هويدي 17-3-2003
يبدو اننا بحاجة لأن نذكر بين الحين والآخر بأن ما تحتاجه اقطارنا العربية هو اصلاح سياسي حقيقي وليس مجرد تجمل سياسي، والفرق بين الاثنين بمثابة الفرق بين ما هو «ضروري» وما هو «تحسيني»، والمصطلحان الاخيران شائعان في كتب أصول الفقه، حيث قسم الفقهاء المصالح ثلاث درجات، أهمها وأعلاها «الضروري» الذي تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، واذا فقد اختل نظام حياتهم، في المرتبة التالية يأتي ما هو «حاجي»، أي الذي يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولكن ينالهم الحرج والضيق، أما المرتبة الثالثة فهي ما سميته بالمصالح «التحسينية»، تلك التي يقتضيها سير الأمور على أقوم منهاج بحيث اذا فقدت لا يقع الناس في الحرج، وانما تصبح حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة.
وعند الأصوليين، بل عند كل اصحاب العقول الراجحة، لا يقبل ولا يعقل أن يتحرى أحد من الناس مصلحة تحسينية، في حين الحاجة ملحة الى ما هو ضروري، كأنك في هذه الحالة تقدم ربطة عنق أو زجاجة عطر فواح الى شخص مهلهل الثياب ومكشوف العورة! ومن أسف اننا وقعنا في تلك المفارقة المستنكرة، حيث توالت في بعض العواصم العربية اجراءات وقرارات عدة جاءت كلها تجميلية وتحسينية، في حين ان الواقع الذي يفتقد الى ما هو ضروري تستقيم به حياة الناس ومصالحهم، وما يعنيني بالدرجة الاولى هو تلك الاجراءات والقرارات التي تمس بحالات الحريات المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان واحترام سيادة القانون.
ثمة بدعة شائعة في بعض الاقطار تسابق بمقتضاها البعض في تشكيل مجالس عليا لحقوق الانسان، يتولى رئاستها قيادات في السلطة التنفيذية، التي هي الجهة الوحيدة التي تمارس انتهاكات حقوق الانسان، واذ توحي امثال تلك الخطوات بأن رعاية القيادات العليا لامثال تلك المجالس هو من قبيل الاهتمام الزائد بدورها، وشمولها بالرعاية السامية، الا ان ذلك لا يعني في الواقع الا شيئا واحدا، هو ان الانتهاكات التي تمارس سيظل مسكوتا عنها، وان مرتكبيها سيتمعتون بالحصانة والحماية!
قرأنا في حالة اخرى كلاما كثيرا عن الانفتاح والدعوة الى تنشيط المجتمع المدني، وحين صدق البعض الكلام وتنادوا الى تأسيس جمعيات ومنتديات الدفاع عن حقوق المجتمع، فاننا فوجئنا بانقضاض على تلك الجمعيات، واتهام للناشطين فيها بالاستعداء أو العمالة للخارج، الامر الذي اعطى انطباعا قويا بأن الشعارات رفعت للتجمل وترطيب الاجواء فقط، وانه لم تكن هناك نية من البداية لاخذها على محمل الجد.
في وقت لاحق قرأت مقالا في الدفاع عن المجتمع المدني لابن احد الزعماء العرب الذي يرأس الى جانب الانشطة العديدة التي يمارسها، احدى الجمعيات الاغاثية التي وصفت بانها « عالمية» ولاحظت انه ختم مقاله بعبارة قال فيها: نحن المجتمع المدني من جماعات السلام الى الاخوان المسلمين ندعو الى كذا وكذا. كان الكلام طيبا، ولكن تمثلت المفارقة في أن الواقع الذي انطلق منه صاحبنا يحرم اية انشطة للمجتمع المدني الذي يدافع عنه!
قرأنا في الصحف ايضا اخبارا عن الغاء محاكم امن الدولة في قطر عربي آخر، وهو ما احتفى به البعض واعتبروه قفزة الى الامام وخطوة لتكريس قيم العدل وسيادة القانون واقامة دولة المؤسسات، وغير ذلك من « الطنطنة» المعتادة، لكن المصادفة السيئة التي فضحت هذه الخطوة ان الاعلان عن الغاء تلك المحاكم سيئة السمعة جاء بعد ايام قليلة من تحديد الطوارئ للعام الثالث والعشرين في البلد ذاته، الامر الذي شكل مفارقة مثيرة، حيث بدا غير مفهوم وغير مقنع ان تلغى محاكم امن الدولة في توقيت متزامن مع استمرار حالة الطوارئ الى سلاح للقمع اشد وطأة وابعد اثرا.
توازن تلك الخطوة مع مفارقة اخرى تمثلت في الاعلان عن الاتجاه الى الغاء عقوبة الاشغال الشاقة المؤبدة، في حين ان تقارير منظمات حقوق الانسان المحلية والعالمية لا تكشف عن انتقاد عمليات تعذيب السجناء السياسيين بصورة مفرطة وعلى نحو متواصل.
ان المفارقتين تجسدان بشدة ذلك الخلل الذي تتحدث عنه، اذ حين تلغى محاكم امن الدولة وتظل الطوارئ والمحاكم العسكرية، وحين تلغى الاشغال الشاقة المؤبدة بينما التعذيب مستمر في السجون والمعتقلات، فان ذلك يعيدنا الى المشهد العبثي الذي بمقتضاه نقدم التحسينيات على الضروريات، بحيث نصبح اقرب ما نكون الى الحالة التي تقدم فيها ربطة العنق الى رجل رث الثياب ومكشوف العورة!
قرأنا ايضا عن تعيين امرأة عضوا في احدى المحاكم الدستورية العليا، وهو ما هلل له كثيرون باعتباره انتصارا للمرأة وتكريسا لتمثيل المجتمع بأسره في هيئة المحكمة العليا، وحدث ذلك في الوقت الذي يتداول فيه الناس مذكرات تحدثت عن فقدان القضاء لاستقلاليته وتدخل السلطة في شؤونه الى الحد الذي جعل قضايا الشخصيات العامة خاصة للتوجيه والحسابات السياسية، واذ بدا تعيين امرأة في محكمة على ذلك المستوى امرا لا بأس به، الا انه يظل من «التحسينيات» التي تحمل واجهة بناء، هو في الاساس مليء بالشقوق وآيل للسقوط. وكان التساؤل الطبيعي الذي اثير في هذا الصدد، ما قيمة تجمل من ذلك القبيل، في حين ان القضاء كله فقد استقلاله، واصبح خاضعا للهوى السياسي؟
وبمناسبة فكرة التجمل بتعيين النساء في بعض المناصب المرموقة، فان المرء لابد ان يلاحظ تناميا في هذه الظاهرة، وتوسعا مشهودا في تعيين النساء في المناصب الوزارية حتى في بعض المجتمعات شديدة المحافظة وذلك بدوره امر طيب من حيث المبدأ، ولكن الاكتفاء بهذه الخطوة مع استمرار الانغلاق والانسداد السياسيين، وفي ظل استمرار تهميش مختلف المؤسسات، بما فيها تلك المؤسسات التي تعين فيها النساء، هذه الملابسات تشكك في جدية الخطوة على نحو يجعلنا نحسبها على محاولات التجميل وليس الفاعلية أو الانجاز.
النماذج كثيرة، واذا استطردنا في استعراضها فلن تكفينا صفحة الجريدة، وليس حيز المقال فحسب، لكنني لا استطيع ان اتوقف عن ذلك الاستعراض دون ان اشير الى عملية اصدار مواثيق مليئة بالعبارات البليغة والفاخرة التي تتحدث عن حرية الصحافة وضماناتها في بلاد يخضع فيها الاعلام بأسره الى رقابة قاسية من جانب الموظفين الذين تعينهم السلطة على رأس المؤسسات الاعلامية، ودون ان اشير الى الحفاوة الكبيرة بالمظاهرات المعادية للحرب التي تتم تحت رعاية الدولة، في حين يلقى القبض على الذين يدعون الى التظاهر للتعبير عن غضبهم الخاص والتلقائي.
اذا ذهبنا في البراءة بعيدا واحسنا الظن بمثل هذه التصرفات، فقد نقول انها تجسد الخلل الفادح في ترتيب الاولويات في الواقع العربي، لكنني لا استطيع ان انفي تماما الاحتمال الاخر وهو ان تكون تلك الاجهادات من قبيل الاستهلاك الاعلامي والتجمل، الذي يستهدف تحسين الوجه امام العالم الغربي بالدرجة الاولى، من ثم يصبح الذي يجري امرا لا يخص المجتمعات العربية في شيء، التي لا يتجاوز دورها حدود «الكومبارس» في المشهد السياسي الذي يعد.
ولان بعض الظن اثم، فقد يشتط بنا الخيال ونربط بين تلك الاجراءات التجميلية التي تلاحقت في بعض الاقطار العربية في الآونة الاخيرة، وبين البيانات والتصريحات الامريكية التي ما برحت تتحدث عن اشاعة الديمقراطية في المنطقة واعادة رسم خرائطها، كما قد نربط بينها وبين الشائعات التي تروج عن طلبات امريكية ضغطت لتحسين الوجه ورفع العتب، حتى لا يسبب الاصدقاء حرجا للادارة الامريكية، وهي تحاول اقناع الرأي العام بمهمتها «الرسالية» في العالم وفي المنطقة العربية بوجه اخص.
ايا كان الامر، وسواء كانت الدوافع الى اتخاذ تلك الاجراءات بريئة أو غير بريئة، فالقدر المتيقن انها لا تنطلي على الناس، ناهيك عن انها لا تلبي شيئا من اشواقهم، ومن ثم فلا يصدقن احد انها يمكن ان تكون بديلا عن الاصلاح الضروري الذي ينصب على جوهر الحرية والديمقراطية، بما يستصحبه ذلك من احترام ضروري لحقوق الانسان وتمسك بسيادة القانون والفصل بين السلطات.
ان اخشى من اخشاه ان يستغرقنا نهج التجمل فيستمر الانصراف عن الاصلاحات الضرورة، على نحو قد يؤدي في النهاية الى تيئيس الناس من الاصلاح الحقيقي، الامر الذي قد يدفع نفرا منهم الى البحث عن سبل اخرى للاصلاح والتغيير، قد يكون العنف والارهاب احدها، واذا حدث شيء من ذلك القبيل لا قدر الله، فهل تتوجه باللوم حينئذ للارهابيين وحدهم، ام نضم اليهم الذين دفعوهم الى الانزلاق في ذلك المسار؟
يبدو اننا بحاجة لأن نذكر بين الحين والآخر بأن ما تحتاجه اقطارنا العربية هو اصلاح سياسي حقيقي وليس مجرد تجمل سياسي، والفرق بين الاثنين بمثابة الفرق بين ما هو «ضروري» وما هو «تحسيني»، والمصطلحان الاخيران شائعان في كتب أصول الفقه، حيث قسم الفقهاء المصالح ثلاث درجات، أهمها وأعلاها «الضروري» الذي تقوم عليه حياة الناس ولا بد منه لاستقامة مصالحهم، واذا فقد اختل نظام حياتهم، في المرتبة التالية يأتي ما هو «حاجي»، أي الذي يحتاج إليه الناس لليسر والسعة، واذا فقد لا يختل نظام حياتهم ولكن ينالهم الحرج والضيق، أما المرتبة الثالثة فهي ما سميته بالمصالح «التحسينية»، تلك التي يقتضيها سير الأمور على أقوم منهاج بحيث اذا فقدت لا يقع الناس في الحرج، وانما تصبح حياتهم مستنكرة في تقدير العقول الراجحة والفطر السليمة.
وعند الأصوليين، بل عند كل اصحاب العقول الراجحة، لا يقبل ولا يعقل أن يتحرى أحد من الناس مصلحة تحسينية، في حين الحاجة ملحة الى ما هو ضروري، كأنك في هذه الحالة تقدم ربطة عنق أو زجاجة عطر فواح الى شخص مهلهل الثياب ومكشوف العورة! ومن أسف اننا وقعنا في تلك المفارقة المستنكرة، حيث توالت في بعض العواصم العربية اجراءات وقرارات عدة جاءت كلها تجميلية وتحسينية، في حين ان الواقع الذي يفتقد الى ما هو ضروري تستقيم به حياة الناس ومصالحهم، وما يعنيني بالدرجة الاولى هو تلك الاجراءات والقرارات التي تمس بحالات الحريات المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان واحترام سيادة القانون.
ثمة بدعة شائعة في بعض الاقطار تسابق بمقتضاها البعض في تشكيل مجالس عليا لحقوق الانسان، يتولى رئاستها قيادات في السلطة التنفيذية، التي هي الجهة الوحيدة التي تمارس انتهاكات حقوق الانسان، واذ توحي امثال تلك الخطوات بأن رعاية القيادات العليا لامثال تلك المجالس هو من قبيل الاهتمام الزائد بدورها، وشمولها بالرعاية السامية، الا ان ذلك لا يعني في الواقع الا شيئا واحدا، هو ان الانتهاكات التي تمارس سيظل مسكوتا عنها، وان مرتكبيها سيتمعتون بالحصانة والحماية!
قرأنا في حالة اخرى كلاما كثيرا عن الانفتاح والدعوة الى تنشيط المجتمع المدني، وحين صدق البعض الكلام وتنادوا الى تأسيس جمعيات ومنتديات الدفاع عن حقوق المجتمع، فاننا فوجئنا بانقضاض على تلك الجمعيات، واتهام للناشطين فيها بالاستعداء أو العمالة للخارج، الامر الذي اعطى انطباعا قويا بأن الشعارات رفعت للتجمل وترطيب الاجواء فقط، وانه لم تكن هناك نية من البداية لاخذها على محمل الجد.
في وقت لاحق قرأت مقالا في الدفاع عن المجتمع المدني لابن احد الزعماء العرب الذي يرأس الى جانب الانشطة العديدة التي يمارسها، احدى الجمعيات الاغاثية التي وصفت بانها « عالمية» ولاحظت انه ختم مقاله بعبارة قال فيها: نحن المجتمع المدني من جماعات السلام الى الاخوان المسلمين ندعو الى كذا وكذا. كان الكلام طيبا، ولكن تمثلت المفارقة في أن الواقع الذي انطلق منه صاحبنا يحرم اية انشطة للمجتمع المدني الذي يدافع عنه!
قرأنا في الصحف ايضا اخبارا عن الغاء محاكم امن الدولة في قطر عربي آخر، وهو ما احتفى به البعض واعتبروه قفزة الى الامام وخطوة لتكريس قيم العدل وسيادة القانون واقامة دولة المؤسسات، وغير ذلك من « الطنطنة» المعتادة، لكن المصادفة السيئة التي فضحت هذه الخطوة ان الاعلان عن الغاء تلك المحاكم سيئة السمعة جاء بعد ايام قليلة من تحديد الطوارئ للعام الثالث والعشرين في البلد ذاته، الامر الذي شكل مفارقة مثيرة، حيث بدا غير مفهوم وغير مقنع ان تلغى محاكم امن الدولة في توقيت متزامن مع استمرار حالة الطوارئ الى سلاح للقمع اشد وطأة وابعد اثرا.
توازن تلك الخطوة مع مفارقة اخرى تمثلت في الاعلان عن الاتجاه الى الغاء عقوبة الاشغال الشاقة المؤبدة، في حين ان تقارير منظمات حقوق الانسان المحلية والعالمية لا تكشف عن انتقاد عمليات تعذيب السجناء السياسيين بصورة مفرطة وعلى نحو متواصل.
ان المفارقتين تجسدان بشدة ذلك الخلل الذي تتحدث عنه، اذ حين تلغى محاكم امن الدولة وتظل الطوارئ والمحاكم العسكرية، وحين تلغى الاشغال الشاقة المؤبدة بينما التعذيب مستمر في السجون والمعتقلات، فان ذلك يعيدنا الى المشهد العبثي الذي بمقتضاه نقدم التحسينيات على الضروريات، بحيث نصبح اقرب ما نكون الى الحالة التي تقدم فيها ربطة العنق الى رجل رث الثياب ومكشوف العورة!
قرأنا ايضا عن تعيين امرأة عضوا في احدى المحاكم الدستورية العليا، وهو ما هلل له كثيرون باعتباره انتصارا للمرأة وتكريسا لتمثيل المجتمع بأسره في هيئة المحكمة العليا، وحدث ذلك في الوقت الذي يتداول فيه الناس مذكرات تحدثت عن فقدان القضاء لاستقلاليته وتدخل السلطة في شؤونه الى الحد الذي جعل قضايا الشخصيات العامة خاصة للتوجيه والحسابات السياسية، واذ بدا تعيين امرأة في محكمة على ذلك المستوى امرا لا بأس به، الا انه يظل من «التحسينيات» التي تحمل واجهة بناء، هو في الاساس مليء بالشقوق وآيل للسقوط. وكان التساؤل الطبيعي الذي اثير في هذا الصدد، ما قيمة تجمل من ذلك القبيل، في حين ان القضاء كله فقد استقلاله، واصبح خاضعا للهوى السياسي؟
وبمناسبة فكرة التجمل بتعيين النساء في بعض المناصب المرموقة، فان المرء لابد ان يلاحظ تناميا في هذه الظاهرة، وتوسعا مشهودا في تعيين النساء في المناصب الوزارية حتى في بعض المجتمعات شديدة المحافظة وذلك بدوره امر طيب من حيث المبدأ، ولكن الاكتفاء بهذه الخطوة مع استمرار الانغلاق والانسداد السياسيين، وفي ظل استمرار تهميش مختلف المؤسسات، بما فيها تلك المؤسسات التي تعين فيها النساء، هذه الملابسات تشكك في جدية الخطوة على نحو يجعلنا نحسبها على محاولات التجميل وليس الفاعلية أو الانجاز.
النماذج كثيرة، واذا استطردنا في استعراضها فلن تكفينا صفحة الجريدة، وليس حيز المقال فحسب، لكنني لا استطيع ان اتوقف عن ذلك الاستعراض دون ان اشير الى عملية اصدار مواثيق مليئة بالعبارات البليغة والفاخرة التي تتحدث عن حرية الصحافة وضماناتها في بلاد يخضع فيها الاعلام بأسره الى رقابة قاسية من جانب الموظفين الذين تعينهم السلطة على رأس المؤسسات الاعلامية، ودون ان اشير الى الحفاوة الكبيرة بالمظاهرات المعادية للحرب التي تتم تحت رعاية الدولة، في حين يلقى القبض على الذين يدعون الى التظاهر للتعبير عن غضبهم الخاص والتلقائي.
اذا ذهبنا في البراءة بعيدا واحسنا الظن بمثل هذه التصرفات، فقد نقول انها تجسد الخلل الفادح في ترتيب الاولويات في الواقع العربي، لكنني لا استطيع ان انفي تماما الاحتمال الاخر وهو ان تكون تلك الاجهادات من قبيل الاستهلاك الاعلامي والتجمل، الذي يستهدف تحسين الوجه امام العالم الغربي بالدرجة الاولى، من ثم يصبح الذي يجري امرا لا يخص المجتمعات العربية في شيء، التي لا يتجاوز دورها حدود «الكومبارس» في المشهد السياسي الذي يعد.
ولان بعض الظن اثم، فقد يشتط بنا الخيال ونربط بين تلك الاجراءات التجميلية التي تلاحقت في بعض الاقطار العربية في الآونة الاخيرة، وبين البيانات والتصريحات الامريكية التي ما برحت تتحدث عن اشاعة الديمقراطية في المنطقة واعادة رسم خرائطها، كما قد نربط بينها وبين الشائعات التي تروج عن طلبات امريكية ضغطت لتحسين الوجه ورفع العتب، حتى لا يسبب الاصدقاء حرجا للادارة الامريكية، وهي تحاول اقناع الرأي العام بمهمتها «الرسالية» في العالم وفي المنطقة العربية بوجه اخص.
ايا كان الامر، وسواء كانت الدوافع الى اتخاذ تلك الاجراءات بريئة أو غير بريئة، فالقدر المتيقن انها لا تنطلي على الناس، ناهيك عن انها لا تلبي شيئا من اشواقهم، ومن ثم فلا يصدقن احد انها يمكن ان تكون بديلا عن الاصلاح الضروري الذي ينصب على جوهر الحرية والديمقراطية، بما يستصحبه ذلك من احترام ضروري لحقوق الانسان وتمسك بسيادة القانون والفصل بين السلطات.
ان اخشى من اخشاه ان يستغرقنا نهج التجمل فيستمر الانصراف عن الاصلاحات الضرورة، على نحو قد يؤدي في النهاية الى تيئيس الناس من الاصلاح الحقيقي، الامر الذي قد يدفع نفرا منهم الى البحث عن سبل اخرى للاصلاح والتغيير، قد يكون العنف والارهاب احدها، واذا حدث شيء من ذلك القبيل لا قدر الله، فهل تتوجه باللوم حينئذ للارهابيين وحدهم، ام نضم اليهم الذين دفعوهم الى الانزلاق في ذلك المسار؟