هل تصبح لغتنا الفصحى تحفة في متحف التاريخ؟ - عبد الغني المقرمي
من البدهيات أن اللغات تأخذ مكانتها قوة أو ضعفا من مكانة الأمم والشعوب التي تتحدث بها، فأينما وجدت لغة حية وجدت وراءها أمة حية وشعبا مبدعا، وأينما وجدت لغة مريضة كان وراءها أمة عليلة يتخطفها الناس، وتأوي إلى كهوف من التبعية المقيتة التي تصيرها مسخا في مختلف الصعد وخاصة الصعيد الفكري والثقافي.
ولا ينكر منكر ما تتعرض له اللغة العربية من محاولات قتل حثيثة على اعتبارها جزء من هوية الأمة،
ومعلما من معالم وجودها، غير أن قراءة الواقع قراءة حصيفة بعيدا عن منطق المؤامرة يؤكد أن عوامل أخرى أسهمت إلى حد كبير في تراجع اللغة إلى مراتب دونية في حياة الناس مما جعلها غريبة بين قومها تعاني الأمرين، في حين تستأثر لغات أخرى باهتمام الناس إذ ازداد عدد المعاهد والمراكز الخاصة بتدريس اللغات الأخرى وخاصة الإنجليزية تزايدا ملحوظا، وكل ذلك بسبب الطفرة الإعلامية التي أفرزتها وسائط الاتصال الحديثة، وخاصة الشبكة العنكبوتية التي جعلت الإنجليزية متسيّدة على سائر اللغات ومنحتها من الاهتمام جله، على الرغم من إفرادها مساحة معقولة لسائر اللغات الأخرى، غير أن العالمين بأسرار الإنترنت يؤكدون مدى التماهي العجيب بين الإنجليزية كلغة وخدمات الإنترنت.
يعد التعليم النظامي والجامعي من أهم المعاقل التي ضربت فيها الفصحى، وقد جرى ضرب اللغة في هذا المعقل عبر مراحل متعددة ومتزامنة لما عُرف بـ(تطوير المنهج)، إذ سار ركب هذا التطوير نحو تقليص مفردات مناهج اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ومما أضاف إلى هذا التقليص سوءا مخرجات كليات التربية في بلادنا في جميع التخصصات الجامعية وفي مقدمتها مدرسو اللغة العربية، حيث أفرز التعليم الجامعي قدرات مضطربة،وكفاءات مرتعشة لم تستطع أن تستوعب اللغة العربية لا كفن ولا كعلم، وإنما اعتبرتها وظيفة ينعكس عليها الأجواء الوظيفية المشلولة التي تعاني مها البلاد، ومن ثم فقد وجد مدرسون للغة العربية يرتكبون أخطاء بل وخطايا جسيمة في حق اللغة لو علم بها ابن جني أو سيبويه لانتفضوا من قبورهم في مظاهرة احتجاجية صاخبة تدور في أروقة الجامعات والمدارس رافعة شعار (لا للتأليم.. نعم للتعليم).
ولعل البعد الأخطر في هذه الإشكالية ذلك اليقين الذي استقرَّ في روع أبنائنا الطلاب سواء في التعليم النظامي أو الجامعي من أن اللغة العربية أصبحت مادة متحفية، وأنه لا فائدة البتة من تعلُّمها، وهذا بالضبط ما قاله أحد طلاب الأقسام العلمية في إحدى الجامعات المحترمة لمحاضر مادة اللغة العربية الذي سقط في يده واحتار بم يجيب، فهو حسب قوله يستطيع تعليم طالب بليد بتكرار المحاولات، ويستطيع أن يشد الطالب المهمل إلى مضمار التفاعل الإيجابي، ويستطيع.. ويستطيع.. لكنه لا يستطيع تعليم شخص علما ما نفض يده منه، وترسّخت لديه قناعة مطلقة بعدم جدواه، خاصة وأن معظم مفردات المنهج الجامعي الأخرى تدرس بالإنجليزية، في تبعية اختيارية للغرب مصدر هذه العلوم بسبب كسل الجامعات والمراكز العلمية في الوطن العربي عن تعريب هذه العلوم ومتابعتها أولا بأول خاصة بعد أن أثبتت مجامع اللغة العربية بأن اللغة العربية وعاء أمين للعلم، ويتسع باطراد لكل جديد فيه.
وبسبب هذا اليقين يقع طلابنا في أخطاء جسيمة إملائية وبيانية ونحوية، وقد أخبرني مدرس في المرحلة الثانوية أنه طلب من طلابه كواجب منزلي كتابة عشر جُمل توضح الحالات المختلفة لنائب الفاعل، فجاءت إجاباتهم متعددة الأخطاء، غير أنَّ خطأ في دفتر أحدهم جعله يضحك بمرارة حين قرأ هذه العبارة مكتوبة بخط مرتعش (العلمو نورن)، فقد جاءت حشَفا وسوء كيلة كما يقول المثل العربي، فهي رغم خطاياها القاتلة لا تمت إلى نائب الفاعل لا من قريب ولا من بعيد، وقد علّق المدرس إياه على هذه العبارة بقوله «لو أنها كانت (الجهلو ظلامن) لاعتبرتها شاهدا حيا على ظلامية الجهل لكني وقفت حائرا أمام عبارة الطالب التي تمتدح العلم وتمارس أقسى درجات الجهل والظلامية».
يدور الإعلام العربي في حلقة مفرغة يحكمها تقليد ممجوج للآخر، واستنساخ مهين لمخرجاته الإعلامية، وهذه إشكالية أشارت إليها العديد من الدراسات والبحوث، لا يسعفنا المجال لشرح أبعادها وتجلياتها، ونكتفي هنا بالإشارة إلى حلول العاميات على تعددها وتنوعها محل الفصحى في قنوات التلفزة العربية -كأهم وسيط إعلامي في الراهن المعاصر- في ما يزيد عن تسعين في المائة من البرامج المقدمة، وقد أصبحت هذه الفضائيات بحكم حضورها في حياة الناس حربا ضروسا على الفصحى، إلى درجة أن الأطفال في اليمن مثلا أصبحوا يحفظون من مفردات العامية اللبنانية أو المصرية، أو غيرها من العاميات أكثر مما يحفظون من مفردات الفصحى.
ولم تكتف هذه الفضائيات بذلك بل عمدت إلى ابتكار نموذجين لإقصاء الفصحى، يتمثل الأول في سيل من المسلسلات التي تسخر من مدرسي اللغة العربية، وتجعلهم أضحوكة للمشاهد حتى أصبح وصف (نحوي) مسبة في بعض الأوساط المجتمعية العربية، ويتمثل النموذج الثاني في تشجع العاميات، إذ راحت هذه القنوات ترصد الجوائز الضخمة لأشكال الأدب العامي، تحت مسميات مختلفة، وما شاعر المليون عنا ببعيد.
ما ينبغي معرفته هنا أن الفصحى في مختلف عهودها الذهبية تعايشت مع العاميات الموجودة آنذاك، ولم تشكّل خطرا على أيِّ منها، فلماذا يُراد اليوم للفصحى أن تتوارى في دائرة الإهمال والنسيان في حين يراد للعاميات أن تصبح متفردة في منابر الإعلام والاتصال؟
وخلاصة القول: إن اللغة العربية الفصحى في خطر، وأنَّ على القائمين على مراكز الإعلام والتعليم والغيورين من أبناء هذه الأمة التنادي إلى لقاء يدرس أغوار المشكلة وأبعادها، ويضع معالجات عملية وشاملة، قبل أن تصبح اللغة الفصحى تحفة أثرية في متحف التاريخ.
*الصحوة نت
من البدهيات أن اللغات تأخذ مكانتها قوة أو ضعفا من مكانة الأمم والشعوب التي تتحدث بها، فأينما وجدت لغة حية وجدت وراءها أمة حية وشعبا مبدعا، وأينما وجدت لغة مريضة كان وراءها أمة عليلة يتخطفها الناس، وتأوي إلى كهوف من التبعية المقيتة التي تصيرها مسخا في مختلف الصعد وخاصة الصعيد الفكري والثقافي.
ولا ينكر منكر ما تتعرض له اللغة العربية من محاولات قتل حثيثة على اعتبارها جزء من هوية الأمة،
ومعلما من معالم وجودها، غير أن قراءة الواقع قراءة حصيفة بعيدا عن منطق المؤامرة يؤكد أن عوامل أخرى أسهمت إلى حد كبير في تراجع اللغة إلى مراتب دونية في حياة الناس مما جعلها غريبة بين قومها تعاني الأمرين، في حين تستأثر لغات أخرى باهتمام الناس إذ ازداد عدد المعاهد والمراكز الخاصة بتدريس اللغات الأخرى وخاصة الإنجليزية تزايدا ملحوظا، وكل ذلك بسبب الطفرة الإعلامية التي أفرزتها وسائط الاتصال الحديثة، وخاصة الشبكة العنكبوتية التي جعلت الإنجليزية متسيّدة على سائر اللغات ومنحتها من الاهتمام جله، على الرغم من إفرادها مساحة معقولة لسائر اللغات الأخرى، غير أن العالمين بأسرار الإنترنت يؤكدون مدى التماهي العجيب بين الإنجليزية كلغة وخدمات الإنترنت.
يعد التعليم النظامي والجامعي من أهم المعاقل التي ضربت فيها الفصحى، وقد جرى ضرب اللغة في هذا المعقل عبر مراحل متعددة ومتزامنة لما عُرف بـ(تطوير المنهج)، إذ سار ركب هذا التطوير نحو تقليص مفردات مناهج اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وأدب، ومما أضاف إلى هذا التقليص سوءا مخرجات كليات التربية في بلادنا في جميع التخصصات الجامعية وفي مقدمتها مدرسو اللغة العربية، حيث أفرز التعليم الجامعي قدرات مضطربة،وكفاءات مرتعشة لم تستطع أن تستوعب اللغة العربية لا كفن ولا كعلم، وإنما اعتبرتها وظيفة ينعكس عليها الأجواء الوظيفية المشلولة التي تعاني مها البلاد، ومن ثم فقد وجد مدرسون للغة العربية يرتكبون أخطاء بل وخطايا جسيمة في حق اللغة لو علم بها ابن جني أو سيبويه لانتفضوا من قبورهم في مظاهرة احتجاجية صاخبة تدور في أروقة الجامعات والمدارس رافعة شعار (لا للتأليم.. نعم للتعليم).
ولعل البعد الأخطر في هذه الإشكالية ذلك اليقين الذي استقرَّ في روع أبنائنا الطلاب سواء في التعليم النظامي أو الجامعي من أن اللغة العربية أصبحت مادة متحفية، وأنه لا فائدة البتة من تعلُّمها، وهذا بالضبط ما قاله أحد طلاب الأقسام العلمية في إحدى الجامعات المحترمة لمحاضر مادة اللغة العربية الذي سقط في يده واحتار بم يجيب، فهو حسب قوله يستطيع تعليم طالب بليد بتكرار المحاولات، ويستطيع أن يشد الطالب المهمل إلى مضمار التفاعل الإيجابي، ويستطيع.. ويستطيع.. لكنه لا يستطيع تعليم شخص علما ما نفض يده منه، وترسّخت لديه قناعة مطلقة بعدم جدواه، خاصة وأن معظم مفردات المنهج الجامعي الأخرى تدرس بالإنجليزية، في تبعية اختيارية للغرب مصدر هذه العلوم بسبب كسل الجامعات والمراكز العلمية في الوطن العربي عن تعريب هذه العلوم ومتابعتها أولا بأول خاصة بعد أن أثبتت مجامع اللغة العربية بأن اللغة العربية وعاء أمين للعلم، ويتسع باطراد لكل جديد فيه.
وبسبب هذا اليقين يقع طلابنا في أخطاء جسيمة إملائية وبيانية ونحوية، وقد أخبرني مدرس في المرحلة الثانوية أنه طلب من طلابه كواجب منزلي كتابة عشر جُمل توضح الحالات المختلفة لنائب الفاعل، فجاءت إجاباتهم متعددة الأخطاء، غير أنَّ خطأ في دفتر أحدهم جعله يضحك بمرارة حين قرأ هذه العبارة مكتوبة بخط مرتعش (العلمو نورن)، فقد جاءت حشَفا وسوء كيلة كما يقول المثل العربي، فهي رغم خطاياها القاتلة لا تمت إلى نائب الفاعل لا من قريب ولا من بعيد، وقد علّق المدرس إياه على هذه العبارة بقوله «لو أنها كانت (الجهلو ظلامن) لاعتبرتها شاهدا حيا على ظلامية الجهل لكني وقفت حائرا أمام عبارة الطالب التي تمتدح العلم وتمارس أقسى درجات الجهل والظلامية».
يدور الإعلام العربي في حلقة مفرغة يحكمها تقليد ممجوج للآخر، واستنساخ مهين لمخرجاته الإعلامية، وهذه إشكالية أشارت إليها العديد من الدراسات والبحوث، لا يسعفنا المجال لشرح أبعادها وتجلياتها، ونكتفي هنا بالإشارة إلى حلول العاميات على تعددها وتنوعها محل الفصحى في قنوات التلفزة العربية -كأهم وسيط إعلامي في الراهن المعاصر- في ما يزيد عن تسعين في المائة من البرامج المقدمة، وقد أصبحت هذه الفضائيات بحكم حضورها في حياة الناس حربا ضروسا على الفصحى، إلى درجة أن الأطفال في اليمن مثلا أصبحوا يحفظون من مفردات العامية اللبنانية أو المصرية، أو غيرها من العاميات أكثر مما يحفظون من مفردات الفصحى.
ولم تكتف هذه الفضائيات بذلك بل عمدت إلى ابتكار نموذجين لإقصاء الفصحى، يتمثل الأول في سيل من المسلسلات التي تسخر من مدرسي اللغة العربية، وتجعلهم أضحوكة للمشاهد حتى أصبح وصف (نحوي) مسبة في بعض الأوساط المجتمعية العربية، ويتمثل النموذج الثاني في تشجع العاميات، إذ راحت هذه القنوات ترصد الجوائز الضخمة لأشكال الأدب العامي، تحت مسميات مختلفة، وما شاعر المليون عنا ببعيد.
ما ينبغي معرفته هنا أن الفصحى في مختلف عهودها الذهبية تعايشت مع العاميات الموجودة آنذاك، ولم تشكّل خطرا على أيِّ منها، فلماذا يُراد اليوم للفصحى أن تتوارى في دائرة الإهمال والنسيان في حين يراد للعاميات أن تصبح متفردة في منابر الإعلام والاتصال؟
وخلاصة القول: إن اللغة العربية الفصحى في خطر، وأنَّ على القائمين على مراكز الإعلام والتعليم والغيورين من أبناء هذه الأمة التنادي إلى لقاء يدرس أغوار المشكلة وأبعادها، ويضع معالجات عملية وشاملة، قبل أن تصبح اللغة الفصحى تحفة أثرية في متحف التاريخ.
*الصحوة نت