الإنسانية الخصبة المثمرة.



3 ـ الفكر الحر: السلفي الفيلسوف

يتغنى علال الفاسي بالحرية فيقول:

الحرية جهادنا حتى نراها والتضحية سبيلنا إلى لقاها

ولا غرو في ذلك باعتبار أن الحرية هي القيمة الأساسية والمتركز الذي يقوم عليه فكره كله، انطلاقا من إيمانه بأن تاريخ الإنسانية كله هو تاريخ الحرية.

وما كان كفاح قوم إلا من أجل الحرية، لأنها الغاية التي نسعى لها عن طريق العمل وبالتالي تضفي على العمل صفته وخاصيته وتجلي قيمته ولذلك فهي مرادفة للمدنية أو الحضارة.

ويرى بأن أول مظهر للحرية هو حرية الإرادة أي أن أكون حرا في أن أريد، وأن لا أريد.. ثم أن أعمل ما أريد أولا أعمل...

’’ذلك هو المفهوم البدائي للحرية أي الحرية المطلقة’’ (25)

العقل يعقل الأشياء بذاته دون إلزام من الخارج. الأمر الذي يجعل من الإيمان اقتناع وإطمئنان وبالتالي فإن الإيمان الظاهري ليس بإيمان فالإيمان الحق هو الإيمان الباطني.

إن العقل وسيلة وأداة للمعرفة ولكن في حركته مع الحياة أي مع معطياتها والتجربة الوجودية وسيلة للمعرفة ولكن في تفاعلها مع العمل أي مع الوعي الإنساني الباحث عن الوجود أي عن الاستقلال .

هناك إذن حرية مطلقة، لا متناهية، وهي من صفات المطلق اللا متناهية..(26) أي أن أعظم صفات الله قدرته على ما يشاء وكل شيء يصدر عن إرادته...

لقد شغل الشعور بحرية النفس منذ قرون الفلاسفة والمفكرون (أرسطو وابن سينا والغزالي وديكارت وكانط ومالبرنش وسبينوزا وبرجسون..) وغيرهم.

الجبريون أنصار نظرية الجبر (Déterminisme ) يقولون بخضوع كل شيء لناموس طبيعي وأن النفس والضمير يخضعان لعوامل خارجية. وهذا بالفعل ما يحقر من صفة الضمير الواعي الذي يجعل الإنسان يختار بحرية ومسؤولية، باعتبار أن الحرية أقصى درجات المسؤولية كما يرى ديكارت، مما يؤكد أن المشاحنات الفلسفية كما يرى برجسون إنما هي جهل بجوهر الحرية التي هي أعظم صفات الوجدان الإنساني.

فالحرية إذن تتحقق بالمواءمة بين المعرفة والإرادة وليست مجرد شعور ثابت..

فالاختيار حسب ديكارت ناشئ عن بداهة فكري أو من ترتيب في باطن ذهني من الله، أما عدم الاختيار بين أحد أمرين فهو أدنى درجات الحرية... كما أن عدم الاهتمام ما هو إلا نقص في المعرفة وليس نتيجة كمال في الإرادة.

وكلما عرفت ما هو حق وما هو خير يسهل الإمعان في الاختيار وفي الحكم ’’ (27) ومن هذا المنطلق فإن إرادة الحرية الإنسانية تتجلى في مقدرة الإنسان على تكوين أحكام ثابتة على الضرورة الموضوعية.. ومن ثم فإن الحرية في الواقع حق اجتماعي وإنساني تفرضه ضرورة الحياة وحاجة الناس إلى التعايش فيما بينهم والحرية لازمة لتقدم المعرفة، وهي سابقة على الطبيعة ولو لا ضرورة ظهورها ما كانت الطبيعة..

ومن تجليات الحرية أن القانون ما هو إلا مظهر الإرادة العامة يساهم المواطنون بأنفسهم أو عن طريق ممثليهم في وضعه.

فالقانون لا يضع حدا للحرية أو يقيدها كما يرى روسو، بل هو تعميم لها إذا كان فعلا يعكس حقيقة الإرادة العامة. (28).

ضمن هذا السياق الفلسفي يتناول علال الفاسي في كتابه ’’الحرية’’ كل القضايا والإشكاليات الفكرية بالشرح والتحليل، مع ربط كل مسألة يعالجها بالحرية باعتبار أن كل شيء يبدأ من الحرية وينتهي إلى الحرية ..

كيف يتحقق التوازن بين المصلحة العامة والخاصة؟

وما هي الحرية التي تضمن للناس أن يتعايشوا فيما بينهم في حدود القانون وفي دائرة التضامن العام؟.

يجيب بأن الأمر لا يتعلق بحرية النفس التي هي مطلقة لأنها خاصة بالفكر وعلاقته بالإرادة وبالواقع، ولكنها الحرية المدنية التي مناطها الحياة الاجتماعية وهي الحريات الأساسية لأنها تتعلق بحياة الإنسان (29) .

تم يعرض لبعض أصناف الحريات المدنية :

الحرية القومية وتعني الاستقلال الوطني استقلالا تاما من سيطرة الأجنبي أو التبعية له والحرية الوطنية حق للجميع وكل اعتداء عليها يعتبر جرما إنسانيا خطيرا(30)

الحرية الشخصية تعني أن لكل شخص الحق في أن يبقى حرا دائم الحرية لا يعتدي أحد على حريته الشخصية .

وضمان الحريات الفردية إنما يتحقق بضمان الحريات السياسية، إن مبرر نشوء الدولة هو ضمان حرية الأفراد وتعميمها والمحافظة عليها.. وذلك بإلزام الجميع باحترام القانون.

وحرية الفكر من أعظم مظاهر الحرية كافحت من أجلها الشعوب وضحى في سبيلها الأبطال، ومن العبث أن يحاول أحد إلزام فرد أو جماعة برأي معين لأن الرأي شيء باطني، وكل إكراه لا يتعدى حدود الظاهر. (31)

أما الحرية السياسية فهي حرية العمل في الميدان العام والمشاركة في تدبير شؤون البلاد، كالإدارة والأمن ووضع النظم والقوانين وما يرجع للعلاقات الخارجية والتعليم والقضاء، والإنتاج الاستهلاك ونحو ذلك.. وللتمتع بهذه الحرية يجب أن يكون البلد مستقلا الاستقلال التام وثانيا يجب أن لا يكون هناك نظام استبدادي أو مطلق يجعل السلطة كلها في يد فرد أو جماعة لا تؤمن بحق الشعب في المساهمة في الحكم ومراقبته. وثالثا يجب أن يكون الحكم. مسندا من الشعب لأنه نتيجة اختياره ورضاه فإذا لم تتحقق هذه الشروط فإن الحرية تصبح مجرد تنفيس كما أن سلامة الشعب من الفاقة والبؤس وسيطرة أصحاب المصالح عليه. يمكن اعتباره من الشروط، لأنه لا أحد يستطيع التمتع بالحرية السياسية على وجهها إذا كان عيشه منوطا برضا مجموعة من الناس أو كان الحاكمون خاضعين في تصرفاتهم وأعمالهم لما يريده أصحاب الثراء ورجال المال.

إن كل نظام للحكم قد يأتي بإصلاحات ومنافع لكن الحرية السياسية لا تتحقق إلا في الحكم الديمقراطي أي النظام الذي يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه... (32)

والصحافة أداة لابد منها لجس نبض الرأي العام ومعرفة توجيهاته وفي مقارعة الأفكار بعضها ببعض تنبثق النظرية الصحيحة والرأي المقبول.. والأحزاب مدرسة تثقيفية لا غنى للشعب عنها.

الحرية إذن قوام فكر علال الفاسي باعتبارها لازمة من لوازم الجماعة البشرية، وخير وسيلة لتطور الأنظمة والقوانين والانتقال من حالة إلى أخرى. في غير رجة ولا اضطراب.

فبالحرية تتطور المجتمعات، وبانتكاسة الحرية ترتكس المجتمعات.

وانطلاقا من هذه الجدلية فإن تطور المجتمع في كل شأن من شؤون الحياة مرتبط بنمو الحرية، لأنها قيمة إيمانية وإنسانية لا غنى عنها لمن يريد صلاح الفكر أو صلاح العمل..

وهذا هو المرتكز والأساس الذي قامت عليه الحركة السلفية الإصلاحية التي يعد علال الفاسي من أقطابها وقادتها البارزين المجددين.

ملحوظة :

1. المقالة جزء من دراسة حول العلامة علال الفاسي في طور الانجاز.

2. المراجع سوف تنشر مع الدراسة.
*ملتقى الفكر
أضافة تعليق