مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
المسائل الشرعية بين البحث العلمي والفتوى
المسائل الشرعية بين البحث العلمي والفتوى

طلال بن علي بن عبد العزيز الجابري: باحث شرعي
فالفقه الإسلامي حي متفاعل وفاعل، ليس كما يتصوره البعض صخوراً شامخة صماء أو صحراء مهيبة جرداء. بل هو فقه المصلحة والحكمة وفقه الكياسة والسياسية.. ’’من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين، فقد تعلمن، ومن جمع بينهما فقد تمكن’’..

يتفاضل الناس بمعرفة الحق والعمل به، ويمتاز الفقهاء بمعرفة الحكم الشرعي بدليله وبرهانه وبإنزاله على الواقع للوصول لحكم الله ومراده في هذا الحكم. لذلك فعند العلماء الراسخين أن ’’كل دليل شرعي مبني على مقدمتين:

إحداهما: راجعة إلى تحقيق مناط الحكم. والأخرى: ترجع إلى نفس الحكم الشرعي..’’ (1).

فالأولى: نظرية أي ما يتطلبه النظر والواقع والوصف والعلاقة والمطابقة للشيء.

والثانية: نقلية أي ما يتطلبه معرفة الدليل والنص والبرهان.

فالفرق بين البحث العلمي والفتوى في المسائل الشرعية، يسلط الضوء على نوعية التعاطي من هذا المنطلق. فمن جهة أن الناس فيما بينهم يختلفون في اهتماماتهم وتخصصاتهم، فكذلك في تعاملهم مع الشريعة وتنوعهم المختلف معها، فكل ينظر من زاويته المحددة التي يعنى بها.

وهذا التعاطي هو من اختلاف التنوع المحمود إذا كان يراعي الحقائق الشرعية ويخدم دين الله ولا يعارضه وينزل الأدلة منزلها.

كما أنه يكون من اختلاف التضاد المذموم إذا كان لا يراعي الحقائق الشرعية ولا يخدم دين الله عز وجل ويعارض في إنزاله الأدلة على الواقع، فهو مصادم لشرع الله عز وجل وحكمه ومراده.

وقد راعى العلماء الفروق في المسائل الشرعية، كما راعو البينية والتمايز بين القائمين على دين الله لذلك من المفتى والحاكم وغيرهم حتى نشأ عندهم ما يسمى بـ’’علم الفروق’’:

وهو نوع من تحقيق المناط في الحكم الشرعي وإنزال كل شيء منزلته المرادة له، وعدم الخلط بين المسائل أو التجاوز للحقيقة المقصودة منها وبها.

وألفت في ذلك المؤلفات، من أبرزها كتاب ’’الفروق’’ للإمام القرافي، رحمه الله، فقد ذكر مثلاً في كتابه المذكور: ’’الفرق بين الشهادة والرواية وبين الخبر والإنشاء وبين العلة والشرط وبين المشقة المسقطة للعبادة، والتي لا تسقطها’’ وهكذا ألف رحمه الله أيضاً كتاباً بعنوان: ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام)) (2). وهذا المؤلف يتحدث عن نوع آخر من الفروق، وهو عن المتعاطين للشريعة القائمين بها: المفتي، القاضي والإمام.

لأنه قد يشتبه إفتاء المفتي بحكم القاضي بعمل الإمام، فالأول إخبار لا إنشاء. والثاني إنشاء لا إخبار فقط، فهو إلزام للمحكوم عليه، سواء أعتقده صواباً أم خطأ. والثالث، وهو الإمام يراعي شؤون الدولة وإقامة الوظائف بين الرعية وتنفيذ الأحكام، فهذا التمايز في التفريق وهذا الحرص على إعطاء كل شيء حقه ومستحقه، حتى لا يقع الاشتباه والالتباس والإلباس، وبالتالي تقع المخالفة لمراد الله عز وجل ورسوله، ويقع الانحراف عن الشريعة.

* المسائل الشرعية بين البحث العلمي والفتوى:

أحسب أن اشتباهاً ولبساً يقع في طرح بعض الموضوعات وإخراجها من حيز إلى حيز ومن دائرة إلى دائرة الأخرى، أو التعامل مع المسائل تعاملاً واحداً من غير مراعاة للفوارق المنهجية في التعاطي، مثل الذي يسوي بين المفتي والقاضي، فكذلك فيما يتعلق بالبحث العلمي والفتوى، حيث إن عدم ملاحظة الفروق المنهجية والتطبيقية بهذه الصورة، هو خروج بها عما هو مراد ولائق لها ووضع للشيء في غير ما وضع له.

ومن تلك المسائل الشرعية والموضوعات: قضايا المرأة (الحجاب، قيادة المرأة للسيارة، عمل المرأة، اختلاطها مع الرجال، إرضاع الكبير وغير ذلك). ومسائل السياسة الشرعية، كوجوب صلاة الجماعة وغير ذلك، ولنضرب على ذلك مثلاً من سلف هذه الأمة فيما نحن بصدده.

ابن عباس رضي الله عنهما وهل للقاتل من توبة؟!

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره [5/333]: ’’روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيده قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: ألمن قتل مؤمناً متعمداً توبة؟!

قال: لا، إلا النار. قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟! كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة. قال: إني لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك’’.

نلحظ هنا فقه ابن عباس رضي الله عنهما و بعد نظره، فلما علم من حال الرجل وما به وعاقبته أفتاه بما لا يعتقد صحته وبما كان يعلم خلفه أو تلاميذه في الدرس أو البحث العلمي لأنه يعلم أن الفتوى أمر زائد عن الدرس أو البحث العلمي. وهذا هو عين الفقه عن الله وشرعه ومعرفة مراد الله عز وجل فرب حق أريد به باطل. ولا غرو فهو ترجمان القرآن.

قال النووي رحمه الله، قال الصيرمي: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر، فقال: له توبة. ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته. وأما الثاني: فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه (3).

هذا المثال المضروب عن ابن عباس رضي الله عنهما، يبين عن نوعية التعاطي والمنهجية في التعامل وفق المنهج الرشيد وعدم الخلط في ذلك.

فالبحث العلمي هو عملية علمية بحته تجمع لها الحقائق والأدلة والدراسات وتستوفي العناصر حول موضوع معين دقيق لفحصها وفق مناهج علمية مقررة، يكون للباحث منها موقف معين، ليتوصل بعد ذلك إلى نتائج وهذه النتائج هي ثمرة البحث (4).

أما الفتوى، فهي أمر زائد عن البحث العلمي، تبين حكم الله بالدليل لمن سأل عنه، والمفتي يراعي الحال والمآل، ويتبصر نصحاً لله وللناس، لذلك كان خطر المفتي أعظم، قال ابن القيم: ’’ليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله’’ (5). وقال محمد بن المنكدر: ’’العالم بين الله وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم’’ (6).

فعلى ذلك، فالمفتي يراعي النصوص الشرعية، صحة وضعفاً، ويراعي الحال واعتبار المال ونتائج التصرفات.

والباحث يحاكم النصوص والنقاش العلمي البحت، ولا يعنيه واقع الحال والمآل، لأن هذا ليس من متطلباته البحثية إلا ما كان له صلة أو ارتباط فمن الخطأ المنهجي أن يقدم البحث العلمي بصورة فتور العكس إلا في حالات تستدعى ذلك كالبرهنة على صحة الفتوى أو غير ذلك.

قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: ’’اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين: أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على المحل مجرداً عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة وما أشبه ذلك [وهو ما يمكن أن نسميه البحث العلمي]. الثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام أو لمن يدافع الأخبثين، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي [وهو ما يمكن أن نسميه الفتوى]، فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال على الدليل المقتضي للحكم الأصلي، أم لابد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها؟ هذا مما فيه نظر وتفصيل، فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفرداً مجرداً عن اعتبار الواقع أولا، فإن أخذه مجرداً صح الاستدلال، وإن أخذه بقيد الوقوع فلا يصح وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط المعين وتعيين المناط موجب ـ في كثير من النوازل ـ إلى ضمائم وتقييدات لا ينتصر المكلف بها عند عدم التعيين، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها إذ ليس موضع الحاجة، بخلاف ما إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال فلابد من اعتباره’’ (7).

وإن مما يساعد على انتشار هذه الفوضى الاستدلالية والمنهجية وإرباك الأمة والناس وإيقاعهم في اللبس والريب، ما تفعله بعض وسائل الأعلام بأنواعه في إشاعة الآراء الغريبة والشاذة أو العلمية البحتة في صورة فتوى وتعممها، أو إرادة فرضها على الناس ودوره الخطير في إحداث الشق في سفينة المجتمع.

إن كثيراً من الأطروحات مكانها الحقيقي وزاويتها المناسبة هي البحث العلمي للنقاش، أو أي زاوية أخرى وليس الفتوى للعامة، فيقال لها ولمثلها ’’ليس هذا بعشك فادرجي’’. وقول على رضي الله عنه: ’’حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله’’، فمجال المعرفة شيء ومجال تحديث الناس شيء آخر. وفي صحيح البخاري في كتاب العلم باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.

ولقد قال لي بعض الناس عندما رأى بعض المسائل في الإعلام وبعض الآراء التي ليس مكانها العامة أو الآراء الشاذة، قال عندكم مسائل كثيرة في الكتب تتكتمون عليها أخرجوها لنا، يريد ما يوافق هواه، قلت له نعم هناك كثير من المسائل، ولكن إخراجها للناس يحتاج إلى فقه وإصلاح، فليس كل ما يعلم يقال والفقيه يخرج ما ينفع الناس ليس ما يطلبه الناس.

* سياسية الفقه في فقه المسائل الشرعية:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي’’، رواه البخاري ومسلم.

فسياسية فقه المسائل والتعامل مع الناس فيها، هي كل تدبير من شأنه أن يؤمن للناس دنياهم وأخراهم، ويكونون معه وبه أكثر صلاحاً وأقل فساداً وأكثر خيراً وأقل شراً، مراعياً في ذلك كله فقه الكتاب والسنة وما يصلح العباد والبلاد في ديناهم وأخراهم.

ولنأخذ على ذلك مثلاً من بني إسرائيل (8)، من أشهر الأنبياء الذين ساسوا بني إسرائيل موسى وأخوه هارون عليهما السلام، وقد حكى القرآن جوانب من سياستهما لبني إسرائيل ومعاناتهما من أجل استصلاحهم وهدايتهم.

لما غاب موسى عن قومه بضعة أسابيع واستخلف هارون، سرعان ما جنح أكثرهم إلى الشرك والانحراف ومعصية النبي الغائب عنهم موسى عليه السلام والنبي الحاضر معهم هارون عليه السلام.

وكان على هارون أن يواجه الموقف ويجتهد له اجتهاده ويسوسه بسياسته على الأقل إلى حين عودة موسى عليه السلام. وقد كان أمام خيارين، إما أن يصادمهم ويقاتلهم بمن معه من المؤمنين، وإما أن يلاينهم ويسايسهم وينصحهم إلى حين عودة موسى عليه السلام.

وقد اختار هارون عليه السلام المسلك الثاني، وهو الاختيار الذي أغضب موسى عليه السلام قبل أن يشرح له هارون عليهم السلام ملابسات هذا الاجتهاد وحكمته، كما جاء في سورة الأعراف {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي}، وقوله في سورة طه {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. ويلاحظ أن القرآن لم يخطئ هارون في اجتهاده وسياسته وموسى في غضبه واحتجاجه عليه ولومه إياه. وهكذا هو التعامل والتعاطي مع المسائل الشرعية في الفقه الإسلامي.

* فقه الأنبياء والربانين: ’’ولكن كونوا ربانين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون’’.

فالفقه الإسلامي حي متفاعل وفاعل، ليس كما يتصوره البعض صخوراً شامخة صماء أو صحراء مهيبة جرداء. بل هو فقه المصلحة والحكمة وفقه الكياسة والسياسية. لذلك على المفتي، أن يكون عالماً بالواقع عالماً لما يراد بالمسائل، فكما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: ’’ليست بالخب ولا الخب يخدعني’’.

وما أحسن ما قاله الدكتور أحمد الريسوني: ’’من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين، فقد تعلمن، ومن جمع بينهما فقد تمكن’’ (8).

وهو كذلك فإن المفتي أو الباحث إذا عالج المسائل معالجة لا تمت للواقع بصلة البتة، مغمضاً عينيه عما يراد لهذه المسائل، فهو إما راهب صالح في نفسه لا يصلح لقيادة الأمة، أو كاذب مخادع، وعنده القابلية للخداع لأن يخدع ويخدع، فهو خب والخب يخدعه والعياذ بالله.

* وفي الجملة:

تحتاج المسائل الشرعية إلى أن تعطى حقها من الباحثين والمفتين ومن البحث العلمي الصحيح أو من الفتوى المناط بها عمل الناس، والتعامل معها كل في بابه، ولا يبغي بعضهم على بعض، وأن تراعي الفروق التخصصية ’’وأعط القوس باريها’’، ’’وأن يلبس لكل حالة لبوسها’’. ويكفي إشغال الأمة شذوذاً وتفرقاً وتآكلاً.

وما أحوج المفتي والباحث وغيرهما إلى التعاون على البر والتقوى وأن يكونوا بنائين في جسد الأمة الواحد لا هدامين قائمين بدورهم الإصلاحي في نهضة الأمة، حاديهم ما عند الله عز وجل مقصدهم هو نفع العباد والبلاد.


المراجع:

1 ـ الشاطبي: الموافقات [ 3/231 دار ابن القيم.

2 ـ من مطبوعات دار البشائر الإسلامية اعتنى به عبد الفتاح أبو غده.

3 ـ عبد الوهاب أبو سليمان: كتابة البحث العلمي [ص55] مكتبة الرشد.

4 ـ النووي: مقدمة المجموع [ص 111] دار عالم الكتب.

5 ـ ابن القيم: إعلام الموقعين [1/10-11].

6 ـ الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه [2/254].

7 ـ الشاطبي: الموافقات [3/292- 293] دار أبي القيم.

8 ـ الدكتور أحمد الريسوني: فقه السياسية في سياسة الفقه، مقال في موقع الجزيرة نت.
*العصر
أضافة تعليق