هويدي 15-10-2001
لا يستطيع المرء أن يكتم شعوره بالدهشة والرثاء، ازاء خطاب الشماتة المسكون بالبغض، الذي عبرت عنه اقلام عربية في تناولها تداعيات الهجوم الارهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. مصدر الدهشة ان تلك الاقلام لم تر في كل ما جرى سوى انه «كارثة للاسلاميين» الذين تم اختزالهم ـ في تبسيط مذهل ـ في شخص بن لادن وتنظيم القاعدة، ونظام طالبان. أما سبب الرثاء فإنهم في محاولتهم رصد اصداء ما جرى تحدثوا عما تمنوه، وليس عما هو حاصل أو متوقع على الأرض. ولأنهم كانوا اسرى امنياتهم وكراهتهم للاسلام والمسلمين، فقد تجاهلوا كل المتغيرات والافرازات الخطيرة التي اصبحت الاجواء مهيأة لاستقبالها في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) وحصروا انفسهم في تجليات البغض وتصفية الحساب.
وهي مصادفة كاشفة لا تخلو من مغزى، ان تحفل الصحف الاسرائيلية بكتابات تبنت الخطاب ذاته الذي نعى الى الجميع نهاية ما يسمى بالاسلام السياسي، وعبر عن التفاؤل بنهاية مماثلة وانكسار للمقاومة الاسلامية في فلسطين، التي تعتبرها ارهابا، ووصفها أحد كتاب الصحافة العربية اللندنية بأنها «تتكفل اخراج الفلسطينيين من التاريخ»! هذا المنطق ذاته عبرت عنه مطبوعات وأقلام اميركية موالية لاسرائيل، في كتابات تقطر كراهية وحقدا، وهو ما نفهمه ولا نستغربه من اسرائيليين أو اميركيين، لكنه يغدو مستغربا للغاية من بعض بني جلدتنا الذين يكتبون في الصحف العربية اللندنية، المحسوبة على أمتنا.
ثمة كتاب من العقلاء والراشدين تحدثوا عن المتغيرات المهمة المنتظرة التي ترسم عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) سواء في علاقة الولايات المتحدة بالعالم الخارجي وبالأمم المتحدة والشرعية الدولية، وفي علاقة الدول الغربية بالعالم الاسلامي، أو في تأثير ما جرى على الحريات المدنية وحقوق الانسان والديمقراطية، سواء في الولايات المتحدة واوروبا، أو في العالم العربي والاسلامي، حيث ينتظر ان يكون التأثير السلبي أكبر. هناك أيضا احاديث أخرى مهمة عن متغيرات اقليمية جوهرية بعضها يتعلق بالوجود الاميركي في وسط آسيا وبالقرب من نفط بحر قزوين وتأثير ذلك على أسواق المسلمين في تلك المنطقة، وبعضها يتعلق بخرائط العالم العربي واحتمالات استقرار انظمته، والوضع في فلسطين ودور اسرائيل التي أدركت واشنطن انها تمثل عبئا على الغرب في كل أزمة.
ذلك كله لم يعن شيئا للبعض، ممن أغمضوا أعينهم عنه واداروا ظهورهم له، ولم يروا في المشهد كله سوى انه « 67 الاسلاميين»، أي انه «كارثة»، «وهزيمة سريعة» و«فاجعة كاملة» لهم ـ لماذا؟ ـ لأن نهاية بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان قد حانت! كما فعلت الابواق الصهيونية والمتعصبة في الغرب، حين تصيدت صورة مشاعر الارتياح والغبطة التي عبر عنها نفر من سكان المخيمات وبعض العوام، بعد الهجوم على مدينتي نيويورك وواشنطن، وراحوا يسوقونها في كل مكان لتلطيخ صورة كل العرب والمسلمين، وتعميق الكراهية لهم، فإن اصحابنا هؤلاء ساروا على ذات الدرب، فتصيدوا لفظة الهجوم على بن لادن والقاعدة وطالبان، ومضوا يصيحون ويهللون، مروجين لفكرة نهاية المشروع الاسلامي! هي لعبة مفهومة في عالم الجدل، ان تختزل قضية كبيرة في موقف أو شخص ثم تطلق السهام على أي منهما، فتنهدم القضية بالكامل، وقد طبقوا هذا الاسلوب في المشهد الراهن، فاختزلوا المشروع الاسلامي في بن لادن وجماعته، واعتبروا ان نهاية الاثنين ـ اذا تحققت ـ هي بمثابة نهاية للمشروع كله «بالانهيار والموت».
هي ايضا نظرة الكتاب الاسرائيليين ونظرائهم المتعصبين الكارهين للاسلام والمسلمين، التي لا ترى في المشروع الاسلامي الا اتعس تجلياته واشدها بؤسا، على اعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لذلك المشروع، كما ترفض الاعتراف بأي شكل آخر من اشكال التعبير عنه! هل صحيح ان كارثة نزلت بالاسلاميين في الحادي عشر من سبتمبر، وهل ما جرى يعد فعلا هزيمة مريعة لهم؟
لكي نجيب، فلا بد أن نحرر أولا مصطلح «الاسلاميين» ونتساءل: من يكونون؟
أي باحث محترم لديه أدنى فكرة عن تلك الشريحة من البشر الملتزمين بدينهم والغيورين عليه، لا يسعه الا القول بأن المصطلح ينصرف الى جماعات من الناشطين، الذين تختلف توجهاتهم ومقاصدهم واساليبهم من بلد الى آخر، بقدر ما تختلف داخل البلد الواحد. إن شئت فقل انه مصطلح فضفاض للغاية، لا يعني أكثر من الانتساب للدين والعمل من أجله، أما كيف ولماذا، فليس معلوما بالضبط، لذلك فإنه يظـل مصطلحا غامضا ما لم يقترن بتوضيح الكيفية التي يعلن بها الناس عن انتمائهم، والاسلوب الذي يتبعونه لتحقيق مقصدهم المرجو.
أما ان يوضع الاسلاميون جميعهم في سلة واحدة، فذلك لا يفسر الا بأحد احتمالين: الجهل أو سوء القصد.
والذين كتبوا عن «كارثة الاسلاميين» في 11سبتمبر وقعوا في المحظورين، من حيث انهم اعتبروا الحملة الدولية ضد الارهاب بمختلف اشكاله، بمثابة «هزيمة مريعة» لكل فصائل التيار الاسلامي، باعتبار ان بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان هم رموز ذلك التيار المستهدف.
وهم لم يقعوا في ذلك الخطأ المنهجي الجسيم الا بعد ان استسلموا لخطأ آخر، هو اعتقادهم ان الانتماء الاسلامي هو حالة طارئة، فرضتها ظروف معينة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهذه الحالة لن تلبث ان تتغير ـ أو تزول! ـ بمجرد زوال الظروف التي افرزتها! وهو اعتقاد مفرط في السذاجة، فيه من التمني ـ ايضا! ـ بأكثر مما فيه من المعرفة العلمية والتاريخية.
ان اعتبار بن لادن ومنظمة القاعدة ممثلين للمشروع الاسلامي، لا يختلف كثيرا عن اعتبار منظمة «بادر ماينهوف» أو «الألوية الحمراء» ممثلين للحضارة الغربية، ولو ان أحدا جهر بهذه المقولة الأخيرة في أوروبا لاتهم بالسفاهة والخبل، لكن الزعم بتمثيل بن لادن والقاعدة للمشروع الاسلامي، أو لما يسمى بالاسلام السياسي يُطلق عندنا بجرأة شديدة، دون أن يستوقف أحدا، بل ويجد غلاة العلمانيين المعادين للاسلام والمسلمين من يصدقه ويتبناه ويروج له.
ورغم تعدد الجماعات الداعية الى المشروع الاسلامي، الا انه بوسعنا ان نميز بين اتجاهين داخل تلك الجماعات، احدهما معتدل يعتمد الاسلوب السلمي في التغيير ويطالب بالمشاركة في الحياة السياسية والديمقراطية «ان وجدت»، والثاني جماعات متطرفة تستخدم السلاح والاكراه الأدبي أو المادي في التغيير. وليس من شك ان جماعات العنف والتطرف، والتي تستخدم السلاح خاصة، تلقت في السنوات الماضية ضربات متتالية من قبل انظمة المنطقة العربية على الأقل، وهو حدث من أبواب عدة، وكان للتعاون الأمني بين بعض أجهزة الدول الغربية والأجهزة المماثلة في العالم العربي، دوره في إحكام الحصار حول انشطة تلك الجماعات وملاحقة عناصرها في انحاء مختلفة من العالم، وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر أوصل الحملة الى ذروتها، الأمر الذي أزعم انه اضاف عنصرين جديدين الى الصورة، الأول ان مقاومة جماعات العنف اخذت طابعا دوليا غير مسبوق، بعدما تبين ان العنف أصبح يهدد الولايات المتحدة ذاتها، وهو توجه محمود اذا توافر له شرطان: ان يقدم المتهمون بالتورط في انشطة تلك الجماعات الى محاكم متوافر لها ضمانات العدالة، ثم ان تظل الملاحقة مقصورة على جماعات العنف والارهاب، دون ان يمس ذلك منظمات مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، التي تسعى اسرائيل الى دمغها بالارهاب وتلح في ادراجها ضمن المنظمات التي تخضع أموالها للمصادرة وعناصرها للملاحقة.
العنصر الثاني المهم ان الجميع ادركوا في اللحظة الراهنة اهمية الدور الذي تقوم به جماعات الاعتدال الاسلامية الداعية الى الاساليب السلمية والديمقراطية في التغيير، وقد سمعت من أكثر من مسؤول لهم علاقة بمتابعة تلك الانشطة، قولهم ان الأجهزة السياسية والأمنية في الدول العربية شغلت طيلة السنوات الماضية بمكافحة التطرف، لكنها لم تلتفت بشكل كاف الى أهمية تشجيع الاعتدال، وهو كلام صحيح، وتوجيه رشيد، اذا قدر له ان يترجم الى اجراءات ومواقف ايجابية.
لا اختلف مع الادعاء بأن جماعات العنف تواجه انقضاضا لن تخرج منه كما كانت من قبل، وهو رأي اسجله بقدر من الحذر، لأنني أخشى ان تؤدي سياسات القمع التي تستهدف سحق تلك الجماعات، الى مضاعفة مشاعر الغضب والسخط، ومن ثم الى تهيئة تربة مواتية لتفريخ مزيد من جماعات العنف.
وعلى عكس أمنية الكارهين في أن يجعلوها كارثة تحل بالاسلاميين جميعا فإن فرصة انتعاش جماعات الاعتدال ستكون أفضل بكثير، إن لم يكن على صعيد الواقع، فعلى صعيد الادراك على الأقل، وسيظل ذلك وثيق الصلة في كل الاحوال بمجمل الخرائط السياسية السائدة، واتجاهات الريح فيها، وهي الريح التي قد تستخرج من المجتمع أفضل ما فيه، وقد تواطأ البعض على أن تستخرج منه اسوأ ما فيه.
ان الاسلاميين بمختلف اتجاهاتهم ليسوا قادمين من كوكب آخر، ولكنهم نبت يخرج من تربتنا وسلوكهم كثيرا ما يكون استجابة للظرف التاريخي الذي يمر به كل مجتمع، وهو ما أدركه خبير منصف مثل جراهام فوللر، مسؤول المخابرات المركزية السابق، في مقالته التي نشرتها «الشرق الأوسط» في 9/23 ، عن الاسلام والسياسة. والفرق بين فوللر وبين من كتب عن «67 الاسلاميين» تماما كالفرق بين الباحث عن الحقيقة والكاره لها.. هل يمكن ان تعمي الكراهية بصر المرء وبصيرته الى ذلك الحد؟
لا يستطيع المرء أن يكتم شعوره بالدهشة والرثاء، ازاء خطاب الشماتة المسكون بالبغض، الذي عبرت عنه اقلام عربية في تناولها تداعيات الهجوم الارهابي الذي تعرضت له الولايات المتحدة. مصدر الدهشة ان تلك الاقلام لم تر في كل ما جرى سوى انه «كارثة للاسلاميين» الذين تم اختزالهم ـ في تبسيط مذهل ـ في شخص بن لادن وتنظيم القاعدة، ونظام طالبان. أما سبب الرثاء فإنهم في محاولتهم رصد اصداء ما جرى تحدثوا عما تمنوه، وليس عما هو حاصل أو متوقع على الأرض. ولأنهم كانوا اسرى امنياتهم وكراهتهم للاسلام والمسلمين، فقد تجاهلوا كل المتغيرات والافرازات الخطيرة التي اصبحت الاجواء مهيأة لاستقبالها في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) وحصروا انفسهم في تجليات البغض وتصفية الحساب.
وهي مصادفة كاشفة لا تخلو من مغزى، ان تحفل الصحف الاسرائيلية بكتابات تبنت الخطاب ذاته الذي نعى الى الجميع نهاية ما يسمى بالاسلام السياسي، وعبر عن التفاؤل بنهاية مماثلة وانكسار للمقاومة الاسلامية في فلسطين، التي تعتبرها ارهابا، ووصفها أحد كتاب الصحافة العربية اللندنية بأنها «تتكفل اخراج الفلسطينيين من التاريخ»! هذا المنطق ذاته عبرت عنه مطبوعات وأقلام اميركية موالية لاسرائيل، في كتابات تقطر كراهية وحقدا، وهو ما نفهمه ولا نستغربه من اسرائيليين أو اميركيين، لكنه يغدو مستغربا للغاية من بعض بني جلدتنا الذين يكتبون في الصحف العربية اللندنية، المحسوبة على أمتنا.
ثمة كتاب من العقلاء والراشدين تحدثوا عن المتغيرات المهمة المنتظرة التي ترسم عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) سواء في علاقة الولايات المتحدة بالعالم الخارجي وبالأمم المتحدة والشرعية الدولية، وفي علاقة الدول الغربية بالعالم الاسلامي، أو في تأثير ما جرى على الحريات المدنية وحقوق الانسان والديمقراطية، سواء في الولايات المتحدة واوروبا، أو في العالم العربي والاسلامي، حيث ينتظر ان يكون التأثير السلبي أكبر. هناك أيضا احاديث أخرى مهمة عن متغيرات اقليمية جوهرية بعضها يتعلق بالوجود الاميركي في وسط آسيا وبالقرب من نفط بحر قزوين وتأثير ذلك على أسواق المسلمين في تلك المنطقة، وبعضها يتعلق بخرائط العالم العربي واحتمالات استقرار انظمته، والوضع في فلسطين ودور اسرائيل التي أدركت واشنطن انها تمثل عبئا على الغرب في كل أزمة.
ذلك كله لم يعن شيئا للبعض، ممن أغمضوا أعينهم عنه واداروا ظهورهم له، ولم يروا في المشهد كله سوى انه « 67 الاسلاميين»، أي انه «كارثة»، «وهزيمة سريعة» و«فاجعة كاملة» لهم ـ لماذا؟ ـ لأن نهاية بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان قد حانت! كما فعلت الابواق الصهيونية والمتعصبة في الغرب، حين تصيدت صورة مشاعر الارتياح والغبطة التي عبر عنها نفر من سكان المخيمات وبعض العوام، بعد الهجوم على مدينتي نيويورك وواشنطن، وراحوا يسوقونها في كل مكان لتلطيخ صورة كل العرب والمسلمين، وتعميق الكراهية لهم، فإن اصحابنا هؤلاء ساروا على ذات الدرب، فتصيدوا لفظة الهجوم على بن لادن والقاعدة وطالبان، ومضوا يصيحون ويهللون، مروجين لفكرة نهاية المشروع الاسلامي! هي لعبة مفهومة في عالم الجدل، ان تختزل قضية كبيرة في موقف أو شخص ثم تطلق السهام على أي منهما، فتنهدم القضية بالكامل، وقد طبقوا هذا الاسلوب في المشهد الراهن، فاختزلوا المشروع الاسلامي في بن لادن وجماعته، واعتبروا ان نهاية الاثنين ـ اذا تحققت ـ هي بمثابة نهاية للمشروع كله «بالانهيار والموت».
هي ايضا نظرة الكتاب الاسرائيليين ونظرائهم المتعصبين الكارهين للاسلام والمسلمين، التي لا ترى في المشروع الاسلامي الا اتعس تجلياته واشدها بؤسا، على اعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لذلك المشروع، كما ترفض الاعتراف بأي شكل آخر من اشكال التعبير عنه! هل صحيح ان كارثة نزلت بالاسلاميين في الحادي عشر من سبتمبر، وهل ما جرى يعد فعلا هزيمة مريعة لهم؟
لكي نجيب، فلا بد أن نحرر أولا مصطلح «الاسلاميين» ونتساءل: من يكونون؟
أي باحث محترم لديه أدنى فكرة عن تلك الشريحة من البشر الملتزمين بدينهم والغيورين عليه، لا يسعه الا القول بأن المصطلح ينصرف الى جماعات من الناشطين، الذين تختلف توجهاتهم ومقاصدهم واساليبهم من بلد الى آخر، بقدر ما تختلف داخل البلد الواحد. إن شئت فقل انه مصطلح فضفاض للغاية، لا يعني أكثر من الانتساب للدين والعمل من أجله، أما كيف ولماذا، فليس معلوما بالضبط، لذلك فإنه يظـل مصطلحا غامضا ما لم يقترن بتوضيح الكيفية التي يعلن بها الناس عن انتمائهم، والاسلوب الذي يتبعونه لتحقيق مقصدهم المرجو.
أما ان يوضع الاسلاميون جميعهم في سلة واحدة، فذلك لا يفسر الا بأحد احتمالين: الجهل أو سوء القصد.
والذين كتبوا عن «كارثة الاسلاميين» في 11سبتمبر وقعوا في المحظورين، من حيث انهم اعتبروا الحملة الدولية ضد الارهاب بمختلف اشكاله، بمثابة «هزيمة مريعة» لكل فصائل التيار الاسلامي، باعتبار ان بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان هم رموز ذلك التيار المستهدف.
وهم لم يقعوا في ذلك الخطأ المنهجي الجسيم الا بعد ان استسلموا لخطأ آخر، هو اعتقادهم ان الانتماء الاسلامي هو حالة طارئة، فرضتها ظروف معينة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهذه الحالة لن تلبث ان تتغير ـ أو تزول! ـ بمجرد زوال الظروف التي افرزتها! وهو اعتقاد مفرط في السذاجة، فيه من التمني ـ ايضا! ـ بأكثر مما فيه من المعرفة العلمية والتاريخية.
ان اعتبار بن لادن ومنظمة القاعدة ممثلين للمشروع الاسلامي، لا يختلف كثيرا عن اعتبار منظمة «بادر ماينهوف» أو «الألوية الحمراء» ممثلين للحضارة الغربية، ولو ان أحدا جهر بهذه المقولة الأخيرة في أوروبا لاتهم بالسفاهة والخبل، لكن الزعم بتمثيل بن لادن والقاعدة للمشروع الاسلامي، أو لما يسمى بالاسلام السياسي يُطلق عندنا بجرأة شديدة، دون أن يستوقف أحدا، بل ويجد غلاة العلمانيين المعادين للاسلام والمسلمين من يصدقه ويتبناه ويروج له.
ورغم تعدد الجماعات الداعية الى المشروع الاسلامي، الا انه بوسعنا ان نميز بين اتجاهين داخل تلك الجماعات، احدهما معتدل يعتمد الاسلوب السلمي في التغيير ويطالب بالمشاركة في الحياة السياسية والديمقراطية «ان وجدت»، والثاني جماعات متطرفة تستخدم السلاح والاكراه الأدبي أو المادي في التغيير. وليس من شك ان جماعات العنف والتطرف، والتي تستخدم السلاح خاصة، تلقت في السنوات الماضية ضربات متتالية من قبل انظمة المنطقة العربية على الأقل، وهو حدث من أبواب عدة، وكان للتعاون الأمني بين بعض أجهزة الدول الغربية والأجهزة المماثلة في العالم العربي، دوره في إحكام الحصار حول انشطة تلك الجماعات وملاحقة عناصرها في انحاء مختلفة من العالم، وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر أوصل الحملة الى ذروتها، الأمر الذي أزعم انه اضاف عنصرين جديدين الى الصورة، الأول ان مقاومة جماعات العنف اخذت طابعا دوليا غير مسبوق، بعدما تبين ان العنف أصبح يهدد الولايات المتحدة ذاتها، وهو توجه محمود اذا توافر له شرطان: ان يقدم المتهمون بالتورط في انشطة تلك الجماعات الى محاكم متوافر لها ضمانات العدالة، ثم ان تظل الملاحقة مقصورة على جماعات العنف والارهاب، دون ان يمس ذلك منظمات مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، التي تسعى اسرائيل الى دمغها بالارهاب وتلح في ادراجها ضمن المنظمات التي تخضع أموالها للمصادرة وعناصرها للملاحقة.
العنصر الثاني المهم ان الجميع ادركوا في اللحظة الراهنة اهمية الدور الذي تقوم به جماعات الاعتدال الاسلامية الداعية الى الاساليب السلمية والديمقراطية في التغيير، وقد سمعت من أكثر من مسؤول لهم علاقة بمتابعة تلك الانشطة، قولهم ان الأجهزة السياسية والأمنية في الدول العربية شغلت طيلة السنوات الماضية بمكافحة التطرف، لكنها لم تلتفت بشكل كاف الى أهمية تشجيع الاعتدال، وهو كلام صحيح، وتوجيه رشيد، اذا قدر له ان يترجم الى اجراءات ومواقف ايجابية.
لا اختلف مع الادعاء بأن جماعات العنف تواجه انقضاضا لن تخرج منه كما كانت من قبل، وهو رأي اسجله بقدر من الحذر، لأنني أخشى ان تؤدي سياسات القمع التي تستهدف سحق تلك الجماعات، الى مضاعفة مشاعر الغضب والسخط، ومن ثم الى تهيئة تربة مواتية لتفريخ مزيد من جماعات العنف.
وعلى عكس أمنية الكارهين في أن يجعلوها كارثة تحل بالاسلاميين جميعا فإن فرصة انتعاش جماعات الاعتدال ستكون أفضل بكثير، إن لم يكن على صعيد الواقع، فعلى صعيد الادراك على الأقل، وسيظل ذلك وثيق الصلة في كل الاحوال بمجمل الخرائط السياسية السائدة، واتجاهات الريح فيها، وهي الريح التي قد تستخرج من المجتمع أفضل ما فيه، وقد تواطأ البعض على أن تستخرج منه اسوأ ما فيه.
ان الاسلاميين بمختلف اتجاهاتهم ليسوا قادمين من كوكب آخر، ولكنهم نبت يخرج من تربتنا وسلوكهم كثيرا ما يكون استجابة للظرف التاريخي الذي يمر به كل مجتمع، وهو ما أدركه خبير منصف مثل جراهام فوللر، مسؤول المخابرات المركزية السابق، في مقالته التي نشرتها «الشرق الأوسط» في 9/23 ، عن الاسلام والسياسة. والفرق بين فوللر وبين من كتب عن «67 الاسلاميين» تماما كالفرق بين الباحث عن الحقيقة والكاره لها.. هل يمكن ان تعمي الكراهية بصر المرء وبصيرته الى ذلك الحد؟