العلمانية بخلفية إسلامية
لا أعترض على أن يجتهد من يرى في نفسه الأهلية والقدرة، منطلقا من مفاهيم الإسلام، ومتشبثا بـ’’سبيل المؤمنين’’، فيقدم رأيه معززا بأدلته الشرعية مستندا إلى تغير الزمان والمكان، فيقبله من شاء ويرده من شاء، ولكن أن يتنكب الكاتب سبيل الاستدلال الشرعي والعلمي، وينطلق بدءًا من ازدراء الفقهاء وإجماعهم، ويسحب على التاريخ الإسلامي رداء من التهكم والاتهام، ثم يبني خطابه على المفاهيم الغربية الغريبة على الإسلام، فإن لم تكن تلك هي العلمانية فماذا تكون!..والحقيقة أن المنحى الاستدلالي الذي يتخذه الرجل هو منحىً جديد وغريب، لم تدون أصوله بعد (وعلى أصحابه أن يدونوها)، ولكنها تتبدى من ثنايا طروحاتهم، وأبرز ما يميزها أنهم يقررون الرأي أولاً ويقتنعون به، ولو كان مخالفا لإجماع المسلمين..
المقال الأخير للأستاذ الشنقيطي بعنوان ’’الناس على دين دساتيرهم’’، يحمل الكثير من الدلالات الخطيرة والمؤسفة؛ أهمها وأخطرها أن العلمانية المتدثرة بالخطاب الإسلامي، قد قطعت أشواطا طويلة في اختراق الجسد الثقافي الإسلامي، المعتصم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
وهو مقال لا يمكن فصله عن المنحى العام لفكر الشنقيطي ـ ومن على شاكلته ـ الذي بدت نذره العاتية مع زيارته الأخيرة لموريتانيا، حيث كان لآرائه الوقع الصادم والفاجع، فأما المعجبون ’’المريدون’’ فقد تقبلوها كوجهات نظر قابلة للنقاش وفيما بعدُ للتبني ما دامت صادرة عن ’’مثله’’، وأما العلمانيون وألداء المعادين للحركة الإسلامية فقد رأوا فيها فرصة للشماتة بالشباب ’’الإصلاحي’’ الذي يقبل من الشنقيطي ما لو جاء به غيره لعدوه علمانية صريحة.
شخصيا لم يفاجئني أن يصل الشنقيطي إلى هذا النوع من الأفكار والنتائج ـ وربما الخافي أعظم ـ فقد صرح هو نفسه يوماً ـ في تعليقه على ’’طارق رمضان’’ ـ بالقول: إن (القيم الغربية أثرت على العقل المسلم اليوم تأثيرا عميقا، ولم يقتصر هذا التأثير على العلمانيين، بل امتد إلى الإسلاميين أيضا، خصوصا المقيمين منهم في الغرب مثلي ومثل الدكتور رمضان، فبدأ مسار التكيف مع ثقافة مختلفة يتحول إلى رؤية أخلاقية ودينية).
والناظر فيما كتب الشنقيطي يخيل إليه أن الأمة لم يعد لديها من المشكلات إلا أن تحدد شكل ’’أمير المؤمنين’’ ـ أو ’’الإمبراطور’’ كما عبر هو بتهكم ـ، وهو بذلك يذكرنا بخرجة طارق رمضان آنفة الذكر حين نادى بإلغاء الحدود الشرعية الجنائية، التي هي معطلة أصلا كتعطيل أغلب تشريعات الإسلام، فصور المجتمع الإسلامي وكأنه مسلخة بشرية بسبب تطبيق هذه الحدود التي لا وجود لها إلا في أضابير ’’الفقه القديم’’ كما يعبر هؤلاء.
الحقيقة أن المنحى الاستدلالي الذي يتخذه الرجل هو منحىً جديد وغريب، لم تدون أصوله بعد (وعلى أصحابه أن يدونوها)، ولكنها تتبدى من ثنايا طروحاتهم، وأبرز ما يميزها أنهم يقررون الرأي أولاً ويقتنعون به، ولو كان مخالفا لإجماع المسلمين، ثم تبدأ رحلة التنقيب في التراث الإسلامي، وهو تراث واسع لن يعوزهم أن يجدوا فيه قولا ضعيفا أو شبهة رد عليها المتقدمون. وإذا كان هؤلاء لم يقدموا بعد تسمية لمنهجهم هذا، فإن فقهاءنا ـ الذين يزدرونهم ـ يسمون هذا النوع بـ’’إتباع الهوى’’.
ولكي ترى النموذج الحي على ما أقول فيكفي أن تقرأ هذا المقال بتمعن وتلاحظ ما يلي:
أن الكاتب انطلق من أفكار مقدسة لديه هي ’’المساواة والحرية، والدولة الجغرافية المدنية... الخ’’، دون أن يسأل عن مدى صحة تلك المفاهيم ، فضلا عن قدسيتها في المنظور الإسلامي (الذي يوحي بأنه ينطلق منه)، ثم بدأ يحاكم ’’الفقه الإسلامي’’ ويطعن فيه لأنه لا يحقق هذه المبادئ المقدسة في نظره، وهو حتى هذه المرحلة ليس مضطرا للاستدلال ولا حاجة به إليه، ثم بعد تقرير الأمر يعرج على ما يسمونه ’’دستور المدينة’’ لا ليستدل به ـ فالأمر محسوم ـ ولكن ليأخذ منه ـ بالتشهي ـ ما يظنه مقويا لدعواه، وأما غيره من نصوص الوحي فلا يهمه، ولئن عرج على الآية الكريمة عجِلاً فإنه أخفى وأعرض عن غيرها من الأدلة.
ولأن الكاتب فيما يبدو غير معني بالاستدلال والتأصيل الفقهي، لأن الأمر عنده محسوم، فإننا نلاحظ أنه لم يورد في مقاله الطويل من الأدلة سوى دليلين:
أما أحدهما فهو الآية الكريمة (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (سورة النساء، الآية 141)، أوردها جاعلا إياها الدليل الوحيد لاشتراط الإسلام في ’’الإمام’’، ليرد عليها بأنها من الخطاب القدري لا الشرعي.
ونسي الكاتب أن هذه الآية ليست الدليل الأول فضلا عن أن تكون الوحيد، بل إنما هي نص من بين كثير من النصوص التي يذكرها الفقهاء هنا من باب الاستئناس (بدلالة الإيماء) لما تدل عليه من إعلاء شأن الإسلام على غيره، في كل الأحوال، وأحرى في أمر الإمامة العظمى، التي ليست أقل شأنا من عصمة المرأة المؤمنة التي لا يجوز أن تكون تحت كافر، اعتبارا لعزة الإسلام على الكفر.
ولا تكاد تجد أحداً من فقهاء الأحكام السلطانية يبحث عن دليل لاشتراط الإسلام في الإمام الأعظم، لأن الأمر عندهم مسلم بدهي لا يحتمل الخلاف، بل تجدهم يختلفون في اشتراط ’’النسب القرشي’’ مثلا، بعد أن يؤكدوا شروط ’’العدالة’’، والتي تقتضي الإسلام أولَ ما تقتضي، و’’العلم’’ الذي يقتضي معرفة أحكام الشرع لكي يقوم على تطبيقها.
ولذلك كان أقوى دليل لهم على أحقية خلافة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه هو تقديمه لإمامة الصلاة ’’عماد الدين’’، فلَأن يقدم لإمامة السلطة الزمنية أولى، كما قال الصحابة الكرام: ’’إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضاه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا!!’’.
أولا يكفينا دليلا صريحا بعد كل ذلك وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بالسمع والطاعة (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان) البخاري (ج 21 / ص 444) ومسلم (ج 9 / ص 374)؟ وقوله: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلوا) مسلم (الإمارة / 62 ، 63 ، 64)؟
وتعليقا على ذلك أورد الإمام النووي عن القاضي عِيَاض قوله: (أجمع العلماء على أنّ الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل) شرح النووي على مسلم (ج 6 / ص 314). وذكر ابن حجر إجماع العلماء (أنه ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثّواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) فتح الباري لابن حجر (ج 20 / ص 162).
الدليل الثاني: ’’دستور المدينة’’ الذي يتحدثون عنه كثيرا مع أنه في ميزان الاستدلال يدخل في دائرة السير والتواريخ، لا في دائرة أدلة الأحكام، ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف، ومن ثم قال الزين العراقي في ألفيته:
وليعلم الطالب أن السيرا -- تجمع ما صح وما قد أنكرا
ومع ذلك فإننا نلاحظ أن الكاتب يأخذ منه فقط ما يتوهمه مؤيدا لدعواه، مع أنه ينسفها من الأساس، فالدستور من صياغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعط لليهود فيه الحق أن يتولوا الرئاسة بانتخاب ولا غيره، بل الكلمة العليا لدين الله الحق ’’الإسلام’’ ولرسول الله، وكثير من الفقرات تصرح بما هو أوضح في مرجعية الإسلام: ’’وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مَرده إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ’’، وإقراراً لعزة الإسلام وأهله على غيرهم جاء في الوثيقة أيضا: ’’ولا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ’’، فهل في ذلك دليل للمساواة التي يدعيها الكاتب؟!
وإني لأعجب من تعبيره في سياق إيراد هذا الدستور بالقول: ( ولم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد )، فهل يقول هذا مؤمن يحمل بين جنبيه قول الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، (سورة التوبة، الآية 29)، هل ’’الفقه الإمبراطوري’’ هو الذي اخترع هذه الآية الكريمة المقررة للجزية في حق الكافرين؟!
ولنترك الاستدلال الشرعي إلى الاستدلال العقلي المنطقي الذي لم يكن حاله بأحسن لدى الكاتب، فنجده يستدل بـ’’المصادرات المنطقية’’ ليثبت ما لم تسعفه الحجة في إثباته؛ يقول مثلاً إن (بناء الدول على أساس من ... قانون الفتح وأخوة العقيدة لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا)، ودليله على هذا الزعم أن (الدولة المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا)، فأي دليل أوهى من هذا! وهل نحن مرتهنون لصورة محددة للدولة، وقعت في زمن معين محكوم عليها بالتحول كغيرها؟ لماذا لا نحاول أن نعيد دولة الإسلام المبنية على أخوة الإسلام والتي يعيش فيها المسلم والذمي كلٌّ بحقوقه وواجباته؟! أم هو اليأس من روح الله!
ومن قبيل هذا الاستدلال، تعليله الخروج على الإجماع باشتراط الإسلام في ولي الأمر بأن ذلك (يثير إشكالاً حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد الاجتماعي التي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبسا). ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال وتهافته، فمن أين يكون الأمر ملتبساً؟ فإذا كان الناس ’’على دين دساتيرهم’’ ـ كما تقول ـ فهذا مقرر في الدستور، وإذا كان الرأي للأغلبية كما تقررون في ديمقراطيتكم فهذا رأي الأغلبية ودين الأغلبية.
وهل من المساواة والأخلاق أن نبني العقد السياسي على النفاق، بحيث يكون رأس الدولة والمسؤول عن ’’إقامة الدين وسياسة الدنيا به’’ شخصا غير مؤمن بهذا الدين أصلا؟! فما هذا التناقض!!
وبعدُ؛ فإن عبارة ’’الناس على دين ملوكهم’’ ليست عبارة إسلامية حتى تُعرض كنص لحقه التغير، وليست ـ حتى ـ صحيحةً تاريخيا، فما كان ’’أهل الذمة’’ في دولة الإسلام على دين ملوكهم المسلمين؟ بل حتى المغول الذين أبادوا البشر والحجر لم يحولوا الناس إلى دينهم.
وأما مفاهيم الحرية والمساواة وغيرها من المبادئ الغربية بامتياز (والتي تحتاج نقاشا مطولا)، فلا ينبغي لمثقف مسلم أن يجعلها هي الهدف الأسمى، ليفصِّـل دولة الإسلام عليها، ويعتسف تأويل النصوص والخروج على الإجماع، فالهدف الأسمى هو إقامة دين الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا، ولذلك كانت الفتوح الإسلامية التي يراد بها إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ليظفروا بالنعيم المقيم وينجوا من الخسران يوم القيامة.
رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا وجزاه عن الإسلام خير الجزاء، فرغم حلكة الليل المحيط به لم يكن ليتنازل عن المطلب الأسمى ’’إقامة دولة الإسلام’’ الراشدة، حتى قبضه الله تعالى غير مبدل ولا مغير ولا مخدوع ببهرج الغرب وضلالاته، ولم يكن الإسلام في نظره ستارةً خلفيةً تُلتَقط أمامها الصور السياسية، بل كان هو الهدف والمبتغى وهو الحياة بكل تفاصيلها، وليت جماعته ظلوا متشبثين بدربه ومنهاجه.
في الختام، فإنني لا أعترض على أن يجتهد من يرى في نفسه الأهلية والقدرة، منطلقا من مفاهيم الإسلام، ومتشبثا بـ’’سبيل المؤمنين’’، فيقدم رأيه معززا بأدلته الشرعية مستندا إلى تغير الزمان والمكان، فيقبله من شاء ويرده من شاء، ولكن أن يتنكب الكاتب سبيل الاستدلال الشرعي والعلمي، وينطلق بدءًا من ازدراء الفقهاء وإجماعهم، ويسحب على التاريخ الإسلامي رداء من التهكم والاتهام، ثم يبني خطابه على المفاهيم الغربية الغريبة على الإسلام، فإن لم تكن تلك هي العلمانية فماذا تكون!
*العصر
لا أعترض على أن يجتهد من يرى في نفسه الأهلية والقدرة، منطلقا من مفاهيم الإسلام، ومتشبثا بـ’’سبيل المؤمنين’’، فيقدم رأيه معززا بأدلته الشرعية مستندا إلى تغير الزمان والمكان، فيقبله من شاء ويرده من شاء، ولكن أن يتنكب الكاتب سبيل الاستدلال الشرعي والعلمي، وينطلق بدءًا من ازدراء الفقهاء وإجماعهم، ويسحب على التاريخ الإسلامي رداء من التهكم والاتهام، ثم يبني خطابه على المفاهيم الغربية الغريبة على الإسلام، فإن لم تكن تلك هي العلمانية فماذا تكون!..والحقيقة أن المنحى الاستدلالي الذي يتخذه الرجل هو منحىً جديد وغريب، لم تدون أصوله بعد (وعلى أصحابه أن يدونوها)، ولكنها تتبدى من ثنايا طروحاتهم، وأبرز ما يميزها أنهم يقررون الرأي أولاً ويقتنعون به، ولو كان مخالفا لإجماع المسلمين..
المقال الأخير للأستاذ الشنقيطي بعنوان ’’الناس على دين دساتيرهم’’، يحمل الكثير من الدلالات الخطيرة والمؤسفة؛ أهمها وأخطرها أن العلمانية المتدثرة بالخطاب الإسلامي، قد قطعت أشواطا طويلة في اختراق الجسد الثقافي الإسلامي، المعتصم بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
وهو مقال لا يمكن فصله عن المنحى العام لفكر الشنقيطي ـ ومن على شاكلته ـ الذي بدت نذره العاتية مع زيارته الأخيرة لموريتانيا، حيث كان لآرائه الوقع الصادم والفاجع، فأما المعجبون ’’المريدون’’ فقد تقبلوها كوجهات نظر قابلة للنقاش وفيما بعدُ للتبني ما دامت صادرة عن ’’مثله’’، وأما العلمانيون وألداء المعادين للحركة الإسلامية فقد رأوا فيها فرصة للشماتة بالشباب ’’الإصلاحي’’ الذي يقبل من الشنقيطي ما لو جاء به غيره لعدوه علمانية صريحة.
شخصيا لم يفاجئني أن يصل الشنقيطي إلى هذا النوع من الأفكار والنتائج ـ وربما الخافي أعظم ـ فقد صرح هو نفسه يوماً ـ في تعليقه على ’’طارق رمضان’’ ـ بالقول: إن (القيم الغربية أثرت على العقل المسلم اليوم تأثيرا عميقا، ولم يقتصر هذا التأثير على العلمانيين، بل امتد إلى الإسلاميين أيضا، خصوصا المقيمين منهم في الغرب مثلي ومثل الدكتور رمضان، فبدأ مسار التكيف مع ثقافة مختلفة يتحول إلى رؤية أخلاقية ودينية).
والناظر فيما كتب الشنقيطي يخيل إليه أن الأمة لم يعد لديها من المشكلات إلا أن تحدد شكل ’’أمير المؤمنين’’ ـ أو ’’الإمبراطور’’ كما عبر هو بتهكم ـ، وهو بذلك يذكرنا بخرجة طارق رمضان آنفة الذكر حين نادى بإلغاء الحدود الشرعية الجنائية، التي هي معطلة أصلا كتعطيل أغلب تشريعات الإسلام، فصور المجتمع الإسلامي وكأنه مسلخة بشرية بسبب تطبيق هذه الحدود التي لا وجود لها إلا في أضابير ’’الفقه القديم’’ كما يعبر هؤلاء.
الحقيقة أن المنحى الاستدلالي الذي يتخذه الرجل هو منحىً جديد وغريب، لم تدون أصوله بعد (وعلى أصحابه أن يدونوها)، ولكنها تتبدى من ثنايا طروحاتهم، وأبرز ما يميزها أنهم يقررون الرأي أولاً ويقتنعون به، ولو كان مخالفا لإجماع المسلمين، ثم تبدأ رحلة التنقيب في التراث الإسلامي، وهو تراث واسع لن يعوزهم أن يجدوا فيه قولا ضعيفا أو شبهة رد عليها المتقدمون. وإذا كان هؤلاء لم يقدموا بعد تسمية لمنهجهم هذا، فإن فقهاءنا ـ الذين يزدرونهم ـ يسمون هذا النوع بـ’’إتباع الهوى’’.
ولكي ترى النموذج الحي على ما أقول فيكفي أن تقرأ هذا المقال بتمعن وتلاحظ ما يلي:
أن الكاتب انطلق من أفكار مقدسة لديه هي ’’المساواة والحرية، والدولة الجغرافية المدنية... الخ’’، دون أن يسأل عن مدى صحة تلك المفاهيم ، فضلا عن قدسيتها في المنظور الإسلامي (الذي يوحي بأنه ينطلق منه)، ثم بدأ يحاكم ’’الفقه الإسلامي’’ ويطعن فيه لأنه لا يحقق هذه المبادئ المقدسة في نظره، وهو حتى هذه المرحلة ليس مضطرا للاستدلال ولا حاجة به إليه، ثم بعد تقرير الأمر يعرج على ما يسمونه ’’دستور المدينة’’ لا ليستدل به ـ فالأمر محسوم ـ ولكن ليأخذ منه ـ بالتشهي ـ ما يظنه مقويا لدعواه، وأما غيره من نصوص الوحي فلا يهمه، ولئن عرج على الآية الكريمة عجِلاً فإنه أخفى وأعرض عن غيرها من الأدلة.
ولأن الكاتب فيما يبدو غير معني بالاستدلال والتأصيل الفقهي، لأن الأمر عنده محسوم، فإننا نلاحظ أنه لم يورد في مقاله الطويل من الأدلة سوى دليلين:
أما أحدهما فهو الآية الكريمة (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (سورة النساء، الآية 141)، أوردها جاعلا إياها الدليل الوحيد لاشتراط الإسلام في ’’الإمام’’، ليرد عليها بأنها من الخطاب القدري لا الشرعي.
ونسي الكاتب أن هذه الآية ليست الدليل الأول فضلا عن أن تكون الوحيد، بل إنما هي نص من بين كثير من النصوص التي يذكرها الفقهاء هنا من باب الاستئناس (بدلالة الإيماء) لما تدل عليه من إعلاء شأن الإسلام على غيره، في كل الأحوال، وأحرى في أمر الإمامة العظمى، التي ليست أقل شأنا من عصمة المرأة المؤمنة التي لا يجوز أن تكون تحت كافر، اعتبارا لعزة الإسلام على الكفر.
ولا تكاد تجد أحداً من فقهاء الأحكام السلطانية يبحث عن دليل لاشتراط الإسلام في الإمام الأعظم، لأن الأمر عندهم مسلم بدهي لا يحتمل الخلاف، بل تجدهم يختلفون في اشتراط ’’النسب القرشي’’ مثلا، بعد أن يؤكدوا شروط ’’العدالة’’، والتي تقتضي الإسلام أولَ ما تقتضي، و’’العلم’’ الذي يقتضي معرفة أحكام الشرع لكي يقوم على تطبيقها.
ولذلك كان أقوى دليل لهم على أحقية خلافة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه هو تقديمه لإمامة الصلاة ’’عماد الدين’’، فلَأن يقدم لإمامة السلطة الزمنية أولى، كما قال الصحابة الكرام: ’’إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتضاه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا!!’’.
أولا يكفينا دليلا صريحا بعد كل ذلك وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بالسمع والطاعة (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان) البخاري (ج 21 / ص 444) ومسلم (ج 9 / ص 374)؟ وقوله: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا، ما صلوا) مسلم (الإمارة / 62 ، 63 ، 64)؟
وتعليقا على ذلك أورد الإمام النووي عن القاضي عِيَاض قوله: (أجمع العلماء على أنّ الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل) شرح النووي على مسلم (ج 6 / ص 314). وذكر ابن حجر إجماع العلماء (أنه ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثّواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) فتح الباري لابن حجر (ج 20 / ص 162).
الدليل الثاني: ’’دستور المدينة’’ الذي يتحدثون عنه كثيرا مع أنه في ميزان الاستدلال يدخل في دائرة السير والتواريخ، لا في دائرة أدلة الأحكام، ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف، ومن ثم قال الزين العراقي في ألفيته:
وليعلم الطالب أن السيرا -- تجمع ما صح وما قد أنكرا
ومع ذلك فإننا نلاحظ أن الكاتب يأخذ منه فقط ما يتوهمه مؤيدا لدعواه، مع أنه ينسفها من الأساس، فالدستور من صياغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعط لليهود فيه الحق أن يتولوا الرئاسة بانتخاب ولا غيره، بل الكلمة العليا لدين الله الحق ’’الإسلام’’ ولرسول الله، وكثير من الفقرات تصرح بما هو أوضح في مرجعية الإسلام: ’’وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مَرده إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ’’، وإقراراً لعزة الإسلام وأهله على غيرهم جاء في الوثيقة أيضا: ’’ولا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ’’، فهل في ذلك دليل للمساواة التي يدعيها الكاتب؟!
وإني لأعجب من تعبيره في سياق إيراد هذا الدستور بالقول: ( ولم تأخذ الدولة من اليهود ضريبة الجزية التي أخذها المسلمون من المواطنين غير المسلمين فيما بعد )، فهل يقول هذا مؤمن يحمل بين جنبيه قول الله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، (سورة التوبة، الآية 29)، هل ’’الفقه الإمبراطوري’’ هو الذي اخترع هذه الآية الكريمة المقررة للجزية في حق الكافرين؟!
ولنترك الاستدلال الشرعي إلى الاستدلال العقلي المنطقي الذي لم يكن حاله بأحسن لدى الكاتب، فنجده يستدل بـ’’المصادرات المنطقية’’ ليثبت ما لم تسعفه الحجة في إثباته؛ يقول مثلاً إن (بناء الدول على أساس من ... قانون الفتح وأخوة العقيدة لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا)، ودليله على هذا الزعم أن (الدولة المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا)، فأي دليل أوهى من هذا! وهل نحن مرتهنون لصورة محددة للدولة، وقعت في زمن معين محكوم عليها بالتحول كغيرها؟ لماذا لا نحاول أن نعيد دولة الإسلام المبنية على أخوة الإسلام والتي يعيش فيها المسلم والذمي كلٌّ بحقوقه وواجباته؟! أم هو اليأس من روح الله!
ومن قبيل هذا الاستدلال، تعليله الخروج على الإجماع باشتراط الإسلام في ولي الأمر بأن ذلك (يثير إشكالاً حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد الاجتماعي التي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبسا). ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال وتهافته، فمن أين يكون الأمر ملتبساً؟ فإذا كان الناس ’’على دين دساتيرهم’’ ـ كما تقول ـ فهذا مقرر في الدستور، وإذا كان الرأي للأغلبية كما تقررون في ديمقراطيتكم فهذا رأي الأغلبية ودين الأغلبية.
وهل من المساواة والأخلاق أن نبني العقد السياسي على النفاق، بحيث يكون رأس الدولة والمسؤول عن ’’إقامة الدين وسياسة الدنيا به’’ شخصا غير مؤمن بهذا الدين أصلا؟! فما هذا التناقض!!
وبعدُ؛ فإن عبارة ’’الناس على دين ملوكهم’’ ليست عبارة إسلامية حتى تُعرض كنص لحقه التغير، وليست ـ حتى ـ صحيحةً تاريخيا، فما كان ’’أهل الذمة’’ في دولة الإسلام على دين ملوكهم المسلمين؟ بل حتى المغول الذين أبادوا البشر والحجر لم يحولوا الناس إلى دينهم.
وأما مفاهيم الحرية والمساواة وغيرها من المبادئ الغربية بامتياز (والتي تحتاج نقاشا مطولا)، فلا ينبغي لمثقف مسلم أن يجعلها هي الهدف الأسمى، ليفصِّـل دولة الإسلام عليها، ويعتسف تأويل النصوص والخروج على الإجماع، فالهدف الأسمى هو إقامة دين الله تعالى وأن تكون كلمة الله هي العليا، ولذلك كانت الفتوح الإسلامية التي يراد بها إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ليظفروا بالنعيم المقيم وينجوا من الخسران يوم القيامة.
رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا وجزاه عن الإسلام خير الجزاء، فرغم حلكة الليل المحيط به لم يكن ليتنازل عن المطلب الأسمى ’’إقامة دولة الإسلام’’ الراشدة، حتى قبضه الله تعالى غير مبدل ولا مغير ولا مخدوع ببهرج الغرب وضلالاته، ولم يكن الإسلام في نظره ستارةً خلفيةً تُلتَقط أمامها الصور السياسية، بل كان هو الهدف والمبتغى وهو الحياة بكل تفاصيلها، وليت جماعته ظلوا متشبثين بدربه ومنهاجه.
في الختام، فإنني لا أعترض على أن يجتهد من يرى في نفسه الأهلية والقدرة، منطلقا من مفاهيم الإسلام، ومتشبثا بـ’’سبيل المؤمنين’’، فيقدم رأيه معززا بأدلته الشرعية مستندا إلى تغير الزمان والمكان، فيقبله من شاء ويرده من شاء، ولكن أن يتنكب الكاتب سبيل الاستدلال الشرعي والعلمي، وينطلق بدءًا من ازدراء الفقهاء وإجماعهم، ويسحب على التاريخ الإسلامي رداء من التهكم والاتهام، ثم يبني خطابه على المفاهيم الغربية الغريبة على الإسلام، فإن لم تكن تلك هي العلمانية فماذا تكون!
*العصر