الصداقة والصديق
في ذكرى محمد العلمي الوالي...
أحمد بابانا العلوي
الدهر يأتي، بأفراح، وأحزان.
وكل شيء على ظهر هذه البرية فان.
والموت بئر جميع الناس وارد ه.
وطريق لابد يوما فيه يمشي كل إنسان.
اذا كان الموت طبيعي لا محيص عنه، وكانت الأسباب التي هي مادة الحياة، تبدو في الظاهر في وزن الأسباب التي هي جالبة للموت.. فإن البون شاسع بين من فتح الله عليه بصره وعقله، وأتاه حظا من الحقائق والمعارف يرقى بها في درجات سلالم الفضائل..
كتبت في صفحتي (على شبكة التواصل الاجتماعي) بعد لحظات من سماعي نعي صديقي وأخي" الشريف" محمد العلمي رحمة الله عليه " إنني أعزي نفسي أولا لأنني فقدت صديقا من أعز الرجال وأحبهم إلى قلبي.." وكتبت أيضا في نفس الصفحة : "بعد أسبوع على رحيل صديقي الأستاذ محمد العلمي، الوالي: أنا حزين على رحيل هذا الصديق الذي كنت أجد في مجالسته بمكتبته الفيحاء بشارع علال بنعبد الله بالرباط.. نفحات ثقافية تقوم الفكر وتنعش الوجدان..
حقا لقد طويت صفحة من أجمل الصفحات التي عرفتها المجالس الأدبية والفكرية..
ولا أعتقد أن أحدا بمقدوره أن يقوم بالدور الثقافي والفكري والتثقيفي الذي قام به محمد العلمي طيلة عقود.. ولا ريب بأن أصدق ما تمتحن به مقاييس الحياة الأمم أن تعرف الفضائل التي يزنون بها مقادير الرجال..
وإذا كان الكلام عن الصداقة يعتبر سرا وضربا دونه حجاب، لأنه لون من ألوان الوجد والمحبة والروابط الروحية، لا يعي كنهها ولا يحيط بمعانيها ولا يدرك أبعادها إلا من كان صادق الوعد، مخلصا للأواصر التي تجمع القلوب..
إن فضيلة الشيء لا تكمل إلا بحصول ثمرته ، وثمرة الصداقة الوفاء الذي وقر في الصدور..
فالشيء الموقور في الصدور يدرك بالبصيرة أي بالذوق والوجدان، أما الكلام عن الصديق فهو وقوف عند بعض وقائع الصحبة..
والحق أنني مهما قلت، فلن أوفي الصديق " العلمي" حقه..ولن أشفي غليل المدح من مد حه مدحا ..
فالكلام يبسط عن المناقب والفضائل ومما إلى ذلك مما يطول الكلام عنه..
وخلاصة القول أن المنون رمى بسهمه، فأصاب صرحا شامخا من الأخلاق والشمائل والمكارم.. وحب العلم حب المتيمم والعاشق الولهان..
سوف يتذكر رواد مكتبة "عالم الفكر" ذلك الركن القصي بشارع علال بن عبد الله بالعاصمة الرباط..، الذي قد لا يلفت نظرا السابلة بسبب الضوضاء والجلبة التي تلف الشارع الكبير ومحيطه ..
لقد أصبح للمكان جاذبيته المغناطيسية يؤمه الكتاب وطلاب العلم وقادة الرأي والفكر من كل حدب وصوب ( من الشرق والغرب) لقد أضفى محمد العلمي على هذا الركن المنزو، إشعاعا ثقافيا عابرا للحدود..، حوله إلى نادي للفكر ومجلسا للأدب والثقافة ومكتبة للباحثين والدارسين وطلاب العلم من مختلف المشارب والتخصصات..
في قلب هذه المكتبة الصغيرة كانت تدور حوارات ومناقشات فكرية رفيعة تتناول كل القضايا وتبحث في كل المواضيع: في الفلسفة والاجتماع، والسياسة والتاريخ والأدب والقانون والاقتصاد...، كما كانت تتخللها مستملحات تروح عن النفس وفي بعض الأحيان تنبعث من المسجل أنغام سجية جميلة تشنف الأسماع..
كنت أشعر وأنا أحضر هذه المجالس الخصبة والثرية أن الثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، وأعلى المقامات الإنسانية..
ولعل رسالة العلمي تتلخص في أن نطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة.
لا تحسبوا أبدا أننا وحدنا أصبنا بفقدان هذا العلم البهي من أعلام الثقافة بالمغرب.. الذي كان يعيش قضايا الثقافة بعقله وقلبه.. بل يشعر باللوعة كل من يحمل هما، ثقافيا وفكريا، وكل باحث عن المبادئ المقومة للفكر والمهذبة للأخلاق، والموقظة للضمائر وكل محب للحكمة التي هي علم الحق والعمل بالحق..
اسألوا المصنفات في الأدب والفنون والتاريخ واللغة والتراجم..، بل اسألوا كتب التراث كلها سوف تخبركم " باكية عليه جوابا".
لو كان بالموت عار ومنقصة
ما مات النبي صاحب القدر الرفيع
والوسيلة والمقام العالي
قل للذين بموت الشريف حزنوا لا تحزنوا!
إنه جار لطه خير الأنام..
أيها السالك مدارج الأنوار..
المتبتل في محراب الأنبياء
المرثل للذكر مع الذاكرين
المسبح بتسبيحات الأولياء والعارفين
لك منا أزكى السلام وصادق الوفاء وجميل الدعاء